Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Nau'ikan
والحقيقة أن ظاهرة الكبوة هذه لا يمكن إدراكها إلا برؤية الحاضر في الماضي وبنظرة تراجعية تكشف عن بداية المسار وتطوره. بل إنها لا تكشف إلا ابتداء من أزمات العصر وأزمة الجيل الخامس، جيلنا. ومع ذلك فهي تخرج من نطاق التقييم الذاتي إلى الوصف الموضوعي، ومن الحكم الفردي إلى الاتفاق الجماعي.
وقد لا يكون العيب في الإصلاح الذي حدد مشروعه في ظروف عصره، بل فينا نحن الذين لم نطوره وظنناه باقيا عبر عدة أجيال كنمط خالد لا يتغير. فانزلق الواقع من تحته في مساره الخاص، وأصبح الإصلاح فارغا بلا مضمون أو كاد. وبالرغم من أن هذا البحث يتناول نموذج مصر إلا أنه يمكن تعميم التجربة؛ فظاهرة الكبوة عامة، داخل مصر وخارجها، سواء تحت أثر مصر أو بالاستقلال عنها. وبالرغم من اعتماد البحث على التأملات والملاحظات التاريخية الحية أكثر من اعتماده على إحصاءات المؤرخين وتدقيقاتهم وأسماء الملوك والبلدان، إلا أنه يعتمد على منهج دقيق في العلوم الإنسانية وهو منهج تحليل الخبرات الفردية والاجتماعية من أجل إعادة بناء الموقف التاريخي بعد تكشف أبعاده في الموقف الحالي، ومن ثم تتم رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر من خلال الماضي، وهو المنهج الذي طالما استعملناه لدراسة التجارب الحية المعاصرة لكشف دلالاتها المستقلة.
4
وقد جرت العادة عند الباحثين والمؤرخين على هذه القسمة الثلاثية لروافد النهضة الحديثة: الإصلاح الديني، والتيار العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي. وفي حقيقة الأمر إن هذه الروافد الثلاثة إنما تمثل موقفا حضاريا واحدا ذا شعب ثلاث: الموقف من القديم، والموقف من الغرب، والموقف من الواقع؛ فالحركة الإصلاحية إحياء للقديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر العلمي العلماني ثورة على القديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر السياسي الليبرالي تمثل للقديم وتمثل للغرب من أجل بناء الواقع. الإصلاح الديني رد فعل على القديم بالإحياء، والفكر العلمي العلماني رد فعل على الغرب بالتمثل، والفكر السياسي الليبرالي رد فعل على الواقع ذاته بإعادة بنائه. فكل رافد يكشف عن موقف حضاري واسع، وبالتالي قد تتقارب الروافد الثلاثة أكثر مما تتباعد، وتجتمع أكثر مما تفترق، وتتفق فيما بينها أكثر مما تختلف. ويتناول هذا البحث الموقف الحضاري الموحد للروافد الثلاثة أكثر من تناوله للروافد الثلاثة ذاتها؛ حتى يمكن وصف ظاهرة الكبوة وانتقال الإصلاح من جيل إلى جيل.
