Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Nau'ikan
ويشهد تاريخ الفكر البشري على موت الفلسفة إذا ما قام العقل بوظيفة التبرير وتخلى عن دوره في التحليل والنقد. فقد كانت الفلسفة في العصر الوسيط تستخدم العقل دفاعا عن العقيدة؛ ومن ثم خرجت فلسفات في الدين تقبل الخطيئة والخلاص والتجسد والفداء كحقائق مطلقة على العقل أن يفهمها ويبررها للناس. بل إنه لشرف كبير للعقل أن يفهم أسرار الإيمان دون أن يتعدى حدوده. فالإيمان يفوق العقل ويتحداه. الإيمان عقل أكبر. وإذا كان «أومن كي أعقل» يعطي الأولوية صراحة للإيمان على العقل فإن «أعقل كي أومن» لا يعطي العقل الأولوية المطلقة على الإيمان، ولا يجعل العقل يقوم بدوره في التحليل والنقد. بل إن أقصى ما توصلت إليه المسيحية الأرسطية كما مثلها توما الأكويني هو وضع ثلاثة مستويات: العقل الطبيعي القادر على الوصول إلى الله كما تصوره الفلاسفة، ثم الإيمان الذي يعطي وحدة الله كما يتصوره الدين أي السر الإلهي، وأخيرا عقل الإيمان القادر على فهم هذا السر بعد حدوثه في القلب بفعل الإيمان. وهذا التصور الثلاثي يرتكب في حقيقة الأمر خطأين؛ الأول اعتبار الله كما تصوره الفلاسفة غير الإله الذي أوحى به الدين؛ والثاني اعتبار أن العقل قاصر عن إدراك السر وأنه لا بد من حدوث السر أولا بالإيمان حتى يمكن لعقل الإيمان فهمه ثانيا. وذلك عود من جديد إلى «أومن كي أعقل». بل إن العصور الحديثة كلها والقرن السابع عشر خاصة الذي عرف باسم العقلانية كان العقل فيه مبررا للإيمان ولكن بصورة أفضل، وبذكاء أكبر، وبأسلوب أكثر إقناعا، وبمنهج أوضح مما كان العقل عليه في العصر الوسيط، بل إن «التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت مهداة إلى علماء أصول الدين الهدف منها البرهنة على صحة عقائد الإيمان، وقد سار كانط في التيار نفسه حين جعل «العقل النظري» قادرا فقط على إدراك الظواهر وعاجزا عن إدراك الحقائق وبواطن الأمور، بل إنه صاحب القول المأثور «كان لزاما علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان.» الجدل العقلي لديه جدل ووهم وخداع. ومثل العقل الثلاثة: الله والنفس والعالم تصورات قبلية لا برهان عليها. ولا يوجد برهان عقلي قبلي أو كوسمولوجي بعدي على وجود الله. فتغلب الإيمان على العقل، وأصبح العقل مبررا للإيمان. ويظهر التبرير بصورة واضحة عند هيجل حين تحولت المسيحية إلى فلسفة والتثليث إلى جدل، والله إلى تاريخ. بل تجاوز العقل تبرير الدين إلى تبرير الدولة القائمة، وتبرير كل ما هو موجود باعتبار أنه إحدى لحظات الفكر، فالعقلي هو الواقعي، والواقعي هو العقلي. فتغلب الفهم على النقد، والتفسير على التغيير، واستمر الحال كذلك حتى عند المعاصرين مع أن الرفض روح العصر، وهم التوماويون الجدد وعلى رأسهم جاك مارتيان، في معاداتهم روح العصر والدعوة إلى الرجوع إلى القدماء وإلى فلسفة توما الأكويني التي حوت كل شيء.
