Dhu Nurayn Usman Ibn Affan
ذو النورين عثمان بن عفان
Nau'ikan
1 - على العهد
2 - بين القيم والحوادث
3 - وبعد الصدمة
4 - أسباب ولا أسباب
5 - بين الجاهلية والإسلام
6 - نشأته وشخصيته
7 - ثقافة عثمان
8 - من إسلامه إلى خلافته
9 - المبايعة
10 - الخلافة
Shafi da ba'a sani ba
11 - مصحف الإمام أو مصحف عثمان
12 - النهاية
1 - على العهد
2 - بين القيم والحوادث
3 - وبعد الصدمة
4 - أسباب ولا أسباب
5 - بين الجاهلية والإسلام
6 - نشأته وشخصيته
7 - ثقافة عثمان
8 - من إسلامه إلى خلافته
Shafi da ba'a sani ba
9 - المبايعة
10 - الخلافة
11 - مصحف الإمام أو مصحف عثمان
12 - النهاية
ذو النورين عثمان بن عفان
ذو النورين عثمان بن عفان
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
على العهد
Shafi da ba'a sani ba
علم قراء هذه التراجم وجهتنا التي نتجه إليها في كتابتها، ولا نحسب أن أحدا ممن تتبعوها - أو تتبعوا معظمها ينتظر منها بحثا غير بحوثها التي عنيناها، فليس يعنينا منها سرد الحوادث ولا استقصاء البيان عن فترة من السنين، وإنما يعنينا من الحادثة التي نعرض لها ومن الفترة التي نستبينها أنها وسيلة إلى مقصد واحد: وهو التعريف بالنفس الإنسانية في حالة من أحوال العظمة والعبقرية، أو حالة من أحوال النبل والأريحية، فإن جاوزنا هذا المقصد إلى غيره فإنما نجاوزه لجلاء فكرة تحيط بأطوار التاريخ الإنساني، وتخرجه من غمار التيه والظلمة، وتسلك به مسلكا غير مسلك التخبط والضلال. •••
ونحن نقيس أثر هذه التراجم بمقياسين متقابلين، بل متعارضين متناقضين، ولكنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة.
نقيس أثرها بالرضى والقبول من الموافقين، ونقيسه بالسخط والنفور من المخالفين، وكلاهما دليل على أثر نغتبط به ونستزيد منه، دليل على أن التراجم رمية أصابت مرماها، وهذا كل ما نبغيه.
ومن الملاحظات التي نغتبط بها خاصة أن جانب الرضى عن هذه التراجم غير مقصور على أبناء دين واحد أو أبناء نحلة واحدة. فتراجمنا لعظماء الإسلام قد اطلع عليها وتتبعها أناس كثيرون ممن لا يدينون بالإسلام، وترجمتنا لغاندي قد كان أكثر قرائها من المسلمين، وهؤلاء وهؤلاء قد عرفوا وجهتها ولم يخرجوا بها عن سبيلها؛ فليست النفس الإنسانية ملكا لأبناء دين واحد، وما من شيء يجعل للدين نفسه معنى إن لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة وذات علاقة أصيلة بهذا الوجود أجمع، فلا يضل معتقد عن هدى عقيدته حين يؤمن بجانب من جوانب عظمتها، أو جانب من جوانب النبل والأريحية فيها. والسؤال الذي يسأله من يعرف المسألة كلها هو: هل تستحق الحياة أن نحياها؟!
فإن كانت حياة الإنسان أهلا للثقة بها والإيمان بقدرها؛ فالجواب: نعم، وإن لم تكن كذلك؛ فلا جواب للسؤال غير اليأس والضياع والانحلال، بل نحن نرى أن الشاكين والمترددين يثوبون إلى طريق الأمل والرجاء كلما لمسوا للنفس الإنسانية جذورا عميقة في أصول الحياة، وهذه الجذور نلمسها لمسا كلما علمنا أن النفس الإنسانية قابلة لعمل عظيم، وكلما علمنا أن قوة الاعتقاد بالخير هي نفسها عمل عظيم. وليس الخلاف إذن بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة؛ ولكنه خلاف بين حياة لها جذور وحياة مستأصلة من جميع الجذور، وهو بعبارة أخرى خلاف بين حياة لها معنى وحياة فارغة من كل معنى، ولو كان هذا المعنى من مخترعاتها الملفقة وأباطيلها المزجاة. •••
نقيس أثر هذه التراجم بالرضى من هؤلاء المؤمنين بمعنى الحياة وهؤلاء الباحثين عن معناها.
ونقيسه كذلك بسخط الساخطين وغيظ المحنقين، وكلما اشتد هذا السخط واضطرم هذا الغيظ؛ علمنا موقع الرمية من الهدف الصميم، فهو موقعها الذي أصبنا به المقتل من ذلك المعسكر الذي يسمي نفسه بمختلف الأسماء، ولا يصدق عليه اسم كما يصدق عليه اسم أعداء الإنسان.
وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال، وقد سمي بأعداء النوع الإنساني قديما معاشر من الخلق كانوا يكرهون النعمة، ويعافون السرور، ويتجنبون معاشرة الناس، ولكنها تسمية لم تكن على صواب؛ لأنهم كرهوا النعمة وعافوا السرور؛ إيمانا بنعمة أشرف من جميع النعم، وشوقا إلى مسرة أرفع من جميع المسرات، ثم تجنبوا معاشرة الناس؛ نبوا بضمائرهم عن العيش الذي لا يعرف النعم والمسرات إلا في أحضان الرذائل والشهوات، فمن شاء فليسم هؤلاء المتزمتين بما شاء من الأسماء إلا أن يسميهم بأعداء الإنسان.
أما أعداء النوع الإنساني حقا فهم الحريصون على تصغير كل عظيم فيه، الملوثون لكل صفحة نقية من صفحاته، العاكفون على هدم كل ما بناه في تاريخه الطويل من قيم الأخلاق وعقائد الخير والفلاح، الذين يعملون ما لا يعمله إلا عدو مغير على الأرض يتعقب بقايا أهلها، كما يتعقب العدو اللدود جنسا من ألد الأعداء لجنسه، فلا يسره شيء كما يسره أن يرجع إلى ماضيه وحاضره بالتشويه والتخريب، وذم الحميد منه وتسجيل الذميم المعيب. •••
ويبلغ المسخ بهؤلاء المساكين أنهم يخلصون في بغضائهم إخلاص الجنسين المتعاديين بالطبيعة؛ فلا يقنعون بما يجدونه من العيوب والأدناس، بل يتجسسون عليها ويلحون في تأويلها، ولا يطيب لهم شيء كما يطيب لهم أن يبطلوا الثناء على بطولة البطل وتفدية الشهيد وإيثار الكريم، فيردوه إلى الزراية والمهانة، وتعليل الأمور بأسوأ العلل، وتفسيرها بأقبح البواعث والأغراض ... ومثل هذه اللجاجة في تلطيخ تراث الإنسانية كله بالأوزار والأدناس لا تصدر إلا من طبع سقيم وخليقة عوجاء، فيجوز لكل صاحب عقل أن يفهم بعقله علل الأعمال: سامية أو مسفة، وعامة أو خاصة، ومخلوطة بالأثرة أو خالصة للإيثار، ولكن الهيام بتحقير كل عظيم واتهام كل ثناء، والحماسة المتشنجة لتغليب الخسة على النبل، ونبش السمعة المأثورة عن جراثيم النتن والقذى؛ ليس المرجع فيه إلى فهم ودراسة، ولكنه يرجع إلى مسخ في الكيان يسلخ المبتلى به في مسالخ العدو المبين لنوع الإنسان.
