Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Nau'ikan
في هذا القرن.
ثالثا: انهيار الغرب
وإذا كنا نعيش في عصر الجماهير فإننا أيضا نعيش في عصر انهيار الغرب. وإذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير سلبية فإن ظاهرة انهيار الغرب أيضا سلبية، ويكون الجدل بين الظاهرتين جدلا بين سالبين أو لا جدل. أما إذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير إيجابية فإن الجدل يكون بين الإيجاب والسلب، وهو الأقل احتمالا. ومما يدل على ذلك أنه يستحيل أن تتعاصر ظاهرتان متناقضتان إحداهما نفي للأخرى. فإذا كانت فكرة انهيار الغرب لا خلاف عليها فإن ظاهرة الجماهير تكون أيضا سلبية وإلا وجد الغرب بعثا له في حيوية الجماهير ودورها في العصر.
يحاول أورتيجا التعرف على سمات الحاضر للتحقق من صدق هذه القضية: «انهيار الغرب»، تلك التي أعلنها اشبنجلر صراحة في كتابه المشهور «أفول الغرب» والتي لمسها معظم مفكري العصر، هوسرل، وشيلر، ونيتشه، وبرجسون، وتوينبي، وسولوفييف على عكس ما قيل في القرن الماضي من بلوغ الذروة والكمال عند هيجل أو ماركس. ومظاهر هذا الانهيار عديدة مثل الضياع، والمدنية الزائفة، وغياب المسئولية، وضعف الروح المعنوية، وفقدان الحياة، وقلب القيم، وضياع الأخلاق ... إلخ. يشعر العصر الحاضر شعورا خرافيا بالقدرة على التحقق ولكنه لا يدري ماذا يحقق. يسيطر على كل شيء ولكنه لا يسيطر على نفسه. يشعر بأنه مفقود ضائع في وفرته التي ابتدعها. يحاول أورتيجا أن يدرس موقف الأوروبي العادي أمام ظاهرة انهيار الغرب، أي قياس قدرة الإنسان العادي على استمرار المدنية الحديثة ودرجة التحامه بالحضارة. ويتساءل عن المدنية والحضارة والعلم والديمقراطية الليبرالية وكل ما أبدعه الغرب من تنظيمات. فإذا كان العالم مجموعة من الإمكانيات تتجدد باستمرار، اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم، فماذا يعني انهيار الغرب إذن مع زيادة إمكانياته وتجددها؟ هل الانهيار في الحضارة أو في التنظيمات السياسية، في الروح أم في تجلياتها المدنية؟ وإلى أي حد يجوز هذا التعميم؟ إن الانهيار لا يكون إلا في نقص الحيوية، وهذا لا وجود له. ولكل عصر قدرة على الحيوية لا يجوز قياسها على قدرة عصر آخر. إن العصر الحاضر عصر اكتمال وملاء بل عصر غرور وخيلاء لأنه يعتبر نفسه أفضل من أي عصر مضى. ومع ذلك يشعر بالفقد في وفرته، وبالضياع في جوده، وبالشقاء في نعيمه، ويسير نحو المنحدر. وإذا كان كل شيء ممكنا فالشر ممكن كذلك بما في ذلك النكوص والسقوط والبربرية. وقد غابت عن أوروبا المسئولية العقلية للمثقفين؛ وذلك لارتباط الثقافة بالنظام الرأسمالي ولأن المثقفين أوروبيون أولا ومثقفون ثانيا. كما تعاني أوروبا اليوم من انخفاض الروح المعنوية حتى أصبحت بلا أخلاق أو قيم أو مثل أو معايير وتكافأت الأدلة، وأصبح كل شيء حقا وباطلا في آن واحد، صوابا وخطأ في نفس الوقت. المشكلة إذن أن أوروبا بلا أخلاق، والعصر الآن عصر الادعاءات الكاذبة
Chantage
