وكانت ثلاثة أبحاث منفصلة عن بعضها البعض؛ فاقترحت على نائب رئيس الجامعة «موشي كوجي» الذي كان يشرف عليها، الربط بينهما لمعرفة ما إذا كانت هناك رؤية واحدة تجمع بين القارات الثلاث أم رؤى متعددة؟ ففرح بالاقتراح وطلب مني تنفيذه؛ فقمت بإجراء دراسة على المشاريع الثلاثة وما الذي يجمع بينها، وتبين فيم تتفق كرؤية عامة، وفيم تختلف كرؤى خاصة، ونشرتها في كتابي باللغة الإنجليزية «الحوار الديني والثورة».
كانت هناك مشكلة رئيسية في الجامعة حاولت أن أساعد في حلها، وهي لمن القيادة في الجامعة، للعلماء أم للإداريين؟ وكانت بعض قرارات العلماء يوقفها الإداريون، فلم يشعر العلماء بأنهم في جامعة حرة. ولما كان الإداريون بيدهم المال فكانوا هم الذين يسيطرون على نشاط الجامعة طبقا لتكاليف المشاريع المادية. وظلت المشكلة قائمة حتى غادرت طوكيو عام 1987م.
وكان رئيس الجامعة في عهدي إندونيسيا، يهمه المنصب والرمز أكثر مما يهمه حل المشكلات بين العلماء والإداريين، فقد كان هو القادر على الجمع بينهما ولكنه لم يفعل شيئا.
وبعد سنتين عدت إلى القاهرة لأستمر في إلقاء المحاضرات في مواد فلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر، واستمر ذلك إلى ما بعد سن المعاش حتى عام 1995م. واستمررت في الدراسات العليا بالإشراف على حلقات البحث حول علم الكلام والفكر العربي المعاصر وفلسفة التاريخ. وأشرفت على رسائل كثيرة في الماجستير والدكتوراه، حتى بدأت أضعف جسديا. كان الطلبة والعمال يحملون الكرسي المتحرك إلى قاعة الدرس أو مجلس الكلية، ولما ضعف نظري وأصبحت شبه ضرير، توقفت عن الذهاب إلى الكلية، وكان الطلبة الذين يريدون أن أشرف على رسائلهم يأتون منزلي ، أقرأ خططهم، وأصححها لهم قبل عرضها على مجلس القسم ثم لجنة الدراسات العليا ثم موافقة مجلس الكلية ووكيل الجامعة للدراسات العليا.
وكنت أساهم في مناقشات الرسائل في الجامعة، وفي جامعات أخرى حتى يستعد الجيل الجديد للعمل والكفاح كما فعلت، ولم أتوان عن الحضور والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية داخل مصر وخارجها، والتعرف على زملائي الفلاسفة في الجامعات الأخرى، وتقديم عدة أوراق بحثية أجمعها فيما بعد في كتب لي، ومن تأليفي، واستمررت في ذلك أكثر من عشرين عاما حتى ضعف جسدي وأصبحت ضريرا، فامتنعت عن الحركة قدر استطاعتي، يكفيني ما قدمت، وبعد الإصرار أن أقدم من الحين إلى الآخر تسجيلات بصوتي وصورتي في افتتاحيات المؤتمرات عبر «الفيديو كونفرنس» أوافق على ذلك.
ولما أحسست أن الجامعة مشغولة بالمحاضرات والدرجات والامتحانات والشهادات أكثر من العلم لذاته، أسست الجمعية الفلسفية المصرية وأشهرتها سنة 1976م. وكانت المحاولة الأولى من منصور فهمي باشا عام 1944م، وتوقفت أثناء الحرب، ثم عادت بعد ذلك في الستينيات برئاسة علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع والفلسفة. نشرت الجمعية عدة مؤلفات لمحمود قاسم وعثمان أمين وعلي عبد الواحد وافي وعثمان نجاتي وغيرهم في مكتبة الأنجلو المصرية. ثم توقف نشاط الجمعية. ولما حاولت إحياءها ذهبت إلى محمود قاسم رئيس قسم الفلسفة وعميد كلية دار العلوم فقال لي: «إن الزمن قد تغير.» فذهبت إلى عبد الرحمن بدوي رئيس قسم الفلسفة بجامعة عين شمس فقال لي: «لماذا جمعية فلسفية تضم أساتذة الفلسفة في مصر؟ أنا بمفردي جمعية ولا أحتاج إلى جمعية بجواري أعمل من خلالها!»
وذهبت إلى إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية والفيلسوف، فقال لي: «اذهب إلى سليمان حزين رئيس الجمعية الجغرافية الملكية فهو خير من يعينك فيما أنت فيه.»
فذهبت إليه في الجمعية بمدخل شارع قصر العيني بميدان التحرير، بجوار المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر، قال سليمان حزين لي: «سأقول لك كلمة واحدة، ضعها حلقة في أذنك، الجمعيات العلمية في مصر لا تقوم إلا على أكتاف رجل واحد، وكما تراني في الجمعية الجغرافية الملكية، فلولا أنا لما قامت.» فحزنت. وذهبت بعدها إلى عثمان أمين لكي أطلب منه رئاسة الجمعية وكانت الثورة قد قامت في 1952م، فقال ضاحكا: «هل يمكن إقامة جمعيات علمية في مصر في هذا العصر؟» فأصررت على إقامتها، وفعلا قمت بذلك وأسستها في عام 1976م وجعلت إبراهيم بيومي مدكور رئيسا لها.
لم يكن لي مقر إلا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وهو دولاب صغير في المقر يحفظ فيه الملفات، وكنا نضع لافتة «الجمعية الفلسفية المصرية» على باب الدولاب، وكنا نقوم بنشاط الجمعية في الكلية بإلقاء المحاضرات في المدرج الكبير، وكان دخلنا من اشتراكات الأعضاء لا يزيد على الأربعين جنيها، نصعها في دفتر توفير بالبريد وكان قيمة الاشتراك خمسة جنيهات.
وفى إحدى المرات استدعاني عميد الكلية وقال: «لا يجوز أن يكون مقر الجمعية داخل كلية الآداب، وتمارس نشاطها داخل أسوار الجامعة؛ لأن كلية الآداب مؤسسة حكومية في حين أن الجمعية مؤسسة أهلية مدنية لا يجوز أن تعمل من خلال مباني الحكومة.» وطلب أن أبحث عن مقر آخر.
Shafi da ba'a sani ba