Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Nau'ikan
ثم يعرض فيكو لعدة بديهيات تتعلق بالمعرفة الإنسانية؛ فالمعرفة تؤدي إلى اليقين في حالة غياب العلم الحقيقي، ومن ليس له علم يتمسك باليقين. تعتمد المعرفة على اللغة والتاريخ في حين يقوم العلم على التأمل والفلسفة. واللغة مرتبطة بالاختيار الإنساني عندما يتعلق موضوع الاختيار بالوعي اليقيني. أما الفلسفة والتأمل فهما مرتبطان بالعقل في حالة العلم الحقيقي. ومع ذلك فإن الاختيار الإنساني غير يقيني لأنه يقوم على المعرفة وليس على العلم، ولا يتحول إلى يقين إلا بالحس المشترك
Common Sense
وإدراك منافع الناس وحاجاتهم. وهما المصدران للقانون الطبيعي للشعوب. والحس المشترك حكم بلا تفكير يشارك فيه طبقة أو شعب أو أمة أو الجنس البشري كله. والأفكار المطردة التي تنشأ لدى جميع الأمم المستقلة عن بعضها البعض يكون لها أساس من الحقيقة، فاطراد الأفكار مقياس لصدقها.
وتنشأ النظم الاجتماعية في زمان معين وبشكل معين، وتأخذ خصائصها من أشكالها، وتتغير هذه الأشكال الأولى التي نشأت فيها. فلا توجد عند فيكو خصائص جوهرية كماهيات مستقلة بل توجد علاقات اجتماعية في التاريخ في الزمان والمكان.
والتراث الشعبي له قدر من الحقيقة نظرا لوجوده واستمراره وحفظه وتواتره عبر الأجيال، فهو المعبر عن طبيعة الشعوب. واللغات الشعبية أقدر على حفظ عادات الشعوب من وسائل التعبير الأخرى كالحركات والأصوات؛ وبالتالي تنشأ أهمية الفنون اللغوية وعلى رأسها الشعر. ومن خلال نشأة اللغة يمكن معرفة نشأة العالم ومعرفة داياته، فاللغة مرتبطة بالموجود أو هي «بيت الوجود» على ما يقول هيدجر. كما أن أشعار هوميروس روايات مدنية تحتوي على عادات اليونان القديمة وتقاليدهم ونظمهم وحضارتهم، وكنز عظيم يحتوي على القانون الطبيعي لشعب اليونان. كما أن قانون «الألواح الاثني عشر» شاهد على القانون الطبيعي عند الرومان، هناك إذن لغة طبيعية مشتركة بين الشعوب يتم تهذيبها فيما بعد كما فعل فلاسفة اليونان وكما فعلت فرنسا فيما بعد في أواسط أوروبا. هناك لغة ذهنية مشتركة من خلال الطبيعة المشتركة للأمم تعبر عن ماهية الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية. والدليل على ذلك وجود الحكم والأمثال العامية المترادفة لدى كل الشعوب.
والتاريخ المقدس، وهو مادة «العلم الجديد»، أقدم أنواع التاريخ؛ فهو أقدم من التاريخي الدنيوي وأطول مدة؛ فقد عاشت الإنسانية حوالي ثمانمائة عام في عصر الآباء، عصر العشائر الكبيرة التي منها نشأت المدن. وفي التاريخ المقدس يميز فيكو بين دين العبرانيين ودين الوثنيين. الأول أسسه الله والثاني أسسته الطبيعة؛ فالله هو المؤسس الحق لدين العبرانيين. ويقوم هذا الدين على تحريم العرافة التي مارستها كل الشعوب الوثنية في دياناتها. بل إن الناس نوعان؛ عبرانيون ووثنيون، عاديون وعمالقة. والعمالقة مخلوقات ضخمة رآها الرحالة وشوه الفلاسفة صورتهم نظرا لطبيعتهم الحيوانية. ويبدو أن فيكو أحيانا يبعد عن البديهيات إلى افتراضات مسبقة أو احترازات نظرا لظروف العصر مثل هذه القسمة الأخيرة التي لا يقبلها علم تاريخ الأديان. ويبدأ التاريخ، ومنه تاريخ اليونان الذي منه نعرف معلوماتنا عن باقي الشعوب، بالفيضان والعمالقة، وقد كان الفيضان شاملا على ما ترويه الأساطير وما تقصه عن أحوال الطبيعة.