تستعملها الحكومات لتسكين الشعوب. لا تعني الأخلاق هنا القيم الحسنة والمبادئ القوية ولكن تعني المثل والغايات وتحقيق الرسالات العالمية. وقد لاحظ الأوروبيون أنفسهم ظاهرة السقوط، وتصوروا أنها أزمة تنظيمات سياسية دون الذهاب إلى ما وراء هذه الأزمة في الوعي الأوروبي نفسه. وكان دافعهم على ذلك أن أول ما يندرج تحت هذه الظاهرة هو مجموعة الصعوبات الاقتصادية التي تقابل كل شعب والتي لا تؤثر عادة في إمكانياته على الخلق، ولكن يظهر السقوط في نمط الحياة العامة التي تتحقق فيها القدرات الاقتصادية أو في عدم التناسب بين القدرات الحالية والتنظيمات السياسية. قد تكون الأزمة في حصر القوميات، كل داخل حدودها لأن أورتيجا لم يشهد عصر الشركات المتعددة الجنسيات التي تتجاوز حدود القوميات والتي ظهرت منذ السبعينيات. وقد تكون أزمة السياسة الداخلية وإفلاس المؤسسات الديمقراطية وبرامجها مثل: عدم فاعلية المجالس النيابية، عدم تعرضها للموضوعات تعرضا سليما. إلا أن السبب المباشر للسقوط هو أن الفرنسي أو الألماني يشعر بأنه العالم كله، ويصوغ المصلحة العامة في إطار المصلحة القومية بالرغم من المناداة بالوحدة الأوروبية أو بما تم بعد ذلك باسم السوق الأوروبية المشتركة. والحقيقة أنه لا يمكن إصلاح نظام بال لا يسمح بالتطور نظرا للحس القومي الدفين في كل شعب أوروبي وعدم قدرة الشعور القومي على تجاوز حدود القومية إلى مستوى العالمية. وأشهر مثل على ذلك صناعة السيارات الأوروبية أمام صناعة السيارات الأمريكية أو ميل أوروبا إلى تحقيق الوحدة بين قومياتها المختلفة مصطدمة بالروح القومية. ولم يعش أورتيجا ليرى أمثلة أخرى من صناعة السيارات اليابانية والحاسبات الآلية اليابانية تغزو مثيلاتها الغربية والأمريكية.
وبصرف النظر عن مدى دقة تحليلات أورتيجا لوصف مظاهر الانهيار فإنه يشارك معظم الفلاسفة المعاصرين في التنبيه على نفس الظاهرة وإن اختلفت أوجه تعبيرها. فأورتيجا مثل برجسون يعيب على العصر الحاضر غياب «الروح» والالتصاق بالواقع المادي حتى أصبح مجال الرؤية محدودا للغاية. وهو النقد الشائع الذي يوجه عادة إلى المادية الأوروبية. والمقصود بالروح هنا ليس الموجودات المتعالية أو المفارقة على حد تعبير العصر الوسيط إلا من حيث دلالتها على العموم والشمول والقدرة على تجاوز الحدود والتناهي. كما أن المقصود ليس هو غياب الأخلاقيات بالمعنى الساذج بل غياب نسق للقيم عام وشامل لا يتحدد بحدود الطبقات الاجتماعية أو الحدود القومية. إنما المقصود عادة هو المعنى الفنومينولوجي أي غياب عالم الحياة
Lebenswelt
أو التجربة الحية
Enlebeniss . لقد كان كثير من الفلاسفة المعاصرين أكثر وضوحا وتعبيرا من أورتيجا في وصف ظاهرة الانهيار. فهي انهيار حضاري شامل ونهاية فترة في تاريخ العالم عند اشبنجلر، وهي عدمية مطلقة وضياع كل شيء عند نيتشه، وهي آلات تخلق آلهة عند برجسون، وهي قلب مطلق؛ قلب كل شيء رأسا على عقب عند شيلر، وهي احتضار للروح عند أونامونو ... إلخ.
Shafi da ba'a sani ba