Addinin Mutum
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Nau'ikan
بعد الامتحانات، التي حملت إلينا ما توقعناه من الأسئلة وما لم نتوقع، وبينها سؤال ثمرة الكستناء إياه، كنت أستعيد تجربة ذلك الأصيل تحت رواق الجامع وأتمنى لو أنها تأتي كرة أخرى. ذهبت إلى المكان، دخلت الحرم وجلست أستمع إلى شيخ يتحدث بعد صلاة العصر، مفسرا بعض سور القرآن الكريم لمجموعة تحلقت حوله، ثم خرجت إلى الرواق. استلقيت على الحصيرة ورحت أحاور السماء الزرقاء، ولكن شيئا مما حدث لي في المرة السابقة لم يحدث. وعندها، خطر لي بما يشبه اليقين أن تجربة ذلك الأصيل لم تكن إلا دعوة للصلاة. عدت إلى البيت، وأخرجت كتاب مقرر الديانة المدرسي، فراجعت مجددا قواعد الصلاة بدقة، ثم تشمرت وتوضأت ، ومددت سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح القديمة في فناء البيت، وشرعت في الصلاة، ولكن عند السجود، ظهرت أمامي صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء الطويلة، فشعرت بالخوف وأسرعت في إتمام الصلاة. ولهذه الصورة قصة سوف أرويها فيما يلي.
كان لوالدي غرفة يدعوها مكتبة. وفيما عدا إجراءات التنظيف العادية من مسح وكنس، كان محرما على أحد ترتيبها أو حتى تغيير مكان صحيفة يومية فيها. كانت أكداس المجلات والدوريات القديمة تملأ المكان، والكتب موزعة على الرفوف القليلة، ومتجمعة عند الزوايا في أكوام غير منتظمة. في الأوقات الآمنة، كنت أتسلل إلى الغرفة لتقليب صفحات كتب مصورة أحبها، ثم أنسحب عند اقتراب الخطر. وفي إحدى المرات، تسمر بصري على لوحة تملأ صفحتين متقابلتين من كتاب حاشد بالصور الملونة الأخاذة، كتب تحتها «لوحة خلق آدم». في اللوحة شيخ مهيب سابح في الفضاء يرتدي جلبابا هفهافا ينسحب من ورائه، وهو يمد يده إلى رجل عار يجلس على الأرض في وضعية من صحا لتوه من النوم. أطبقت الكتاب وخرجت، وفي ذهني أكثر من سؤال لا يجيب عليه سوى والدي، ولكن كيف أكشف عن سر دخولي إلى الغرفة المحرمة؟
لم يطل ترددي، كنت عازما على كشف سر الصورة بأي ثمن. بعد العشاء، أوى والدي إلى غرفته، فطرقت الباب وكشفت عن سري له مشيرا إلى مكان الكتاب، ثم قبعت في انتظار ما سيجري. لم يبد عليه الغضب، اتجه نحو الزاوية وأخذ الكتاب، ثم عاد إلى مكانه ففتحه على اللوحة إياها، ثم صمت برهة، وأخذ يشرح لي ببطء مضمونها وهو يتخير كلماته بدقة وحذر؛ لأن وجهي قد تحول على ما يبدو من إشارة استفهام إلى بركان دهشة لا حدود لها. وعندما انتهى من حديثه، زودني ببعض المجلات القديمة المصورة، ونبهني إلى ضرورة استئذانه في كل مرة أريد فيها دخول الغرفة. وكان علي بعد ذلك أن أهضم فكرة التصوير الديني ووجود مصورين لا يتحرجون من رسم صورة للخالق.
لوحة مايكل أنجلو هذه صارت من أعمال عصر النهضة المحببة إلي بعد ذلك . وعندما وقفت أتملاها تحت قبة السستين في الفاتيكان، بعد تلك الصدمة بعشرين عاما، تذكرت انفعالي الأول وابتسمت، كما تذكرت كيف حالت صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء بيني وبين الصلاة في تلك الفترة المبكرة.
يتميز الجيل الذي أنتمي إليه بنزعة عقلانية مفرطة؛ فهو الجيل الذي فتح عينيه على دولة حديثة الاستقلال، تحاول أن تجد لها موطئ قدم في عالم شيمته التقدم العلمي. لم نكن نسمح لأنفسنا بالنظر إلى العالم إلا من خلال المحاكمات الذهنية الباردة، وكان السلاح الذي نشهره في وجه بعضنا هو شعار «كن علميا»، كلما آنس واحدنا من زميله بادرة لطرح لا يلتزم المنطق العلمي في أضيق أشكاله، فكان من الطبيعي أن أكف عن استثارة أحوال نفسانية لا تخضع للمفاهيم العلمية الميكانيكية؛ فإلى جانب الخوف من أن تصنف في زمرة المتخلفين، كان في داخل كل منا محكمة تفتيش منعقدة على الدوام، يصرخ قاضيها في أعماقه «كن علميا»، كلما وجد في نفسه ميلا لما هو «غير علمي» بالمفهوم السائد. ومع ذلك، فقد داهمتني حالة «الوجود الحق» كما أسميتها، مرات قليلة بعد ذلك، وعلى درجات متفاوتة من الشدة.
