ثم إن هذه العلوم لا تمكن مباشرتها إلا بالتعلم والتعب في الابتداء وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى جاهلا وعاجزا عن العلوم، التي يتكسب بها، فيحتاج إلى أن يأكل مما سعى فيه غيره، فيحدث لذلك حرفتان خسيستان مذمومتان، وهما: اللصوصية والكدية ثم إن الناس يحرزون أموالهم عن اللصوص والمكدين، فاحتاجوا إلى صرف عقولهم، في استنباط الحيل والتدابير أما اللصوص فمنهم من يطلب أعوانا وتكون له شوكة فيجتمعون، ويقطعون الطريف كالأعراب والأكراد، ومن فعل فعلهم وأما الضعفاء فيستعملون الحيل: إما بنقب الدور الأسوار أو الصعود عليها، وقت غفلة الناس، أو يكون طرارا . وأما المكدي فإنه إذ ما طلب سعى فيه غيره، قيل له: اعمل وكل مالك وللبطالة؟ فاحتاج المكدون إلى حيلة في استخراج أموال الناس فمنهم من يظهر العمى والفلج والمرض وهو حال عن ذلك، ليكون ذلك سببا للرحمة عليه ومنهم من يظهر أقوالا وأفعالا، يتعجب الناس منها، حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها، فيسخون لهم بالمال وذلك يكون بالتمسخر والمحاكاة والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة مع حسن الصوت والشعر الموزون له تأثير في النفس ويدخل في هذا الوعاظ الذين يصعدون المنابر وإذا لم يكن وراء كلامهم علم نافع وليس مرادهم إلا اكتساب الدينار والدراهم. وأما العلم المذموم فاعلموا وفقكم الله أن العلم لا يذم لعينه من حيث أنه علم إذ لا شيء من العلوم من حيث أنه علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث أنه جهل بنافع لأن في كل علم منفعة إما في المعاد أو في المعاش أو الكمال الإنساني إذ كل علم يفيد النظر فيه عقلا مزيدا وجميع العلوم الصناعية والنظرية تفيد عقلا وإنما يذم بعض العلوم لأحد أسباب إما لكونه مؤديا إلى ضرر إما بصاحبه أو بغيره، كعلم السحر والطلسمات وهو حق صحيح شهدت بصحته المشاهدة وهو علم، يستفاد من العلم، بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم فيحدث من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة، أحوال غريبة وتأثيرات عجيبة أعني: أن تأثيرات النفوس البشرية في عالم العناصر إن كان بغير معين من الأمور السماوية فهو السحر وإن كان بمعين من الأمور السماوية فهو الطلسمات ومعرفة هذه الأسباب من حيث أنه معرفة ليست مذمومة ولكنها ليست تصلح لا للإضرار بالخلق وكانت هذه العلوم في أهل بابل، من السريانيين والكلدانيين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم وكان لهم فيها التآليف الكثيرة وهذا العلم مهجور في الملة الإسلامية ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل إلى أن ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب هذا العلم واستخرج الصناعة ووضع فيها التآليف وأكثر الكلام فيها ، وفي صنعة الكيمياء لأنها من توابعها لأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى، إنما تكون بالقوى النفسانية، لا بالصناعة العملية. وإما لكون المتعلم، يقصد بالعلم، فوق غايته، كمن يقصد بعلم النجم، الاطلاع على المغيبات، والحوادث الآتية، وغاية علم النجم: الاهتداء في ظلمات البر والبحر وتسيير الشمس والقمر في المنازل والبروج للاستعانة على الزراعة ونحوها. وأقل أحوال من يقصد بعلم النجم، الاطلاع على المغيبات، أنه خوض في فضول لا ينفع فإن المقدور واقع والاحتراز منه، غير ممكن. وأحكام النجوم ظن خالص والحكم بالظن، حكم بجهل وما يتفق من إصابة منجم، على الندور، إنما هو إنفاقي، لأن النجم يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقبها، إلا بعد شروط كثيرة لا يطلع المنجم عليها. فإن قدر الله بقية الأسباب وقعت الإصابة وإن لم يقدر أخطأ ويكون ذلك: كظن الإنسان، أن السماء تمطر اليوم، إذا رأى السحاب يجتمع، وينبعث من الجبال. وربما يحمي النهار بالشمس، ويذهب السحاب!! وربما يكون المطر فالمنجم! باستدلاله بالنجم على الحوادث كاستدلال الطبيب بالنبض على ما سيحدث من المرض فتارة يكون وتارة لا يكون مع أن الطب أكثر أسبابه مما يطلع الأطباء عليها وإما لكون العلم، عزيز المنال، رفيع المرقى، ويتعاطاه من ليس من أهله، فيتضرر.
الباب الثاني
إثبات العلم الشرعي
اعلموا - وفقكم الله - أن العقل، إن بلغ من الشرف والاطلاع على حقائق الأشياء ما بلغ فثم علوم لا يصل إليها، ولا يهتدي إلى الاطلاع عليها، إلا بتصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد إليهم. بمعنى أن علوم الأنبياء، زائدة على علم العقل الذي قلنا: إنه متضمن في غريزة العقل، يجده مهما صرف عقله في اكتسابه. والعقل، مع عزله عن علوم الأنبياء، إلا باتباعهم، مستعد لقبول علومهم، والانقياد إليها، والاستحسان لها، مهما عرفوه إياها، وبيان أن ثم علوما زائدة وراء علم العقل، أن الله - تعالى - خلق الإنسان خاليا، لا خبر له عن مخلوقات الله وهي كثيرة لا يحيط بها إلا خالقها فيخلق له حاسة اللمس، فيدرك بها الملموسات، وهي أجناس كثيرة ولا تدرك الأصوات، ولا الألوان، فهي كالمعدومة في حقه. ثم يخلق له البصر، فيدرك به بعض الموجودات، إلى أن يتجاوز المحسوسات، فيخلق فيه التمييز، وهو طور آخر، فيدرك به أمورا، وراء المحسوسات، لا يوجد شيء منها في المحسوسات. ثم يترقى إلى طور آخر، وهو طور العقل، فيدرك به أمورا، لا توجد في الأطوار التي قبله، ووراء العقل، طور آخر، وأمور أخر، العقل معزول عنها، ولا يصل إليها بنفسه، بل بغيره، كما عزلت الحواس عن مدركات العقل.
Shafi 12