صحائف مجد وفخار للجندي المصري «نزيب» لا «نصيبين»
تخليد ذكرى نزيب
صحائف مجد وفخار للجندي المصري «نزيب» لا «نصيبين»
تخليد ذكرى نزيب
الذكرى المئوية لواقعة نزيب
الذكرى المئوية لواقعة نزيب
24 يونيو سنة 1839-24 يونيو سنة 1939
تأليف
عزيز خانكي
صحائف مجد وفخار للجندي المصري
في 24 يونيو سنة 1839 انتصر الجيش المصري في أعظم معركة حربية اشتبك فيها في خلال القرن التاسع عشر.
وقعت هذه المعركة في عهد أعظم عاهل جلس على عرش الإمبراطورية المصرية هو محمد علي باشا الكبير. وفي عهد سلطان من أعظم سلاطين آل عثمان هو السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد الأول.
كانت الفتن والقلاقل والاضطرابات والثورات قد فشت في أرجاء السلطنة العثمانية فاستنجد السلطان محمود بمحمد علي لإخماد الثورات والاضطرابات وقمع الفتن والقلاقل. فلبى التابع طلب المتبوع.
بدأ محمد علي بتجريد حملة تحت قيادة ابنه الأمير طوسون - يعاونه أحمد أغا - لتأديب وإخضاع الوهابيين الذي شقوا عصا الطاعة على السلطان، وغزوا بلاد الحجاز والعراق، واستولوا على مكة المكرمة (في سنة 1802) وعلى المدينة المنورة (في سنة 1806) ومنعوا الحج (مدة ثلاث سنوات)، وبسطوا سلطانهم على جزيرة العرب كلها، وعلى بلاد العراق واستولوا على كربلاء، وجاء وقت كانت فيه مساحة البلاد التي خضعت لسلطانهم تزيد على مساحة فرنسا ست مرات.
بارحت الحملة بركة الحج (بضواحي القاهرة) في 2 أبريل سنة 1811 (بعد مذبحة المماليك في القلعة في أول مارس سنة 1811)
1
قاصدة بلاد العرب، وكانت مؤلفة من 10000 مقاتل منهم و7000 مشاة و2000 فارس، شفعها محمد علي بنجدة في سنة 1812، وقد تمكن طوسون من طرد الوهابيين من المدينة المنورة ومن مكة المكرمة ومن جدة، ولما تم فتح الحجاز أرسل محمد علي إلى السلطان مع ابنه إسماعيل مفاتيح الكعبة، قدمها إليه في 30 يناير سنة 1813 في صينية من الذهب الخالص مرصعة بالأحجار الكريمة، فاستقبل السلطان الأمير إسماعيل في جامع أيوب بجميع مظاهر الأبهة التي اشتهر بها سلاطين آل عثمان.
إلا أن الوهابيين لم ييأسوا فجمعوا جموعهم وزحفوا بقوة كبيرة على الجيش المصري، فاضطر طوسون إلى التقهقر وإخلاء مواقع عدة بعد أن خسر 8000 جندي و25000 جمل، وذهبت سدى نفقات الحملة وقدرها 1400000 جنيه.
حيال إلحاح السلطان لم يجد محمد علي باشا بدا من الذهاب بنفسه إلى جزيرة العرب، فأمر بتجهيز حملة ثانية تكون تحت إمرته هو شخصيا، أبحر من السويس في يوم 25 أغسطس سنة 1813، وبعد ثلاثة أيام وصل إلى جدة، ومنها سافر إلى مكة،
2
وبعد أن درس الحالة أيقن أن الشريف غالب (شريف مكة) له ضلع مع الثوار، فأمر بالقبض عليه هو وجميع أفراد عائلته،
3
وأرسله إلى مصر، ومنها نفي إلى سالونيك. ثم صادر أمواله ومقدارها 2000000 جنيه، ولتطهير الجو من الدسائس والخيانات عزل شريف جدة أيضا، وأرسله إلى مصر تخفره ثلة من الجنود الأشداء.
بقيت الحرب فترة من الزمان سجالا بين المصريين والوهابيين. أدرك محمد علي أن من الخطأ محاربة العرب في البقاع الكثيرة الهضاب والنجاد، ففكر في خدعة لاستدراجهم إلى السهول والوهاد، فتظاهر بالقهقرى أمام جموع الوهابيين، جازت الحيلة على الأمير فيصل الذي كان قد جمع 30000 مقاتل منهم 5000 هجانة، فترك الهضاب التي كان ممتنعا فيها، وسار إلى الوهاد مقتفيا أثر محمد علي، وبمجرد أن توسط الجيشان السهول تجمعت القوات المصرية على هيئة مربعات - على مثال مربعات جيش نابليون بونابرت عندما غزا مصر في سنة 1798 - وأصلت العرب نارا حامية حصدتهم حصدا، وردتهم خاسرين ستة آلاف قتيل، وفر فيصل بفلول جيشه. غنم محمد علي خيمة فيصل بجميع ما كان فيها من ذهب ومن فضة ومن رياش فاخرة، وبعد هذا النصر زحف في داخلية البلاد، واستولى على مواقع حربية مهمة، ولما اطمأن قلبه عاد إلى مصر، وترك ابنه طوسون يتم غزو البقية الباقية من بلاد العرب، وهنت قوة الوهابيين وركدت ريحهم وانشقت العصا بينهم، ورأوا أن كثيرا من قبائل العرب انفضت من حولهم، ومالت إلى المصريين وانضمت إليهم، وأن لا أمل لهم في قهر المصريين فطلبوا الصلح، عرض عليهم طوسون شروطا قاسية قبلوها حالا، وبعدما هدأت الحالة عاد طوسون إلى مصر في نوفمبر سنة 1815.
إلا أن الوهابيين نقضوا العهود والمواثيق، وعادوا إلى الثورة والعصيان، وجمعوا 30000 من المقاتلة تحت قيادة الأمير عبد الله وأخيه الأمير فيصل، علم محمد علي بهذه الثورة الجديدة، فأمر بتجريد حملة ثالثة، وفي أثناء هذه الحملة الجديدة مات ابنه طوسون في برنبال (في 6 يوليو سنة 1816)، فعهد محمد علي في قيادة الحملة الثالثة إلى ابنه الكبير إبراهيم (وكان عمره إذ ذاك 27 سنة)، بارح إبراهيم مصر في 5 سبتمبر سنة 1816 إلى قنا، ومنها إلى القصير، ثم إلى ينبع، ثم إلى المدينة المنورة، وفي 19 يناير سنة 1817 وصل إليه رسول من قبل السلطان يحمل إليه رتبة الميرمران الرفيعة.
قضى إبراهيم مدة طويلة من الزمان وهو يقاتل الوهابيين ويطاردهم، إلى أن كتب الله له النصر في 10 سبتمبر سنة 1818، إذ خضع الأمير عبد الله وسلم له نفسه، فأرسله إبراهيم باشا إلى مصر، ومنها إلى إستانبول بناء على طلب السلطان، وعلى الرغم من شفاعة محمد علي وإبراهيم فإن السلطان قتله قتلة سوء إذ أمر بضرب عنقه أمام جامع أيا صوفيا، ولما بسط إبراهيم سلطان أبيه على جزيرة العرب، عاد إلى مصر في ديسمبر سنة 1819 بعد أن قضى ثلاث سنوات وهو يقاتل الوهابيين، وصل إلى الجيزة في 9 ديسمبر، ودخل القاهرة من باب النصر، واستقبله والده يوم 11 ديسمبر في سراي شبرا، وأقيمت معالم الأفراح مدة سبعة أيام وسبع ليال متواليات.
4
وفي سنة 1820 وجه محمد على عنايته وجهوده إلى بلاد السودان، فسير حملة أولى تحت قيادة ابنه إسماعيل، وحملة ثانية تحت قيادة صهره محمد بك الدفتردار، وحملة ثالثة تحت قيادة ابنه الكبير إبراهيم.
وفي 15 أكتوبر سنة 1838 سافر إلى السودان ليتفقد أحوالها بنفسه، ولم يعد إلى مصر إلا في 14 مارس سنة 1839 بعد غياب طال خمسة أشهر، ومن الغريب أنه سافر هذه السفرة الشاقة الطويلة وكان عمره 70 سنة، وانتهز فرصة وجوده وبنى مدينة الخرطوم، وأسس مدينة سماها باسمه وصدق من قال عنه:
Toujours le dernier au repos, toujours le premier au mouvement .
كانت حملة إسماعيل مؤلفة من 4000 جندي و18 مدفعا، وحملة الدفتردار من 4000 جندي و8 مدافع، وحملة إبراهيم من بضعة آلاف.
إسماعيل فتح بلاد النوبة ودنقلا وبربر وسنار، وفي 27 مايو سنة 1821 وصل إلى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، ونصب خيامه على رأس زاوية تحتلها امرأة اسمها «أم درمان» سميت فيما بعد باسمها، وكانت في سنة 1821 محلة قفراء، وما كان يدور بخلد أحد أنه بعد مائة عام يصبح هذا المكان الأقفر مدينة كبيرة يبلغ عدد سكانها 100000، أما الدفتردار فبسط سلطان مصر على دارفور وكردفان، وجعل «الأبيض» حاضرة هذه البلاد الواسعة.
لم يكتف محمد علي بكل هذه الغزوات وهذه الفتوحات، بل استولى أيضا على بلاد التاكة (الواقعة بين العطيرة والبحر الأحمر) وأسس مدينة كسلا، ولمد سلطانه على جميع هذه البقاع النائية استولى على سواكن ومصوع، استأجرهما من السلطان وضمهما إلى الإمبراطورية المصرية.
لم يكد الأمر يستتب لمحمد علي في السودان، وإذا بإرادة من السلطان بها يستنجده مرة أخرى، ويطلب منه إعانة الأسطول العثماني الذي عهد إليه في قمع الفتن والقلاقل والاضطرابات التي نشبت في جزر بحر اليونان، صدع محمد علي بالأمر وجهز أسطولا من 16 قطعة عهد في قيادته إلى إسماعيل أغا المعروف بالجبل الأخضر، أضاف إليه قوة مؤلفة من 800 جندي جعلها تحت إمرة طبوز أوغلو وأقلع الأسطول بالفعل من ثغر الإسكندرية في 10 يوليو سنة 1821، وكتب الله له التوفيق واحتل جزيرة «رودس».
محمد علي.
عاد السلطان بعد سنة أخرى واستنجد بمحمد علي مرة ثالثة لإخماد ثورة في جزيرة «قبرص» عجز الجنود الترك عن إخمادها، ولكي يثير حميته أصدر فرمانا في سنة 1822 بتعيينه واليا عليها مع بقائه واليا على مصر.
وبعد فترة من الزمان - عام سنة 1822 - عاد السلطان واستنجد به مرة رابعة لقمع ثورة في جزيرة «كريت»، وليستثير حميته ولاه عليها، فأنجده محمد علي بأسطول مؤلف من 60 سفينة، وبقوة مؤلفة من 4500 من المشاة و500 من الفرسان تحت إمرة حسن باشا، ووفق محمد علي في خلال سنة 1822 في قمع الثورة وإعادة النظام والأمن إلى الجزر الثلاث رودس وقبرص وكريت.
5
وفي سنة 1822 شن الفرس الغارة على بلاد الدولة العلية، وزحفوا قاصدين الاستيلاء على بغداد وأرضروم، فاستعان السلطان بمحمد علي للمرة الخامسة.