Shafi da ba'a sani ba
وما كان في وسع إنسان حي أن يسيغ الحياة كما يريدها هؤلاء المسخاء المنكودون، ولكنهم فقدوا الثقة بالحياة المثلى؛ فعوضوها ببديل منها لا يغني عنها إلا إلى حين. إن المنحدر من القمة إلى الهاوية يتحرك في انحداره، بل يتحرك سريعا إلى قراره، وهو في حركته هذه أسرع من الصاعد إلى القمة ... بجهده وهدايته، وأسبق منه جدا إلى غايته بل نهايته. إلا أنها حركة المصاب بالحركة على الرغم منه، فلا وجه للمقابلة بين الصاعد المجاهد والهابط المقذوف كما ينقذف الجلمود، وإن لاح لمن يراهما أنهما متحركان وأن الهابط منهما أقدر من الصاعد على العدو والجريان.
وقد امتلأ مكان الثقة من نفوس هؤلاء المسخاء بسخائم المقت والكراهية؛ فكانت لهم عوضا بئس العوض، كانت لهم عوضا كعوض الحركة الهابطة من الحركة الصاعدة، وليس أدل على ضرورة الثقة للإنسان في اجتماعه وانفراده من حاجة هؤلاء إلى تعويضها بذلك الثمن الثقيل، وإنه لجد ثقيل في الحقيقة، فإنه لهو الانتحار بغير إرادة الانتحار.
ونحمد الله على نصيبنا من هذه الكراهية كما نحمده على نصيبنا من تلك الثقة، فهذه وتلك كلتاهما مقياس صادق لأثر هذه التراجم التي نزيدها اليوم ترجمة جديدة، وسنزيدها بمشيئة الله؛ كلما اتسع الوقت وأحسسنا الرضى من هنا والكراهية من هناك. •••
إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيما بمزية، وعلما من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟
ليقل من شاء من فلاسفة التاريخ ما يشاء في التعليل والتحليل والتلخيص والتفصيل، فمهما يقل القائلون، ومهما يشرح الشارحون؛ فليس من السهل على عقل رشيد أن يزعم أنها كلها خدعة وهم في رءوس أناس جاهلين، ولا حاجة هنا إلى الفلسفة ولا إلى الحذلقة ولا إلى الجدل الطويل، فالقول الفصل بعد كل قول ووراء كل شرح: إن الوهم الخادع في رءوس الجاهلين خير ألا يكون، وماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لو حذفنا منه هذه العوامل الحية، وقلنا مع القائلين: إنها وهم من الأوهام كان خيرا لها أنه لم يكن ولم يكن بعده ما جرى في مجراه؟! •••
وفي هذه السيرة - على ما نرجو، وعلى خلاف ما يخطر في بال الكثيرين لأول وهلة - شواهد على هذه العبرة الكبرى أكبر من شواهد أخرى، فلعلها لا تبرز لنا عبقرية كعبقرية الصديق أو الفاروق أو الإمام، ولكنها تبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تطوى، ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث غير باعث العقيدة والإيمان.
الفصل الثاني
بين القيم والحوادث
ربما كانت سيرة الخليفة الثالث - ذي النورين - أوفى السير بالشواهد على الخصائص التي تلازم تاريخ العقيدة في أطوارها الأولى، ولا سيما أطوار التحول في طريق الاستقرار.
وأبرز هذه الخصائص في تاريخ العقيدة أنه تاريخ قيم ومبادئ، وليس بتاريخ وقائع وأحداث.
Shafi da ba'a sani ba
فالوقائع والأحداث تتشابه في العصور المتطاولة، ولو أننا تخيلناها معروضة في الصور الصامتة؛ لما وجدنا من فارق يذكر بين الوقائع والأحداث التي تفصلها من مسافة الزمن آلاف السنين، ومن مسافة المكان آلاف الفراسخ، كلها صورة متكررة من حيث ظواهرها وأغراضها البادية للعيان، ولكنها تختلف اختلافا بعيدا حين ننفذ من ظاهرها إلى باطنها، أو حين ننفذ من حركاتها المكشوفة إلى القيم النفسية التي تكمن وراءها، وإلى الدعاوى التي تدور عليها، ولو كانت من دعاوى المبطلين التي يصدق عليها في بعض الأحايين أنها كلمات حق أريدت بها أباطيل.
فالحوادث التي تدور على طلب السطوة غير الحوادث التي تدور على طلب الحرية، ولو كان طلب الحرية أكذوبة يتعلل بها المتعلل لغاية في نفسه يسترها ويعلن ما عداها.
فإذا كان المتعلل بالحرية مبطلا في دعواه؛ فهناك فارق صحيح بين المعارك التي تذكر فيها الحرية حقا أو باطلا، والمعارك التي لا ترد فيها على لسان أحد ولا تخطر بباله، فلولا أنها أصبحت شيئا يهتم به الناس ويتنازعونه؛ لما ذكرها الصادقون ولا المبطلون، ومتى أصبحت الحرية قيمة من القيم المحسوبة في حياة الأمم؛ فهناك دليل عليها ممن يتعلل بها صادقا ويتعلل بها كاذبا؛ ليخدع الناس بها عما يريده من ورائها. •••
وفي سيرة عثمان رضي الله عنه صدمة عنيفة تواجه كل باحث في تاريخ صدر الإسلام، وتلك هي قتلته البشعة وهو شيخ وقور جاوز الثمانين.
لم يكن عثمان أول خليفة قتل، فإن الفاروق عمر بن الخطاب قتل قبله غيلة وهو يقيم الصلاة.
ولكن مقتل عمر لم يكن صدمة في تاريخ العقيدة ... قتله غلام دخيل على الإسلام، ومن ورائه عصابة تدين بغير دينه، وتكره منه ما عمله لإقامة ذلك الدين، فلا غرابة ولا صدمة، ولا شيء فيه غير الفاجعة التي تفجع نفوس المسلمين.
أما تلك القتلة البشعة التي انتهت بها حياة الخليفة الثالث فشيء غير هذا، وشيء بعيد عن هذا في صدمته المفاجئة لمن يتابع تاريخ العقيدة الإسلامية في أطوارها الأولى.
لم يمض جيل على الإسلام ويقتل خليفة المسلمين هذه القتلة؟! فماذا صنعت هذه العقيدة إذن بنفوس الحاكمين والمحكومين؟! وماذا تغير من فتكات الجاهلية بعد جهاد المؤمنين وإيمان الكافرين؟!
والسؤال صدمة عنيفة.
ولكنه قائم على خطأ جسيم، وإن يكن خطأ قريب التصحيح.
Shafi da ba'a sani ba
فالعقيدة لا تبطل الخلاف والنزاع، ولا تختم الوقائع والأحداث في التاريخ، ولم يحدث قط في دعوة إصلاح في الدين أو غير الدين أنها قسمت التاريخ إلى عهدين: عهد سابق كان فيه نزاع وكانت فيه أحداث، وعهد لاحق يبطل فيه النزاع وتنقضي فيه الأحداث.
لم يحدث هذا قط ولا يحسن أن يحدث، فإنه لو حدث؛ لكانت العقيدة المصلحة شللا معطلا لحياة الأمم، معوقا للتاريخ في مجراه المطرد إلى غير قرار.
إن العقيدة لا تلغي الحوادث والخصومات، ولكنها تجدد القيم التي تدور عليها الحوادث والخصومات.
وليست الخصومات شر ما يبتلى به الناس، فشر منها الخسة التي ترضى بالدون، وشر منها الوفاق على الغش والمهانة، وشر منها شلل الأخلاق الذي لا يبالي صاحبه ما يحسن وما يقبح وما يرضى وما يسوء، وشر منها الحياة بغير قيمة تستحق الخلاف عليها، وبغير معنى يتسع للبحث فيه.
فليس مطلوبا من العقيدة أن تبطل الخصومات، ولكنما المطلوب منها أن ترتفع بالنفوس عن الخصومة في غير شأن، أو ترتفع بها عن الخصومة في شأن هزيل ضئيل.
