وقد يكون التمركز على الذات فارغا بلا نتيجة، في بحث أو مقال أو مشاركة في ندوة شهرية أو في مؤتمر سنوي. يكفي أنه تعامل مع الغرب دراسيا واجتماعيا حتى يكون له الفضل على الآخرين، ويدل ذلك على الرغبة في التحول من عقدة النقص إلى عقدة العظمة؛ فالتعامل مع الأجنبي وتفوق علمه خير من التعامل مع المصري ونقص علمه. وهو أيضا كثير الصياح ليغطي بصياحه على رؤيته بشكل سلبي، وهو ما يسمى في الثقافة الشعبية «عقدة الخواجة».
ومن الانفعالات التي اختبرتها، إحساس البعض بالتمركز حول الذات، وأنه لا يوجد في العالم إلا هو؛ فهو الأعلم الأحكم، والأدق، والأشجع، والأصح في آرائه. وهو ما يحدث أيضا على المستوى السياسي عند الرؤساء الذين يعتبرون أنفسهم هكذا «الأسد إلى الأبد». يصعب الحوار معه أو إبراز رأي آخر بجوار رأيه؛ فالتمركز حول الذات يصل إلى مستوى مطلق، كما في آية
ما علمت لكم من إله غيري . وهناك صيغة أخرى للتمركز حول الذات دون إفصاح ودون دليل، إنما يكون الدليل في الدراسة بالخارج والحياة هناك مع الأجانب. فيؤدي ذلك إلى الإحساس بالعظمة، والسمو فوق الآخرين، والتعالي عليهم، وهم المكونون محليا. وقد ظهر ذلك منذ أن كان طالبا يأتي متأخرا لقاعة الدرس في أبهى صورة حتى ينظر إليه الجميع؛ لأنه يظن أن الأناقة والجمال تأتي منه وحده.
وقد تتضح الغيرة في رغبة أحد الأساتذة بعد عودته من الخارج ونسيان الناس أنه كان موجودا، يكتب في الصحيفة الأولى في مصر، وبعد كتابة عدة مقالات، اثنين أو ثلاثة، لم يتحقق الهدف. وفي كل اجتماع يتم في «مركز الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية» السابق على «المجلس الأعلى للثقافة» مع وزير الثقافة في حوار مع المثقفين، يرفع يده ليكون أول المتكلمين حتى يعرفه الناس أكثر وحتى يلفت نظر الوزير إليه، ويكون خطابه حتى يجذب أنظار المثقفين إليه، وعندما لم يتحقق الغرض من كل ذلك يكتب مقالا يتهمني فيه بأنني من أنصار الثورة الإسلامية في إيران، وأنني ممثل الخميني في مصر، في وقت كان رئيس الدولة يهاجم فيه الثورة الإسلامية وقائدها، فقاطعته، وسميته صديق نصف العمر. ولما حاول أحد الأصدقاء المشتركين جمعنا على العشاء في منزله، أدخلنا الصديق إلى الشرفة لكي نتصافى، فانتظرت أن يبدأ هو بالاعتذار ومناقشة الموضوع، وانتظر هو أن أكون البادئ بالكلام معاتبا إياه، فلم أشأ لأنني المظلوم وهو الظالم. فخرجنا من الشرفة دون أن نحقق شيئا. ومع ذلك عندما هاجمته الجماعة الإسلامية المتشددة وحاولت الاعتداء عليه كما حاولت ذلك من قبل معي، هنأته بالنجاة، وقابلته مرة في تأبين أحد الزملاء، وكان يسير شبه أعرج ولم نتحادث يومها.
ولما غادر الأستاذ الكبير بالقسم معارا إلى الخارج بإحدى الجامعات العربية، أخذ هو رئاسة القسم بدلا عنه. ولما ترك الأستاذ الكبير مكانه في الجامعة المعار إليها، خلفه الأستاذ الآخر. ودعا معه معظم أساتذة القسم حتى فرغه ولم يعد به أحد تقريبا، فعل ذلك تقربا إلى الجامعة الخليجية. ومنذ ذلك الوقت الذي بنى فيه الأستاذ قسم الفلسفة بالجامعة الخليجية هدم القسم في جامعته الوطنية، ولم يعد للقسم قائمة بعد ذلك حتى الآن.
ووقع من تبقى فيه في الخلاف والقضايا حتى وصل الأمر إلى المحاكم، وبقي أستاذ وحيد ما زال يحمل الشعلة في القسم، اتهمته الجامعة، ولامته على أنه كان سببا في عدم ترقية رئيسة القسم الحالية.
وحدث نفس الشيء في جامعة أخرى عندما غادر رئيس القسم إلى إحدى جامعات الخليج وبقي حوالي عشرين عاما حتى تحطم قسمه في وطنه. وحاول أعضاء القسم الحاليين إعادة بنائه قدر الإمكان.
وفى جامعتي كنت رئيسا في لجنة المناقشة باعتباري أقدم الأساتذة، وأعطتني إدارة الدراسات العليا الظرف الذي به أسماء المناقشين، واستمارات مكافآتهم كي يملئوها وأوقع عليها، فأخذته طالبة قديمة لي أصبحت وكيلة للكلية، وأعطت الظرف الذي به أوراق المناقشة إلى أحد الأعضاء. وفي المداولة بعد المناقشة أخذ مني العضو باللجنة الأوراق طالبا مني وأنا رئيس اللجنة أن يقرأ هو النتيجة بنجاح الطالب والإعلان عن درجته. كنت في حيرة هل أقبل ذلك ضد المتعارف عليه والقاعدة بأن يعلن رئيس اللجنة النتيجة بنفسه؟ أم أترك العضو يقوم بذلك دون استئذان مني؟ وقررت أن أتركه يأخذ شرف الإعلان عن النتيجة، وألا أمنعه من ذلك؛ فهو يريد مزيدا من الشرف في إعلان النتائج.
ولما تمرد أحد الأساتذة الشبان على الأستاذ المنتشر في الجامعات الإقليمية، وأراد أن يقيم لنفسه «شلة» في جامعته يكون هو رئيسها، صعد الشبان على أكتافه وهو سعيد بهذه الرئاسة الجديدة، ولما أراد أن يكون رئيسا بالفعل وفي مناقشة الرسائل الجامعية أراد أن يتكلم أولا قبل رئيس اللجنة العلمية بدعوى تقديمه رئيس اللجنة وأعضائها لجمهور المستمعين. فلما قبلت ذلك على مضض في أول جلسة، لم أقبله بعد ذلك في جلسة أخرى للمناقشة، كي لا يكون رئيسا على رئيس، ومنعته من الكلام من أول الجلسة لآخرها؛ فخاصمني حتى الآن وقد منعت عنه أن يكون رئيسا على الرئيس.
وتكرر ذلك في جامعة أخرى يبدو فيها رئيس القسم وهو يريد أن يبين لجمهور الحاضرين بأنه رئيس على الرئيس. وقد كان قد قدم لرئاسة اللجنة من هو أصغر مني سنا، وجعله يجلس في وسط المائدة رئيسا، وأنا على الطرف عضوا، فرفضت ذلك قبل المناقشة؛ وأرجعوا ذلك إلى العميد، فنزل العميد مادا يده بالسلام علي دون أن يعتذر عما حدث ولكني اعتبرت ذلك اعتذارا غير مباشر.
Shafi da ba'a sani ba