Addinin Mutum
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Nau'ikan
1
وبمعنى آخر، فإن قلة الوثائق وتبعثرها واتساع الهوة الزمنية، وما إلى ذلك من معوقات دراسة الوسط الفكري لجماعات ما قبل التاريخ، يمكن تعويضها إلى حد ما بمنهج استقرائي صارم، يعتمد الخيال الخلاق المنضبط، ولا يخرج عن حدود الوثيقة المادية المتاحة قيد أنملة.
ولتبيان قيمة الوثيقة الفنية، خاصة في الكشف عن أفكار الإنسان القديم، ينبغي أن نلفت النظر إلى الفارق الكبير بين النشاط الفني لإنسان العصر الحجري والجماعات البدائية عامة، والنشاط الفني للإنسان الحديث، وذلك من حيث بواعث ذلك النشاط ومضامينه ونتائجه. فالفن التشكيلي لدى المجتمعات القديمة، والتقليدية الحديثة، ليس إبداعا فرديا يعبر عن رؤيا جمالية خاصة وموقف ذاتي من العالم، كما هو الحال في مجتمعاتنا الحديثة، بل هو إبداع جمعي يستلهم قيما جمالية جمعية، ويعبر عن مواقف فكرية مشتركة. والفنان البدائي عندما يعكف على تشكيل عمله الفني، لا يقصد إلى إنتاج قطعة جميلة يقتنيها شخص آخر، وإنما إلى انتقاء أشكال تعبر عن السيكولوجيا الجمعية والتوجهات الفكرية للجماعة، وغالبا ما يكون لهذه الأشكال معان تتجاوز الموضوعات المادية الممثلة؛ لتغدو رموزا تلتقي عندها القوى الدينية والسحرية والأيديولوجية الفاعلة في الوسط الجمعي المشترك. فالفن البدائي، والحالة هذه، عبارة عن لغة اجتماعية يفهمها الجميع ويتواصلون من خلالها، والأعمال الفنية تحمل على الدوام قيما دلالية تتعدى حدود صانعيها لتغدو شاهدا على حقبة وعصر؛ فما الذي تنقله شواهد العصر الحجري القديم إلينا؟ (1) الباليوليت الأدنى: القاع السحيق
تشكل حقبة العصر الحجري ما يزيد عن 99٪ من تاريخ الإنسان. ويؤلف معظم هذه الحقبة العصر الذي ندعوه بالحجري القديم أو الباليوليتي (=
). يقسم العصر الباليوليتي عادة إلى ثلاث مراحل؛ الباليوليت الأدنى، والباليوليت الأوسط، والباليوليت الأعلى. يمتد الباليوليت الأدنى من البدايات الأولى لظهور الهيئة البشرية بين الرئيسيات العليا، وإلى ما قبل مائة ألف عام من يومنا هذا؛ ففي هذا العصر الذي يمتد إلى ما وراء المليون الأول من عصور الكتابة، اتخذت الجماعات التي ندعوها بالأناسي، أو أشباه الإنسان (=
Hominids )، الملامح والخصائص العامة التي ميزت جنسنا منذ ذلك الوقت؛ فلقد غادرت الأشجار وعاشت على الأرض ، وسارت على قدمين منتصبة الجذع، وتطورت لديها قدرات عقلية وعصبية عالية، واتخذت العينان مكانا يسمح لهما بتركيز رؤية واسعة مجسمة. ونظرا لفقدانها للأنياب، التي تملكها القردة والسعادين، فقد اعتمدت على الكفين بشكل متزايد، وتطورت لديها حركة الإبهام المقابل للأصابع بشكل يسمح بإمساك الأدوات واستخدامها. وقد صنع هؤلاء الأسلاف الأولون أولى الأدوات المعروفة أركيولوجيا باسم الأدوات الأولدوفية واستخدموها بكفاءة؛ وبذلك فقد ساروا أولى الخطوات نحو تكوين ما ندعوه «ثقافة» (=
Culture ). والثقافة في أبسط تعريفاتها تعني نمط حياة يجري اكتسابه اجتماعيا لا غريزيا، ويتم نقله بين الأجيال بالتعلم. وبدءا من 500000 عام من عصرنا هذا، أخذ الأناسي باستعمال النار، وبدأت أشكالها تنحو نحو الشكل النياندرتالي، وهو أول شكل إنسي قريب منا إلى حد بعيد.
وفي الواقع، فإنه من غير المجدي التفتيش عن دلائل الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان؛ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها؛ فإذا أردنا البقاء في حدود ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن إنسان الباليوليت الأدنى لم يتمتع بحياة دينية من أي نوع، وإن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسيات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي. غير أن البوادر الأولى لقيام الأناسي بتكوين هذا النوع من الثقافة الأولية، يغرينا بافتراض امتلاكهم نوعا من الحياة الروحية، التي لم تكن من الوضوح بحيث تعلن عن نفسها من خلال اللقى الأثرية التي اقتصرت على الأدوات، وهي فرضية لا يمكن الدفاع عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن الباليوليت الأدنى. إن كل ما أستطيع قوله هنا هو أن الحياة الروحية المتطورة نسبيا لإنسان النياندرتال اللاحق، لا يمكن أن تكون قد انبثقت فجأة ومن العدم، بل لا بد من وجود جذور لها في ذلك القاع السحيق للثقافة الإنسانية. (2) الباليوليت الأوسط وبزوغ الإنسان
تمتد فترة الباليوليت الأوسط من حوالي 100000 إلى حوالي 40000 عاما قبل عصرنا. وقد ساد خلال هذه الفترة في أوروبا وآسيا وأفريقيا الكائن البشري المعروف بالنياندرتال. يتميز النياندرتال النموذجي، الذي استوطن أوروبا بشكل خاص، بضخامة الرأس وبروز عظمي الحاجبين، وضيق الجبهة، وضمور الذقن. ويبدو أن هذا الكائن البشري هو الحلقة الأخيرة التي تسلسل منها الإنسان الذي يعمر الأرض حاليا، والذي اكتمل شكله منذ ما يقارب الأربعين ألف سنة من الآن. وعندما اكتشفت الهياكل العظمية الأولى للنياندرتال في منطقة نياندر بألمانيا قرب دوسلدورف، اعتقد الباحثون بوجود هوة كبيرة بينه وبين الإنسان العاقل الذي ورثه على الأرض، إلا أن اكتشاف المزيد من آثار النياندرتال، قد أظهر مدى ضيق الفجوة بينه وبين الإنسان العاقل، حتى لقد اعتبر نوعا متقدما من أنواعه، وتم الاصطلاح مؤخرا على تسميته بالإنسان العاقل النياندرتالي (=
Homo Sapien Niandertalenisis ).
Shafi da ba'a sani ba