Nazarin Akan Mazhabobin Adabi Da Zamantakewa

Abbas Mahmud Al-Aqqad d. 1383 AH
59

Nazarin Akan Mazhabobin Adabi Da Zamantakewa

دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية

Nau'ikan

ومن هؤلاء الندماء الشعبيين كان «ابن المغازلي» الذي قيل عنه إنه كان ببغداد يتكلم عن الطرق بالأخبار والنوادر، وقد حدث عن خبره مع الخليفة المعتضد، فقال: «سلمت فرد السلام وهو ينظر في كتاب، فنظر في أكثره وأنا واقف، ثم أطبقه ورفع رأسه إلي وقال: أنت ابن المغازلي؟ فقلت: نعم يا مولاي! قال: بلغني أنك تحكي وتضحك بنوادر عجيبة ... فقلت: يا أمير المؤمنين، الحاجة تفتق الحيلة ... فقال: هات ما عندك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن أنا لم أضحك أصفعك بذلك الجراب عشر صفعات ... ثم أخذت في النوادر والحكايات فلم أدع حكاية أعرابي، ولا نحوي، ولا قاض، ولا نبطي، ولا سندي، ولا زنجي، ولا خادم، ولا تركي، ولا شاطر، ولا عيار، ولا نادرة، ولا حكاية ... إلا وأحضرتها، حتى نفد كل ما عندي وفترت ولم يبق ورائي خادم ولا غلام إلا وقد ماتوا من الضحك، وهو مقطب لا يبتسم، فقلت: قد نفد ما عندي، ووالله ما رأيت مثلك قط. قال لي: هيه! ما عندك. فقلت: ما بقي لي سوى نادرة واحدة، قال: هاتها، قلت: وعدتني أن تجعل جائزتي عشر صفعات وأسألك أن تضعفها لي وتضيف إليها عشر صفعات أخرى، فأراد أن يضحك ثم تماسك، وقال: نفعل ... يا غلام! خذ بيده، ثم مددت ظهري فصفعت بالجراب صفعة لكأنما سقطت علي قطعة من جبل، وإذا هو مملوء حصى مدورا، فصفعت عشرا، فكادت أن تنفصل رقبتي وطنت أذناي وانقدح الشعاع من عيني، فصحت: يا سيدي! نصيحة، فرفع الصفع بعد أن عزم على العشرين، فقال: قل نصيحتك، فقلت: يا سيدي! إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة وأقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني نصف الجائزة، وأمير المؤمنين بفضله وكرمه قد أضعفها، وقد استوفيت نصفي وبقي نصفه ... فضحك حتى استلقى، واستفزه ما كان سمع فتحامل له، فما زال يضرب بيديه الأرض ويفحص برجليه ويمسك بمراق بطنه، حتى إذا سكن قال: علي به، فأتي به وأمر بصفعه، فقال: وما جنايتي؟! فقلت له: هذه جائزتي وأنت شريكي فيها، وقد استوفيت نصيبي منها وبقي نصيبك، فلما أخذه الصفع وطرق قفاه الوقع، أقبلت ألومه وأقول له: قلت لك: إنني ضعيف معيل، وشكوت إليك الحاجة والمسكنة وأقول لك: خذ ربعها أو سدسها وأنت تقول: لا آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - جائزته الصفع، وهبتها لك كلها، فعاد إلى الضحك من عتابي للخادم، فلما استوفى نصيبه أخرج صرة فيها خمسمائة درهم وقال: هذه كنت أعددتها لك فلم يدعك فضولك حتى أحضرت شريكا لك، فقلت: وأين الأمانة؟ فقسمها بيننا وانصرفت ...»

وهذه نادرة تكشف لنا عن قيمة النوادر التي أولع بها العرب لمعرفة التاريخ، فإنها ترجح بعدة كتب في تاريخ عصرها بما تكشف عنه من أخلاق الخلفاء في ضبط النفس ومعاملة المتكسبين بأشغال البطالة، وبما تكشف عنه من أخلاق الخلفاء في ضبط النفس ومعاملة المتكسبين بأشغال البطالة، وبما تكشف عنه من أخلاق الأتباع والخدم عندهم، ومن عادات المجتمع يومذاك في الجد والهزل وعادات ندماء الفكاهة في جدهم وهزلهم كذلك ... ولكن دلالتها فيما يعنينا هنا هي إحصاء وجوه الفكاهة وأسباب المضحكات فيما كان يرويه ابن المغازلي من نوادر أصحاب الصناعات وأبناء الأجناس والطوائف، فإننا نعلم من هذا الإحصاء العارض أن الفكاهة العربية كانت تدور على «النقد الاجتماعي» الذي يلتفت إلى مواطن الغرابة والملاحظة من أصحاب المناصب أو السوقة، وإلى جوانب الحذلقة والادعاء في العلماء والجهلاء، وأشباه هذه الجوانب التي أوشكت أن تجمع كل ما تدور عليه فنون «النقد الاجتماعي» المشهورة في الآداب العالمية، وليس للفكاهة من ناحيتها الاجتماعية وظيفة أصلح من هذه الوظيفة وقدرة أبلغ من هذه القدرة للكشف عن معاني الجد والهزل، أو معاني الصراحة والغموض، أو معاني الاستقامة والالتواء، من النفس الإنسانية.

