Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Nau'ikan
كما درسنا العلوم العقلية والطبيعية الخالصة في مادة «تاريخ العلوم عند العرب» سواء العلوم الرياضية أو الطبيعية، مكررين نظريات القدماء أو مقارنين بينها وبين العلوم الغربية المعاصرة، حاكمين بأنه كان لنا قصب السبق على غيرنا؛ حتى نرضي أنفسنا تجاه الإحساس بالنقص، وتعويضا للتوقف الحالي ما دمنا في الماضي قد سبقنا غيرنا، فإن ذلك قد يشفع لنا تأخرنا الحالي أو قد يعطينا وهما باللحاق، وقد تكون أقرب إلى تاريخ العلوم الصرف في المراحل السابقة لتطور العلم الغربي الحديث، وبالأخص نقل علوم اليونان وترجمتها إلى العلم الغربي قبيل عصر النهضة، وهي صورة تاريخ العلم العام من وجهة النظر الأوروبية حث يصب كل شيء في الغرب الحديث منذ البدايات الأولى للعلم في الصين والهند وفارس ومصر وعند العرب المسلمين. وما العلم العربي والإسلامي إلا حلقة اتصال بين العلم اليوناني والعلم الغربي، لنا شرف النقل وجهد الحامل، وإن استعصى الأمر أحيانا على فهم المسلمين، فأساءوا التأويل وخلطوا بين العلم والدين، بين أرسطو وأفلاطون. ولم ندرك أنه حتى التسمية «تاريخ العلوم عند العرب» خاطئة؛ لأن الموضوع هو نشأة العلم عند المسلمين؛ لأن حملة العلم كانوا مسلمين كما أن العلم نشأ بفضل الإسلام الذي يجب الجنسية والقومية. وإن القول بأن أكثر حملة العلم كانوا من العجم هو رد على خطأ بخطأ آخر، عجم في مقابل العرب، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا. حتى وإن كانت العروبة تعني اللسان فإن بعض المؤلفات العلمية مكتوب باللغات الفارسية والتركية والهندية. كما أن التعريب قد تم بفضل الإسلام. إن المهم لدينا ليس هو تاريخ العلوم الذي وصل الغرب إلى نهايته وجعل كل مساهمات الشعوب اللاغربية أذيالا له، وفصل عن قصد بين العلم وتاريخ العلم، بين البيئة والتطور، بين النهاية والبداية، بين الغرب ومصادره في الشرق. إن ما يهمنا في العلوم العقلية الخالصة هو كيفية خروج هذه العلوم من التوحيد؟ ما الصلة بين وظيفة العقل وتصور الطبيعة من ناحية، وبين التوحيد من ناحية أخرى؟ هل استطاع التوحيد توجيه العقل نحو الفكر الخالص بفعل التنزيه، وتوجيهه نحو الطبيعة بفعل الإرادة والخلق؟ هل استطاعت هذه العلوم الكشف عن الهوية التامة بين الوحي والعقل والطبيعة؟ هل استطاعت أن تضع هوية العقل والطبيعة على أنها هوية الوحي ودون الإحالة إليه؟ كيف استطاع العلم الإسلامي الخروج من التوحيد أو كيف تحول التوحيد إلى علم عقلي طبيعي خالص؟ كيف طبع التوحيد العقلية الإسلامية موجها إياها نحو الرياضيات الخالصة والعلم التجريبي الخالص؟ هل هناك صلة بين أوصاف الذات: القديم أي ما لا أول له، والباقي أي ما لا نهاية له بحساب اللامتناهي في الرياضيات؟ هل هناك صلة، بين الواحد وحساب التفاضل والتكامل؟ ما الصلة بين التنزيه والفن الإسلامي، أي توالي الأشكال الهندسية إلى ما لا نهاية من كل الجهات؟ ما الصلة بين الابتعاد عن التجسيم والتشبيه في الصفات وبين الابتعاد عن التصوير والنحت في الفن؟ هل هذه الدوافع ما زالت باقية بعد أن استقر التوحيد وجمد في الأذهان، أم أنها مستمرة لا تخضع لروح العصر بل تنبع من البنية الداخلية للفن ولتكوين العمل الفني مثل أولوية الفنون السمعية على الفنون البصرية، بصرف النظر عن الوحي كلمة أو ألواحا؟ هل يمكن أن تنشأ فنون الرسم والنحت والتصوير لدينا بدوافع إسلامية دون تقليد للغرب؟ إن العلم الحالي لدينا إما نقل عن العلم الغربي دون تعرف على فلسفته وأسسه النظرية، نهاية بلا بداية، تطبيق بلا نظرية، وإما انغلاق على الذات ورفض له باعتباره قائما على تصورات ودوافع لا إسلامية، ثم تتحول هذه التصورات والدوافع إلى عقائد وأشياء لا توجه الشعور، ولا تؤثر في الذهن، ولا تطبع العقلية بشيء، لا تثير فيها إبداعا، لا تثير العقل الخالص ولا توجهه نحو الطبيعة.