عاد السلطان للمرة السادسة واستعان بمحمد علي لقمع ثورة هائلة شبت في بلاد المورة «بلاد اليونان»، وكان الثوار قد ناشبوا العثمانيين منشبة شديدة، واستولوا على مدن وثغور ومعاقل كثيرة، وهزموا سليم باشا ودحروا مصطفى باشا قائدي الآلايات العثمانية، وكي يستثير السلطان حمية محمد علي، أصدر في 16 يناير سنة 1824 فرمانا ولاه به على بلاد المورة أيضا. لبى محمد علي الطلب، وجهز حملة مؤلفة من 18000 جندي منهم 3000 خيالة زودهم بمائة وخمسين مدفعا، وبذخائر كثيرة سارت بها 100 سفينة (استأجرها من الشركات الإنجليزية والنمساوية) تخفرها 63 سفينة حربية مصرية جعلها تحت إمرة إسماعيل أغا الجبل الأخضر، ووصلت إلى مودن
6
في 26 فبراير سنة 1825.
وفي يناير سنة 1826 أتبعها بنجدة مؤلفة من 10000 مقاتل شفعها بنجدة ثالثة من 92 سفينة منها 51 سفينة حربية، وبمجرد وصولها أصدر السلطان إرادة شاهانية بتعيين إبراهيم باشا قائدا عاما للأسطولين العثماني والمصري.
سار الجيش المصري تحت إمرة البطل إبراهيم باشا يعاونه سليمان بك (سليمان باشا الفرنساوي) وأحمد بك المانكلي، فأظهر من آيات البسالة والبطولة ما أدهش العالم، استولى على معظم المدن والثغور والقلاع التي عجز رشيد باشا قائد الجيش العثماني عن غزوها، ولولا تدخل الدول العظمى - إنجلترا وروسيا وفرنسا والنمسا - وتحطيمها الأسطولين المصري والعثماني في نافارين يوم 20 أكتوبر سنة 1827، لتم لإبراهيم إخضاع بلاد المورة كلها. وكان من نتائج تدخل الدول وهياج الرأي العام في أوروبا أن اضطر محمد علي إلى إرجاع البقية الباقية من جيشه ومن أسطوله إلى مصر بعد أن خسر 30000 رجل وخسر نفقات الحملة وقدرها 800000 جنيه، وقد اشترك محمد علي بنفسه في هذه الحرب، إذ ركب ذات يوم سفينة حربية طارد بها سفن الثوار الذين حدثتهم نفوسهم بضرب الإسكندرية، ووصل في هذه المطاردة إلى جزيرة رودس.
وفي أبريل سنة 1828 أعلنت الروسيا الحرب على الدولة العلية، فعاد السلطان واستنجد بمحمد علي للمرة السابعة وطلب منه إرسال أسطوله و28000 جندي.
عاد الوهابيون وشقوا عصا الطاعة، فاستنجد السلطان للمرة الثامنة بمحمد علي.
ولما ذاعت شهرة محمد علي وطبقت الآفاق، عرضت عليه فرنسا غزو بلاد الجزائر وضمها إلى ملكه، فاعتذر كي لا يثير غضب الباب العالي وإنجلترا عليه، فغزتها فرنسا في سنة 1830، وضمتها إلى ملكها.
في مقابل كل هذه التضحيات الكثيرة التي ضحاها محمد علي لمساعدة السلطان في جزيرة العرب وفي رودس وفي قبرص وفي كريت وفي بلاد المورة وفي السودان وفي روسيا، وما خسره من رجال، وما أنفقه من مال، كان السلطان وعد محمد علي بالتنازل له عن بعض الولايات تعويضا له عما خسر من مال ومن رجال، إلا أن السلطان وعد ولم يف.
وكان لمحمد علي في ذمة عبد الله باشا والي عكا دين مقداره 11000 كيس (55000 جنيه)،
7
وكان والي عكا هذا قد آوى من قبل ألف فلاح مصري
8
انتزحوا عن ديار مصر إلى ولاية عكا في خلال سنة 1831، تابعه محمد علي بالمال فرفض، طالبه بالرجال فرفض، هاج محمد علي فكتب إلى والي عكا مهددا بأنه سيرسل ابنه إبراهيم ليستخلص منه المال والرجال «وزيادة واحد» يريد بالواحد الزيادة عبد الله نفسه.
أجاب والي عكا: «أنا وزير السلطان مثلك، ليس لي أن أمنع رعايا السلطان من الهجرة من مصر إلى سوريا، كما ليس لي أن أمنع هجرة رعاياه من سوريا إلى مصر، إن أردت فاستصدر فرمانا من السلطان برد الفلاحين وأنا أردهم.» شكا محمد علي إلى السلطان، فأجابه السلطان: «إن الفلاحين المصريين هم عبيد بابنا العالي لا عبيد وزيري، لهم حرية الإقامة حيث شاءوا ...»
في 14 أكتوبر سنة 1831 تحرك الجيش المصري
9
وفي 2 نوفمبر سنة 1831 تحرك الأسطول المصري، وأراد الله أن يكتب للجيش المصري وللأسطول المصري الانتصارات الباهرة بسرعة مدهشة. أبلغ ما قرأناه وصفا لبسالة الجندي المصري في هذه المعارك ما كتبه كاد ألفين وبارو اللذان عاصرا محمد علي باشا الكبير. قالا:
Ce fut un spectacle éclatant et imprévu que cette armée d’Arabes, disciplinés à l’européenne, marchant, de victoire en victoire, du Caire à Saint-Jean-d’Acre et de Saint-Jean-d’Acre jusqu’aux approches de constantinople. En France surtout, la gloire nouvelle don’t rayonnait l’Egypte émut et fit vibrer en vives sympathies tous les souvenirs de la campagne Napoléonienne ... (Voir “Histoire de la guerre de Méhémed-Ali contre la Porte Ottomane, 1832-1833” par E. de Cadalvène et V. Barreault) .
وفي 8 نوفمبر سنة 1831 دخل المصريون ثغر يافا.
وفي 13 نوفمبر احتلوا حيفا، وفيها وفد إليهم زعماء قبائل عرب نابلس وطبرية والقدس، وقدموا الطاعة.
أراد السلطان إثارة الرأي العام ضد محمد علي فألف مجلسا كان مفتي الآستانة من أعضائه، أعلن في 23 أبريل سنة 1831 تمرد محمد علي وعزله
10
وتعيين حسين باشا
11
سردارا وواليا على مصر (بدل محمد علي)، إلا أن قرار التمرد والعزل لم يثن عزيمة محمد علي، فواصل القتال وواصله بعزم وبأس.
وفي 5 أبريل سنة 1832 دخل المصريون طرابلس،
12
وكانوا من قبل احتلوا صور وصيدا وبيروت، وكانت كلها داخلة في ولاية عبد الله.
13
وفي 14 أبريل سنة 1832 انتصر المصريون في سهل «الزراعة».
وفي 27 مايو سنة 1832 بعد حصار دام من 26 نوفمبر سنة 1831 إلى 27 مايو سنة 1832 سقطت عكا، وفيها أسر المصريون عبد الله والي عكا نفسه
14
بعد أن دافع عنها دفاع الأبطال، وبعد أن استشهد من جنوده 5600 من 6000، وقد أرسله إبراهيم باشا إلى مصر، حيث عين له محمد علي جزيرة الروضة مقاما، فأقام فيها ذليلا إلى يوم 22 ديسمبر سنة 1833، وهو يفكر في طمحات الدهر، ولسان حاله يقول: حقا إن الدولة ريح قلب والإمرة برق خلب. وقد كان مجموع القوات المصرية 24000 (خسرت مصر منهم 4000 بين قتيل وجريح و2000 مريض) غير جنود المدفعية، يعززها أسطول مصري مؤلف من 16 سفينة حربية عقد لواؤها لأمير البحر عثمان نور الدين باشا، وقد بلغ عدد القنابل التي ألقاها المصريون على عكا 50000 وعدد القذائف 203000، وقلعة عكا هذه هي التي عجز نابليون بونابرت عن فتحها في النصف الأول من سنة 1799 في عهد ولاية أحمد الجزار (بعد أن حاصرها من 25 مارس إلى 10 مايو سنة 1799).
15
ولما وصل خبر سقوط عكا إلى مصر، أمر محمد علي باشا بأن تقام الأفراح ثلاثة أيام كاملة، تطلق في خلالها مدافع القلاع والبنادر ثلاث مرات في كل يوم من الأيام الثلاثة، كما أمر بالعفو عن المسجونين والمنفيين وإطلاق سراحهم ليعم الفرح أهالي مصر قاطبة.
وفي 13 يونيو سنة 1832 دخل المصريون دمشق، وقد اتخذها محمد علي مركزا لحكومته، ولما أراد الباب العالي استطلاع نواياه أجاب بأنه يقبل ولايتي عكا ودمشق (علاوة على مصر وجدة وكريت التي كان متوليا عليها بالفعل في ذلك الوقت) في مقابل التضحيات الكبيرة التي ضحاها من رجال ومال في سبيل استرجاع الحرمين الشريفين وتأديب الوهابيين وإخضاع المورة وتسديد الجزية إلى السلطان طوال هذا الزمن المديد، وهدد بأخذها كرها إذا لم تعط له طوعا .
وفي 8 يوليو سنة 1832 انتصر المصريون في حمص، وهذه الواقعة مشهورة بهزيمة الباشوات الثمانية؛ لأن القوات التركية كانت تحت قيادة ثمانية باشوات، وهم: محمد باشا والي حلب وهو سر عسكر، وعثمان باشا حاكم المعادن، وعثمان باشا والي القيسارية، وعلي باشا والي دمشق السابق، ومحمد باشا الكريدلي، ونجيب باشا، ودولار باشا، ومحمد باشا، والجنود النظاميون الذي كانوا تحت قيادتهم 10471، وقد دامت هذه المعركة ثلاث ساعات ونصف ساعة استبسل المصريون فيها لدرجة أدهشت الترك، ومن آيات البسالة التي أبداها المصريون أن أحد الخيالة واسمه منصور أصابته ضربة بترت ذراعه، ومع ذلك استمر يقاتل على رأس الخيالة وهو يقاسي لهاث الموت إلى أن استشهد في أثناء المعمعة، وقد بلغت خسارة المصريين 102 قتيل و162 جريحا، أما العثمانيون فخسروا 3000 قتيل وجريح و3000 أسير و12 مدفعا، وبعد المعركة دخل المصريون مدينة حمص وفيها أسروا 1500 جندي وغنموا 14 مدفعا.
وفي 10 يوليو سنة 1832 استولوا على حماة.
وفي 14 يوليو سنة 1832 دخلوا حلب وأسروا حاميتها وجنودها وعددهم 1000.
وفي 30 يوليو سنة 1832 انتصروا في بيلان. دامت معركة بيلان ثلاث ساعات، وقد بلغ عدد قتلى الترك وجرحاهم 2500، وغنم المصريون 25 مدفعا وجميع ذخائر ومهمات جيش السلطان، وكان جيش السلطان تحت قيادة السردار أكرم حسين باشا نفسه، وبعد المعركة سار الفرسان المصريون تحت إمرة عباس باشا «حفيد محمد علي ووالي مصر بعد إبراهيم»، ودخلوا إسكندرونة، وفيها غنموا 14 مدفعا وذخائر ومؤنا وافرة، ثم دخلوا أنطاكية،
16
وقد اتخذها إبراهيم باشا مقرا له، بنى فيها قصرا فخما وبنى بجواره ثكنات تسع 5000 جندي. وبهذا تم لمحمد علي فتح سوريا من أولها إلى آخرها.
بعد ما انتصر الجيش المصري في واقعتي حمص وبيلان، توغل إبراهيم في الأناضول، واحتل طرسوس وأطنة، ثم احتل مضيق كولك بوغاز (وهو مضيق له أهمية حربية عظيمة)، وتابع زحفه فالتقى في جيفته خان بقوة كبيرة من الجيش العثماني تحت قيادة عليش باشا والي قونية وصادق باشا والي أطنة، وكانت القوة المصرية تحت قيادة سليم الحجازي بك وإبراهيم أغا (وهو فرنسانوي من مقاطعة الألزاس اسمه
Rochmann
أسلم، وتسمى باسم إبراهيم أغا)، هجمت القوة التركية، فتلقتها القوة المصرية بنار آكلة، وقاتلتها قتالا شديدا انتهى بانكسار العثمانيين وانتصار المصريين.
