كانت زهرة تعيش مع زوجها وابنتيها عيشة متواضعة هادئة، فيها رخاء معتدل، وفيها عزة بهذه الأسرة الضخمة ذات العدد الكثير التي كانت أمنا تنتسب إليها، ولكن أبانا لم يكن صاحب حشمة ووقار وسيرة حسنة، إنما كان زير نساء يحب الدعابة والمجون، ولا يتحرج مما يتحرج منه الرجل المستقيم، وكانت له في القرية وفي القرى المجاورة خطوب كانت تخيف منه وتخيف عليه.
وكانت أمنا أشقى الناس بهذه الخطوب، تتأذى بها في ذات نفسها - فكم حرقتها الغيرة حين كان زوجها يغيب عنها اليوم الكامل أو الليلة الكاملة - وتشفق منها على زوجها هذا الماجن؛ فقد كانت تحبه على مجونه وفجوره، وكانت تعلم أنه يهيئ لنفسه عداوات خطرة في كل مكان بإلحاحه في المجون والفجور، وتخاف منها على حياة ابنتيها ومستقبلهما وآمالهما في العيش الهنيء.
وإنها لفي ما هي فيه من غيرة وإشفاق وفزع ذات ليلة، إذ جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، ثم يستبين الأمر قليلا قليلا، فإذا الرجل قد ذهب ضحية لشهوة من شهواته الآثمة، فليس له ثأر يطالب به، وليس من سبيل إلى استعداء السلطان على قاتليه، وإنما هو العار كل العار قد ألم بهذه المرأة البائسة وابنتيها التعيستين، وإذا الأسرة كلها تضيق بهؤلاء النساء، تكره مكانهن منها، وتنفيهن عن الأرض، وتزودهن بقليل من المال وكثير من الرحمة، وتكرههن على عبور البحر والاندفاع في أرض الريف يلتمسن حياتهن فيها يائسات شقيات، ليس لهن سند يعتمدن عليه، ولا ركن يأوين إليه؛ وإنما هي امرأة وحيدة لها حظ من جمال يطمع فيها الناس ويغري بها أصحاب المجون، وصبيتان بائستان لا تكادان تحسنان شيئا.
والخطوب تنتقل بهن من قرية إلى قرية، ومن ضيعة إلى ضيعة، يلقين بعض اللين هنا، ويلقين بعض الشدة هناك، ولا تستقر بهن الأرض في أي حال، حتى ينتهين إلى هذه المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة والسكان الكثيرين، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين، ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررا ونارا، وصوتا ضخما، وصفيرا عاليا نحيفا، والذي يسمونه القطار، الذي يركبه الناس يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا، وبالحمير حينا آخر، وبالأقدام في أكثر الأحيان.
هنالك في طرف من أطراف هذه المدينة، استقرت هذه المرأة مع الصبيتين، لجأت إلى شيخ البلدة أو إلى شيخ العزبة فآواها يوما، ثم ابتغى لها ولابنتيها حجرة ضيقة حقيرة قذرة قد أقيمت من الطين، فأسكنها فيها على أن تدفع أجرها عشرة قروش كلما بدا الهلال، ثم قال لها شيخ العزبة: ما أكثر العمل هنا! فالتمسي حياتك وحياة ابنتيك في بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون في الزرع والحرث، وإنما يعملون في خدمة الحكومة، منهم من يخدم في معامل السكر، ومنهم من يخدم في المركز، ومنهم من يخدم في المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق، ثم عند هؤلاء التجار الذين لا يتاجرون فيما تخرج الأرض من الحب، فهؤلاء فلاحون أو كالفلاحين، وإنما يتاجرون في هذه الأمتعة والعروض التي لا تأتي من الريف ولا تصنع في المدينة، وإنما تأتي من مصر، هناك حيث الناس لا ينطقون كما ننطق ولا يعيشون كما نعيش.
عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، ويربحون منها الأموال الضخمة، ويعيشون في بيوتهم عيشة السادة والأمراء، لا يأكلون على الأرض وإنما يأكلون على الموائد، لا يأكلون الذرة، وإنما يأكلون خبز الحنطة، لا يأكلون في أطباق النحاس، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن متبذلات، وإنما يخرجن ملففات في هذه الثياب يتخذنها من الحرير، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاق، وعلى أنوفهن هذه القصبات من الذهب الخالص أو من الفضة المذهبة.
عند هؤلاء الموظفين، وعند هؤلاء التجار تشتد الحاجة إلى الخدم، والحياة في بيوتهم لينة ناعمة؛ فالتمسي لنفسك ولابنتيك بعض العمل في بعض هذه البيوت.
قال ذلك شيخ العزبة، ثم سمى لها أشخاصا ووصف لها بيوتا ووعدها بالمعونة، وانقضت أيام قليلة ولكنها ثقيلة، كانت أمنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها وتعرضنا للخدمة، كما تعرض الإماء على السادة.
ولكن هذه الأيام لم تتصل، وما أسرع ما استقرت كل واحدة منا في بيت تعمل فيه بالنهار، وتنام فيه الليل، ونلتقي آخر الأسبوع، فنقضي ليلة سعيدة رضية في حجرتنا تلك القذرة الحقيرة، قد حملت كل منا ما أتيح لها حمله من الطعام، فنجتمع إلى طعامنا، ونتحدث عن أهلنا وقريتنا، ثم عن سادتنا وسيداتنا، حتى إذا تقدم الليل أغرقنا في نوم هادئ لذيذ، فإذا كان الصباح تفرقنا إلى حيث نعمل في بيوت التجار والموظفين.
الفصل الثالث
Shafi da ba'a sani ba