وعلى هذا ينبغي ألا تكون الخصومات والأحداث هي مدار البحث في تاريخ هذه الفترة، بل ينبغي أن يكون مدار البحث على القيم والمبادئ التي دارت عليها تلك الخصومات والأحداث.
ولا نقول: إن الفاجعة إذن تهون.
وغاية ما نقوله: إنها تفهم على وجهها الصحيح، وإنها تفهم على وجه لا يريب في عمل العقائد وعمل العقيدة الإسلامية على التخصيص.
لقد كان مدار الخصومة على محاسبة الإمام: محاسبة الرعية لإمامها، ومحاسبة الإمام لنفسه، وكل أولئك شيء جديد في التاريخ، وكل أولئك شيء يقيم ويقعد في حياة الأمم، ولا سيما حياتها في أطوار العقيدة الأولى.
أين كان أبناء الجاهلية من حق الحساب بين الحاكم والمحكوم؟
Shafi da ba'a sani ba
أما في البادية فقد كان الحساب كله على شريعة الثأر والانتقام وإغارة القبيلة الكبيرة على القبيلة الصغيرة، وكان الغالب على الفرد أن يعيش في كنف قبيلته، تحميه إن استطاعت، أو تخلعه إن عجزت عن حمايته. وقد شاع في العصور الحديثة كلام كثير عن الحرية البدوية، ولم تفهم على حقيقتها مع كثرة الكلام فيها، فما كانت الحرية البدوية قط قائمة على حق إنساني تحميه الشرائع والآداب، ولكنها كانت أشبه شيء بانطلاق المادة حيث لا عائق لها مما حولها، ومثل هذه الطلاقة طلاقة العصفور في فضائه، والحيوان الآبد في صحرائه، طلاقة المادة حيث لا حواجز ولا سدود.
وأما الحكومات التي قامت في الجزيرة العربية، على نحو من نظام الملك والإمارة، فقد كانت شريعتها - على خلاف المظنون - طغيانا مطلقا من جميع القيود، وكان بعض ملوكها يتخذ من أهوائه ونزواته شعائر يدين بها الناس في مسائل الحياة والموت، فكان المنذر بن ماء السماء يجعل له يوم نعيم ويوم بؤس، ويقتل كل من يسوقه إليه الحين في يوم ولو كان عابر طريق، وكان يسكر ويأمر بالقتل فينفذ لساعته، ولا يدرى بعد إفاقته فيم كان هذا العقاب إن صح أن يسمى بالعقاب، وحدث أن حجر بن الحارث فرض على بني أسد إتاوة ثقيلة؛ فتمردوا عليها فاستباح أحياءهم، واعتقل رؤساءهم، وأقسم ليقتلنهم بالعصا؛ هوانا بهم عنده أن يقتلهم بالسيف أو السلاح، فسموا من أجل ذلك بعبيد العصا، وقال شاعرهم عبيد بن الأبرص يستشفع فيهم:
ومنعتهم نجدا فقد
حلوا على وجل تهامه
إما تركت تركت عف
وا أو قتلت فلا ملامه
أنت المملك فوقهم
وهم العبيد إلى القيامه
وكان عمرو بن هند يكلم الناس من وراء ستور، وكانوا يضربون المثل بكليب وائل في عزته، فيقولون عن العزيز البالغ في العزة: «إنه أعز من كليب وائل» ... لأنه كان يحمي الكلأ فلا يقرب حماه، ويمر بالمكان يعجبه فيرمى عنده بكليب وينادى بين القوم: إنه حيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى ... وكانوا يقولون: «لا حر بوادي عوف»؛ لأنه كان من عزته يقهر كل من حل بواديه، فكلهم عنده كالعبيد.
وأقبح من ذلك ما روي عن عمليق ملك طسم وجديس، فإنه كان يأمر ألا تزف الفتاة إلى بعلها قبل أن تزف إليه، وفي ذلك تقول إحدى هؤلاء الفتيات:
Shafi da ba'a sani ba
أيجمل ما يؤتي إلى فتياتكم
وأنتم رجال فيكم عدد الرمل؟
إلى أشباه هذه المظالم التي أجملناها في كتابنا عن الديمقراطية في الإسلام، وقلنا معقبين عليها: إنها روايات لم تخل من إضافات القصة والخيال، كجميع روايات التاريخ القديم المنقول بالتلقين والإسناد «ولكننا نثبتها ونعول عليها؛ لأن الفكرة هنا أبلغ من الخبر، وأصدق من وثائق الأوراق، فلو لم تكن فكرتهم الغالبة عن الحكم أنه عزة وخيلاء لا تكملان لصاحبهما بغير إذلال الأعزاء، وتمحل الذرائع للعتو والإيذاء، لما تواترت أنباء الملوك على هذه الوتيرة.» •••
ومن هذه الفكرة المتواترة عن سلطان الحكم إلى محاسبة الخليفة على كل صغيرة وكبيرة في شئون الدولة بون بعيد، وشيوعها بين الخاصة والعامة، حتى يتصدى للحساب صغير القوم وكبيرهم على السواء هو الفتح الذي جاءت به العقيدة الإسلامية على أعقاب الجاهلية، وعلى مسمع من طغيان الأكاسرة والقياصرة والتبابعة، في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وسنرى أنهم كانوا يحاسبون الخليفة على الزيادة في حمى المرعى المتروك لإبل الصدقة بعد تكاثرها ومضاعفة عددها، وسنرى أنهم كانوا يحاسبون واليا من أكبر ولاته - وهو والي الشام معاوية بن أبي سفيان - لأنه سمى مال الدولة مال الله بعد أن كان يسمى ببيت مال المسلمين، وأشفقوا أن يكون تغيير الاسم تمهيدا لاستئثار الحاكم بالتصرف فيه، وكف المسلمين أصحاب المال عن المحاسبة عليه.
هذه المحاسبة بين الحاكم والمحكوم قيمة كبيرة نشأت مع العقيدة المحمدية، وهي قيمة كبيرة على جميع حالاتها من الصدق فيها أو التذرع بها إلى غرض قد يخفيه أصحاب الذرائع والتعلات، فإن القانون يصونه أناس مخلصون، ويدعى غيرهم صيانته كاذبين مدلسين، ولكن القانون على الحالتين كسب عزيز لا يستهين به عاقل، ولا يقول أحد بالاستغناء عنه من أجل الكذب به أو الكذب عليه، وكذلك كل قيمة غالية من قيم الحياة الإنسانية كالفضيلة والخير والحرية والصدق وما شابهها من فتوح الضمير في آماد التاريخ، مما يحرص عليه الناس أو يصطنعون الحرص عليه، فإنما تكسبها الإنسانية بالتعارف عليها وقبولها أو قبول مقاييسها، ولن تكون القيم جميعا إلا من هذا القبيل وعلى هذا المثال. •••
ولقد كان من الناهضين لمحاسبة عثمان رضي الله عنه أناس مغرضون يقولون مالا يفعلون ويفعلون غير ما يقولون: كان منهم من أقام عليه الحد، ومن حبس أباه في جريمة، ومن فرق بينه وبين حليلة تزوجها على غير الشريعة، ومن أبى عليه الولاية، ومن لم يصنع به الخليفة أمرا من هذه الأمور، ولكنه كان منطوي النية على الفساد والإفساد، وكل هذه المآرب قد شيبت بها حركة المحاسبة على أعمال الخليفة؛ فكانت عيبا للحركة، ولكنها لم تكن عيبا لحق المحاسبة، ولا إزراء بشأنه ولا بالشأن الذي أكسبته الأمة من تقريره والتعارف عليه، ولولا أنه حق؛ لما تعلل به المبطلون.
