Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Nau'ikan
والنموذج الثالث هو «إعادة بناء التراث» أو «إحياء التراث» أو «تجديد التراث» النموذج الذي تحاول المجتمعات النامية صياغته وتبنيه بالرغم مما هو حادث الآن من وقوع في الخطابة أو الانتقائية من الخارج. فإذا كان النمط التراثي يضحي بالتغير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث وكان النمط اللاتراثي يضحي بالتراث من أجل إحداث التغير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحياءه أو إعادة بنائه طبقا لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته، وهو القادر على إحداث التغير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ له في التاريخ من الانتكاسات والردة وحركات النكوص.
1
ولما كان التراث عادة يتم نسجه حول المعطى الديني الذي يتحول فيما بعد إلى عقائد ونظريات ومذاهب وأبنية نفسية، فإن ذلك يحدث في واقع تاريخي محدد وفي زمان ومكان معينين وفي مجتمعات بعينها بكل ما فيها من صراع اجتماعي وتضارب في المصالح بين القوى الاجتماعية المختلفة. فبرز التراث معبرا عن هذا الصراع وهذه المصالح، وهذا الواقع التاريخي ، ومملوءا بهذه التناقضات حتى أصبح حاويا للشيء ونقيضه، متعدد الأطراف، متشابه الأحكام والقضايا. وقد عبرت الفرق الإسلامية القديمة عن ذلك أصدق تعبير، وأصبحت المذاهب الكلامية أكبر معبر عن القوى الاجتماعية في المجتمع الإسلامي القديم. فكان سلاح المذهب والعقيدة أمضى الأسلحة لكسب معارك الصراع الاجتماعي. ولما كان الصراع الاجتماعي في كل عصر واحدا لا يتغير، الصراع بين الحاكم والمحكومين، بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا، بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئا، بين الأقوياء والمستضعفين، بين الأقلية والأغلبية، بين القاهرين والمقهورين خرج التراث متشابها يعبر عن كلا الموقفين. فإذا كان الصراع قد حسم أولا لصالح فريق، فريق السلطة، الدولة السنية القائمة، وبالتالي ساد تراثه على مدى أكثر من ألف عام منذ حسم الصراع في القرن الخامس الهجري حتى الآن، فإن المعركة اليوم على أشدها بين الفريقين من جديد بصرف النظر عمن يمثلها؛ القاهر من الخارج مثل الاستعمار والصهيونية، أو القاهر من الداخل مثل الإقطاعي أو الحاكم المطلق. وتكون معركة التراث الآن هي في إحداث البدائل وقلب التراث من تراث القهر إلى تراث التحرر؛ نظرا لتغير الظروف الاجتماعية وبداية معارك التغير الاجتماعي من جديد. فلا يمكن للقوى الاجتماعية صاحبة الحق في إحداث التغير الاجتماعي من التغير بثقافة السلطة، ثقافة الدولة الأشعرية، دون اكتشاف ثقافة المقهورين؛ ثقافة الشيعة والخوارج والمعتزلة وتراث القرامطة والزنج. وقد بدأ هذا التحول في تراث الحركات الإسلامية الثورية المعاصرة مثل المهدية والسنوسية والثورة العرابية وثورات الريف وحركات التحرر الوطني في المغرب العربي، وحركات المعارضة الإسلامية في الحجاز، وأخيرا في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران.
ويمكن تصور أحداث هذا النموذج الجديد، وعلى سبيل المثال، على النحو الآتي:
2 (1) من التصور الرأسي للعالم إلى التصور الأفقي
فقد ظهر التصور الرأسي للعالم أو التصور المركزي أو التصور الهرمي في وقت كان الدفاع فيه عن الله كمركز للكون وعن القمة من أهم المعارك التي دخلها التراث القديم ضد المذاهب والملل والنحل دفاعا عن التوحيد ضد الشرك والثنوية وكل مظاهر التشبيه والتجسيم التي كانت منتشرة في المجتمعات القديمة المجاورة خاصة في فارس. وقد حسمت المعركة لصالح التوحيد، واستتب الأمر لصالح الدولة القائمة وقوى النظام. ولكن أصبح هذا النظام فيما بعد قيمة مطلقة، وتحول إلى بناء نفسي للجماهير، فتعطى القمة كل شيء ولا تعطى القاعدة أي شيء، وأصبحت العلاقة بين الأعلى والأدنى علاقة تمايز وتفاضل وشرف. كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى أسمى مراتب الكمال، وكلما هبطنا إلى أسفل وصلنا إلى أقصى مراتب النقص. فنشأت لدينا المجتمعات الإقطاعية والنظم الرأسمالية، وتغلغلت البيروقراطية في النفوس، وأسسنا المجتمع الطبقي كقيمة تراثية راسخة، وكبناء اجتماعي ثابت وكنظام طبيعي خلقي جبلي فطري! فتعثرت محاولات التغير الاجتماعي وإقامة عدالة اجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات والقضاء على المركزية الإدارية. فالتقدم مشروط بالتصور الأفقي للعالم حينما تكون العلاقة بين الطرفين علاقة الأمام بالخلف، وليست علاقة الأعلى بالأدنى، وتكون الأطراف جميعا على مستوى واحد منذ البداية حتى تتكافأ الفرص. وبهذه العلاقة الجديدة يمكن تأسيس مجتمعات الحرية والاشتراكية كما يمكن تأسيس نظم جماهيرية تعطي القواعد الشعبية قدر ما تعطي الطلائع الثورية. (2) من الله إلى الإنسان