تابع المصريون زحفهم والتقوا مرة أخرى بالعثمانيين في «أولو قشلة» فقاتلوهم ومزقوهم، ثم زحفوا إلى أن وصلوا إلى «إريكلي» فاحتلوها.
كان لهذه الانتصارات المتوالية دوي عظيم في الشرق وفي الغرب، وكان وقعها أعظم وأكبر في الآستانة وفي جميع الولايات العثمانية - في آسيا وفي أوروبا وفي أفريقيا.
خاف السلطان على عرشه، فاستدعى رشيد محمد باشا الذي كان قائدا عاما لجيوش تركيا في حرب المورة، واشتهر بانتصاره في 6 مايو سنة 1827 على الجيش اليوناني في أكبر معركة دارت بين العثمانيين واليونانيين على مقربة من أثينا عاصمة اليونان، وكانت له مواقف حربية عظيمة أخرى في ألبانيا وفي روسيا وخوله سلطة تامة مطلقة لتعبئة جيش كبير يكون كامل المعدات والآلات والمهمات. ولكي يثير حميته أسند إليه رتبة الصدارة العظمى، وولاه على مصر وجدة وكريت وعلى جميع الولايات والبلاد التي انتزعها منه محمد علي وإبراهيم بالقوة، واستثار حميته أكثر بأن قال له: إن كل ما ملك محمد علي وإبراهيم من مال ومتاع يكون لك.
وفي 28 نوفمبر سنة 1832 احتل المصريون قونية.
17
وفي 21 ديسمبر سنة 1832 هزموا الجيش العثماني في سهول قونية.
قبل اشتباك الجيشين أرسل الصدر الأعظم رشيد باشا إلى إبراهيم باشا يطلب منه إخلاء جميع الولايات السلطانية التي احتلها بالقوة، ويهدده بالحرب إذا امتنع، ولما لم يذعن إبراهيم باشا ثارت عجاجة الحرب، وتقدم الجيش العثماني لمقاتلة الجيش المصري. بدأت المعركة في 18 ديسمبر سنة 1832 باشتباك قوة مصرية كان يقودها إبراهيم باشا نفسه بقوة تركية كانت مرابطة في بلدة سيلة غرب قونية (وعلى بعد ساعة ونصف منها)، فانتصر إبراهيم باشا على العثمانيين، وغنم منهم 5 مدافع وكمية كبيرة من الذخائر والمؤن، وأسر منهم 500 مقاتل، ثم زحف واستولى على خان حصين سلمت حاميته فورا، وكان من بين الأسرى سلحدار كريتلي أوغلو محمد (الذي شهد وقعة حمص). إزاء هذا النصر حضر إلى إبراهيم باشا 600 من الجنود الأرناءوط، وسلموا أنفسهم، وطلبوا التطوع في جيشه، وفي ثاني يوم 21 ديسمبر - وكان يوم جمعة - التقى الجيشان وجها لوجه. كان الجيش المصري تحت قيادة إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي وإبراهيم بك المناسترلي وأحمد بك مانكلي وأحمد بك إستامبولي، أما الجيش العثماني فكان تحت قيادة الصدر الأعظم نفسه يعاونه خير الدين باشا وسعد الله باشا، وقبل التحام الجيشين دعا الصدر الأعظم ضباطه، وحذرهم من التهاون، وهدد بإعدام من يهمل منهم في تأدية الواجب، ثم زاد فسمح لمن يأنس منه جبنا أو ضعفا أو تراخيا أن يقتله بحد السيف، ثم استدعى كاخيته وسلمه أختام الدولة التي سلمها إليه السلطان بصفته صدرا أعظم، وعين الجنرال أحمد فوزي باشا ليخلفه في قيادة الجيش إذا ما استشهد في أثناء الحرب.
التحم الجيشان في معركة دامية حامية، وبعد ساعتين وقع الصدر الأعظم أسيرا
18
في أيدي البدو الذين كانوا مع إبراهيم باشا، إلا أن المعركة استمرت بعد أسره خمس ساعات أخرى ونصف، وانتهت بانتصار المصريين وانكسار العثمانيين، وكان الجيش العثماني مؤلفا من 53000 جندي و93 مدفعا، والجيش المصري من 15000 جندي و36 مدفعا وقد بلغت خسارة العثمانيين 3000 قتيل و6000 أسير و46 مدفعا وكمية كبيرة من المؤن والذخائر والأعلام، وخسارة المصريين 262 قتيلا و530 جريحا. وبعد المعركة عاد إبراهيم باشا إلى قونية، فوصل إليها في الساعة الثامنة والنصف مساء، حيث كان سبقه إليها الصدر الأعظم، وبقي إبراهيم باشا برهة من الزمان يفكر في تصاريف الدهر، ويستعرض في ذهنه ما أتاه الله له من النصر في خلال سنة واحدة من سقوط عكا وأسر عبد الله واليها، إلى انتصاره في حمص، إلى انتصاره في حلب، إلى انتصاره في بيلان على السردار الأكرم، إلى انتصار في قونية على الصدر الأعظم وأخذه أسيرا، ولعله تذكر في هذه اللحظة الرهيبة أن قونية التي هزم المصريون فيها العثمانيين كانت مهد سلطنة آل عثمان الذين أذلوا المصريين ثلاثة قرون. فجاء المصريون من بلادهم وعلى بعد ألف كيلومتر وكسروا العثمانيين وأذلوهم وأخذوا بثأر آبائهم وأجدادهم.
وفي 2 فبراير سنة 1833 احتل الجيش المصري كوتاهية، وأصبح على بعد 50 فرسخا من الآستانة.
19
وفي 28 فبراير سنة 1833 دخل المصريون أزمير، وقد بلغ ذعر الأهالي والحكام من اسم إبراهيم، وفزعهم من اسم الجندي المصري، أن تقدم محمد أغا إلى حاكم أزمير، وطلب منه باسم إبراهيم باشا تسليم المدينة، فأذعن في الحال، وسلم المدينة، مع أنه لم يكن مع محمد أغا من الجند ربع مرباع الترك ولا عشر معشارهم، إذ كان معه أربعة جنود فقط، وصدق من قال:
La popularité vaut dix armées .
إبراهيم باشا.
يؤيد هذا ما كتبه قنصل إنجلترا في مصر إلى لورد بالمرستون كبير وزراء إنجلترا في رسالة مؤرخة 28 أكتوبر سنة 1835، إذ قال فيها إن اسم إبراهيم يفعل في نفوس الناس فعل السحر.
Le nom d’ibrahim semble talismanique. (Voir Sabry, p. 844)
نال الجيش المصري هذا النصر الباهر على الرغم من تفوق الجيش العثماني عددا وعددا؛ إذ إن عدد الجيش العثماني كان يزيد على عدد الجيش المصري ثلاث مرات، وعلى الرغم من أن العثمانيين كانوا يحاربون في داخل بلادهم والمصريين يحاربون على بعد ألف كيلومتر من بلادهم، غزوات بعد غزوات بين شاتية في صبارة الشتاء وصائفة في حمارة القيظ والبلاد فوق كل هذا كثيرة الأمطار والأوحال والضباب والثلج، ومع ذلك كان المصريون يندفعون كالسيل العرم فتطير من أمامهم جحافل العدو كأسراب النعام، فكان إبراهيم والجندي المصري خوف الشعوب وهول الأقوام.
بعد هذا النصر فكر إبراهيم باشا في خلع السلطان محمود ونقل الخلافة من إستانبول إلى مصر، ومال بعض رجال السياسة في أوروبا في وقت من الأوقات (ومنهم سفير إنجلترا في الآستانة وقيصر روسيا وبعض وزرائه) إلى العمل برأيه، وأشاروا بوجوب خلع السلطان محمود ومبايعة محمد علي سلطانا وخليفة، وتمنت ولايات عثمانية كثيرة لو أنها دخلت في طاعة محمد علي، ونعمت بحكمه.
راع السلطان دنو الجيش المصري من إستانبول، وألقت انتصارات المصريين في روعه قرب انهيار عرشه، ولا سيما بعد أن زادت السلطنة وهنا على وهن، فألقى بنفسه في أحضان الروس، وطلب من قيصر روسيا أن ينجده، فأرسل قيصر روسيا أسطوله و13000 جندي من جيشه. ألقى الأسطول مراسيه في البوسفور، ونزل الجنود الروس في بيوك دره وحنكار أسكله سي ،
20
وأمضى السلطان والإمبراطور نقولا قيصر روسيا في 26 يونيو سنة 1833 معاهدة سموها معاهدة «حنكار أسكه لي سي»، هي أشبه شيء بحماية روسيا على تركيا.
21
خافت إنجلترا وخافت فرنسا من عاقبة هذا الاحتلال الروسي، فوجهتا جهودهما إلى التوفيق بين السلطان ومحمد علي باشا وإقناع محمد علي بقبول ولاية عكا والقدس وطرابلس ونابلس علاوة على ولاية مصر وجدة وكريت، وهددتاه بمظاهرة كبيرة يشترك فيها الأسطولان الإنجليزي والفرنساوي أمام ثغر الإسكندرية إذا رفض، إلا أن محمد علي أصر على طلب سوريا كلها وولاية أطنة كلها
22
وجزء من بلاد العراق، وبعد مساومات وتهديدات ومفاوضات قبل السلطان في 4 مايو سنة 1833 إمضاء معاهدة كوتاهية التي بها قبل أن تكون ولاية مصر وراثية في ذرية محمد علي، وتنازل لمحمد علي عن ولاية سوريا كلها «دمشق وطرابلس وصيدا وحلب والقدس ونابلس»، وتنازل لإبراهيم عن ولاية أطنة وجدة، وعينه شيخ الحرم المكي، واسترد من محمد علي جزيرة قبرص، وأخذ عليه عهدا بعدم إعلان استقلال مصر عن الدولة العلية. وبمعاهدة كوتاهية هذه بسط محمد علي سلطانه على مصر والسودان وبلاد العرب وفلسطين وسورية وولاية أطنة،
23
فكانت إمبراطورية واسعة الأرجاء مساحتها تزيد على نصف أوروبا، وتزيد 15 مرة على مساحة فرنسا، إمبراطورية عظيمة تضارع إمبراطورية نابليون وإمبراطورية الفراعنة وإمبراطورية الرومان، تمتد من النيل إلى الفرات، ومن البحر الأحمر إلى البحر الأبيض، من فلوات اليمن إلى مشارف الشام، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، من كعبة المسلمين إلى مقدس النصارى إلى مبكى اليهود، إمبراطورية جمعت اليمني والحجازي والمصري والسوداني والعربي والسوري واللبناني والدرزي والتركي والرومي والأرمني تحت راية واحدة هي راية مصر الخالدة، وتحت صولجان واحد هو صولجان محمد علي الكبير، فجاء هذا النصر السياسي العظيم متمما ومكملا للنصر الحربي الكبير، وبلغ محمد علي في هذا اليوم ذروة المجد، سماه ساسة أوروبا «نابليون الشرق»، وسماه مترنيك
Metternich
كبير ساسة إمبراطورية النمسا والمجر
le vieux renard ، وسماه بعض الكتاب والمؤرخين
le Talleyrand de l’Orient ،
24
كما سموا إبراهيم باشا
Le Sabre vivant
و
Le François ier de l’Orient ، كما سموا مصر «أم الدنيا»، وتوالت التهاني على محمد علي وإبراهيم من جميع أنحاء المعمورة، حتى إن شاه العجم أرسل في خلال سنة 1835 أحد وزراء الدولة مرزا جعفر إلى مصر ليحيي باسمه محمد علي وإبراهيم، وزوده بكتاب كتبه بخط يده، يبدي فيه إعجابه بما أحرزاه من نصر ومجد.
