ثم ترجمتها بنفسي إلى العربية. وقد انتشرت الرسالتان في الغرب لكل من يريد معرفتي، وبسرعة جعلوني أنتسب إلى المنهج الظاهرياتي عند هوسرل. وعندما قرءوا كتابي بالإنجليزية «الإسلام في العصر الحديث» (جزءان) والحضارات في صراع أم في حوار، انتشرت أفكاري، ونسبوني إلى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وآسيا، طبقا لمنهج الأثر والتأثر، من المركز للأطراف.
وقد كتبت رسالتي الأولى مرتين: الأولى كانت مركزة للغاية، وتصل درجة التركيز إلى درجة الألغاز؛ فلا يفهم العبارة إلا من كان يفهم الموضوع من قبل، فلما قرأها المشرف برنشفيج قال: غامضة، وضح وفصل أكثر، فكتبتها مرة ثانية، فجاءت رد فعل على الصياغة الأولى، مفصلة للغاية بحيث أفضت في الفكرة التي أريد توصيلها وسط الركام الهائل من التنسيق، وهو ما أعاني منه حتى الآن. وتم حل هذا الصراع الطويل بين المستوى العلمي في التحليل المسهب الطويل والمستوى الثقافي المباشر الذي يدخل في الفكرة مباشرة دون جذورها وتطورها وغايتها. وقد استغرب السيد يس من هذا الطالب الذي يكتب رسالتيه مرتين، وهو لا يستطيع كتابتها ولو لمرة واحدة. وكتبت هذه الرسالة الثانية بهذه الطريقة العلمية الموثقة، فخرجت في جزأين «تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل». الأول شرح للمنهج الظاهرياتي عند هوسرل وتلاميذه، وبيان كيفية تطبيقه في ظاهرة الدين انتهاء بالتأويل. والثاني «ظاهريات التأويل، محاولة لتأويل وجودي ابتداء من العهد الجديد».
وإذا كان ماسنيون هو الذي أرشدني إلى علم أصول الفقه، وكوربان الذي اقترح موضوع «التأويل» وريكير هو الذي وضع يدي على الظاهريات، فإن جيتون هو الذي علمني الفلسفة وتاريخها. هو مثل عثمان أمين في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، يدخل كلامه إلى القلوب، الفلسفة لديه تجارب حية يعيشها الأستاذ وينقلها إلى الطالب. وهو من تلاميذ برجسون، كان يعطي ثلاث محاضرات أسبوعيا: الأولى لطلاب الفلسفة وتاريخ الفلسفة، ولم أفقد واحدة منها. كان أوغسطينيا، فكانت رسالته للدكتوراه «الزمان والخلود عند أوغسطين وأفلوطين»؛ فالزمان موجود لا يتجزأ. منه تعلمت تاريخ الفلسفة، وكان يوم الإثنين صباحا. والثانية حلقة بحث للدراسات العليا، يتكلم فيها الطلاب، ويعترض الأستاذ، كان ذلك يوم الإثنين من العاشرة حتى الثانية والثالثة. ومحاضرة عامة يوم الأربعاء مساء لمحبي الفلسفة، وكان يعرض ما يأتيه من رسائل من المستمعين؛ فالفلسفة رسالة وليست مهنة. طلب مني مرة أن أعرض موضوعا لطلاب الليسانس وهو بجانبي، عن إسبينوزا، كما فعلت مع تلميذي علي مبروك فيما بعد، فعرضته داخل إطار الفلسفة الغربية، والفلسفة الغربية داخل إطار الفلسفة العامة ومنها الفلسفة الإسلامية، والفلسفة داخل مسار الحضارات، والحضارات متغيرة، تنهض وتسقط مثل الحضارات الشرقية الصينية والهندية والفارسية ثم اليونانية والرومانية ثم الإسلامية ثم الغربية، وسطى وحديثة، وهو ما أصبح فيما بعد «مقدمة في علم الاستغراب». أعجب الأستاذ بسعة أفق الطالب، واتخذني صديقا له، وليس فقط طالبا. وكان لوي ألتوسير مؤسس البنيوية أحد تلاميذه وموجودا في مستشفى الأمراض العصبية، فأخذني معه لزيارته ، وكانت معه صديقته، وقارنت بسرعة بين مرضانا ومرضاهم وحقوقنا وحقوقهم. ظننت أننا سنتكلم في البنيوية ولكنها كانت زيارة ودية خالصة، وفضل الذهاب مع صديقته عن البقاء معنا، وتطورت الصداقة بيننا حتى بعد أن عدت إلى أرض الوطن في يونيو 1966م. قدمني إلى الدوائر الفلسفية الباريسية خاصة 104 شارع تورنون وهي جماعة فلسفية أخرجت كتابا عنه. وهو الذي قدمني إلى البابا يوحنا بولس أثناء انعقاد الدورة الرابعة للمؤتمر الفاتيكاني الثاني، وقد كان صديقا له عندما كان الكاردينال مونتيني كاردينال ميلانو، وكان ذلك في عام 1964م. وطلب مني البابا بولس السادس أن أجلس مع الجماعات المتخصصة لكتابة بيان الكنيسة عن الديانات غير المسيحية، ولأول مرة أجلس مع الكرادلة بأروابهم الحمراء في بدروم الفاتيكان، ونحن نتناقش في الموضوع. ورأيت انفتاحا اشتهر به المؤتمر الثاني والعشرين الذي بدأه يوحنا الثاني قبل أن يتوفى. وسألت أحد الكرادلة الأفارقة: كيف تناقش موضوعا وأنت غير متخصص فيه؟ فأجاب: إن الروح القدس تجيب بدلا عني! وأنا عندي العلم وليس الروح القدس. ومع ذلك خرج بيان الديانات غير المسيحية يعترف لأول مرة ربما بالأديان الأخرى، موحى بها أو غير موحى بها. وأنشئت سكرتاريا لغير المسيحيين كان جيتون أول من يرأسها، ويفخر بأن تلميذه يشاركه فيها. وأعطيت منديلا أبيض عليه شعار البابا هدية من المؤتمر، وأقمت في روما عند عائلة إيطالية، وأهديتها مجلدا عن مصر الفرعونية. وأهداني البابا بولس السادس الأناجيل المتقابلة وكتب عليها: «فليكن الله معك.»
Que le Seigneur soit avec Vous
وقد دعاني جيتون إلى مسقط رأسه بوسط فرنسا لإحدى الاحتفالات بعيد ميلاده في كليرمونفيران
Clermont-Ferrand . ولما توفت زوجته ماري تيريز، قامت بالعناية به بعدها شابة بولندية شقراء. وفي كل مرة أكون في باريس أزوره في منزله 1 ش فليريس
Fleuris
على جانب حديقة لوكسمبورج حيث كان يقطن أيضا برجسون وبيير دي شاردان، وهما على طرفي نقيض. وظللنا نتراسل حتى قرأ في الجرائد الفرنسية تأسيس لاهوت التحرير الإسلامي
Théologie Islamique de la Libération
الذي تعلمته من جنوب أفريقيا في عصر التحرر من النظام العنصري الأبيض، وما كتب عنه في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الكنيسة ضده، وتتهمه بالماركسية بعد أن انتشر في أمريكا اللاتينية عند الرهبان الشبان مثل كاميليو توريز، والذي عرضت أعماله في مصر، الذي كان يمثل اليسار المسيحي مثل مونييه وريكير. وقد أسسا مجلة روح
Shafi da ba'a sani ba