وآفة البحث في تطور الأخلاق والقيم الإنسانية أن يتولاه من لا يفقهون قيمة النهي عن شيء، بعد أن كان مباحا غير منهي عنه، ولا يخطر النهي عنه على بال أحد، فإقامة الحدود التي يؤخذ الناس بالتزامها وينهون عن تجاوزها، هي عنوان الدوافع الباطنية التي غيرت حياتهم، وغيرت نظراتهم إلى الأعمال والأخلاق فأعلنوها في تلك الحدود.
وأضل من هؤلاء من يبحثون في تطور الأخلاق؛ فيأخذونها بالعناوين ويطلقون العنوان الواحد على صفتين مختلفتين أو متناقضتين، ويكاد القس راشدال
Rashdall
Shafi da ba'a sani ba
أن يزن الأطوار الأخلاقية بهذا الميزان حيث يقول: «إنه ندر من رذيلة أو جريمة إلا كانت في زمن من الأزمنة منظورا إليها كأنها واجب من واجبات الديانة أو العرف، كالسرقة التي كانت تحسب فضيلة من الناشئة الإسبرطية ومن الطائفة الهندية التي تسمى بطائفة الخناقين، وقد كانت القرصنة - وهي سطو وقتل - صناعة محترمة في العالم القديم، وكان الاضطهاد الديني في القرون الوسطى أشرف الواجبات.»
وليس من الميسور في هذا المقام أن نفصل وجوه الخلاف بين الإباحة القديمة والتحريم الحديث في جميع هذه الفعال والخلال، ولكننا نكتفي بما يستطاع بيانه بغير حاجة إلى الإفاضة والإسهاب، كالقرصنة ما بين العصرين القديم والحديث، فهل القرصنة التي نحرمها اليوم هي القرصنة التي كانت مباحة بالأمس، أو هما نقيضان باسم واحد مشترك بينهما بوهم الاصطلاح؟
الواقع أن قرصنة الأمس كانت حقا كحق صاحب الملك الذي تسطو عليه؛ إذ كان صاحب الملك يجمع بضاعته بالسطو على قبيلة أو عشيرة أضعف منه وأعجز عن الهجوم والدفاع، فإن كان فيما يملكه شيء مصنوع فهو من صنع العبيد المسخرين في أرضه أو معمله، وكلهم من أسرى الحرب المغتصبين من أبناء القبيلة التي قهرت؛ لأنها عاجزة عن مقاومته ودفعه، فحقه في بضاعة السفينة كحق القرصان في السطو عليها، وليس هذا الحق الذي يستطيع القرصان في العهد الحديث أن يدعيه ويقبل التعارف عليه.
ويصدق على سرقة الناشئة الإسبرطيين ما يصدق على القرصنة في العصور القديمة، ويمكن أن يقال كذلك: إن الاضطهاد الديني في العصور الوسطى غير الاضطهاد الديني في العصر الحديث؛ لأن العمل لا يعتبر رذيلة أو جريمة إلا إذا كان فيه نقض لقيمة أخلاقية مصطلح عليها، ولم يكن التسامح ولا الحرية الفكرية قيمة مصطلحا عليها في العصور المظلمة بين الأوربيين سواء منهم المضطهدون ومن يقع عليهم الاضطهاد، فلو أن أحدا من الذين وقع عليهم الاضطهاد ظفر بمخالفيه في العقيدة؛ لاضطهدهم كما اضطهدوه وقسرهم على التصديق بعقيدته كما قسروه، وكلا الفريقين يستعيذ من حرية الفكر على اعتبارها تفريطا في الغيرة على الدين.
فالقيم الأخلاقية والوجدانية هي الجوهر المهم في تطور الأخلاق، وليست هي الأسماء والعناوين، ومتى ظهرت «القيمة» في أمة فهي مكسب حق لا شك في نفعه أيا كانت نية المنادي به على الصدق أو على الخداع، فلو لم يكن الذهب ذا قيمة لما استحق أن يزيفه المزيفون.
ومحاسبة الحكام كانت قيمة جديدة بين العرب وسائر المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، فنادى بها الخاصة والعامة وادعاها الصادق والكاذب، وظلت عاملا مهما في السياسة أيام الخلافة وبعد أن صار الحكم ملكا يتوارثه الأبناء عن الآباء. •••
أما الخليفة عثمان رضي الله عنه فأثر العقيدة فيه وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه، وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام.
إنه كان من سلالة الأمويين، وهي سلالة اشتهرت في الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله في غير مأرب أو متعة، ولم ينهض أحد منهم بتكاليف المروءة والسخاء إلا منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، وغيرة منهم أن يسبقوه إلى المجد والثناء، فلما أسلم عثمان رضي الله عنه كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية، فنزل عن ماله لتسيير جيش في سنة العسرة، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقي منها المسلمون بغير ثمن، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإعانة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين.
ومذهبه في محاسبة نفسه قد تتعارض فيه الأقوال والتأويلات، ولكنه في الأمر الثابت الذي لا جدال فيه قد بلغ الذروة من محاسبة النفس والتحرج من المساس بالحياة البشرية ولو في سبيل الذود عن حياته وحياة أقرب الناس إليه، فلما أيقن من القتل؛ أبى أن يبقى في داره من يقتل أحدا ممن يحيطون بها ويعالجون اقتحامها لاغتياله، ولما سئل أن يتنحى عن الخلافة أبى أن يتنحى عنها، ولم يكن إباؤه ضنا بشيء يحتويه، فلا شيء أغلى من الحياة وقد هانت عليه، ولا يزعم أحد أنه غنم من الخلافة مالا، بل يتفق المؤرخون على أنه ترك الدنيا وماله أقل مما كان لديه يوم ولي الخلافة، ولكنه أبى أن يخلع نفسه حذرا من أن يحمل جريرة الخلع وما يعقبه من النزاع والقتال، وقد صرح بذلك غير مرة فقال: إنه يخشى على الذين يستطيلون أيامه أن يتمنوا بعده لو كان يومه مائة سنة، فلا يبوءن بالعاقبة المحذورة وهو مختار. •••
فإذا تركنا الحوادث جانبا ونظرنا إلى التاريخ في صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ، فلنا أن نقول: إننا أمام فواجع مؤلمة يود الناظر إليها لو يزوي بصره عنها، وليس لنا أن نقول: إننا أمام صدمة يصطدم بها من يسأل عن أثر العقيدة وأطوارها، فلا صدمة هناك إذا نحن وزنا الحوادث بميزان القيم، وعلمنا أن التاريخ لن يخلو من الحوادث، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التي تبتلى بها ضمائر بني الإنسان.
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الثالث
وبعد الصدمة
وليست الصدمة العنيفة بالحائل الوحيد دون توضيح هذه الفترة وتمحيص أسبابها وعواملها وتبعات المسئولين عنها، فالصعوبة الكبرى أننا في هذه الفترة أمام حادثين يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله، ويتكلم عنهما بعض المؤرخين كأنهما حادث واحد متحد الأسباب والعوامل.
هذان الحادثان هما: التطور السياسي، ومقتل عثمان رضي الله عنه. وأسباب هذا لا تكفي لتعليل ذاك وليس من الحتم أن تؤدي إليه، وقد طال الجدل حول عمل عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء وأثره في هذه الفترة، فرأى بعض المؤرخين أنه أهون من ذاك؛ لأنهم اعتقدوا أن الانقلاب السياسي ومقتل عثمان حادث واحد له أسباب واحدة، وليس هو كذلك. ولو أنهم فصلوا بين الأسباب في كليهما؛ لأمكن تقدير التبعة والاستطاعة في عمل كل عامل ودسيسة كل مشترك في المؤامرة. •••
فابن السوداء - ولا شك - أهون من أن يحدث التطور السياسي، وغيره ممن هم أعظم منه شأنا وأشد منه خطرا أهون من إحداث ذلك التطور كله، سواء تعمدوه أو عملوا له غير عامدين؛ لأنه يرجع إلى أسباب متفرقة عميقة القرار، كثيرة التشعب، لا تضطلع بها قدرة رجل واحد ولا عدة رجال متألبين متواطئين.