وبعد إمضاء معاهدة كوتاهية أطلق محمد علي سراح عبد الله باشا والي عكا الذي كان أسيرا في جزيرة الروضة بمصر، فبارح مصر في 22 ديسمبر سنة 1833 على باخرة من البواخر العثمانية التي أسرها المصريون في خلال الحرب قاصدا الآستانة.
نفذت معاهدة كوتاهية وانسلخت سوريا من حكم العثمانيين ودخلت في حكم المصريين، إلا أن السلطان أمضى معاهدة كوتاهية على كراهة منه، وقبل التنازل لمحمد علي عن سوريا كرها عنه، وقبل التنازل لإبراهيم عن ولاية أطنة قهرا عنه. الرجل رجل ماكر حقود؛ تظاهر بالمسالمة، إلا أن حقيدته بقيت تتأجج في صدره، وحفيظته بقيت تلعب في عقله إلى أن أضمر على استعادة مصر وسوريا وطرد المصريين منها كلها، بدأ سرا بإثارة الفتن والقلاقل في البلاد التي احتلها محمد علي؛ ففي سنة 1834 ثارت فلسطين واستفحلت الثورة لدرجة حملت محمد علي على السفر حالا إليها على سفينة حربية مصرية اسمها «تمساح» يخفرها الأسطول المصري كله، فوصل إلى يافا ومنها قصد الرملة، وفي أثناء وجوده اجتمع بابنه الكبير إبراهيم وبكبار رجال الجيش المصري وساعدهم على إخماد الفتنة، وبعد أن خضع زعماء «الخليل» وهدأت الحالة نوعا عاد إلى مصر، وفي سنة 1836 ثار الدروز بزعامة شبلي العريان، وقاتلوا المصريين في الوديان وفي الجبال مدة سنتين، ولم يخضعوا إلا بعد أن شتت إبراهيم شملهم ومزقهم شر ممزق.
كان السلطان يراقب الحالة في سوريا وفي فلسطين من كثب، عرف أن محمد علي اضطر إلى حشد 50000 مقاتل لمحاربة الثوار في فلسطين وفي سوريا، وعرف أن المصريين خسروا ثلاثة أخماس جنودهم في المعارك التي اشتبكوا فيها مع الثوار مدة السنوات الأربع أو الخمس، فظن أن الفرصة قد سنحت لتمزيق معاهدة كوتاهية واسترداد مصر وفلسطين وسوريا وأطنة، وسنحت بالأكثر لمحو عار حمص وبيلان وقونية، ولكسر شوكة محمد علي وخلعه والانتقام منه.
لله در من قال: «إن سنة 1833 تمخضت فولدت سنة 1839.» أو بعبارة أخرى: إن حوادث سنة 1833 كانت حبالى بحوادث سنة 1839. وهذا هو الواقع؛ لأن محمد علي جرد السلطان من ولايات كثيرة أخذها لنفسه، فطمع في المزيد على حد المثل العربي: «إن الطعام يقوي شهوة النهم»، والسلطان فقد ولايات كثيرة فحنق وحقد وآلى على نفسه أن يستعيدها. دارت مفاوضات فيها طلب السلطان من محمد علي أن يرد له سوريا ويتخلى له السلطان عن بلاد الحجاز، على أن تكون ولايته عليها وراثية مثل ديار مصر، فلم يقبل محمد علي. دعاه السلطان إلى الآستانة ليتفاوض معه، أدرك محمد علي ما وراء الأكمة فاعتذر.
25
لجأ السلطان إلى ما يسمونه «سياسة اليشمك والفرجية»، فتودد إلى زهرا هانم
26
أرملة الأمير إسماعيل بن محمد علي (الذي مات في شندي حرقا)، وكانت قد حضرت إلى الآستانة لزيارة والدها عارف بك قاضي عسكر الأناضول، حاملة هدايا فاخرة من محمد علي باشا إلى السلطان، انتهز السلطان فرصة اعتزام زهرا هانم السفر من الآستانة إلى مصر على ظهر الباخرة «النيل»، فكلف أحمد فوزي باشا أمير البحر بأن يصعد إلى الباخرة ليحيى الأميرة باسمه، ويهدي إليها ساعة من الذهب الخالص ومعها سلسلة من البرلنتي، ويوزع على البحارة 500 جنيه، ثم استقل السلطان زورقه البخاري، وطاف حول الباخرة ثلاث مرات مودعا، فكان لهذه الحفاوة أثر كبير في نفس الأميرة وفي نفس محمد علي باشا، لكن كل هذه المناورات لم تجد؛ لأن التابع والمتبوع عندا واستعندا.
وفي سنة 1837 أمر السلطان بزيادة القوات العثمانية زيادة كبيرة، وعهد إلى حافظ باشا بحشدها في سيواس على مقربة من حدود سوريا.
وفي أواخر مايو سنة 1838 أظهر محمد علي لقناصل الدول اعتزامه على إعلان استقلال مصر،
27
وكان قد بلغ سن السبعين، وأراد توطيد دعائم الإمبراطورية المصرية ليتلقاها أولاده من بعده قوية منيعة الجانب.
28
عرف السلطان بنوايا محمد علي، فأمر في يناير سنة 1839 بسرعة تجييش الجيوش والاستعداد للقتال برا وبحرا، وجعل الجيش تحت إمرة محمد حافظ باشا سر عسكر، والأسطول تحت إمرة فوزي باشا أمير البحر.
كان طالع سنة 1839 طالع نحس:
لأنه في 26 يناير سنة 1839 شب حريق هائل في سراي رءوف باشا أحد وزراء الدولة، ومنها اندلع اللهب إلى الباب العالي، فالتهمه كله وتركه أثرا بعد عين، وقدرت الخسارة بمبلغ 600000 جنيه.
ومما زاد السلطان أسفا على أسف وقلقا على قلق أن النار التهمت صورة السلطان نفسه، ولم تبق منها شيئا ولم تذر.
وحدث أن سقط السلطان عن جواده وأصيب برضوض أقعدته عن الحركة فترة من الزمان.
وتوفيت ليدي إستر ستانهوب
Lady Esther Stanhope «حفيدة لورد شتام وابنة أخي وليم بيت
William Pitt
كبير وزراء إنجلترا» عن 64 عاما، وكانت اتخذت لبنان وطنا لها، وأقامت في قصر مشيد في أعالي الجبال أنفقت منه ثروتها الطائلة لإثارة الفتن والدسائس والاضطرابات ضد حكومة محمد علي، وكانت تسمي نفسها ملكة القدس وتدمر
Reine de Jérusalem et de Palmyre .
وأول عمل عدائي وقع من القوات العثمانية وقع في يوم مولد النبي فبدلا من إطلاق المدافع ابتهاجا واستبشارا بالسلام، جاء إطلاق المدافع إيذانا بالحرب والقتال، بين محمود ومحمد، بين حافظ وإبراهيم، بين جيشين تسعة أعشار الجند فيهما من المسلمين.
ولما أراد الأسطول التركي المعقود لواؤه لعثمان بك رياله السفر إلى البحر الأبيض المتوسط لمنازلة الأسطول المصري، قال العلماء والمنجمون للسلطان: إنه إذا سافر الأسطول في الدقيقة السابعة بعد الساعة التاسعة كتب الله له النصر. ولما تحرك الأسطول في الدقيقة السابعة بعد الساعة التاسعة - كما قال العلماء والمنجمون - اصطدمت سفينة من سفنه أمام قيزقوله سي (في البوسفور) بفرطاقة إيطالية اسمها جلوريا، فتعطلت وعطلت الأسطول.
أراد السلطان أن يضمن لجيشه النصر، فاختار أربعة من الضباط الألمان المشهود لهم بالدربة والخبرة العسكرية، وعينهم مستشارين لحافظ باشا، وهم فون مولباخ
Von Mulbach ، والبارون فون مولتكي
Von Moltke (الذي صار فيما بعد الماريشال فون مولتكي، وكان له مع بسمارك فضل الانتصار على نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في حرب السبعين)، ووينكي
Winke
وفيشر
Fisher ، وكان حافظ يقسم الأيمان المغلظة للسلطان محمود بأنه لا يعود إلى إستانبول إلا بعد سحق المصريين سحقا، وكان السلطان محمود قد خطر بباله أن يتولى هو قيادة الجيش، وأن ينشر بيرق النبي ويعلن الجهاد، ولكنهم أقنعوه بالعدول عن هذه الفكرة بدعوى أنه لا يليق بأمير المؤمنين وسلطان السلاطين أن ينازل تابعا من أتباعه.
أما الجيش المصري فكان تحت قيادة إبراهيم باشا يعاونه سليمان باشا الفرنساوي، وأحمد باشا المانكلي، وأحمد باشا الدرملي، وعباس باشا «ابن طوسون بن محمد علي باشا»، وسليم بك الحجازي، ومحمد معجون بك، وغيرهم وغيرهم من الأبطال، وكان سليمان باشا الفرنساوي يقول لإبراهيم باشا: «يا مولاي، الواقعة المقبلة ستكون معركة فاصلة، إما أن نذهب نحن إلى إستانبول، وإما أن يذهبوا هم إلى القاهرة.»
وفي شهر أبريل حرض محمد حافظ الكرد على غزو سهول «كليس» ونهب «بولانيك»، وكانت خيول المدفعية المصرية ترعى في سهولها، فسطوا عليها ونهبوا منها 1100 رأس.
وفي 24 مايو تقدمت القوات العثمانية واحتلت أورول ومزار و14 بلدة في المركز نفسه، وليضمن السلطان النصر زود حافظ باشا بأموال طائلة وبهدايا فاخرة؛ ليغري بها زعماء القبائل ورؤساء العائلات وذوي النفوذ والجاه على شق عصا الطاعة على إبراهيم باشا، وخصص جوائز مالية كبيرة لكل من يأتي له بثلاثة من الفرسان الهنادي أسرى أو قتلى، وهدد بإعدام كل شخص (رجلا أو امرأة أو طفلا) يمالئ المصريين على العثمانيين.
وحدث أن وقع فرجاني شيخ عرب الهنادي مع سبعين من رجاله أسرى في أيدي العثمانيين في تل باشر، فاستدعاه حافظ باشا وسأله رأيه في الجيشين وفيمن تكون له الغلبة، فأجابه فرجاني (بعد أن أمنه حافظ باشا على حياته إذا أجاب بكل صراحة): إن جيشك جيش حجاج وتجار وعلماء ومشايخ، لا دربة لهم ولا حنكة ولا نظام، أما جيش إبراهيم فجيش جنود مدربين مزودين بالذخائر ومدججين بالأسلحة لا يعرفون غير الطاعة والنظام. بر حافظ باشا بوعده واحتفظ بفرجاني وحده أسيرا، وأرسل رفاقه الهنادي السبعين إلى إستانبول، والسلطان أمر بضرب أعناقهم جميعا. أما فرجاني فتمكن في ليل حالك من الهرب من معسكر حافظ باشا، وعاد إلى معسكر إبراهيم باشا.
استمرت المناوشات إلى آخر الأسبوع الأول من شهر يونيو سنة 1839.
بدأ الأسبوع الثاني من شهر يونيو سنة 1839 بثلاث حوادث مهمة:
في 7 يونيو عقد السلطان في إستانبول مجلسا ضم الوزراء والعلماء والكبراء ، وفيه قرروا بالإجماع اعتبار محمد علي متمردا على السلطان، وواجب السلطنة يقضي بتأديبه وإبادته هو وذريته.
29
لم يشهروا الحرب عليه بناء على أنه تابع للسلطان، وغاية ما في الأمر أنه تابع خرج على طاعة سيده ومولاه.
