Addini
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Nau'ikan
والآن - وقد طوفنا بك في مسالك متشعبة من الرأي في أصل العقيدة ومنشئها - نريد أن نلقي معك نظرة شاملة، نضم بها أطراف البحث، ونحاول فيها التوفيق بين مختلف مذاهبه.
وسيكون سبيلنا في هذا التوفيق - بعد أن ننحي نظريتين اثنتين
1
من هذه النظريات - أن نحتفظ من كل نظرية بجانبها الإيجابي - أعني: إثباتها لصحة مسلكها - دون جانبها السلبي - وهو: إنكارها لسائر المناهج - وبذلك يعود الاختلاف بينها اختلاف تعاون وتكامل، لا اختلاف تعاند وتناقض.
والواقع الذي لا مرية فيه هو أن مطلب الألوهية مطلب توافرت عليه الفلسفات والنبوات، وأن دلائله البرهانية ماثلة في الأنفس وفي الآفاق، وأن بواعثه النفسية مركوزة في العقول وفي الوجدانات. غير أن الناس ليسوا على درجة سواء في سرعة الاقتناع بكل هذه الدلائل، ولا في تيقظ انتباههم بكل هذه الوسائل، فرب امرئ يغلب عليه الانطواء على نفسه فيتأثر بالإيحاء الذاتي أكثر مما يؤثر فيه الإيحاء الخارجي، وآخر على عكس ذلك. والمتأثرون بالأحداث الخارجية فيهم من يأسر لبه جمال المشاهد وجلالها ، ومن لا يهز قلبه إلا قوارعها ومروعاتها ، ورب امرئ يعنى من هذه الأحداث بجانبها النفسي الإنساني، وآخر يهتم بجانبها المادي العالمي.
والمنطوون على أنفسهم منهم من يغلب تفكيره وجدانه، ومنهم من تغلب عاطفته فكرته ... وإلى ذلك كله، فمن الناس من تلفته نظرة عابرة أو لمحة خاطفة، ومن لا يتنبه إلا بصدمة عنيفة أو أزمة شديدة، ومن لا تكون عقيدته إلا من تضافر جملة من العوامل المختلفة، ومن لا يمر على كل هذه الدلائل وهو غافل، فلا تستيقظ فيه بواعث الاعتقاد حتى تبين له الدلائل تبينا، أو يلقنها تلقينا. وهل الباحثون الذين عرضنا نظرياتهم آنفا إلا آحاد من الناس، يغلب على كل واحد منهم مزاجه الخاص في الاستنباط، وأسلوبه المختار في الاقتناع؟ فكان من الطبيعي أن يبدأ كل منهم عقيدته من الطريق الذي هو أكثر إليه تنبها، وأشد له إلفا، وأقوى به تأثرا، ثم تتلاحق عليه الدلائل الأخرى بعد ذلك.
وهكذا، كان منهم من استمد إيمانه من تأملاته في مشاهد الطبيعة، وآخر كانت عقيدته وليدة تجاربه في عالم الأرواح، وثالث استيقظ وعيه الديني من ملاحظة نفسية في حياته العادية، ورابع من تحليله لبعض المعاني العقلية، وخامس استنتاجا من القوانين الأخلاقية، وسادس لم يرفع رأسه إلى هذه الحقائق العليا إلا بعد أن تلقاها من طريق التعاليم الدينية. وهذه كلها طرق مؤدية للغاية، وإنما عرض الخطأ لهؤلاء المفكرين الذين شرحنا نظرياتهم آنفا من جهة أن كل واحد منهم حين وصف الطريق التي سلكها، نسي سائر الطرق، وجعل الأولية التي أحسها من نفسه لبعض الدلائل أولية لها عند الكافة، فاتخذ نفسه مقياسا عالميا بغير بينة، ولو أن كل باحث وقف بالنتيجة عند ما تثبته مقدماتها لقرر أن المنهج الذي سلكه إنما يصور نشأة العقيدة عنده وعند من يشاكله في مشربه، ولكنهم جعلوا هذه الحقائق النسبية حقائق مطلقة، فكان ذلك مثار النزاع والاختلاف.
ولو أننا طلبنا الحق المجرد في هذه المسألة لألفيناه ينتظم في كلمتين: (1)
أن آيات الألوهية مبثوثة في كل شيء. (2)
أن كل فئة من الناس لها طريق مسلوك في الاسترشاد ببعض تلك الآيات قبل بعض.
Shafi da ba'a sani ba