Addinin Mutum
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Nau'ikan
9
ويرى بعض الباحثين أن فكرة الألوهة إذا أخذت بمدلولها الضيق فإنها تترك كثيرا من الأديان خارج دائرة التعريف، وهي الأديان التي تضع في بؤرة معتقدها كائنات روحية من مختلف الأنواع، كأرواح الموتى والأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة المختلفة، والتي لا تنضوي تحت مفهوم الآلهة المعتاد. من هنا يرى إدوارد تيلور (1832-1917م)، وهو مؤسس الأنتروبولوجيا في بريطانيا، أن التعريف الأشمل ينبغي أن يستبدل مفهوم الآلهة بمفهوم «الكائنات الروحية» الأكثر عمومية. يقول تيلور في كتابه
: «إن المتطلب الأول في الدراسة المنهجية لأديان الشعوب البدائية، هو وضع تعريف بدائي للدين؛ ذلك أن التوكيد على الإيمان بكائن أعلى، من شأنه أن يخرج المعتقدات البدائية من دائرة الدين؛ لأن مثل هذا الإيمان هو مرحلة متطورة من الحياة الدينية. من هنا، فإن الأفضل أن نضع حدا أدنى لتعريف يقتصر على الإيمان بكائنات روحية.»
10
والمقصود بالكائنات الروحية عند تيلور، هو كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق ما لدى البشر. ويدخل في عداد هذه الكائنات كل أنواع الأرواح والعفاريت والجن، التي تفترض الذهنية البدائية تداخل عالمها بعالم البشر، كما يدخل في عدادها أيضا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة. وبما أن هذه الكائنات ليست قوى غفلة عمياء، بل تتمتع بالوعي والإرادة، فإن العلاقة معها تتميز بمحاولة التأثير عليها واستمالتها للوقوف إلى جانب الإنسان، سواء بالكلمات المناسبة أو بالذبائح والتقدمات وما إليها. وهنا يأتي جيمس فريزر (1854-1941)، الأنتروبولوجي البريطاني المعروف، ليقدم تعريفا مكملا لتعريف تيلور. يقول في كتابه الغصن الذهبي الذي صدر في طبعته المختصرة عام 1922م: «إن صياغة تعريف واحد من شأنه إرضاء كل الآراء المتصارعة حول الدين، هو أمر غير ممكن التحقيق. من هنا فإن كل ما يستطيعه الباحث هو أن يحدد بدقة ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على استخدام هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده لها منذ البداية. وعليه، فإننا نفهم الدين على أنه عملية استرضاء وطلب عون قوى أعلى من الإنسان، يعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرين، واحد نظري والآخر تطبيقي عملي؛ فهناك أولا الاعتقاد بقوى عليا، يتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى . ولا يصح الدين بغير توفر هذين العنصرين ؛ ذلك أن الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري، أما الممارسة المجردة عن أي اعتقاد فليست من الدين في شيء.»
11
في كتابه
The Elementary Forms of Religious Experience ، يوجه إميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917م)، نقدا شديدا للتعريف الذي قدمه فريزر؛ لأنه يقصر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلا لكائنات ما ورائية تسمو على الإنسان. ويرى دوركهايم أن أمثال هذا التعريف تلقى قبولا في الغرب بسبب مطابقتها من حيث الأساس لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على أديان عدة واسعة الانتشار لا تدور معتقداتها حول أرواح أو آلهة من أي نوع، أو أن هذه الكائنات لا تلعب فيها إلا دورا ثانويا جدا؛ فالبوذية مثلا قد شقت لنفسها طريقا مستقلا عن البراهمانية في الهند، انطلاقا من رفض فكرة الإله؛ فهي نظام أخلاقي بدون مشرع، وإيمان بدون إله. إن البوذي غير معني إطلاقا بمن خلق العالم وكيف، وجل همه يتركز في الكدح من أجل التحرر وتخليص روحه من سلسلة التقمصات في عالم لا يحمل إلا الألم والشقاء. وهو في كدحه هذا لا يستعين بأي كائن ما ورائي من أي نوع، بل يعتمد على قواه الذاتية وحدها. أما الآلهة، فليست، في حال وجودها، إلا كائنات أقدر من الإنسان على التحكم في عالم المادة، ولكنها أسيرة مثله في عالم بائس عليها أن تخلص نفسها منه أيضا.
انطلاقا من هذا النقد، يرى دوركهايم أن أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على جميع الديانات، من أكثرها بدائية إلى أكثرها تطورا وتعقيدا. ولكي نستطيع صياغة مثل هذا التعريف، ينبغي لنا أن نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا، ونسقط من حسابنا تلك الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دين دون آخر. ولما كانت القوى الفاعلة في الطبيعة ليست وقفا على قوى الكائنات الروحية المشخصة كالآلهة وغيرها (وهذه نقطة سوف نعمل على توضيحها بكثير من التفصيل لاحقا)، فإن الدين لا يمكن تعريفه انطلاقا من علاقة الإنسان بهذه الكائنات. وبدلا من التوكيد على مفهوم الألوهة ومفهوم الكائنات الروحية، يجد دوركهايم أن كل المعتقدات الدينية، بسيطها ومركبها، تنطوي على خصيصة عامة مشتركة؛ فهي تفترض تقسيما لكل الأشياء المنظور منها والغيبي، يضعها في زمرتين؛ زمرة المقدس وزمرة الدنيوي
Sacred and Profane . وهو يرى أن هذا التقسيم إلى عالمين، يحتوي الواحد منهما على كل ما هو مقدس والآخر على كل ما هو دنيوي، هو السمة الأساسية المميزة للفكر الديني، وأن كل التمثيلات الدينية ما هي إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها أو علاقتها بالأشياء الدنيوية. من هنا يمكن أن نفهم لماذا تعتبر البوذية دينا رغم استبعادها للآلهة من معتقدها؛ فهي عوضا عن الإيمان بإله يتمركز حوله المعتقد والطقس، فإنها تؤمن بالحقائق النبيلة الأربع وما يتفرع عنها من ممارسات. إضافة إلى هذه السمة الأساسية للدين، فإن تعريف دوركهايم يؤكد على ناحية أخرى ضرورية، وهي الطابع المجتمعي للدين؛ فالمعتقد الديني الحقيقي هو على الدوام معتقد لجماعة معينة من الناس يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات. والأفراد الذين يؤلفون هذه الجماعة يشعرون بصلة بعضهم مع بعض، وبالترابط داخل وحدة اجتماعية خاصة بهم انطلاقا من واقعة امتلاكهم لمعتقد ديني خاص بهم. ويطلق دوركهايم على مثل هذه الجماعة المتحدة بالمعتقد اسم الكنيسة. وبناء على ذلك يصوغ إميل دوركهايم التعريف التالي: «الدين هو نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى أنواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى كنيسة.»
Shafi da ba'a sani ba