كنا نتجول مساء في ساحة مونمارتر وأزقتها بباريس، عندما أنذر الرذاذ الخفيف بتحوله إلى وابل ثقيل، فاقترحت زوجة صديقي أن نلجأ إلى كاتدرائية مونمارتر القريبة. كان هناك قداس من نوع ما منعقد بعد الغروب. جلسنا في الصف الخلفي، وصديقي المقيم في باريس يحاول أن يقدم شرحا عن تاريخ الكاتدرائية وعمارتها، ولكن كلماته غابت تدريجيا لتحل محلها كلمات الكاهن الذي يقود القداس. كنت وكأني أسمع لأول مرة قصة الإله الذي صار إنسانا، والإنسان الذي صار إلها. ارتفعت قبة الكنيسة، توسعت حتى تلاشت في الظلام الكوني، وتباعدت الجدران والأعمدة، تحولت الأشياء إلى كلمات، لا تنطوي كل كلمة على معنى بعينه، بل تحتوي كل كلمة كل كلمة أخرى؛ معنى واحدا يتبدى بألف لون ولون، ثم رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع، وأنا في نقطة التقاطع.
بعد ذلك، عرفت أن حالة «الوجود الحق » يمكن استثارتها بأساليب خاصة، وكانت محكمة التفتيش في داخلي قد أخلت مكانها لهيئة محلفين من مشارب شتى، لا يمانعون في إجراء المداولات الحرة قبل إصدار القرار.
في وقت متأخر من الليل، طرق باب منزلي في دمشق جار وصديق لا يخلو من غرابة الأطوار، تعود زيارتي بين الحين والآخر. كان يحمل في يده شريط تسجيل، قال وهو يتجه نحو الزاوية التي تعودنا الجلوس فيها لسماع الموسيقى أحيانا: سأسمعك شيئا أعجبني؛ فلعله يعجبك أيضا. جلسنا أكثر من ساعة نستمع إلى فرقة معروفة بإنشاد الألحان الصوفية، حيث تعرفت لأول مرة على هذا النوع من الفن الديني. حملتني إيقاعات الدفوف إلى حلقات رقص فسيحة يدور فيها الدراويش بأذرع مرفوعة نحو الحقائق المستورة، وأرجل تلف بخفة على الأرض التي ترتفع بهم للقاء السماء. رأيت بعين خيالي كيف يتوسط الراقص بين عالمين، وكيف تمتد روحه شرارة برق تصل المنفصل وتجمع المنقطع. وفي الأمسية التالية، استمعت إلى الشريط وحيدا، وعلى إيقاع مدد، مدد. لا أدري هل درت أم دار الكون من حولي، كل الكون. اختلطت الأشياء وتمازجت ألوانها، ثم ذابت خطوطا في حلقات تتسع، حتى ضاع الشكل واللون. الإنسان في المركز، وكل المجرات حتى أبعدها عند حواف الكون تدور وتدور. صار الكون إنسانا، والإنسان صار كونا.
وبمرور الأيام، كان التساؤل القديم، الذي حملني من حصيرة رواق الجامع إلى سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح، ينمو ويتحول من تساؤل عرضي إلى سؤال أساسي: هل تجربة ما أسميته بالوجود الحق هي تجربة دينية؟ فإذا كانت دينية، فما الفرق بينها وبين ما تحققه الصلاة المعتادة؟ لماذا يلجأ البعض إلى طقس مؤسس ومتعارف عليه، والبعض الآخر إلى طقس خارج على المألوف؟ وإذا لم تكن هذه التجربة دينية، فماذا تكون؟ ثم تبين لي تدريجيا أن معالجة هذه الأسئلة ستدور في حلقة مفرغة، إذا لم نشرع قبلها في الإجابة على سؤال أكثر أساسية يتعلق ب: ما هو الدين؟ فلكي نستطيع تصنيف أمر ما في زمرة الدين، أو نصف سلوكا ما بالديني، علينا أن نكون واثقين من أننا نعرف فعلا ما نعنيه بالدين. والحال أننا مختلفون في هذا الأمر، رغم أن كلا منا يعتقد جازما بأنه يعرف ما الذي يعنيه الدين بالنسبة إليه. وليس الفلاسفة ودارسو الأديان من شتى المشارب بأفضل حالا منا، فلدينا اليوم تعريفات للدين بعدد من تصدى لدراسته، وحاول الإحاطة بهذه الظاهرة ووضع تعريفا مرضيا لها. كيف ذلك؟ كيف لهذا المحرض الإنساني الكبير أن يكون على هذه الدرجة من الغموض والزوغان عن التعريف؟ وهل من الممكن فعلا أن يختلف الدين باختلاف الأفراد وتنوع نظرتهم إلى الحياة؟ أم إن وراء هذا التنوع الظاهري وحدة صميمية، وإن التعريفات لا تقصد إلا أن تقول شيئا واحدا، وتعبر عن تجربة إنسانية واحدة؟ •••
أما بعد، فهذا كتاب في وصف الظاهرة الدينية عند نوع من الأحياء معروف باسم الإنسان العاقل (=
Shafi da ba'a sani ba