ويذكر فيكو المراحل الثلاث لتطور الشعوب وكأنها قانون بديهي ضمن أوليات العقل. وهو في الوقت نفسه يذكر أن هذه المراحل الثلاث قد ذكرها المصريون في تصورهم للإنسانية وتطورها قبلهم. وهذه المراحل الثلاث تمثل عصورا ثلاثة لتاريخ كل شعب؛ عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر البشر. ولكل عصر لغته، اللغة الهيروغليفية مثل لغة المصريين لعصر الآلهة، واللغة الرمزية مثل لغة هوميروس لعصر الأبطال، واللغة الشعبية العامية لغة الخطاب والرسائل التي تقوم على العلاقات والحروف الأبجدية لإيصال الحاجات المشتركة والتعبير عنها في الحياة اليومية، هذه اللغة لعصر البشر ومن ثم يكون السؤال: هل هذه المراحل بديهية أم حقيقية تاريخية من اكتشاف المصريين أم أنها استقراء تاريخي لتطور الشعوب؟
ثم يذكر فيكو عدة بديهيات عن المرحلة الأولى مؤداها أن الدين طبيعي في البشر. وأن لكل شعب آلهته، وأنه ينشأ من الخوف أو الجهل أو الخرافة أو الدهشة؛ وبالتالي فإنه من اختراع الإنسان؛ فالإنسان حيوان متدين كما سيقول فيورباخ فيما بعد. فهناك حوالي ثلاثون ألف اسم للآلهة، وكلها مرتبطة بالحاجات الطبيعية والأخلاقية للإنسان، وتعبر عن رغباته وأهوائه وعواطفه في العصور الأولى؛ لذلك بدأت الشعوب الأولى حياتها بالدين أول مبادئ العلم الثلاثة، وأول النظم الاجتماعية قبل الزواج ودفن الموتى. وعندما يبلغ شعب ما درجة عالية من التوحش واستعمال السلاح بحيث لا يكون للقانون في حياته أي مكان فإن أقوى وسيلة لإخضاعه يكون الدين. وعندما يجهل الإنسان الأسباب الطبيعية التي عنها تصدر الأشياء ويعجز عن فهمها بالقياس إلى أشياء أخرى فإنهم يسقطون عليها طبيعتهم الخاصة، ويقول العامي حينئذ: «المغنطيس يحب الحديد». فتصور الجاهل للطبيعة نوع من الميتافيزيقا الشعبية يرجع فيها علل الأشياء إلى إرادة خارجة عليها، هي إرادة الله، دون اعتبار للوسائل التي تستعملها الإرادة الإلهية ذاتها لتحقيق الأفعال وإحداث الأثر في الأشياء. وعندما تخاف العقول فإنها تكون مؤهلة للخرافة. وعندما يقع الناس فريسة للخرافة فإنهم يخشونها، ويرجعون إليها كل ما يتخيلونه ويرونه ويصفونه. والدهشة تنشأ أيضا من الجهل، وكلما عظم موضوع الدهشة دل ذلك على شدة الجهل وأدى إلى زيادة التعجب. كما ينشأ حب الاستطلاع، هذه الصفة الفطرية في الإنسان، من الجهل. وفي الوقت نفسه يكون الدافع على المعرفة ونشأتها عندما توقظ الدهشة العقول وتعطي عادة التساؤل عن معاني الظواهر غير العادية في الطبيعة.
وفي هذه الحالة يكون الخيال أقوى من الاستدلال. وتبرز أهمية الشعر. فهو الذي يعطي الأشياء الميتة معانيها مستمدا إياها من عواطف البشر وانفعالاتهم، ويكون الشعراء كالأطفال الذين يتحدثون مع لعبهم وكأنهم يتحدثون مع أشخاص أحياء. وهذا يثبت أن الناس بطبيعتهم شعراء في مرحلة الطفولة. وأن الإنسانية تتحدث بالشعر وهي في البداية في طفولتها الأولى، وهنا يختلط الدين بالشعر، والآلهة بالأبطال. فيسمى الرجال الغلاظ الشداد آلهة إما لأعمالهم البطولية الرائعة أو إعجابا بالقوة الحالية التي يتمتعون بها أو بالنسبة للمنافع التي أعطوها للإنسانية. وهو المعنى المجازي الذي استعمله العبرانيون كما لاحظ اسبينوزا من قبل.
4
Shafi da ba'a sani ba