ولكن مقتل عثمان شيء آخر غير التطور السياسي، وفي وسع ابن السوداء ومن هو أقل منه أن يقترفه بيده وأيدي من يستمعون لتحريضه ودسيسته؛ لأنه في حقيقته «مشاغبة» من مشاغبات الدهماء التي لا تعجز عن أمثال هذه الأفاعيل.
والذين يقرءون فاجعة عثمان ويلمون بالتاريخ يسبق إلى خيالهم ما قرءوه عن مصارع رؤساء الدول في إبان الثورات والفتن القومية: كالثورة الإنجليزية مع شارل الأول، والثورة الفرنسية مع لويس السادس عشر، وغيرهما من الثورات في العالم القديم والعالم الجديد.
ومتى سبقت إلى خيالهم هذه الصورة، حسبوا أن الثورة التي أفضت إلى مقتل رئيس الدولة في الأمتين كالثورة التي أفضت إلى مقتل رئيس الدولة الإسلامية في صدر الإسلام، وبينهما في الواقع فارق بعيد أبعد من فارق الزمان والمكان.
إن الثورة التي أطاحت بشارل الأول قد اجتمعت فيها قوة الأمة بأسرها على وجه التقريب أمام العرش وأنصاره من النبلاء، وقد كانت هناك حرب وهزيمة غلبت فيها إحدى القوتين، وانهزمت فيها القوة الأخرى.
وهكذا حدث في الثورة الفرنسية التي طاحت بلويس السادس عشر، وهكذا حدث في ثورات كهذه بالقارة الأمريكية والعالم القديم.
Shafi da ba'a sani ba
أما مقتل عثمان عليه الرضوان فلم تكن فيه حرب بين قوة الدولة وقوة الأمة، ولم تتقابل فيه قوى الحكومات الإسلامية وقوى الأمم في البلاد العربية وغير العربية، وغاية ما يوصف به أنه «حادثة محلية» قد تتم على أثر مشاغبة جامحة من مشاغبات الدهماء، وقد يستطيعها ابن السوداء ومن هو أقل من ابن السوداء.
وعلى سبيل الإيجاز الذي يغنينا عن الإسهاب في المقارنة والمناقشة نقول: إن عثمان رضي الله عنه ما كان ليقتل لو كانت داره محروسة حراسة الدور التي يقيم فيها ولاة الأمور، إن هذه الجمهرة التي اقتحمت داره واجترأت عليه بالسلاح ما كانت لتقتل واليا من ولاته - كمعاوية بن أبي سفيان في الشام مثلا - لو أنها هجمت على داره بين حرسه وأجناده، فلا محل هنا للموازنة بين قوى الدولة وقوى المشاغبة أو الفتنة، ولا محل كذلك للموازنة بين عوامل الانقلاب السياسي وعوامل الدفاع عن شخص الخليفة في داره، فكل عوامل الانقلاب لم يكن من الحتم أن تؤدي إلى مقتل الخليفة ولو بلغت أضعاف ما كانت عليه، وقد كانت المشاغبة التي جنت جنايتها على حياة الخليفة كافية لاجتراح هذه الفعلة، ولو لم يكن وراءها كل عوامل التطور التي كانت تتجمع هنا وهناك في تلك الفترة الفاجعة، وقد بقيت عوامل التطور وازدادت بعد انتهاء عهود الخلفاء الراشدين وقيام الملك الموروث، فلم ينجم عنها مقتل ملك أو وال من كبار الولاة في بقاع الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها. •••
فمن الواجب إذن عند إحصاء الأسباب والتبعات، والكلام عما يستطاع وعمن يستطيعه أن نفرق بين الحادثين، وأن نرجع بالتطور السياسي إلى أسبابه وعوامله التي تبلغ ما تبلغ ولا يلزم منها أن تؤدي إلى مقتل ولي الأمر في عاصمته، وأن نرجع بمقتل ولي الأمر إلى أسبابه وعوامله التي قد تحدث مع ذلك التطور، وقد تحدث منفصلة عنه في كل طور من أطوار القلق والتذمر، مما يدوم أو ينقضي بانقضاء آونته ثم لا يعود في عصره.
الفصل الرابع
أسباب ولا أسباب
على أن الأسباب التي ذكرت للحادثين جميعا لا تزال في حاجة إلى إعادة نظر؛ لأنها إما أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو يجتهد بها المجتهدون بغير روية في مواردها ومصادرها، وإما أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى؛ لما كان لها ذلك الأثر.
خذ لذلك مثلا أسباب الفتنة كما ذكرها معاوية لابن الحصين. سأله حين وفد عليه: «ما الذي شتت أمر المسلمين وخالف بينهم؟» قال ابن الحصين وكأنه أراد أن يوافق هواه: «قتل الناس عثمان!» قال معاوية: «ما صنعت شيئا»، فعاد ابن الحصين يقول: «فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علي إياهم». قال معاوية مرة أخرى: «ما صنعت شيئا»، فقال الرجل: «ما عندي يا أمير المؤمنين». قال معاوية: «فأنا أخبرك أنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه الله إليه، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم؛ إذ رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لأمر دينهم، فعمل بسنة الرسول وسار بسيرته حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن منهم رجل إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه ... ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف.»
كذلك روى ابن الحصين عن معاوية، وجاء أناس من ذوي النظر في الحكمة والتاريخ فقالوا بما قال به معاوية، ومنهم محمد بن سليمان المتفلسف فيما رواه عنه ابن مكي الحاجب. قال ما فحواه: إن اختيار الستة من أهل الشورى ليكون الخليفة واحدا منهم بعد مقتل الفاروق قد جعل كلا منهم يشرئب إليها ويعلم أنه أهل لها، وكان أشدهم عملا لها وكيدا لعثمان طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي الملقب بطلحة الجود، فهو من أبناء عمومة أبي بكر، محبوب لسخائه وشجاعته وسبقه إلى الإسلام، وكان ينافس عليها الفاروق فضلا عمن جاء بعده، ويرى أن أبا بكر كان خليقا أن يكلها إليه، وأنه إذا فضل عليه فليس بعد عمر من يفضله، وأعانه الزبير؛ لأن منافسة علي وعثمان إذا وليا الخلافة أشق عليه من منافسة طلحة إذا هي آلت إليه.
Shafi da ba'a sani ba
وكان أناس من المجتهدين يتابعون محمد بن سليمان المتفلسف على هذا الرأي، أو يتابعون معاوية بن أبي سفيان - أول من قال به وذهب إلى تخطئة عمر في ندبه لأهل الشورى - ولم تزل منهم بقية في عصرنا هذا ترى الحصافة والحكمة فيما قاله معاوية، منهم الأستاذ محمد أحمد جاد المولى الذي كان كبيرا للمفتشين بوزارة المعارف، فهو ينقل كلام معاوية في كتابه «إنصاف عثمان» ثم يتبعه قائلا: إنه رأي «الحصيف المجرب الذي حلب الدهر أشطره، وغلب برأيه ودهائه صاحب الحق على حقه، وأقام دولة الإسلام على تخوم دولة الروم موطدة الأكناف قوية الدعائم، وحاش لعمر أن يتهمه أحد فيما فعل؛ فإنه لم يرد إلا الخير للمسلمين جاهدا، وكان أعظم ما يرجوه من ذلك ألا يكون خلاف وافتراق بين المسلمين ... وأكبر الظن عندنا أن عمر لو كان في حال غير هذه؛ فربما فضل أن يريح المسلمين من العناء والمناوشات الحزبية، ويعهد إلى من هو أهل للخلافة، فقد يجد الناس لهذا التعيين حرمة تسكت الألسنة والدولة لا تزال فتية، أعدى أعدائها الشقاق والانقسام.»
