Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Nau'ikan
Universitas
أي ما يشمل ويضم ويجمع، مثل «الجامع» في تراثنا الإسلامي، حين يشير إلى ما يجمع الناس في مكان واحد، لهدف واحد؛ لذلك كانت جامعاتنا القديمة في جوامعنا، ولم تنفصل الجامعات عن الجوامع إلا بعد أن تخلينا عن نموذجنا الإسلامي وتقليدنا النموذج الغربي الحديث الذي ورث نموذجنا الإسلامي القديم بعد «علمنته»، نظرا لما أصاب الوعي الأوروبي الحديث من عقدة نقص تجاه كل ما هو «ديني» إثر طبيعة المعطى الديني الذي كان لديه، وتعامله معه، والظروف التي أحاطت بتطور هذا المعطى الديني، وتحويله إلى كتاب، أو سلطة، أو عقائد، أو تصورات، كانت السبب في ثورة الوعي الأوروبي عليها ورفضها إلى الأبد، دون ما رجعة إلى الوراء تحت أي ظرف، ولأي سبب. كان هناك الحرم الجامعي العام أو الرسمي الذي يضم الكنيسة والمكتبة ومحور الحياة الجامعية، وكان مأهولا بالطلاب والأساتذة، ثم الحرم الجامعي الخاص الذي تشغله بعض الكليات المتفرقة، وصلتهما كصلة القلب بالأطراف، وهو التصور الشائع في العصر الوسيط.
كانت جامعة بولونيا هي أول جامعة بالمعنى الحديث. وكانت أقرب إلى مركز للدراسات القانونية؛ لأن كلية اللاهوت، ككلية نظامية، لم تنشأ فيها إلا في عهد البابا إنوسنت السادس
lnnocent VI
عام 1352م، ولكن جامعة باريس بعد إنشائها، وضمها للعلوم الفلسفية في القرن الثالث عشر، تفوقت على جامعة بولونيا السابقة عليها، كما تفوقت على جامعة أكسفورد اللاحقة لها. وأصبحت جامعة باريس مركز الحياة الدينية والفلسفية في الغرب. وقد ساعد على ذلك ازدهار البيئة الثقافية في المدارس العليا في القرن الثاني عشر، إثر تعاليم الفكتوريين (ريتشارد وهيوج سان فكتور)، وكذلك دروس أساتذة عظام (مثلا أبيلار) الذين بلغت شهرتهم حد استقطاب عديد من الطلاب من إيطاليا وألمانيا وانجلترا. وقد تجمعت هذه المدارس كلها في «جزيرة المدينة»
lle de la Cité
وعلى سفوح تل «سان جانفيف». ثم شعر الطلاب والأساتذة بضرورة الوحدة فيما بينهم درءا للمخاطر التي تهددهم من بقايا السلطتين الدينية والسياسية، ودفاعا عن مصالحهم المشتركة في ضرورة البحث عن الحقيقة، وتأسيس العلوم الجديدة. وقد سعت هاتان السلطتان إثر ظهور هذا الخطر الجديد إلى خطب وده، من أجل الالتفاف حوله، دون الدخول في مواجهة علنية معه، واستطاعتا التوفيق بين مصلحتيهما ومصلحة الجامعات الجديدة الناشئة. وكان يمثل هاتين السلطتين ملوك فرنسا والبابوات. وقد سعد ملوك فرنسا بهذا الطوفان الجارف من الطلاب من جميع أنحاء أوروبا إلى مقاطعاتهم لتعلم العلوم والفنون والآداب بمختلف أنواعها. لقد ازدهرت عواصمهم، كما زادت قوتهم وسطوتهم خارج البلاد، من خلال الطلاب الأجانب الذين تعلموا في بلادهم، ثم غادروها إلى مواطنهم الأصلية، ينشرون الثقافات التي تعلموها ويدينون ببعض الولاء إلى أماكن دراستهم ويحنون إليها، الأمر الذي ما زال سائدا حتى الآن، حتى خلقت طبقة من المثقفين المستغربين حاملي الثقافات الأجنبية التي تعلموها في وقت كان الشعور الوطني فيه متواريا وراء الشعور الديني. وأعظم دليل على ذلك شهادة يوحنا السالزبوري وغيره من فلاسفة العصر الوسيط على هذا الإعجاب الشديد الذي تحظى به فرنسا، عادات وتقاليد وأخلاقا وعمرانا، لدى الطلاب الأجانب، وما نعموا به من لذة الحياة، وما شاهدوه من النعم المادية والروحية. كان من الطبيعي إذن أن يقوم ملوك فرنسا بحماية الطلاب الفرنسيين والأجانب ضد أي مخاطر تهددهم من الداخل أو الخارج، ما دام الرصيد في نهاية الأمر راجعا إليهم. ولكي يزدهر الحرم الجامعي الباريسي، كان لا بد من تأمين الطلاب، وتوفير أسباب الراحة والهدوء لديهم، وحمايتهم من الاستغلال الفكري والمعنوي، وصياغة اللوائح التنظيمية لهذا الغرض.
