ولم يكن الشيخ يجد شيئا يفرج كربه منذ أيام زواجه الأولى إلا أن يظل ليله يستمع إلى فتيان القرية الذين أصبحوا على الأيام شيوخا مثله وهم يروون مغامراتهم مع نساء، نساء مكتملات لا كومات من العظام كتلك التي يتركها في البيت.
وحديث الرجال في القرية لا ينتهي حول النساء؛ فالأفواه لا تمل من ترديده والآذان لا تمل من سماعه. فكيف إذن بالشيخ عبد الرحيم وهو الرجل الذي يعتبر نفسه غير متزوج.
أما مدبولي ابن الشيخ عبد الرحيم فله في الزواج مذهب آخر؛ فهو يفلح الأرض منذ استطاع أن يمسك الفأس. وقد كان يشاهد فايزة وهي تقدم بالطعام لأبيها صالح أبو عرابي الذي يعمل في حقل الشيخ عبد الرحيم. وكان يعجب بقوامها الفارع وبابتسامتها التي تومض ومضا إذا سمحت للخمار الذي تضعه على نصف وجهها أن يسقط، وكان يتدله بهاتين العينين يشع منهما بريق من الحياة ونشوة من الشباب. وكان يظل رانيا إليها وهي مقبلة ثم يظل رانيا إليها وقد حملت الأواني فارغة وعادت بها فلا يمل النظر، وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراها أو كانت مولية لها ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها. وكانت تحس معها نشوة تدغدغ فؤادها الغرير، ثم تحس لذعة من الفقر؛ فإن الزواج غير متوقع بينها وبين ابن الشيخ عبد الرحيم الثري القانط من الحياة والكاره للزواج كرها أصبح في مثل شهرة الشيخ نفسه.
وكان مدبولي يعلم أن أباه لن يقبل هذا الزواج؛ فهو يعلم أن أباه لا يحب من النساء إلا المليئات وفايزة في مقاييس أبيه عجفاء لا تصلح للزواج، كما أنه يعرف أن أباه يحب أن يزيد أفدنته العشرة ببضعة أفدنة أخرى تجلبها له زوج ابنه ولن تجلب ابنة صالح أبو عرابي شيئا يزيد هذه الأفدنة، بل هي ولا شك ستكلفه مهرا وليلة زفاف وفما يبتلع قد يصبح مع الأيام عدة أفواه من الأطفال. وهكذا كان مدبولي يدرك أن أباه لن يرحب بهذا الزواج بحال من الأحوال، فلم يجد مناصا من أن يكتم هواه ويتظاهر أمام أبيه أنه يوافقه على رأيه.
وكان من بين أصدقاء الشيخ عبد الرحيم، أحمد أفندي متولي، رجل عاش عمره نصف فلاح ونصف حضري؛ فهو يذهب إلى المدينة كل يوم وللبيت في القرية كل ليلة. وقد تزوج من المدينة وجلب زوجته معه إلى القرية وامتدت صداقات الزوجة بزوجات أصدقاء زوجها، وكانت زكية من بين أولئك الصديقات. وقد استطاع الشيخ عبد الرحيم أن يرى زوجة أحمد أفندي من بعيد، وقد كانت هذه الرؤية البعيدة تكفيه أن يحكم على جمالها فما كان يعنيه من جمالها إلا أنها ذات قوام مليء بل هي تزيد عن القوام المليء؛ فكان يكن لها إعجابا ويكن لزوجها حسدا، وتزداد حسرته بامرأته العجفاء.
وفي يوم قالت زكية لزوجها: يا شيخ عبد الرحيم.
وأجابها في نفوره الذي لا يتغير: ما لك؟ - والدة الست هانم تعيش أنت. - حماة أحمد أفندي؟ - نعم، والمأتم اليوم في البندر، ألا أذهب للعزاء؟ - طبعا، أطلب لك عربة ونذهب معا.
وذهبا، وبينما هما عائدان رأى الشيخ عبد الرحيم في عيني زوجته كلاما يثور بها أن تتحدث فلم يحاول أن يسألها، حتى إذا بلغا المنزل واستقر بهما المقام أو كاد قالت زكية: أما يا شيخ عبد الرحيم ربنا رضي علينا. - خير. - الست هانم لها ابنة أخت لو أصبحت من نصيب مدبولي، وقاطعها الشيخ عبد الرحيم: يا امرأة حطي في عينك حبة ملح، أتذهبين للعزاء فتخطبين لابنك؟ - يا أخي الحي أبقى من الميت، بنت، أما بنت، مال وجمال. - يا امرأة اعقلي. - والله لو رأيتها لعرفت أنني أنا العاقلة، وأمها تتمنى النسب. - ماذا؟ - أمها تتمنى. - هل سألتها؟ - النسوان يفهمن لغة بعضهن بعضا، أخذت منها في الحديث وأعطيت فوجدتها راغبة فينا أشد الرغبة. - في مأتم أمها! - وما له، أمها مريضة من عشرين سنة، أتنتظر أن تظل البنت عانسا لأن ستها ماتت عن مائة سنة؟! يا أخي أرجو أن نعيش مثل عمرها، أو حتى أقل بثلاثين سنة. المهم أن أم البنت ...
ويقاطعها الشيخ عبد الرحيم: خطبت البنت من أمها في مأتم أم أمها.
وقالت زكية في حزم: نعم، وقبلت، لو رأيتها تعذرني، عود يا شيخ عبد الرحيم.
Shafi da ba'a sani ba