9
أما العلوم «الإنسانية»: اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ، فإنها لا تكاد تذكر في أقسام الفلسفة، وتحولت علوم اللغة والأدب إلى أقسام اللغة العربية وآدابها، أما الجغرافيا والتاريخ فلا يكادان يذكران لا في أقسام الفلسفة ولا في الأقسام المختصة بهما كالجغرافيا والتاريخ. فالجغرافيا علم غربي معاصر بكل أنواعها، والتاريخ مجرد مراجع عامة ومصادر تركها القدماء تحتوي على أخبار بصرف النظر عن دلالاتها. إنما تركناهما كهواية للأساتذة أو المثقفين يكتبون عن الجغرافيين العرب والمؤرخين العرب، وكيف أنهم قد حازوا قصب السبق، كانوا رحالة يجوبون الأرض، ويضعون الخرائط، ويصفون البقاع، وكانوا مرشدين في عصور «الكشوف الجغرافية» الغربية دون بحث عن دلالات ذلك كله في توجيه الوحي العقلي نحو الطبيعة والدعوة إلى التفكر في الجبال والأنهار والوديان، وأسباب نزول الأمطار واندلاع البرق وإطلاق أصوات الرعد، وعلل الزمهرير والثلج والصقيع والضباب، وأسباب الحرارة والبرودة، وفي توجيه الوحي العلماء إلى السياحة في الأرض، والانتشار في العالم، والتعرف على عادات الشعوب والقبائل، واكتشاف سنن الله في الخلق.
10
رابعا: تغير ظروف العصر
إن الدوافع على إعادة النظر في التراث الفلسفي خاصة، وفي التراث كله عامة، علومه وأبنيته وحلوله واختياراته وبدائلها الممكنة؛ هي تغير الظروف كلية من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة. فإذا كنا الآن في مطلع القرن الخامس عشر أو جاوزناه بقليل فوراءنا أربعة عشر قرنا من التراث يندرج تحت فترتين: الأولى امتدت سبعة قرون، منذ القرن الأول حتى القرن السابع. نشأت في قرنين: الأول والثاني، وازدهرت واكتملت في قرنين «الخامس والسادس» منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس ومحاولة ابن رشد رأب الصدع في القرن السادس. ولما كانت الضربة قاضية وكان ابن رشد نفسه محاصرا من الفقهاء في المغرب وبعيدا عن أن يمتد أثره في المشرق أسرع الانهيار في السابع والثامن. وفي ذلك الوقت ظهر ابن خلدون ليؤرخ للفترة الأولى متسائلا عن أسباب الانهيار. وكان طبيعيا أن ينشأ الوعي التاريخي بعد اكتمال إحدى فترات التاريخ.
أما الفترة الثانية فتمتد من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، أيضا على مدى سبعة قرون، تؤرخ فيها الحضارة لنفسها، وتحفظ نفسها بالتدوين، فظهرت الموسوعات الكبيرة، أو تشرح نفسها بنفسها وتلخص إبداعاتها في عصر الشروح والملخصات اجترارا وتمثلا ثانيا، باستثناء بعض الإبداعات المتأخرة في إيران وتركيا وفي أطراف العالم الإسلامي في المناطق غير الناطقة بالعربية، بقايا حياة في الأطراف بعد أن توقف القلب. ثم ظهرت الحركات الإصلاحية ابتداء من القرن الثاني عشر؛ الوهابية ثم الأفغاني وتلاميذه في القرن الثالث عشر حتى حسن البنا والإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الحالية في القرن الرابع عشر ومطلع هذا القرن، كل حركة تعكس ظروف عصرها وترد عليها.
هناك إذن فترتان متمايزتان في تراثنا القديم وفي حضارتنا الإسلامية؛ الأولى الفترة القديمة، والثانية الفترة الحديثة. الأولى اكتملت فيها الحضارة في دورتها الأولى، والثانية ما زلنا نشاهدها. في نهاية الأولى أرخت الحضارة لنفسها، وفي الثانية حاولت النهوض. ونحن جزء منها، وارثين الحركة الإصلاحية ومحاولين تطويرها إلى نهضة شاملة. الأولى تعادل في التراث الغربي العصر الوسيط فيه، والثانية تعادل عصوره الحديثة، وعلى هذا يكون التقابل بين التراثين، التراث القديم والتراث الغربي محددا جدل الأنا والآخر. عصر الازدهار والاكتمال لدينا في الفترة الأولى هو العصر الوسيط الأوروبي، وعصر التدوين والشروح والملخصات، أي التوقف والاجترار في العصور الغربية الحديثة، فليس تراثنا القديم هو العصر الوسيط، إسقاط الآخر على الأنا، كما أننا لا نعيش في العصور الغربية الحديثة، إسقاط الأنا على الآخر.
وتتقابل الفترتان، الأولى والثانية، في تراثنا القديم تقابل الأضداد على النحو التالي: (1)
نشأت الحضارة في فترتها الأولى في عصر كانت الأمة فيه منتصرة، وكانت جيوشها فاتحة. استطاعت أن ترث الإمبراطوريتين القديمتين، الفرس والروم، في أسرع وقت ونشر الإسلام في أواسط آسيا شرقا حتى حدود الصين، وغربا حتى الأندلس وعبر البرانس. صحيح أن الإسلام انتشر في أفريقيا في الفترة الثانية وإبان مرحلة الضعف والخمول، وانتشر أساسا عبر الطرق الصوفية وبعض حركات الاستقلال ضد الغزو الأوروبي، ولكن قلب العالم الإسلامي كان مهزوما ومحاصرا، وبالتالي نشأت العلوم الإسلامية في زهو الانتصار ومن ثنايا الفتح. فنشأت تصورات العلوم على هذا النحو، الأولوية للإرادة المسيطرة على حرية الإرادة في علم الكلام، لواجب الوجود على ممكن الوجود في الفلسفة، ولله على العالم في التصوف، وللنص على الواقع في الأصول. كانت العلوم بمراكزها وأولوياتها نموذج الدولة القوية المسيطرة، والإمبراطورية المترامية الأطراف. ولما استتب الأمر للنظم الحاكمة استقرت العلوم وأكسبت النظم شرعية نظرية وفقهية، واستمر الإفراز المتبادل بينهما؛ الدولة تفرز أيديولوجياتها، والأيديولوجيات تدعم الدولة.
Shafi da ba'a sani ba