2
وقد ظهر دور العقل في تبرير المعطيات على أوضح ما يكون في تراثنا الفلسفي القديم عندما أصبحت وظيفته فهم الوحي خاصة عند أهل السنة الذين جعلوا النقل أساس العقل. بل إن المعتزلة أنفسهم الذين جعلوا العقل أساس النقل كانت مهمة العقل لديهم تأويل النقل حتى يصبح أكثر اتفاقا مع العقل دون نقده أو تأويله تأويلا جذريا بإرجاعه إلى التجارب الإنسانية التي هي أساس كل نص. لم يقم العقل بدوره في التحليل والنقد إلا في حدود التأويل حرصا على التنزيه، تأويل الصفات والرؤية دفاعا عن التوحيد، وتأويل الشفاعة والصراط والميزان والحوض دفاعا عن العدل، واعتبار ذلك صورا فنية تسمح بها اللغة العربية لإعطاء معاني العدالة والحكم. ولسوء الحظ لم يستمر خط الرازي في «نقد النبوات» وابن الرواندي في استعمال العقل على نحو نقدي، وتم استئصال هذه النماذج كلية من تراثنا القديم حتى غابت كلية من وعينا القومي ووجداننا المعاصر. كذلك قام الفلاسفة بالمهمة نفسها في التبرير فاقتصر دور العقل على فهم الدين بطريقة أكثر رقيا ترضي ذوق المثقفين والحكماء. فالجنة نعيم روحي، والنار عذاب معنوي، ولم يجرؤ أحد على الخروج عن هذا الإطار لوظيفة العقل باستثناء ابن رشد خاصة في شروحه على أرسطو والذي لاقى ما لاقى من صنوف القهر والاضطهاد. بل إن علماء أصول الفقه أيضا تقبلوا الوحي كحقيقة معطاة سلفا، وما دام المعطى المسبق قد أعطي كل شيء، وحمل الحقيقة الجاهزة إلينا فقد تحدد دور العقل في فهمها وتفسيرها وتذوقها. لقد أغنانا الله عن البحث النظري المجرد، وأعطانا الحقيقة لنوجه جهدنا كله إلى العمل وإلى تحقيقها كنظام شرعي في الأرض. يمكن للعقل الاجتهاد قياسا للفرع على الأصل دون إعمال العقل في الأصل إلا من أجل تنقيح المناط أو تخريج المناط أو تحقيق المناط دون النظر في تأسيس النص في العقل أو في الواقع. أما الصوفية فقد عادوا العقل كلية. وأصحاب الحكمة الإلهية أو حكمة الإشراق وظفوا العقل في إيجاد البرهنة على صدق الحدس القلبي كما هو الحال في الفلسفة المسيحية.
3
ولكن تحيا الفلسفة إذا ما قام العقل بوظيفته الأساسية في التحليل والنقد من أجل التغيير. وظيفة العقل بيان الاتساق الداخلي للموضوع أولا ثم بيان المسافة بين الواقع والمثال ثانيا، وبيان وضع المجتمع في حركة التاريخ ثالثا بين الخلف والأمام في معركة التخلف والتقدم. لقد قام العقل عند اليونان بهذا الدور عندما كان سقراط يناقش تلاميذه حول آلهة اليونان وحول تعاليم السوفسطائيين. كما ظهر العقل النقدي في حركات الهرطقة في عصر آباء الكنيسة عند مؤسسي الفرق الدينية الذين كشفوا بعض جوانب التناقض في العقائد السائدة والتي ما زالت في طور التشكيل مثل أريوس دفاعا عن التوحيد، وبلاجيوس دفاعا عن الحرية، ودوناتوس دفاعا عن الوطنية، ولكن ابتداء من عصر النهضة ظهر العقل الناقد في الثورة على القدماء ورفض المعتقدات الموروثة وتوجيه العقل نحو الطبيعة من أجل تخليص الذهن من الأحكام المسبقة والأوهام الشائعة. ولما ترك ديكارت الاستثناءات خارج النقد - وهي الكتب المقدسة والعقائد والأخلاق الشائعة - وطالب فيها باتباع «الأخلاق المؤقتة» جاء اسبينوزا مؤكدا دور العقل في النقد حتى يمكن تأسيس المجتمع بعد ذلك على أسس عقلية. وفي العصر نفسه نشأ النقد التاريخي للكتب المقدسة لإخضاع النص الديني لأحكام العقل رفضا للتناقض، وإبعادا للزيادة فيه، وبيانا للنقص والتحريف والتبديل والانتحال عليه. وقد قام فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر بدور النقد العقلي لمظاهر التخلف في الحياة الاجتماعية والسياسية فارتبط بالحس والمشاهدة والتجربة، ووقف ضد النظم الملكية والتسلطية، ودحض الخرافات والأساطير، وبين مآسي الحروب والتعصب الطائفي. كما قام الهيجليون الشبان بتحويل وظيفة العقل في التنوير عند هيجل إلى وظيفة النقد، وأسس شترنر وفيورباخ وشتراوس وباور «فلسفة النقد» الهيجلية وتحويل وظيفة العقل من تبرير الدين إلى نقد المجتمع. ثم دفع ماركس وظيفة النقد خطوة أبعد في نقد النقد، والانتقال من نقد المجتمع إلى تغيير المجتمع. ثم أتى ماركيوز أخيرا وجعل وظيفة العقل الأساسية الثورة والنفي والرفض، والانتقال من المثالية إلى النقد الاجتماعي، ومن العقل إلى النظرية السياسية.