هذا سبب من أشهر الأسباب المذكورة، تواتر القول به من أيام الفتنة إلى العصر الحاضر، ولو كانت الأسباب التاريخية تهمل على قدر وهنها وظهور الغرض فيها؛ لما ورد لهذا السبب ذكر على لسان بعد إفضاء معاوية به إلى أبي الحصين، إلا أن يكون ذكره لتوهينه والكشف عن غرضه، وهو مكشوف لا يجهد من يريد أن يلتفت إليه.
فمعاوية لم ينكر الشورى في اختيار الخليفة؛ إلا لأنه أجمع العزم على خطة ولاية العهد ورشح لها ابنه يزيد من بعده، وما كان في هذه الخطة حصافة ولا تجربة؛ لأنها لم تلبث أن أوقعت الخلاف في أقرب الأقربين إلى معاوية، وساقتهم إلى تولية العهد اثنين بدلا من ولي عهد واحد، ولم تحسم الخلاف بين بني أمية فضلا عن حسم الخلاف بين قريش وبين سائر المسلمين.
وقد قال الشعبي: إن عمر لم يمت حتى كانت قريش قد ملته؛ لقمعه رؤساءهم، وحبسه إياهم بالحجاز خوفا من فتنتهم بالدنيا وفتنة الدنيا بهم، فإذا كانت هيبته في حياته قد سكنت بهم عن الخلاف؛ فهم مختلفون بعد موته لا محالة، ولو أنه اختار للخلافة أحدا سماه لما اختار طلحة ولا الزبير؛ لأنه لم يذكرهما فيمن تمناه للخلافة من الموتى ولا من الأحياء، فقال: إنه كان يختار أبا عبيدة لو عاش؛ لأنه سمع الرسول الله يدعوه أمين الأمة، أو كان يختار سالما مولى أبي حذيفة لو عاش؛ لأنه رأى رسول الله يقدمه للصلاة بالمهاجرين. فلما سمى من يحسبهم مرشحين للخلافة من الأحياء سمى عليا وعثمان، ولم يجاوزهما إلى غيرهما من الستة أصحاب الشورى. فقال لعلي: «اتق الله يا علي إن صارت إليك، ولا تحمل بني هاشم على رءوس الناس» وقال لعثمان: «اتق الله يا عثمان إن صارت إليك، ولا تحمل بني معيط على رءوس الناس»، وما نحسبه سكت عن طلحة إلا عامدا وعلى علم بأن اتفاق الستة لا يجمعون عليه، وتقية أن يظن ظان أنها وقف على بني تيم، ويقينا منه أن اتفاق الستة على واحد أحرى أن يلزمهم الطاعة لمن يتفقون عليه.
وإذا كان في كلام معاوية لأبي الحصين حصافة ألمعية، فتلك هي إشارته المقصودة إلى التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا، واعتباره أن تقديم النبي عليه السلام أبا بكر للصلاة بالناس بمثابة الرضى عنه لأمور دينهم، فأضاف الناس إليه الرضى عنه لأمور دنياهم، ويصح من ثم أن يكون المرضي عنه لهذه غير المرضي عنه لتلك، وهذا هو المدخل إلى ولاية الملك لأمثال يزيد عقبه مع وجود من هم أفضل منه دينا من جلة الصحابة والتابعين. •••
ونعدل عن الأسباب المزعومة أو الأسباب التي اجتهد بها المجتهدون إلى الأسباب الواقعة التي حدثت وكان لها أثر في إهاجة الخواطر وتسويغ الانقلاب: ومنها ما يتعلق بأمور الدين، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا أو أمور الحكم والسياسة.
فمن الأمور التي تتعلق بالدين أن الخليفة الثالث زاد النداء في الأذان لصلاة الجمعة، وأنه أتم الصلاة في منى وعرفة، وكان النبي والخليفتان الأولان يقيمونها على القصر، وقد صلاها عثمان نفسه في أول خلافته ركعتين، ومنها أنه جمع القرآن الكريم في نسخة، وأمر بإحراق ما عداها في المدينة والأمصار.
ولم يكن عثمان رضي الله عنه في واحدة من هذه مستبيح حرام، بل كان متحرجا غاية التحرج لدينه، فقد زاد في الأذان لكثرة عدد الناس واتساع المدينة، وصلى صلاة المقيم؛ لأنه اتخذ بمكة أهلا فتحرج أن يصلى صلاة المسافر وهو صاحب أهل فيها، وقد كان جمعه القرآن الكريم حسنة من أجل الحسنات، سبقه أبو بكر وعمر إلى مثلها؛ فحمد المسلمون صنيعهما وأنكره من أنكره منهم أولا، ثم عادوا إلى قبوله، بل ألفوه وأثنوا عليه.
قال عمر: إن القتل قد استحر بأهل اليمامة، وأخشى أن يستحر بقراء الكتاب في غيرها فيذهب ما حفظوه بذهابهم، إلا أن يجمعوه، وأشار على الخليفة الأول بجمعه، فكانت مفاجأة نفر منها أبو بكر، وجعل يقول: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟!» فقال عمر: «هو والله خير». قال أبو بكر: «نعم خير»، ولم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله لذلك صدره، ثم أخذوا يتتبعون آي القرآن ويجمعونها من الرقاع والعسب والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجدوا من سورة التوبة آيتين عند خزيمة بن ثابت لم يجدوهما عند غيره؛ وتم جمع الكتاب في مصاحف عند طائفة من جلة الصحابة: كالإمام علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وجاء عثمان فسد ذرائع الخلاف ولم يأت بشيء من عنده غير تعميم المصحف في جمع البلدان ليقرأه المسلمون على نسخة واحدة.
ولئن كان في بعض هذه الأمور التي تتعلق بالدين مخالفة للمألوف؛ لقد خالف عمر المألوف في منع زواج المتعة، وفي نقص الأعطية للمؤلفة قلوبهم، وفي الإعفاء من حد السرقة في عام المجاعة، وفي تسوية الصفوف بالمسجد عند الصلاة، وفي مسائل أكبر مما أحصوه على عثمان؛ فلم يتحدث بها متحدث على سخط وتذمر فضلا عن الثورة وحمل السلاح. •••
Shafi da ba'a sani ba
ولا نطيل في سرد الأمور «الدنيوية» التي قيل: إنها هاجت الفتنة على عهد عثمان ومنها: غلبة قريش على الأمصار، وسيادة العرب على الأمم الأخرى، وإقامة بعض الولاة الذين اتهموا في تقواهم، وبذل الأموال لذوي القرابة والنصراء.
فقد ثار الثوار، فجاء الكوفيون يطلبون الزبير، وجاء البصريون يطلبون طلحة، وجاء المصريون يطلبون عليا وكلهم من صميم قريش، وقد أقام معاوية ملكه بقريش والعرب، وكان بذل الأموال لذوي القرابة والنصراء عماد دولته ووسيلته إلى تأسيس بيته وبسط سلطانه.
ومن الولاة الذين أنكر الثائرون ولايتهم لاتهامهم بشرب الخمر الوليد بن عقبة، وقد حده عثمان بعد استماعه للشهادة عليه، ولم تكن ولايته على عهد عثمان، بل ولاه عمر على الجزيرة، واختاره عثمان لولاية الكوفة.
وسنرى بعد، أنه ما من عمل نسب إلى الخليفة الثالث إلا حدث مثله من قبله؛ فلم تنشب من أجله فتنة أو حدث مثله من بعده فلم تنشب من أجله فتنة، بل لعله كان من دعائم الدولة وأساس السلطان.
