فصاح الخطيب: إذن تكون قصارى فلسفتهم أيها السادة أن يأكل الناس ويشربوا ويناموا ويعيشوا معيشة الخنازير. هذه هي «المعيشة الوضعية» وكثيرون من البشر هذا شأنهم اليوم، وهم يضيفون على ذلك التمتع بكل شهواتهم وأهوائهم الحيوانية، فهل يكون في المستقبل أيها السادة هؤلاء الحيوانيون العابثون بكل شيء مصيبين والذين صرفوا حياتهم بالعفاف والزهد والفضيلة والخير والصلاح مخطئين، هل المستقبل سيذبح الفضيلة هذه الذبحة الهائلة بأن يثبت أن أولئك كانوا أقرب إلى الحقيقة من هؤلاء، إذن ما أفظع الحاضر وما أقبح المستقبل، ويا هاويات الفناء، يا جحيم العدم، ابتلعينا منذ الآن وأريحينا من حاضر فظيع ومستقبل قبيح.
ولكن لا لا، إن الله موجود أيها السادة «وكل ما في الطبيعة يدل عليه ويشير إليه، ولا ينكره إلا الأشرار الذين يخافون عدله»، ونحن لا نعلم هل يوجد في العالم بشر تكفيهم تلك المعيشة الخنزيرية المجردة عن كل عاطفة إنسانية كريمة وكل جنوح إلى ما وراء الطبيعة، ولكننا على ثقة من أن في العالم قوما لا تكفيهم هذه المعيشة الحيوانية، بل إن نفوسهم الشريفة وفطرتهم السامية تجنح دائما إلى خالق الطبيعة وواهبها قواها، إلى الآخرة التي هي وطننا الحقيقي، إلى الحياة الروحية التي هي الحياة الحقيقية، وبناء على ذلك يكون علمكم وفلسفتكم مما يرضي قسما من الإنسانية فقط، والقسم الثاني لا يستغني عن علمنا وفلسفتنا، أي عن مبادئنا الدينية، ولذلك يكون الدين من حاجات قسم كبير من الناس لاختلاف قلوب الناس باختلاف فطراتها ولأن أصوله مغروسة في النفوس لا في الكتب والأوراق.
فصاح به المعترض: ولكن هذا الفريق من الناس ينقرض متى دخلت الإنسانية في الطور الثالث من أطوار الفلسفة الوضعية التي تقدم ذكرها.
فصاح الخطيب ضاحكا ومتهكما: انتظروا فإننا معكم منتظرون، ولكن على افتراض أن هذا القول صحيح هل يجوز جرح عواطف النفس بمهاجمة معتقداتها قبل حصول هذا التغيير ودخول الإنسانية في طور التحول عما بين يديها؟
فأجاب المعترض: نحن نجاهد كالرسل والأنبياء، ولولا هذه المجاهدة لما تقدمت المبادئ، وهل تظنون أن المسيحيين والمسلمين لو انتظروا حصول التغيير في الأرض من مجرد سير المبادئ كانوا قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟
فصاح الخطيب وقد فرغ صبره: بئس هذا الجهاد الذي تقومون به، فإنكم تهدمون به كل شيء محبوب إلينا. وأي شيء سلم من هدمكم، لقد هدمتم الدين وهدمتم الوطن وهدمتم الجيش وهدمتم العائلة وهدمتم العادات الجميلة المقدسة.
فضحك هنا كثيرون من فريق العلم وقال أحدهم: إنك تتسلح بالمبادئ الوطنية وبالدفاع عن الجيش تقوية لحجتك؟
فقال الخطيب: وهل تنكرون أنكم أفسدتم الفكرة الوطنية وشوهتم مبادئها المقدسة، أما نسمعكم دائما تعلمون الناس أن البشر إخوان وأن الحدود يجب أن تزال من بين بني الإنسان، فما معنى هذا عندكم، أليس معناه تسليم الوطن للأجانب؟ ثم أما أنتم الذين تدعون إلى نزع السلاح وقصدكم من ذلك إضعاف جيشنا لكي يصبح غير قادر على مقاومتكم يوم تريدون إنفاذ أغراضكم، أما أنتم الذين تحرضون الجنود على الفرار من الخدمة العسكرية؛ لأنها عار في مذهبكم لقيامها على حمل السلاح وسفك الدماء، وتنشرون المنشورات بين صغارهم ليعصوا قوادهم ولا يكبحوا جماح العمال في أوقات الاعتصاب، أما أنتم الذين أدخلتم الطلاق في العائلة فضعضعتم به أساسها وأساس الهيئة الاجتماعية ثم تريدون الآن توسيع نطاقه بإعطاء كل واحد من الزوجين حق الطلاق حينما يطلب ذلك وإن لم يرض به الثاني، أما أنتم الذين تدعون إلى إباحة الزواج من غير زواج والعياذ بالله، أي من غير عقد رسمي سوى رضي الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، ومتى شاءا يفترقان كما اجتمعا.
فصاح حينئذ كبير من فريق رجال العلم: يظهر أن هذا الكذب لا حد له عندكم فإنكم تنسبون إلينا كل أعمال الاشتراكيين مع علمكم أننا براء منها.
فقال الخطيب: ولكن أليست هذه كلها نتائج مدنيتكم هذه، إنما أردنا أن نظهر للأمة الهاوية التي تجرون البلاد إليها إذا بقيت لكم الحرية، فإنكم تعطلون عقائد الأمة بجرها إلى الإلحاد، وتثيرون الحرب الأهلية بتحريضكم الصغار على الكبار والضعفاء على الأقوياء، وتفرقون الجامعة الوطنية والدينية بدعوتكم إلى الإخاء والتعاون الإنساني، وتضعفون قوة البلاد بمقاومة جيشها وإهانته في كل يوم، وتهدمون الهيئة الاجتماعية والفضائل المدنية بمحاربتكم العائلة ووضعكم الفاحشة موضع الزواج المقدس اللطيف.
Shafi da ba'a sani ba