5
ثانيا: الموقف من القديم
أخذ الإصلاح الديني موقف الدفاع عن القديم في ظرف تاريخي كان القديم فيه موضع هجوم من المستشرقين في الخارج أو من العلمانيين في الداخل خاصة في تركيا. كان من الطبيعي إذن في هذا الظرف الذي تقف فيه الأمة في مواجهة الاستعمار التأكيد على التمسك بالقديم والدفاع عنه. ولما كان الدين جوهر القديم فقد ظهر الدفاع عنه دفاعا عن الدين والعقيدة والشريعة والأخلاق والتقاليد، سواء كانت من الدين أو ليست منه. وكان الدفاع عن التأويل السائد والفكر الديني الشائع الممثل في الأشعرية، فكر الدولة السنية، وأيديولوجية النظام السياسي القائم. ولكن بعد أن تأكدت الهوية، وتم حصار العلمانية، وبانت حدودها في تركيا، ظهرت كبوة الإصلاح نظرا لاستمرار موقف الدفاع عن القديم عند الجيلين الثالث والرابع حتى الآن دون أن يحاول الجيل الخامس تطوير موقف الدفاع إلى موقف النقد. باتت مخاطر الدفاع عن القديم في ظهور الحركات المحافظة واشتداد التصلب في الجماعات الإسلامية المعاصرة ربما كرد فعل على فشل التحديث العلماني القومي الاشتراكي. إن نمط الدفاع عن القديم نمط مؤقت يصلح لجيل في بداية الإصلاح، ولكنه لا يصلح لكل الأجيال، خاصة لجيل آخر في مرحلة النهضة؛ إذ تتطلب النهضة نقد الموروث والتحول في نظرية المعرفة من المنقول إلى المعقول، من الكتاب القديم إلى كتاب الطبيعة، ومن تأويل النصوص إلى تفسير ظواهر الطبيعة ومعرفة قوانينها. تتطلب النهضة تغيرا في بؤرة الحضارة من الله إلى الإنسان، وفي محورها الرئيسي من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف، ومن لغتها التشريعية الدينية العقائدية الصوفية المنغلقة إلى لغة إنسانية عقلية طبيعية مفتوحة تقبل الحوار. نشأت كبوة الإصلاح لاستمرار نمط الدفاع بالرغم من تغير الظروف وظهور الحاجة إلى نقد الموروث، وانتهت كل الإنجازات الاجتماعية الثورية الحديثة وانقلبت إلى مشاريع مضادة؛ نظرا لأن الموروث هو الرافد الأساسي في ثقافة الجماهير تعتمد عليه النظم القائمة طلبا للشرعية، ويغذيه الاستعمار لإجهاض التجارب الوطنية.
وأخذ الفكر العلمي العلماني موقف الهجوم المقنع من القديم داعيا إلى الانقطاع عنه فليس فيه إلا دين وتشريع وأخلاق وتصوف، وليس فيه من علوم الدنيا إلا تاريخ هذه العلوم. وقد سبب هذا الموقف الآن في جيلنا رد فعل الحركة السلفية والقيام بالدعوة المضادة من الدفاع عن القديم كله بكل ما فيه. وقد يكون الهجوم على أجزاء من القديم وليس على القديم كله، فيستثنى من الهجوم ابن رشد أو ابن خلدون أو المعتزلة أو الفقه الواقعي.
1
ولكن هذا الاستثناء لم يفلح في إبراز هذه الجوانب من القديم وتحويلها إلى رافد في الثقافة القومية خاصة وأنها مرفوضة من الحركة السلفية باعتبارها مواقف مقلدة للآخر (اليوناني). وقد ولد التصاق هذا التيار بالنصرانية إلى طائفية ضمنية أو صريحة باعتبار أن النصارى هم أصحاب هذا الموقف: القطيعة مع القديم؛ إذ إنهم لا يجدون أنفسهم فيه. وقد أدى ذلك أيضا إلى كبوة الإصلاح في جيلنا. فالقطيعة مع القديم لا وجود لها إلا في ذهن بعض الأفراد. أما لدى جماهير الشعب وفي أجهزة الإعلام وفي خطط الغرب فله حضور دائم وثقل تاريخي لا يمكن تجاهله. وقد أدى تفجره إلى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران ضد كل محاولات التحديث العلماني الغربي. إنها مسئولية الجيل الخامس أنه لم يطور موقف القطيعة إلى موقف المطور والمغير والمعدل من أجل تحقيق التغير من خلال الاستمرار حرصا على التجانس التاريخي وحتى لا ينشأ رد فعل سلفي يعصف بكل شيء أو يكاد، كما هو الحال الآن في تركيا وبولندا، وفي شتى أنحاء العالم العربي.
Shafi da ba'a sani ba