وفي 8 يونيو أرسل إبراهيم باشا إلى حافظ باشا كتابا - ندب قومندان المدفعية محمود حاذق بك لتسليمه له - ذكر له فيه عدوان سليمان باشا والي مرعش على القوة المصرية المرابطة في بولانيك. وذهاب قوة من الكرد إلى باياس لإثارة الأهالي على المصريين، وذهاب الحاج عمر أوغلو إلى كردطاغ لبث الفتن والاضطرابات، وهجوم العثمانيين على الهنادي داخل الأراضي التابعة لحكومة محمد علي، وتوزيع الأسلحة على أهالي ولاية عينتاب، ودخول سليمان باشا والي مرعش فيها ورفضه الخروج منها، وإقدام حافظ باشا على إطلاق مدافعه على الهنادي الآمنين في مرابطهم، وطلب منه ردا وافيا لتبرير هذه الاعتداءات، وأفهمه أن سكوته على هذه الاعتداءات ليس عن جبن أو ضعف، وإنما عملا برغبة مولاه السلطان ورغبة الدول في اجتناب الحرب، أما إذا كان حافظ باشا عمل ما عمل تنفيذا لأوامر صدرت إليه فليتقدم إلى ميدان القتال بلا مواربة ولا رياء؛ لأن أمامه رجالا ذوي بأس ومران أثبت ماضيهم أنهم لا يهابون أحدا.
وفي 9 يونيو ورد رد حافظ باشا وفيه يتهم الفرسان الهنادي برياسة معجون بك بنهب عدة بلاد من ولاية أورفا، وبقتل أحد الجنود العثمانيين ظلما وعدوانا، وأن ما فعله العثمانيون كان ردا على ما فعله المصريون وأخذا بالثأر.
بدأ القتال فاستولى العثمانيون على عينتاب، استولوا عليها لا على أثر معركة انتصروا فيها بل على أثر إغراء وإغواء الحامية التي سلمت بلا نزال ولا قتال.
لم ير المصريون بدا من مقابلة العدوان بمثله، فتقدموا في يوم 20 يونيو، وطردوا العثمانيين من بلدة مزار بعد أن ضربوا القوة العثمانية بالمدافع المصرية ضربا محكما ولى العثمانيون بعده الأدبار وغنم المصريون ذخائر ومؤنا ومهمات كثيرة جدا ، ووقعت خزانة القائد في أيديهم، وكان بين الترك أربعة وزراء.
وفي اليوم التالي 21 يونيو خرج إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي لاستطلاع مواقع العدو بقوة مؤلفة من 15000 من البدو وأربعة آلايات من الفرسان وعدة بطاريات مدفعية. أدرك حافظ باشا والضابط الفرنساوي
le capitaine Petit
الذي كان من ضمن هيئة أركان حربه أن ساعة الهجوم قد دقت، وكل دقيقة تمر تضعف من قوة جيشه، وتزيد في قوة جيش خصمه، إلا أن «العلماء» الذين كانوا معه عارضوا معارضة شديدة في بدء القتال بدعوى أن هذا اليوم هو يوم جمعة جعله الله للصلاة لا للقتال، وأن يومي الجمعة والأربعاء كتبهما الله لإبراهيم باشا يفوز فيهما على خصومه، أما باقي الأيام فكتبها الله للعثمانيين ينتصرون فيها على أعدائهم، فعمل حافظ باشا برأي العلماء ولم يهاجم.
رأى إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي أن العثمانيين قد حصنوا مواقعهم تحصينا محكما يدل على أن العقول التي تولت هذا التحصين ليست عقولا عثمانية بل عقولا ألمانية، فقر رأيهما على استدراج الترك إلى السهول، ولكن استدراج الترك من المواقع الحصينة التي هم فيها يقتضي عمل حركة التفاف في غاية الخطر، إذا أدرك العثمانيون خطرها هلك الجيش المصري على بكرة أبيه، وإذا لم يدركوه فالنصر مكفول للمصريين حتما، جرت حركة الالتفاف بالليل كي لا يشعر بها العثمانيون ولا يدركوا مغزاها.
وفي يوم 22 يونيو عبروا كوبري نهر مزار، ولما أتموا حركة الالتفاف أشار الضباط الألمان على العثمانيين بالتقهقر إلى بلدة «بير» تفاديا من وقوعهم في الشرك، إلا أنهم وجدوا معارضة من حافظ باشا الذي أجابهم: «ماذا يقول التاريخ عني إذا تقهقرت؟» وما درى أن التقهقر قد يكون من الخطط الحربية السليمة، وانحاز العلماء إلى رأيه، وقالوا: «إن العثمانيين لا يولون الأدبار أبدا. يشهد التاريخ بأنهم يتقدمون دائما ولا يتقهقرون. النصر بيد الله يؤتيه من يشاء.» استشاط الضباط الألمان غضبا وقدموا استقالتهم، إلا أن حافظ باشا رفض الاستقالة، وأفهمهم بأن الجندي لا يفر من ميدان القتال ليلة الطعان والنزال.
قضى العثمانيون يوم 23 يونيو في تحصين مواقعهم الجديدة.
وفي غروب هذا اليوم دعا إبراهيم باشا ضباط الجيش المصري وقام في وسطهم خطيبا ذاكرا ما ناله الجيش المصري من الشهرة في أنحاء العالم بفتوحاته وغزواته وانتصاراته العديدة، ثم لفت أنظارهم إلى أن يوم الغد - 24 يونيو سنة 1839 - هو يوم فصل الخطاب، إما النصر والمجد والفخار أو الموت والعار والشنار. وبعدما بارح الضباط خيمة إبراهيم باشا دعاهم سليمان باشا الفرنساوي إلى خيمته، وبعد أن زودهم بالتعليمات الواجب مراعاتها قال لهم: «إلى اللقاء في الغد الساعة الثالثة بعد الظهر في خيمة حافظ باشا، أدعوكم من الآن لنتناول فيها القهوة معا.»
وبين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ليلا فكر حافظ باشا في مباغتة الجيش المصري، وأخذه على غرة، فسار في الليل، واستطلع مواقع الجيش المصري، ثم أمر بإطلاق المدافع في الحال، وكانت المدافع تصوب قنابلها على خيمة إبراهيم باشا وخيمة سليمان باشا الفرنساوي اللتين كان ضباط أركان حرب حافظ باشا استكشفوا موقعهما في عصاري ذلك اليوم.
استيقظ المصريون فجأة فاختل نظامهم، وتمكنت بعض الكتائب - التي جندها إبراهيم باشا من السوريين - من الهروب، وكان من فكر حافظ باشا أن يستمر في القتال، إلا أن العلماء عارضوه؛ بدعوى أنه لا يليق بجنود أمير المؤمنين أن يتشبهوا باللصوص، ويقاتلوا في ظلمات الليل. وسرعان ما انتهزت المدفعية المصرية الفرصة السانحة، وصبت نارا حامية على بطاريات العثمانيين فأسكتتها وحطمتها.
الجيش العثماني كان مؤلفا من 38000 مقاتل، منهم 5000 من الفرسان و3000 من رجال المدفعية مزودين بمائة وأربعين مدفعا، والجيش المصري كان مؤلفا من 40000 بما فيهم 2000 من الهنادي، وكان مزودا بمائة وعشرين مدفعا. تكافؤ في القوة العددية والعددية، إلا أن الجيش المصري كان يمتاز بالقوة المعنوية، وهي أقوى من القوى العددية ومن القوى العددية؛ لأن الجنود المصريين مارسوا مهنة الحرب والقتال في عكا وفي حمص وفي بيلان وفي قونية، وانتصاراتهم المتوالية دبت في نفوسهم الإيمان بالنصر، والثقة بقائدهم الأكبر إبراهيم باشا، وبرئيس أركان حربه سليمان باشا الفرنساوي، وبأحمد باشا المانكلي وزير الجهادية، وأحمد باشا الدرملي وسليم بك ووالي بك ومصطفى بك وأحمد بك وعلي بك وجعفر بك. وكانوا فوق هذا وذاك متجانسين تجمعهم رابطة الوحدة المصرية. أما العثمانيون فكانوا أخلاطا من الترك والكرد والأرمن واليهود والصرب والبلغار والأروام، وكان قوادهم متحاسدين متباغضين متخاذلين، كل يسعى إلى الإيقاع بالآخر، وليست لهم ثقة برئيسهم الأعلى حافظ باشا.
وفي مبرق الصبح من يوم 24 يونيو تحرك الجيش المصري، وامتطى إبراهيم باشا جواده المشهور «درزي»، وهو من صفوة جياد نجد، يعدو المائة كليومتر بدون توقف،
30
وفي أثناء سير القوات المصرية رأى سليمان باشا رابية أهمل حافظ باشا الاستيلاء عليها مع أهميتها الحربية، فأسرع وأمر بطارية من المدافع الضخمة بالاستيلاء عليها. أدرك حافظ باشا خطأه الجسيم في ترك سليمان باشا يحتل هذه الرابية المهمة، فأمر المدفعية التركية بأن تصوب قنابلها على البطارية المصرية التي نصبت في هذه الرابية، وكان هذا إيذانا ببدء القتال.
تقدم إبراهيم بقلب جريء نحو خطوط العثمانيين الأمامية، فقابلته بنار حامية شتتت ألايا من ألاياته، وكاد الفزع يستولى على جنود الجيش المصري لولا الشجاعة التي أبداها إبراهيم باشا، إذ أشهر سيفه البتار، وصال على الهاربين، وأعمل فيهم سيفه، كما صوب سليمان باشا الفرنساوي مدافعه عليهم، فعادوا إلى خطوط القتال. وما هي إلا فترة قصيرة من الزمان إلا وهبوا كلهم كالأسود على الجيش العثماني، وأعملوا فيه السيف والنار، وما زالوا به حتى ضعضعوا ست أورط من الكرد وقوة كبيرة من الباشبوزق كانت تحت إمرة محمود باشا، فولوا الأدبار، وسبقهم التركمان وفروا هاربين، كما سبقهم لواء خالد باشا الذي قتل في أثناء المعركة، فولى جنوده الأدبار. وكذا جنود إبراهيم بك - أحد قواد العثمانيين - ألقوا سلاحهم بعد أن خر قائدهم صريعا في حومة الوغى. ولما رأى الخيالة العثمانيون ما حل بالمشاة هربوا هم أيضا. وفي أقل من ساعتين انكسر الجيش العثماني وانتصر الجيش المصري، ووقع معسكر حافظ باشا كله في أيدي إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي، وغنم المصريون كل ما كان في المعسكر من خيام وأثاث ومهمات وأوراق ونقود، حتى خيمة حافظ باشا،
31
بما فيها من نياشين ووثائق وخرائط وخزانة فيها 45000 كيس (عبارة عن 240000 جنيه) وجدت كما وضعت وكما تركت قبل القتال. ووقعت خيمة البارون مولتكي الألماني في أيدي المصريين بجميع ما فيها من خرط ووثائق وأسلحة وملابس، كما غنم المصريون 20000 بندقية و179 مدفعا بذخائرها، وأسروا 15000 منهم سبعة باشوات أولهم سليمان باشا والي مرعش، وقتل من جانب العثمانيين 4500 جندي وثلاثة باشوات وكثير من كبار الضباط. ويقول البارون مولتكي في الكتاب الذي وضعه «رسائل عن الشرق»: إن الجيش العثماني خسر في تقهقره خمسة أسداس عدده كما خسر جميع مدفعيته. ومن كبار ضباط الجيش المصري استشهد الكولونل إبراهيم بك من ضباط المشاة.
32
وقد طير إبراهيم باشا نبأ هذا النصر العظيم إلى جميع الحكام، وها نص ما كتبه إلى والي حلب: «أخبركم بأني هجمت على الجيش العثماني في «نزيب»، وفي أقل من ساعتين استوليت على مدفعيته وعلى ذخائره وعلى مؤنه، وقد خضع الجيش كله، وأنا سأتابع سيري ولا أقف إلا عند قونية، أما أنتم فأقيموا الأفراح، وبلغوا هذا النبأ السار إلى جميع الجهات.»
وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم 4 يوليو، ورد لمحمد علي باشا تلغراف من حفيده عباس باشا يبلغه انتصار إبراهيم باشا بالنص الآتي: «بعد ساعتين قتال مع جيش السلطان استولى إبراهيم باشا على جميع مدافع وخيم ومهمات الجيش العثماني.»
وفي مساء اليوم نفسه وردت خطابات ابنه إبراهيم باشا مفصلة الانتصار العظيم الذي أحرز الجيش المصري، فتلاها محمد علي على قناصل الدول الذين كانوا ماثلين أمامه، وقال لهم: «ها هو الجيش الذي أعده السلطان لطردي من مصر.» وها نص الخطاب الذي أرسله إبراهيم باشا إلى علي برهان بك كاخيته وخازنداره في مصر، وفيه يبشره بالنصر العظيم الذي أحرزه: «أبشرك بأننا استولينا على معسكر جيش السلطان، بعد ساعتين قتال حطمنا الجيش كله، واستولينا على مدافعه وبنادقه وخيمه، ووقعت جميع مهماته في أيدينا، وقد مزقناه شر ممزق، وكان لمدفعيتنا فضل كبير في إحراز هذا النصر، وإني أشعر بعد هذا النصر بأني قد عدت شابا في سن الخامسة عشرة، وقد كتبت إليك هذه الكلمات وأنا في خيمة حافظ باشا سر عسكر الجيش العثماني، وقد وجدتها كما تركها حافظ باشا تماما .» وقد أمر محمد علي باشا بإقامة الأفراح احتفالا بهذا النصر العظيم مدة ثلاثة أيام كاملة، فيها أطلقت جميع القلاع وجميع سفن الأسطول مدافعها ابتهاجا بهذا الحادث العظيم.
من ضمن الوثائق المهمة التي وجدت في خيمة حافظ باشا ووقعت في قبضة إبراهيم باشا؛ الوثيقة التي تتضمن التعليمات والخطط التي وضعها السلطان لحافظ باشا. وخلاصتها: أن محمد علي ينوي إعلان استقلاله في صيف عام سنة 1839، فأوجب السلطان على حافظ باشا السرعة في القضاء على جيش إبراهيم. حدد السلطان أربعة أو خمسة شهور لطرد المصريين من الأناضول ومن سوريا والاستيلاء على قلعة عكا، وحدد أحد عشر شهرا أو سنة على الأكثر لإتمام الاستيلاء على سوريا ومصر معا، وحدد الجيش العثماني بعدد يتراوح بين 60000 و70000، منهم 40000 مشاة و15000 فارس و5000 من رجال المدفعية وأركان حرب و10000 من الجنود غير النظاميين مزودين بمائة وعشرين مدفعا. وقيل في هذه الوثيقة إن المعلومات التي لدى حكومة السلطان تدل على أن سليمان باشا الفرنساوي غير راض عن وجوده في الجيش المصري، وبما أنه فرنساوي فيحسن استمالته وضمه إلينا، وللوصول إلى استمالته يحسن ندب أحد الضباط الفرنساويين الموجودين في الجيش العثماني ليسهل التفاهم معه.
33
وفي الوثيقة أيضا أن محمد علي باشا يميز دائما المسيحيين على المسلمين، لا يرقي المصري المسلم إلا لدرجة يوزباشي، أما النصراني فيرقيه إلى درجة قائمقام وأميرالاي ولواء. فمن ترك محمد علي وانضم إلينا مع 30 عسكريا فامنحوه رتبة يوزباشي، وإذا انضم إلينا قومندان مع أورطته فيمنح رتبة قائمقام، ومن يبث الفتنة والعصيان في جيش إبراهيم يمنح رتبة أعلى. وللوصول إلى هذه الغاية استعينوا بالجواسيس لتبليغ هذه الوعود إلى المصريين، ولاستمالة الدروز الذين انضموا إلى جيش محمد علي جعل السلطان تحت تصرف حافظ باشا 8000 كيس (40000 جنيه) لإغرائهم. وفيها أيضا أن في جيش إبراهيم أوروباويين كثيرين، فيحسن إغراؤهم بالمال ليفشوا أسرار خطط إبراهيم باشا وسليمان باشا الحربية.
34
ويريد الله أن يموت السلطان محمود في سراي جامليجه بإستانبول في صباح يوم الإثنين أول يوليو
35
سنة 1839 (19 ربيع الآخر سنة 1225) قبل أن يبلغه نبأ انكسار جيشه في نزيب، مات وهو في سن الرابعة والخمسين من عمره، وفي السنة الأولى بعد الثلاثين من حكمه.
مات السلطان محمود فتولى السلطنة من بعده ابنه السلطان عبد المجيد، وكان عمره 17 سنة (ولد في إستانبول يوم 19 أبريل سنة 1822 الموافق 11 شعبان سنة 1238، وهو ابن السلطان محمود الحادي والعشرون!)
أول عمل عمله السلطان الجديد كان إصداره أمرا بتعيين خسرو باشا صدرا أعظم، وخسرو هذا هو ألد أعداء محمد علي، هو الذي كان واليا على مصر وطرده محمد علي، ولما فر إلى دمياط اقتفى محمد علي أثره وهزمه وأسره في سنة 1803، وحل محله في الولاية على مصر. إذن كان بين خسرو باشا ومحمد علي باشا ثأر منيم، فأول عمل عمله خسرو ليثأر من عدوه كان استصدار فرمان من السلطان الشاب بخلع محمد علي وتعيين عزت باشا السر عسكر واليا على مصر. ولكن هذا الفرمان بقي حبرا على ورق.
السلطان محمود الثاني.
اختيار خسرو للصدارة العظمى جر على السلطنة كارثة لم يرو التاريخ من قبل كارثة مثلها؛
36
ذلك أنه بمجرد ما علم أحمد فوزي باشا أميرال الأسطول العثماني في 2 يوليو بوفاة السلطان محمود ومبايعة السلطان عبد المجيد وإسناد الصدارة إلى عدوه الألد خسرو باشا، حدثته نفسه أن يقلع بالأسطول العثماني إلى مصر ويسلمه إلى محمد علي. قال في نفسه: «إن عدت إلى الآستانة فمصيري معروف. سيجد خسرو ألف وسيلة ووسيلة للوشاية والوقيعة بي لدى السلطان، وعاقبة الوقعية والوشاية في الدولة العلية معروفة هي الموت، فأولى بي أن أرتمي في أحضان محمد علي وأسلمه الأسطول.»
وبالفعل أقلع أحمد فوزي باشا بالأسطول العثماني من الدردنيل في يوم 4 يوليو، ووصل إلى الإسكندرية في يوم 13 يوليو سنة 1839، وفي يوم 14 انضم الأسطول التركي - وكان مؤلفا من 22 قطعة - إلى الأسطول المصري - وكان مؤلفا من 28 قطعة - فكونا أسطولا ضخما من 50 سفينة حربية عليها 30000 بحار وجندي و3000 مدفع ، فكان المنظر من أروع المناظر التي رأتها مصر.
37
غادر فوزي باشا الأسطول - بعد أن انتقل من السفينة محمودية إلى السفينة فوزية - فاستقبله الضباط المصريون استقبالا فخما. ولما علم محمد علي بحضوره تقدم بنفسه إلى مدخل ردهة الاستقبال، وبمجرد ما رآه فوزي باشا انتزع سيفه، وسلمه إلى أحد الضباط المصريين، ثم صعد الدرج بسرعة وخر ساجدا أمام محمد علي وأراد تقبيل قدميه، إلا أن محمد علي رفعه وقال له: عفوا يا أخي. ثم عانقه ورحب به وأجلسه بجانبه، ثم قدم إليه الشبوق والقهوة، ولبث معه في خلوة نصف ساعة، بعدها استأذن فوزي باشا في الانصراف، فوضع محمد علي جواده الخاص تحت تصرفه. وفي يوم 16 يوليو استقبل محمد علي فوزي باشا وسبعين من كبار ضباط الأسطول العثماني، أرادوا انتزاع سيوفهم قبل دخولهم على محمد علي، فمنعهم محمد علي زيادة في التلطف، ولما مثلوا أمامه خطب فيهم قائلا: «يا أولادي، نحن كلنا أبناء أمة واحدة، لا يقول المصري: أنا مصري. والتركي: أنا تركي. تجمعنا كلنا جامعة واحدة هي جامعة الدين، وتربطنا كلنا رابطة واحدة هي رابطة الولاء لمولانا السلطان. إن عظمة السلطنة وقوتها يتوقفان على جمع كلمة أبنائها. حال السلطنة الآن غير مرض، فيجب علينا أن نوحد جهودنا لرفع شأن الدولة. ومن أعظم أماني أن أعمل على رفع شأن العرش وسعادة الأمة، وإني مخلص الإخلاص كله لمولانا السلطان قلبا وقالبا. إن السلطان جوهرة لا عيب فيها، لا يدنسها إلا المقربون من العرش، وأقصد بالمقربين من العرش خسرو باشا، الذي كان دائما شؤما على الدولة، إذا بقي متوليا شئون السلطنة كان مصيرها الخراب؛ فالواجب علينا جميعا أن نعمل يدا واحدة؛ لنحول دون تمكينه من الإضرار بالدولة.»
وقد بقي الأسطول العثماني رابضا في ثغر الإسكندرية مع الأسطول المصري إلى أن تم الصلح بين السلطان ومحمد علي. فأقلع في يوم 23 يناير سنة 1841 بقيادة ياور باشا، ووصل إلى إستانبول يوم 16 مارس بعد أن بقي في حوزة محمد علي سنة ونصفا.
ولتدرك أهمية موقعة نزيب من الناحية الحربية ومن الناحيتين السياسية والأدبية، حسبك أن تعرف رأي الجنرال فيجان
Weygand (الذي كان رئيس هيئة أركان حرب الماريشال فوش القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب الكبرى ) قال في كتابه:
A en juger par les résultats, la journée de Nézib apparalt comme la plus glorieuse des victoires remportées par les armées égyptiennes; certains auteurs l’ont comparée à Austerlitz. (Voir “Histoire militaire de Mohamed Ali et de ses fils”, p. 115, t. II)
ورأيه هذا يطابق آراء جميع رجال الحرب.
أما الناحيتان السياسية والأدبية فتدل عليهما الاستقبالات الفخمة والحفاوة العظيمة، التي استقبل بها سلطان تركيا وملوك أوروبا وكبار رجال السياسة فيها محمد علي باشا وإبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي، عندما سافروا إلى تركيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، وغيرها من البلاد في خلال سني 1845 و1846 و1847 و1848.
في أغسطس سنة 1846 سافر محمد علي باشا إلى إستانبول، فاستقبله السلطان استقبالا فخما جدا. حسبك أن تعرف أن نفقات رحلة محمد علي باشا في إستانبول بلغت 250000جنيه، أصاب الصدر الأعظم خسرو باشا منها 5000 جنيه، وقبل أن يعود إلى مصر عرج على «قولة» مسقط رأسه حيث زار قبر والديه، واستقبل أهله وإخوانه، وفيها أنشأ مدرسة وتكية.
ولما مرض محمد علي باشا، وأصبح عاجزا عن تولي سلطة الحكم في مصر، أصدر السلطان فرمانا بتولية ابنه إبراهيم باشا على مصر، وأرسل الفرمان إلى مصر مع مظلوم بك أحد رجال المابين، وبعد أن حضر مظلوم بك، وتلا الفرمان أمام أعضاء العائلة وأمام كبراء وعظماء الدولة، سافر معه إبراهيم باشا إلى إستانبول، فوصل إليها في 24 أغسطس سنة 1848، فاستقبله السلطان استقبالا فخما، وأنزله في السراي السلطانية في الجناح الذي نزل فيه والده من قبل. ولما مثل أمام السلطان سلمه البراءة، وقلده نيشانا رفيع الشأن مثل النيشان الذي ينعم به عادة على الصدور العظام، وأهدى إليه صورته مرصعة بالأحجار الكريمة، وبعد أن تمت الزيارة عاد إبراهيم باشا إلى مصر على ظهر الباخرة المصرية «بني سويف»، فوصل إلى ثغر الإسكندرية يوم 9 سبتمبر سنة 1848.