4
وفي تراثنا القديم قام الفقهاء بالدور نفسه بالنسبة للتراث الأجنبي الوافد حماية للعقائد ودفاعا عن الحضارة. قام الفقهاء بنقد المنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية كما فعل ابن تيمية. وقام آخرون بنقد الكتب المقدسة مبينين ما فيها من زيف ووضع وتبديل وتحريف بالاعتماد على قواعد المنهج التاريخي كما وضعها علماء الحديث. كما قام البعض بالنقد الاجتماعي مبينين عيوب التصوف وخطورته على المجتمع مثل عقائد الولاية والإمامة والحلول والاتحاد والفناء ووحدة الوجود. ولكن لسوء الحظ لم يشمل هذا النقد الأصول ذاتها فوقعوا في التشبيه والحرفية وضيق الأفق والتعصب. كما حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة الإعلاء من شأن العقل ولكنه ظل محددا تحت وصاية النبي. ولولا قدوم الضباط الأحرار قبل المفكرين الأحرار لكان بالإمكان ظهور المعتزلة الجدد وأن تحيا الفلسفة بعد موت.
5
سابعا: الفلسفة والمنهج
تموت الفلسفة إذا تحولت إلى جمع المعلومات دون منهج، وإلى تصنيف المعارف دون طريقة في الاستدلال، فالفلسفة أساسا منهج أو طريق وليست معرفة أو علما. وقد كانت معظم التحولات الأساسية في الفكر البشري تحولات في المنهج أكثر منها زيادة في المعارف والعلوم؛ لذلك كان المنطق أو مناهج البحث جزءا من الفلسفة. فالمنطق بتعريف القدماء آلة للعلوم يعصم الذهن من الخطأ. ومناهج البحث هي طرق الاستدلال التي لا يستغني عنها باحث في أي علم. وينشأ من هذا العلم الكمي تضارب المعلومات دون أي اتساق فيما بينها ووضع الصواب مع الخطأ، الصحيح مع الباطل، العلمي مع الأسطوري دون أي معيار للصدق بينهما. ويكون حينئذ الطريق الوحيد لزيادة المعارف هو النقل أو الرواية عن القدماء، جيلا بعد جيل، والاعتماد على المأثور دون المعقول، والأخذ بالأثر دون الرأي. ويغيب الواقع كلية وتتوقف الحياة ويلحق الضرر بالمصالح العامة إذ يكون العلم في جانب وواقع الناس في جانب آخر. ثم تستأثر جماعة معينة بالعلم فلا يشيع بين الجميع، وتنشأ طبقة من الكهان والحفظة والكتبة والفقهاء وحملة العلم، يحفظونه في الرءوس أو يدونونه في مجلدات؛ لذلك عرف الفكر القديم باسم الفكر الموسوعي. فالعالم هو الذي يحيط به، والجاهل هو الذي لا يعلمه.
Shafi da ba'a sani ba