ولكن يبدو أن هذه النظم التي فرضها ملوك فرنسا والظروف المساعدة على ذلك لم تكن إلا عاملا ثانويا لنشأة الجامعات وازدهارها، ممثلة في جامعة باريس؛ لأن المؤسس الحقيقي لها كان إنوسنت الثالث، ثم جريجوار التاسع. ومع أن الجامعة نشأت دون تدخل البابا، إلا أنه لا يمكن فهم دورها القيادي الخاص بين جامعات العصر الوسيط دون أن نأخذ في الاعتبار التدخل الفعال والمباشر للبابا والمقاصد الدينية التي حددها لها. ومع أن الجامعة هي المكان الذي يجتمع فيه الطلاب والأساتذة لدراسة بعض العلوم حبا في العلم، إلا أن هذا المثل الأعلى المجرد لم يكن يخلو من بعض المنافع العملية التي لا تعارض حب الاستطلاع وطلب العلم لذاته؛ لذلك ضمت الجامعات المعارف النظرية الشاملة لتوسيع المدارك الإنسانية والتخصصات العلمية الدقيقة لتحقيق بعض النفع في الحياة اليومية.
ولكن جامعة باريس في القرن الثالث عشر كان يتنازعها هذان التياران المتعارضان؛ الأول يريد أن يجعلها مركزا علميا محايدا منزها عن الأغراض؛ والثاني يريد استخدام العلوم والمعارف من أجل إثبات أهداف ومقاصد دينية، ويجعل الجامعة سلطة عقلية ودينية في آن واحد. ويمكن ملاحظة هذين التيارين من قراءة لائحة جامعة باريس، يتحدان مرة، ويتصارعان مرة أخرى. فمثلا، لم تكن دراسة الطب رائجة في جامعة باريس في القرن الثالث عشر، على عكس بعض الجامعات الفرنسية في جنوب فرنسا فيما بعد، تحت تأثير الطب الإسلامي وامتداده من الأندلس، ولكن كانت دراسة القانون على العكس رائجة تحظى باهتمام عديد من الطلاب. وكانت هذه الجامعات تدرس القانون الروماني كأساس للمجتمع المدني المستقل الذي لا يعتمد إلا على ذاته. ثم أتت الكنيسة، ومنعت هذه الدراسة، وأصرت على تدريس القانون الكنسي.
أما فيما يتعلق بتدريس الفلسفة، فمنذ أن انتشرت الفنون الثلاثة المشهورة في العصر الوسيط: البلاغة والنحو والمنطق، عاد الجدل إلى مكانته الأولى، وشغف به معظم الأساتذة، رافضين الدخول في موضوعات اللاهوت. ولقد ظل أبيلار نفسه لمدة طويلة جدليا. ومنذ اكتشاف مؤلفات أرسطو حصل أساتذة الفنون الحرة (البلاغة، والنحو، والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك) على سلطة أكبر مما كان لديهم في القرن الثاني عشر؛ فقد طبق أساتذة الجدل مناهجهم من منطق وفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو، دون أي مادة علمية أخرى؛ لذلك ظل الجدل فارغا عقيما لا يستعمل في موضوعات اللاهوت التي ترفض بطبيعتها أن تخضع لقوانين الجدل. ثم طالب الأساتذة فيما بعد بتطبيق مناهج الجدل في علوم وضعية أخرى، لها مضمون واقعي، ولكن ظل التيار الغالب على الأساتذة في كليات الآداب في باريس أثناء القرن الثالث عشر كله هو تدريس المنطق والفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو دون الاهتمام بأي علوم أخرى أو حتى باللاهوت. وكانت «الرشدية» الباريسية تمثل هذا التيار.
Shafi da ba'a sani ba