وفي 11 فبراير سنة 1848 سافر محمد علي باشا إلى أوروبا مع طبيبه الخاص كلوت بك المشهور، فوصل إلى مالطة، وفيها استقبلته الحكومة الإنجليزية استقبال الملوك، ومنها سافر محمد علي باشا إلى نابولي في إيطاليا؛ ليزور ابنه المريض إبراهيم باشا، وفي نابولي بلغه نبأ الثورة التي شبت في فرنسا، وانتهت بخلع صديقه لويس فيليب ملك فرنسا، فغضب محمد علي باشا غضبا شديدا، وهاجت أعصابه هيجانا كبيرا، وعرض أن يسافر بجيشه وبأسطوله ليعيد ملك فرنسا إلى عرشه ، وفي 27 مارس سنة 1848 أبحر إلى مصر حيث لحق به إبراهيم باشا بعد بضعة أيام.
وإبراهيم باشا سافر إلى أوروبا مرتين:
مرة في أواخر أغسطس سنة 1845، وكانت حاشيته مؤلفة من 50 شخصا، منهم سليمان باشا الفرنساوي وسامي باشا وإسكندر بك «ابن سليمان باشا الفرنساوي» ونوبار بك سكرتيره وترجمانه، فقصد مدينة فرنية الحمامات
Vernet les Bains
في جبال البرانس الشرقية
Les pyrénées Orientales
ليستشفي بمياهها الكبريتية، وفيها استقبلته البلدية استقبالا فخما جدا، وأقامت له قوسي نصر كتبت على إحداهما بحروف من نور:
إلى بطل قونية ونزيب.
وكتبت على الثانية:
إلى ابن محمد علي الأمجد.
إلى رافع لواء المدنية في الشرق.
إلى صديق الفرنساويين.
إلى البطل المصري.
وبعد انتهاء المعالجة سافر إلى مدينة بوردو، ومنها إلى مدينة تور، ومنها إلى باريس، فوصل إليها في يوم 25 أبريل سنة 1846، وفي باريس استقبله ملك فرنسا استقبال الملوك، وأسكنه في قصر الإليزيه في الجناح الذي سكنه من قبل نابليون الكبير، ونام إبراهيم باشا في ذات السرير الذي نام فيه نابليون. وفي مدة إقامته في باريس أقيمت له مآدب رسمية كثيرة جدا، وحضر تمثيل رواية في الأوبرا، كما حضر استعراضا عسكريا من 30000 عسكري، شهده 8 أمراء و6 أميرات تحيط بهم هيئة عسكرية من 60 جنرالا مع طائفة من كبار القواد. روى أحد الذين شهدوا هذا الاستعراض أنه سمع من إبراهيم باشا يقول: «إن يوم 25 مايو هو عندي أجمل يوم من أجمل شهر من أجمل فصل من سنة 1846.» وقال فيه كاتب فرنساوي وما أبلغ ما قال:
L’Occident n’a pas vu de soldat plus intrépide, plus généreux et plus né pour la victoire. Ouvrez lui le monde, il ira Jusqu'au bout .
ومعناها: «لم تر أوروبا جنديا أشجع منه، ولا أكرم منه، خلق للنصر والنصر خلق له، إذا فتحت أمامه بلاد الدنيا غزاها من أولها إلى آخرها.» ثم زار قبر نابليون في الإنفاليد، وقد استقبله في مدخل الإنفاليد 2000 جندي من الجنود الذين شهدوا حروب نابليون في إيطاليا وفي إسبانيا وفي ألمانيا وفي النمسا وفي الروسيا ، وكان معه سليمان باشا الفرنساوي، فلما وقع نظر سليمان باشا على قبر نابليون سيده ومولاه أجهش بالبكاء وكاد يغمى عليه، ولزيادة الحفاوة بإبراهيم باشا ضربت الحكومة الفرنساوية «مدالية» نقشت عليها صورة محمد علي باشا، وكتبت عليها: «محمد علي محيي مصر»، ولما بارح إبراهيم باشا باريس سلم محافظ المدينة 500 جنيه ليوزعها على الفقراء.
وفي أثناء وجوده في فرنسا دعته الملكة فكتوريا إلى زيارة إنجلترا، فزار إنجلترا وأيرلندا وإسكتلندا، وزار بوجه خاص مدينة لندن ومدينة برمنجهام ومدينة مانشستر، وكان معه في هذه الرحلة سكرتيره الخاص وترجمانه نوبار الذي يجيد اللغة الإنجليزية واللغة الفرنساوية واللغة الإيطالية واللغة الألمانية واللغة التركية، وكان خير معوان له في رحلته هذه. وفي لندن أقيمت له مآدب رسمية كثيرة: منها مأدبة عشاء أقامتها له الملكة فكتوريا، دعت إليها الأمراء والوزراء والكبراء، فاجتمع إبراهيم بالبرنس ألبير «زوج الملكة فكتوريا»، وبالبرنس جورج أوف كامبردج، وبالدوق ولنجتون «الذي قهر نابليون في واقعة واترلو»، كما اجتمع باللورد بيل واللورد أبردين ومستر جلادستون. ومن سخرية القدر أنه اجتمع في المآدب الرسمية التي أقيمت له بالأميرال كود رنجتون الذي حطم الأسطولين المصري والعثماني في نافارين عندما كان إبراهيم باشا متوليا قيادة القوات العثمانية والقوات المصرية والأسطولين العثماني والمصري في بلاد اليونان. كما اجتمع بالسر نابير
Sir Napier
قائد الأسطول الإنجليزي الذي هدد محمد علي باشا بضرب الإسكندرية، وضرب بيروت بالفعل، وضرب مواني فلسطين وسوريا ولبنان لإكراه المصريين على التخلي عن لبنان وسوريا وفلسطين، كما اجتمع باللورد بالمرستون الذي حرض تركيا على مناوأة مصر، وكان من ألد أعداء محمد علي وإبراهيم، وفي الوليمة التي أقامها لورد بالمرستون دعا إليها 22 عظيما من عظماء الدولة، وقد تهافتت الشركات الإنجليزية وكبار اللوردات إلى دعوة إبراهيم باشا إلى مآدب كثيرة للاحتفاء به.
سليمان باشا الفرنساوي.
وبعدما أبحر من إنجلترا مر على البرتغال، ونزل في عاصمتها لشبونة، وعند نزوله بها علم أن الملكة وضعت ولدا، فذهب في الحال إلى الكنيسة، وحضر الصلاة التي كانت قائمة شكرا لله، ومن لشبونة أبحر إلى قادس في إسبانيا، ومنها إلى جبل طارق، ثم إلى مالطة، ووصل إلى الإسكندرية يوم 5 أغسطس.
أما سليمان باشا الفرنساوي فاعتذر عن السفر مع إبراهيم باشا إلى إنجلترا، وسافر في رحلة خاصة إلى بلجيكا وهولندا، وانتهز الفرصة فذهب إلى مدينة ليون مسقط رأسه، حيث اجتمع بأهله وأقام عندهم مدة طويلة بعد أن غاب عنهم وعن فرنسا 27 سنة.
والمرة الثانية التي سافر فيها إبراهيم إلى أوروبا كانت للمعالجة. سافر يوم 9 أكتوبر سنة 1847، ووصل إلى مالطة، ومنها سافر إلى إيطاليا، وفيها زار مدينة بيزا، ثم مدينة فلورنسا، واستقر به النوى في مدينة نابولي، حيث قضى فصل الشتاء، وفيها لحق به والده الذي كان أبحر من ثغر الإسكندرية في شهر فبراير سنة 1848 للمعالجة هو أيضا.
إبراهيم توفي في 10 نوفمبر سنة 1848 وعمره 60 سنة.
38
ومحمد علي توفي بعده في 2 أغسطس سنة 1849 وعمره 80 سنة.
39
وسليمان باشا الفرنساوي توفي بعدهما في 12 مارس سنة 1860 وعمره 72 سنة.
40
تلك آيات مجد وفخار كتبها الجندي المصري في سجل التاريخ بحد سيفه البتار، يجب على المصريين كافة أن يعرفوها؛ لأن من عرف بلاده أحبها.
كلمة لمحمد علي باشا
من جوامع الكلم المأثورة عن المغفور محمد علي باشا قوله لأولاده:
ليس لكم يا أولادي وطن غير مصر، فإن لم تسلكوا سبيلي وتتبعوا خطواتي، فلا عز لكم ولا علاء، وأنا منكم بريء ...
أسكنه الله جنة الخلد، وأنزل عليه صيوبا من رحمته.
عزيز خانكي
هوامش
«نزيب» لا «نصيبين»
عندما فكرت في كتابة رسالة ألفت فيها نظر الحكومة إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لواقعة «نزيب»، راجعت كتبا كثيرة عربية وفرنسية وإنجليزية، فوجدت المؤرخين الإفرنج يسمون الناحية في كتبهم وفي خرائطهم باسم «نزيب». والكتب العربية التي راجعتها صنفان: كتب قديمة كتبها المعاصرون لمحمد علي وإبراهيم، وفيها كتبوا اسم الجهة تارة «نزيب» وتارة «نزب». أما الكتب الحديثة - وأغلبها معرب عن الكتب الإفرنجية - فمؤلفوها اختلفوا: بعضهم كتبها «نزيب» وبعضهم كتبها «نصيبين».
حيال هذا الاختلاف في كتابة اسم الناحية سألت بعض أهالي الجهة، فاتفقوا كلمة على أن اسمها «نزيب» لا «نصيبين». لم أكتف بسؤال أهالي الجهة، فكتبت إلى بعض ذوي المناصب الكبيرة في بيروت وفي بغداد وفي عينتاب (الداخلة في دائرتها الناحية)، ورجوتهم التدقيق في البحث وإفادتي عن الاسم الحقيقي للجهة التي وقعت فيها المعركة، فجاءت إجابتهم متفقة كلها على أن اسم الناحية «نزيب» لا «نصيبين»، فأيقنت أن من كتب اسم الجهة «نصيبين» كان على خطأ، ومن كتبها «نزيب» كان على حق.
وازددت يقينا بعدما اطلعت على الخرائط التي وضعتها حكومة تركيا الجديدة عن ولاية غازي عينتاب؛ إذ كتب فيها اسم الجهة هكذا
Nezip .
ومن الكتب القديمة القيمة التي راجعتها الكتاب المخطوط الذي كتبه المرحوم الدكتور ميخائيل جرجس مشاقة «جد الدكتور خليل مشافة المعروف في مصر»، وقد عاصر محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وصحب الجيش المصري في مواقع عدة، وورد اسمه غير مرة في كتب كثيرة كتبت عن تاريخ حروب محمد علي باشا وإبراهيم باشا. قال في الصحيفة 272 من كتابه المخطوط حكاية عن وقعة نزيب فقابلهم: «في أرض «نزب»، وحصلت بينهم حرب شديدة، وكاد عسكر السلطنة يفوز على المصريين، ولكن شجاعة إبراهيم باشا وكثرة ممارسته على الحروب وتدبيرها أسعفاه على الفوز بالانتصار التام على عساكر السلطنة، حيث السر عسكر اضطر للفرار بنفسه تاركا جميع مهماته غنيمة للمصريين، حتى أوراقه الخصوصية لم يقدر على الوصول إليها، فوقعت بيد إبراهيم باشا. ومما وجد بينها فرمان ...»