لما كان التراث القديم في مواجهة تراث الغير كان الدفاع عن الله، ذاته وصفاته وأفعاله، ضمن إنجازات القدماء ضد تشبيهات الإنسان. وقد تم كسب المعركة، وأصبح الله في شعورنا مستحقا لكل صفات العظمة والجلال، ولكن في مجتمعاتنا الحالية أصبح الخطر مدهما بالإنسان، حياته ومعاشه وتعليمه وصحته وخدماته وحقوقه وحريته. ومن ثم وجب نقل المركز أو الثورة من الله إلى الإنسان، دون أن يكون في ذلك خروج على مقاصد الله؛ فالله قد خاطب الإنسان بالوحي، وأرسل له الأنبياء، وكرم بني آدم في البر والبحر، وجعله سيد المخلوقات. الله غني عن العالمين، ولكن الإنسان في حاجة إلى دفاع وحماية. وقد فرض الإنسان نفسه في تصورنا لله، فشخصناه حتى امتلأت حياتنا بالتشخيص ، تشخيص المبادئ والنظم والتصورات. وتصورنا الله «الإنسان الكامل» بكل ما له من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة. وبدل أن تكون هذه الصفات مثلا عليا يحققها الإنسان في حياته وهدفا له يسعى نحوه؛ تجمدت وتحجرت وثبتت وتحولت إلى معبود يشعر الإنسان أمامه بالعجز والدونية. (3) من الأمير والرئيس والإمام إلى الشعوب وجماهير الأمة
وقد انتقل التصور الهرمي المركزي للعالم إلى ميدان الاجتماع والسياسة، فنشأت لدينا المدن الفاضلة تتمركز حول الرئيس أو الإمام كخليفة لله في الأرض، كما دارت النظم السياسية وفي علم العقائد خاصة حول الإمامة وشروطها وصفات الإمام. فتوارت المؤسسات الاجتماعية والسياسية كما توارت الشعوب والجماهير متخلية عن دورها في المعارضة والثورة وآخذة دور السمع والطاعة. وسمعنا في مجتمعاتنا من يحذر من الاقتراب من «بغلة السلطان» بالنقد أو التجريح فما بالنا بالسلطان! ويقول الفارابي: سواء قلت الله أو الرئيس أو الأمير أو الإمام فإنما أعني نفس الشيء. فإذا خرج جزء من القاعدة على القمة جاز للرئيس بتره واستئصاله حتى يعم النظام ويستتب الأمن، وكأن التصفية الجسدية هي أفضل وسيلة للتعامل مع المعارضة والرئيس أكمل البشر، وهو وحده القادر على المعرفة والإلهام، يكاد لا يخطئ ولا يراجعه أحد! إن المؤسسات الدستورية هي وحدها القادرة على المراجعة حتى تحدث التنمية الشاملة دون أن تخضع لهوى الحكام ولنزوات السلطة. (4) من الجبرية والقضاء المسبق إلى الحرية وخلق الأفعال
ظهرت عقيدة الجبر بتوجيه من الدولة القائمة للقضاء على المعارضة ودعوة الناس إلى التسليم، فآمن الناس بأن كل ما يحدث في حياتهم من محازن ومآس إنما تم بقضاء الله وقدره المسبق وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وكان يمكن أن تحدث مآس ومصائب أقوى وأشد، ولكن الله خفف ولطف، ولو علم الناس المقدر لاختاروا الواقع! وأصبح كل من يعارض أو يعترض أو ينقد أو حتى ينصح بالحسنى خارجا على النظام ومنشقا على إجماع الأمة! ولذلك وصفت المجتمعات الشرقية بنظام «الاستبداد الشرقي» واحد فيها فقط هو الحر والباقي عبيد! ولما كان شرط التنمية هو التخطيط والمبادرة وقدرة الإنسان على الابتكار والخلق كان الانتقال إلى الحرية وخلق الأفعال كقيمة محققا لهذا الشرط. وقد حاولت حركاتنا الإصلاحية الأخيرة إحداث هذه النقلة خاصة الكواكبي في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». (5) من منهج النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد
كان المنهج السائد في التراث القديم هو المنهج النصي القائم على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة وهي الأصول الأولى المكتوبة. وساد هذا المنهج، فخرج التفسير بالمأثور في علوم التفسير، وأولوية النقل على العقل في علم أصول الدين عند الحشوية وأهل الظاهر. كما ظهر الفقه الافتراضي وسادت فرقة أهل السنة والحديث التي أصبح فيها النص حجة قائمة بذاتها لا يقوى عليه أي دليل عقلي أو أي برهان حسي منذ أحمد بن حنبل حتى محمد بن عبد الوهاب. وكان من الطبيعي قديما أن يحدث ذلك، فكان الوحي هو مصدر المعرفة والعلم. ولما تغير الوضع الآن وأصبح الواقع هو مصدر المعرفة، وأصبح التحليل الكمي للواقع هو أساس القرار ومادة التخطيط، لزم الانتقال من منهج النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد، والانتقال من الفكر إلى الواقع، ومن الوحي إلى الطبيعة، ومن الأصل إلى الفرع، ومن المبدأ والشعار إلى حياة الناس وواقعهم التاريخي. (6) من العقل الإشراقي إلى العقل الاستدلالي
Shafi da ba'a sani ba