هذه كلمة موجزة عن سليقة الفكاهة في الأمة العربية، ولا بد أن يكون لهذه السليقة مكانها الذي يلائمها من مراجع الأدب العربي ومن أقوال أدباء العرب في النظم والنثر، كما ينبغي أن يكون كل أدب صادق التعبير عن أحوال أمته النفسية والاجتماعية.

وقد كان لهذه المملكة نصيبها الوافي بين كتب الأدب العربي على صور متعددة، أظهرها وأقلها كلفة وعملا كتب النوادر والأخبار وكتب الأمثال وتفسيراتها، فلا توجد اليوم لغة بين اللغات الحية جمعت مثل ما جمعته اللغة العربية من هذا التراث الحافل بألوان العبر وطرائف الأمزجة وغرائب الأطوار فيما وعاه الرواة والقصاصون من الحكايات أو الأمثال، ومن مناسبات كل حكاية وكل مثل في تاريخه ومعرض سياقه.

أما فكاهات الشعر والنثر العربيين فمدارها الأكبر «أولا» على القصائد التي نظمت في النقد الاجتماعي الذي اصطلحنا على تسميته بالهجاء، ولا يصرفنا جانبه «الشخصي» عن الجانب الأهم والأعم، بين جوانبه المتعددة، وهو ذلك الجانب الذي نعلم منه مواضع الحمد والذم في أخلاق الأمة وأخلاق الرعاة والرعايا على التعميم، فمهما يكن من بواعث الهجاء عند الشعراء فلا ريب أن قصائدهم الباقية لدينا تحفظ لنا معرضا واسعا لأحوال الأدباء «أولا» وأحوال الرؤساء والكبراء «ثانيا»، وأحوال الجمهرة الغالبة بعد ذلك فيما تقيمه لنفسها من موازين التعظيم أو التحقير، وفي الصفات المطلوبة المثالية أو الصفات الشائعة الواقعية، وهي بغية الباحثين في معارض النقد الاجتماعي حيث كان، ولعلنا نصدق السليقة العربية وصفها الجامع حين نقول إن النقد الاجتماعي الذي يمثله شعر الهجاء يرينا أن العربي يقرن بين «الهزال والمهزلة»، وأن المضحك عنده هو الشيء الهزيل في العمل أو القول، فلا تخلو حالة مضحكة عنده من الكشف عن ضعف أو ذلة أو عن عي وفهاهة، وهما آفة الجنان وآفة اللسان.

أما الكلام المنثور فيما عدا الأخبار والأمثال فالنموذج العربي منه هو نموذج المقامة أو المقالة التي تساق مساقها وتجري مجرى التخيل في التعبير عن الواقع.

فالمقامات هي المعرض الأدبي في النثر الغربي لغرائب الأخلاق بين أبناء الطوائف الاجتماعية من الولاة والجند والقضاة والتجار والدهاقين، وموضوعها يجمع بين موضوع القصة الصغيرة والمقالة النقدية في آداب العصر الحديث، وقد كان كتاب العرب يكتبون المقالة النقدية بأسلوب المقامة، ويودعونها الصور الخيالية المضحكة لمن يوجهون النقد إليه، كما كان يفعل أبو حيان أستاذ هذا الأسلوب في سخريته بأعداء الفلسفة والعلوم الحديثة في زمانه، ومنه قوله عن الكاتب المشهور أحمد بن ثوابة وهو يلقي على لسانه أنه قال عن أحد علماء التنجيم: «... فأخذ القلم ونكت نكتة ... تخيلها بصري وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذر، فزمزم عليها من وساوسه وتلا عليها من أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرا بإفكه، وأقبل علي وقال: أيها الرجل! إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال: كالبسيط ... فقلت أنا: وما البسيط؟ فقال: كالله والنفس! فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله الأمثال والله يقول:

فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون .

على أن الأديب العربي يعالج موضوع الفكاهة وهو على حذر وتقية، ويكاد يثني قلمه بعنان على الاسترسال والتبسط فيه؛ لأن معنى الأدب يرادف في لغة الأدب العربي معنى السمت أو معنى «اللياقة» بالعرف الحديث، فيحمد الأديب لنفسه أن يفهم المضحكات ويروي أخبارها، ولكنه لا يحمد لها أن يغرق في موضوعها أو يكون هدفا لها ومادة من موادها؛ ولهذا نرى أئمة الأدب من أمثال ابن قتيبة والجاحظ وابن عبد ربه يتقدمون بالاعتذار أو بالتوضيح والتفسير قبل سرد الأضاحيك والفكاهات، بل يكتب الأديب عن الظرف والظرفاء فيقدم للكتاب بالنهي عن الإفراط في الضحك والمزاح كما فعل محمد بن إسحاق الوشاء في مقدمته لكتاب الظرف والظرفاء؛ حيث يقول: «إن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة ...»

ومن خالف هذه السنة من الأدباء فإنما كان «يحترف الهزل»، ويتكسب بتعريض نفسه للضحك والعبث ويعلم أنه يسقط مروءته بذلك، ولكنه يتقبل ما يصيبه لاضطراره إليه أو قلة اعتداده بوقاره، ومن هذه الطائفة أمثال أبي دلامة وأبي العنبس الصعيدي وأبي العبر وأبي الشمقمق وذي الرقاعتين وغيرهم وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وبين هؤلاء الأدباء المضحكين نشأت صناعة التقليد الساخر التي لم يعرفها الغربيون قبل الزمن الأخير، ومن هؤلاء ذو الرقاعتين الذي عارض مقصورة ابن دريد، فقال:

Shafi da ba'a sani ba