ولهذا قلنا: إنها أسباب ولا أسباب، وإنها بين أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى لما كان لها ذلك الأثر، لم؟!
نعم، لم والأسباب واحدة تختلف عواقبها بين هذه الفترة وغيرها؟
ذلك أنها فترة جاءت بين الخلافة والمملكة، فلا تستقيم فيها وسائل الخلافة ولا تستقيم فيها وسائل المملكة. ومن هنا اضطرب الوزن، واضطراب السخط والرضى، وقياس الأمور في وقت واحد بمقياسين مختلفين أو متعارضين. ولعمر الحق ما من شيء يدل على أن الأحداث السياسية تبع للحالة النفسية ومقاييس الفكر والأخلاق كما يدل عليه تاريخ هذه الفترة في صدر الإسلام بين خلافة الراشدين ودولة بني أمية.
لقد كان الناس رعية «مملكة» يتصرفون في معايشهم ومطالبهم، كما يتصرف رعايا الممالك ويسومون ولي أمرهم أن يسوسهم سياسة الخلافة، وينتظرون من الخليفة الثالث ألا يجري في أمر من الأمور على نهج ينحرف قيد شعرة عن نهج الخليفتين الأول والثاني، وهم أنفسهم قد انحرفوا عن نهج رعايا الخليفتين أبعد انحراف.
ومما لا جدال فيه أنه عثمان لم يكن بقوة أبي بكر وعمر، ولكن عمر نفسه على قوته ومهابته قد أحس في أخريات أيامه وطأة الاختلاف بين العهود؛ فكان يقول في دعائه: «اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط ...»
فتكليف عثمان أن يستبقي الزمن حيث لا يبقى ضرب من تكليف الأيام ضد طباعها كما قال الشاعر الحكيم، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فقلنا في عبقرية الإمام إن عثمان «أحس بها فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين لا يرجع أحدهما إلا بالغلبة على نده وضده.»
Shafi da ba'a sani ba
وقلنا قبل ذلك: «إنه لا بد من ملك أو خلافة، ولن يكون ملك بأدوات خليفة ولا خليفة بأدوات ملك، ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه ...»
ثم قلنا: «كيف يكون المخرج بين سياسة الملك كما يطلبها العصر وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية! ... أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف؟! أم يلزمها عيشة النسك والشظف والجهاد؟! وإذا حرمهم وتألبوا عليه مع خصمه أفهو الغالب إذن بمطالب العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون؟! وإذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنة النبوة، أفيستقيم له هذا «الدور» العجيب وهو في جوهره متناقض لا يستقيم؟!»
تلك هي العقدة التي استحكمت في عهد عثمان ووجب أن تنقطع في عهد علي ومعاوية.
وإعادة النظر في جميع الأسباب والتبعات تعود بنا إلى نظرة فاصلة في هذه المشكلة التي زادها نفر من المؤرخين إشكالا بما أضافوه إليها من الأسباب المختلفة والأسباب الصحيحة التي خرجوا بها على غير مخرجها.
فنحن أولا في تاريخ الخليفة الثالث أمام حادثين لا تكفي أسباب أحدهما لتفسير الحادث الآخر.
ونحن في الحادثين جميعا بعد هذا أمام أسباب لا تفعل فعلها لو جاءت في فترة أخرى، ولعلها تفعل نقيض فعلها فتؤيد ولي الأمر ولا تخذله كما تأيدت دولة بني أمية بالعطايا والعمائر، وكان فيها خذلان عثمان ومشيره مروان.
وما لم تنقطع غاشية هذا اللبس وهذا الإبهام من تاريخ هذه الفترة؛ فنحن نسلكها في ضباب لا تبدو فيه الأشباح والصور على حقيقتها؛ ومن ثم رجونا أن نبدأ السيرة وقد تبدد ما حولها من غواشي ذلك الضباب الكثيف، وسنبدؤها من حيث تبدأ في طريق لا يبهمه اختلاط الأسباب ولا التعويل عليها مبتورة منفصلة الرءوس والأذناب.
الفصل الخامس
بين الجاهلية والإسلام
نشأ عثمان بن عفان في أسرة أموية تنتمي إلى أمية جد أبيه، وعند أمية يكثر الخلاف على سلسلة النسب بين أسرته والنسابين؛ فلا تتفق الأقوال المتضاربة على قول حاسم.
Shafi da ba'a sani ba
يقول المقريزي في رسالة النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم: «وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبني عبد شمس؛ بحيث إنه يقال: إن هاشما وعبد شمس ولدا توءمين فخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم، وقد لصقت أصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نزعت دمي المكان فقيل سيكون بينهما أو بين ولديهما دم، فكان كذلك.
ويقال: إن عبد شمس وهاشم كانا يوم ولدا في بطن واحد، كانت جباههما ملصقة بعضها ببعض ففرق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب: ألا فرق ذلك بالدرهم؟ فإنه لا يزال السيف بينهم وبين أولادهم إلى الأبد.»
وأمية هو في تاريخ الأسرة ابن عبد شمس أحد التوءمين أو الأخوين، ولكن بعض النسابين يقول: إنه ربيب عبد شمس، وإنه ابن جارية رومية وصلت إلى الحجاز مع ركب سفينة جنحت إلى الشاطئ، ويفسرون بذلك أبياتا منسوبة إلى أبي طالب يقول فيها:
قديما أبوهم كان عبدا لجدنا
بني أمة شهلاء جاش بها البحر
ويفسرون به أيضا قول الإمام علي لمعاوية في بعض كتبه: «ليس المهاجر كطليق، ولا الصريح كاللصيق.» وجاء في ابن هشام أن عقبة بن ذكوان بن أمية صاح حين أمر النبي بقتله: «أأقتل من بين قريش؟» فقال عمر بن الخطاب: «حن قدح
1
ليس منها»، وهو مثل يضرب للقدح الدخيل في الميسر، وروى ابن هشام أيضا أن النبي عليه السلام قال حينئذ: «إنما أنت يهودي من أهل صفورية» ويقال في تفسير الحديث: إن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من أهل صفورية، ويقال غير ذلك مما يعسر الفصل فيه.
ولكنه من الراجح الذي ينتهي به التاريخ إلى دور التحقيق أن التبني وتدعيم العصبية به معهودان في هذه الأسرة على نحو لم يذكر له مثيل في الأسر الجاهلية الكبيرة، ومما رواه الأصفهاني وابن أبي الحديد أن معاوية قال لدغفل النسابة: «أرأيت أمية؟»
قال: «نعم» قال: «كيف رأيته؟» قال: «رأيته رجلا قصيرا ضريرا يقوده عبده ذكوان.» قال معاوية: «ذلك ابنه أبو عمرو.» قال دغفل: «ذلك شيء تقولونه أنتم، أما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده.» •••
Shafi da ba'a sani ba
وفي التاريخ الثابت بعد الإسلام أن أبا سفيان استلحق زيادا الذي كان يسمى بزياد بن أبيه أو بزياد بن سمية، وكان معاوية يغضب على من ينكر هذا الاستلحاق، فقال يزيد بن مفرغ يخاطبه:
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زان
فأقسم إن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان
وروى البلاذري من أخبار هذا الاستلحاق أن عثمان بن محمد بن أبي سفيان ولي المدينة بعد عمرو بن سعيد، فعرض في خطبته بسلفه وكان هذا حاضرا في المسجد؛ فنهض مغضبا وقال فيما قال لعثمان حفيد أبي سفيان: «إنني لا يستنكر شبهي ولا أدعى لغير أبي.»
ويزيد المقريزي على ما تقدم من خبره أن أمية «صنع في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب: زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته.»
قال المقريزي: «والمقتيون
2
في الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم، وأما أن يتزوجها في حياته ويبني عليها وهو يراه فإن هذا لم يكن قط، وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عنها له وزوجها منه.»