وكتب إلي مستشار من مستشاري محكمة النقض والإبرام ببيروت بتاريخ 4 أغسطس سنة 1937، يقول إنه استفهم من عالم أخصائي متضلع في التاريخ له إلمام تام بحروب إبراهيم باشا في سوريا، فأجابه بأن «نزب قرية صغيرة على أحد روافد الفرات. والموقعة الشهيرة حدثت في نزب هذه لا في نصيبين. ونصيبين اسم لمواقع مختلفة أكثرها في شمال العراق. وقوله هذا - أي ما يتعلق بالمعركة المشهورة - يرتكز على الخرائط والتقارير التي وضعت سنة 1839، والتي وقفنا على مضمونها في سراي عابدين الملكية.»
وكتب إلي صاحب منصب كبير في بغداد بتاريخ 17 آب سنة 1937 (وهو الآن في بيروت)، ويعرف ولاية عينتاب معرفة تامة، يقول: «من المؤكد بأن التحام الجيش المصري بالجيش التركي في سنة 1839، كان في موقع يسميه الآن الأتراك
Nezip ، ونزب اليوم قضاء في ولاية غازي عينتاب في جنوب تركيا على حدود سوريا (ملخصا عن تقويم الجمهورية التركية لسنة 1937 - بالتركية). وقبل الحرب العظمى كانت نزيب قصبة في لواء أورفة من ألوية حلب، وتقع في الجنوب الغربي من أورفة، وتبعد عنها 98 كليومترا (ملخصا عن قاموس الأعلام لشمس الدين سامي - بالتركية). وفي
Eucyclopédie de I’Islam (1: 476 في الحقل 1) يذكر أن نزيب في غرب بيرة جك. وجاء في كتاب «أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» لمحمد راغب الطباخ (3: 362) ما يلي بنصه: حرب نزب (وقد شكلها بكسر النون والزاي مع تشديدها). قال في المناقب الإبراهيمية ما خلاصته: «وفي سنة 1255 هجرية الموافقة لسنة 1839 صدرت الإرادة السلطانية إلى حافظ باشا بأن يسير لاستخلاص بلاد سورية ... وزحف بأربعين ألفا، وما زال سائرا حتى انتهى إلى «نزب»، وهو سهل فسيح الرحاب بين بيرة جك وعينتاب.»
وجاء أيضا في كتاب «رسملي خريطة لي عثمانلي تاريخي» لأحمد راسم (4: 1910) نقلا عن «تاريخ سياسي» ما تعريبه: «وإذ كانت تلك الجيوش بصحراء نزب.» وفي الكتاب المسمى:
Recueil de voyages et de mémoires publié par la Sociéte de Géographie,
جدول يحوي الأسماء الواردة في خريطة إيالات بغداد وأورفة وحلب، ومن جملتها:
Nizip Mt .
لا شك إذن في أن موقع المعركة اسمه نزب أو نزيب (لا نصيبين). أما نصيبين التي يكتبها اليوم الترك
Nusaybin
فهي قضاء في ولاية ماردين في جنوب شرقي تركيا على حدود سوريا، وهي آخر محطة في الأراضي التركية لسكة حديد
Express-Orient .
وجاء عن نصيبين في قاموس الأعلام لشمس الدين سامي - بالتركية: «نصيبين قصبة شهيرة في لواء ماردين على بعد 60 كيلومترا منها، وهي على النهر المسمى ججحة الذي يصب في الخابور.» وفي
Encyclopédie de l’Islam (4-919) في مادة نصيبين يذكر أنها كانت وقتا تابعة لإيالة بغداد، وحسب المعلوم كان ذلك في أوائل القرن الماضي.»
وورد في كتاب حروب إبراهيم باشا المصري للدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ الشرقي في جامعة بيروت الأمريكية صحيفة 60: «يوم الإثنين في 11 ربيع الثاني سنة 1255 موافق 34 حزيران سنة 1839 تحرك الركاب السامي بالسطوة والإقبال من العساكر المنصورة قاصدا نزب ...»
وورد في كتاب المناقب الإبراهيمية والمآثر الخديوية تأليف إسكندر بك إبكاريوس طبع سنة 1299 هجرية صحيفة 135: «حرب نزب. وفي سنة 1255 هجرية الموافقة لسنة 1839 مسيحية صدرت الأوامر السلطانة إلى حافظ باشا أن يتجهز في الحال، ويسير بالرجال والأبطال لاستخلاص بلاد سورية من يد الدولة المصرية، فامتثل الأمر المطاع، وسار على قدم الإسراع في سبعين ألف مقاتل بين فارس وراجل قاصدا عربستان من غير تأخير ولا توان، ولما بلغ إبراهيم باشا البطل المغوار والأسد الكرار قدوم هذا العسكر الجرار، استعد لحربه وقتاله، وزحف بأربعين ألفا من رجاله وأبطاله لملاقاته واستقباله، وما زال سائرا بهذا الموكب حتى انتهى إلى نزب، وهو سهل فسيح الرحاب بين براجيك وعنتاب.»
وورد في كتاب تاريخ مصر الحديث صحيفة 245: «وحصلت مواقع شديدة بين الجيوش المصرية في نزيب انتهت بانهزام الأولى إلى مرعش ...»
وعقد الأستاذ سليمان بك عز الدين في كتابه «إبراهيم باشا في سوريا» فصلا عن هذه الموقعة، وقد سماها «موقعة نزب» قال فيه: «وفي اليوم التالي 21 حزيران توجه إبراهيم باشا وسليمان باشا لاستكشاف مواقع العدو في «نزب»، مستصحبين 1500 من البدو، وأربعة فرق من الخيالة، وبطاريتين من المدافع السيارة ...» ثم قال: «سار متجها إلى الشرق على موازاة نهر مزار، ثم نهر كرزين بعد ملتقاه بنهر مزار، ثم ارتد إلى الشمال الشرقي حتى بلغ الطريق الممتد من حلب إلى البيرة، والمؤدي إلى ما وراء موقع العدو في نزب.» وانتهى بأن قال: «وفي أول تموز سنة 1839 توفي السلطان محمود قبل ما يبلغه خبر انكسار جيشه في نزب.» •••
وقد كتب حضرة عبد الله كاروف أحد أهالي نزيب في جريدة «الأهرام» يقول: «نحن ننطق اسم البلدة نزب (بكسر النون وتشديد الزاي)، والأتراك ينطقونها: «نزيب»، وجميع مراسلاتي وجميع الرسائل الواردة إلي من أهالي هذه الجهة مكتوب فيها اسم البلدة «نزب». ونزب هذه تبعد عن براجيك 7 كيلومترات، وعن عينتاب 70 كيلومترا تقريبا، ونزب هذه آخر حدود سوريا، وكانت تابعة في الأصل لسوريا، وألحقت بالجمهورية التركية الجديدة.»
بعد هذا لم يبق شك في أن اسم الناحية التي وقعت فيها الواقعة «نزب » أو «نزيب» لا نصيبين.
تخليد ذكرى نزيب
نشرت هذه الكلمة في جريدة «الأهرام» يوم 26 أبريل سنة 1939
ألا يحسن لمناسبة حلول الذكرى المئوية لواقعة نزيب في 24 يونيو القادم - أن يقام في أحد ميادين القاهرة الفسيحة نصب كبير توقد بين جوانبه شعلة ملتهبة لا تنطفئ؛ تخليدا للجنود المصريين البواسل الذين استشهدوا في ساحة الحروب العظيمة التي أبلوا فيها أحسن البلاء مع البطل إبراهيم باشا، وكتبوا لمصر فيها صفحات مجد وفخار سجلها لهم التاريخ بسطور من ذهب.
قدر الناس من قديم الزمان للذين يسقطون في ميادين القتال، دفاعا عن أوطانهم، ما يبذلون من جهد وعناء وحياة، فأقاموا في عواصم بلادهم أقواس نصر بديعة تكون ذكرى لهم وعبرة لغيرهم وموعظة لأولادهم.
ففي روما نرى حتى اليوم أقواس النصر التي أقامها دروسوس وتيتوس وسبتيموس ساويروس وجاليان وقسطنطين تخليدا لذكراهم وذكرى الأبطال الذين اشتركوا معهم في معاركهم وفي النصر الذي حازوه معهم.
وفي باريس شيدوا تخليدا لذكرى انتصارات لويس الرابع عشر وجنوده قوسين إحداهما باب سان ديني
St. Denis
والأخرى باب سان مارتان
St. Martin . وفي عهد نابليون الأول أقيم في سنة 1806 قوس نصر الكاروسيل وقوس نصر ميدان الإتوال. وأما قوس مارسيليا فقد أقيم لتخليد ذكرى انتصارات عهد الملكية وأيام الإمبراطورية الثانية والجمهورية.
ولعل أجمل هذه الأقواس وأبدعها ذلك الذي أقيم في قلب باريس وفي وسط ميدان الإتوال. أمر بإقامته نابليون الأول على أثر النصر الباهر الذي أحرزه في موقعه إسترلتز في 22 فبراير سنة 1806. وقد عهد تصميمه إلى المهندس شالجرين، وافتتح رسميا في 19 يوليو سنة 1836، ويناهز ارتفاعه الخمسين مترا وعرضه 45 مترا وسمكه 22 مترا. وعلى كل جانب من جوانب القوس نحت أكبر المثالين والنحاتين - مثل برادييه ورود وكورتو - رسومات ونقوشات رائعة، وقد زين هذا القوس بأسماء 386 من كبار القواد الذين اشتهروا في حروب نابليون. وبعد انتهاء الحرب الكبرى الأخيرة دفنوا تحت القوس رفات جندي فرنسي مجهول استشهد في ميدان القتال في سبيل الدفاع عن وطنه، وقد نقلت رفاته بموكب رسمي في يوم 11 نوفمبر سنة 1920.
وهذه مائة عام تمر على أكبر موقعة حربية وأكبر نصر أحرزه الجيش المصري في خلال القرن التاسع عشر، ومع ذلك نرى عاصمة مصر خالية من أي أثر يحيى ذكرى جنود محمد علي وإبراهيم. وهل أقل من أن نقيم لهم في حاضرة الدولة قوس نصر يتناسب مع الذكرى المئوية لانتصاراتهم؟! فلتأمر الحكومة بإقامة هذا القوس، ولينقش على جوانبه أسماء كبار قواد الحملات، وعلى رأسهم الأبطال المغاوير: إبراهيم وطوسون وإسماعيل وسليمان باشا - أجداد حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول - والأمير حسن باشا، وإبراهيم يكن باشا، وسليم فتحي باشا، وشاهين باشا، وراتب باشا، وراشد حسني باشا، وأحمد باشا المانكلي، وأحمد باشا إستانبولي، وأحمد باشا الدرملي، ومصطفى مطوش باشا، وحسن باشا الإسكندراني، ومصطفى باشا العرب، وخورشيد طاهر باشا، ومحمد بك الدفتردار، ومحمد بك معجون، وجير الله محمد، ومحمد الماس باشا، وغيرهم من الأبطال الصناديد، ولتنقش أسماء المواقع الحربية التي استبسل فيها الجندي المصري في السودان، وفي بلاد العرب، وفي الأناضول، وفي كريت، وفي رودس، وفي قبرص، وفي المورة، وفي المكسيك، مثل عكا وحمص وحماة وبيلان وقونية وكوتاهية ونزيب ومسيولونجي. ولتضيء شعلة أبدية قبر جندي مصري مجهول رمزا لبطولته وشجاعته وبسالته، واعترافا من بني وطنه بما قاسى وبما ضحى. وإذا كانت الحكومة لا تفكر في إقامة قوس نصر لهؤلاء الأبطال، فليكتتب المصريون بمبلغ لإقامة هذا القوس. وها أنا أتقدم وأفتتح باب الاكتتاب بخمسة جنيهات.
أمام هذا النصب التذكاري ستمر الأجيال تلو الأجيال، ويقف المصريون خاشعين يترحمون على الدماء الطاهرة التي أريقت في سبيل مجد مصر، وينثرون عليها الرياحين، ويدعون للشهداء الأبطال الدعوات الصالحات.
جميل خانكي
Shafi da ba'a sani ba