Shafi da ba'a sani ba
ثم قال المقريزي: «وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين.»
وندع ما جاء في أنساب الأشراف وفي شرح نهج البلاغة من سائر هذه الأخبار عن استلحاق الأبناء، فإن الحرص على تدعيم العصبية ظاهر في هذه الأسرة مما ثبت من أخبارها فلا حاجة إلى الإسهاب فيه. •••
وكانت المنافرة شديدة بين أمية وهاشم على أيام الدعوة المحمدية، يحفظ لنا الرواة أخبارا كثيرة منها، قديمة وحديثة، فمن أحدثها قبل الدعوة الإسلامية أن حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم تنافرا إلى حكم من بني عدي القرشيين هو نفيل جد الفاروق، فقال نفيل لحرب: «أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا:
3
أبوك معاهد وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام»
يشير إلى تعرض أمية للنساء، ومنهن امرأة من بني زهرة راودها فتصدى له بعض قومها، وأوشكت أن تكون من جراء هذا الخلاف فتنة بين قبائل قريش.
وأقدم من هذه المنافرة منافرة أخرى بين هاشم وأمية تكلف فيها أمية أن يصنع صنيع هاشم، وكان هاشم - واسمه عمرو - قد غلب عليه لقب هاشم؛ لأنه تكفل بإطعام المعوزين من أهل مكة وجيرتها عام المجاعة، فكان يهشم الثريد لهم وينحر الإبل ويتعهد الفقراء، وفيه يقول شاعرهم:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
Shafi da ba'a sani ba
فأراد أمية أن ينافسه في الشرف ومحبة الناس إياه فعجز عن هذه المنزلة، فدعاه إلى المنافرة كعادتهم، واحتكما إلى كاهن خزاعة بعسفان على خمسين ناقة تنحر بمكة، وجلاء عشر سنين من جوار الحرم، فقال الكاهن سجعا على أسلوب الكهان والمحكمين جميعا يومئذ: «والقمر الباهر والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر.»
وأبو همهمة الذي أشار إليه الكاهن هو حبيب بن عامر الذي خرج مع أمية، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك، وكأنما أراد الكاهن بذكره أن يذكره بما في النسب الأول والآخر من سر هو به خبير.
قال الرواة: فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين.
ويكاد التنافس بين العشيرتين أن يشمل كل مطلب من مطالب الحياة فشمل الفروسية، ووسامة الذرية، كما شمل الرئاسة، ومفاخر السيادة. •••
تنافس أمية وعبد المطلب على سباق للخيل، وتراهنا على أن تحز ناصية المسبوق سنة ويغرم عددا اختلفوا فيه من العبيد والإماء والإبل، فسبق فرس عبد المطلب فرس أمية، ودان أمية بسيادته عليه سنة، وينقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة كلمة لعبد الله بن جعفر في محضر معاوية جبه
4
بها يزيد وهو يفاخره فقال: «أتفاخرني بحرب الذي أجرناه، أم بأمية الذي ملكناه، أم بعبد شمس الذي كفلناه؟!»
ويقول الكلبي في أبناء عبد المطلب: «كانوا إذا طافوا بالبيت يأخذون البصر»، ورآهم عامر بن مالك فقال: «بهؤلاء تمنع مكة». وغير هذه الصفة تقال في أبناء حرب؛ فلا يتصدى لنقضها أحد من الأمويين المتقدمين.
ونحسب أن المنافسة بين العشيرتين كانت ضربة لازب؛ لأن الاختلاف بينهما أعمق غورا من الاختلاف على الرئاسة ومناصب الشرف فيما اصطلح عليه عرف الجاهلية: كان اختلافا في الخلق والطبيعة، وكان بنو هاشم على ما ثبت من الروايات المتقدمة أقرب إلى الأخلاق المثالية الدينية، وبنو أمية أقرب إلى الأخلاق العملية الدنيوية، وقد يتردد المؤرخ في قبول بعض الروايات المتقدمة على علاتها، ولكنه لا يحتاج إلى المشكوك فيه من تلك المرويات؛ ليعلم هذا الفارق الواضح من خلائق العشيرتين فيما أثر عنهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، ففي حلف الفضول قام بنو هاشم بالأمر، وقام به معهم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتخلى عنه عبد شمس فلم يشتركوا فيه. وحلف الفضول هذا هو الذي قال عنه النبي عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ... أما لو دعيت به اليوم لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته.»
وخلاصة قصته أن رجلا يمانيا قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل فلواه بحقه وأبى أن يرد إليه بضاعته، فقام في الحجر أو في مكان على شرف وصاح يستغيث، وكان من أجل ذلك أن تعاهد أناس من بني هاشم وأحلافهم ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة وبعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه وشربوه.
Shafi da ba'a sani ba
وقد أبى الأمويون وبنو عبد شمس عامة على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، فكان أحدهم عتبة بن ربيعة يقول: «لو أن رجلا وحده خرج من قومه؛ لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول.»
وإن طبيعتين يفصلهما هذا الفاصل من ذوات النفوس، لا جرم تتنافران وإن ضمهما بلد واحد، وإنهما في البلد الواحد لأخلق بالتنافر من المتباعدين.
هذه العجالة عما كان من المنافرة بين بني هاشم وبني أمية في الجاهلية تدخل في سيرة عثمان من مداخل شتى، وقل أن يمر بنا مبحث في عمل من أعماله أو أخلاقه إلا كانت به عودة إلى تلك المنافرة.
فمنها نفهم أن فضل عثمان في إسلامه لا يدانيه فضل أحد من السابقين المعدودين إلى الإسلام؛ إذ لم يكن منهم من أقامت أسرته بينها وبين النبي هذه الحواجز العريقة من المنافسة والملاحاة، وكلهم كان بينهم وبين الإسلام ما كان بين القديم عامة والجديد خاصة، ولم تبلغ عداوتهم أن تكون من عصبية اللحم والدم، أو عصبية البيت كما كانت عداوة الأمويين للهاشميين، وليست هذه العداوة في الجاهلية بالشيء الهين ولا بالعقبة المذللة، فقد رأينا رجلا من بني عبد شمس كان يتمنى أن يشهد حلف الفضول، فحماه أن يفعل ذلك خشية الخروج على قومه ببدعة لم يقبلوها ولم يشتركوا فيها، وهذا مع ما هو واضح من الفارق بين دعوة كحلف الفضول لا تنقض دينا ولا تغير عبادة ولا تميز أحدا من الداخلين فيها بشرف أو سيادة، وبين دعوة كالدعوة المحمدية: تحطم كل صنم، وتبدل كل عبادة، وتثبت لبيت عبد المطلب شرفا لا يسمو إليه شرف بين الناس كافة، فضلا عن قريش وأمة العرب بكل من تشتمل عليه.
وما تقدم من شواجر النزاع بين أمية وهاشم كاف لإبانة عن فضل عثمان في سبقه مع السابقين إلى قبول الدعوة المحمدية. إلا أن هذا الذي تقدم لم يكن شيئا إلى جانب الشر الذي قوبل به النبي في بيت عثمان نفسه وبين عمومته وقرابته من جملة الأمويين.
فالحكم بن العاص - عم عثمان - كان يتصدى للنبي، ويشتمه ويمشي وراءه يحكيه في مشيته، ويخلج بأنفه وفمه، فقيل: إنه عليه السلام التفت إليه وهو بهذه الحالة فلزمه ذلك الاختلاج، وقال فيه عبد الرحمن بن حسان وهو يهجو مروان ابنه:
إن اللعين أباك فارم عظامه
إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يضحى خميص البطن من عمل التقى
ويظل من عمل الخبيث بطينا
Shafi da ba'a sani ba