لماذا (التأثير لا الضرب)؟ الإجابة تتطلب معرفة عميقة بالسيكولوجيا، لا يتبقى أمامنا من دونها سوى السطح البارز؛ فبسبب النزيف المتكرر، دأبت سميحة على التهرب مما كان الشنقيطي (ومعه عامة الفقهاء والأطباء ومحررو رسائل القراء) يعلون منزلته بإضفاء صفة الواجب المقدس عليه.
حمل الشنقيطي الكتاب إلى منزله، وعكف على محاولة اجتلاء النص المكتوب بلغة لم يعد يذكر شيئا من مفرداتها بسبب السنوات التي ضاعت منه في حرب الاستنزاف. وكان هذا شأن سميحة التي خفت إلى معاونته بعد أن أثارت الرسوم قلقها المشروع، فلم تتذكر شيئا من إنجليزيتها (بسبب السنوات التي أضاعتها في محاولة تعلمها). ولما كان من الصعب على الشنقيطي أن يقر بعجزه في مواجهة جاره، تعين على سميحة أن تحمل الكتاب إلى ذات، وهذه عرضته بدورها على عبد المجيد أوف كورس.
اعتقدت ذات في البداية أن عبد المجيد معرض عن الكتاب بسبب ما به من عهر، ثم اكتشفت بالتدريج أن الأمر مرتبط بما ضاع منه في حروب استنزافه العديدة، وظل الكتاب مغلقا دونهم، فضاعت بذلك فرصة توثيق العلاقات بين الرجلين، وربما بين الأسرتين، وعلى الأقل بين أفراد كل أسرة على حدة، وهي الفرصة التي سنحت بعد قليل - لحسن الحظ - بفضل عشاق سميحة.
فسميحة هي الأخرى كانت تتلقى زيارات ليلية وإن اقتصر زوارها على نجوم السينما المصرية، وعندما فتح الله على الشنقيطي تفتحت شهيتها للزيارات النهارية. هكذا تلقت ذات الدعوة لتتفرج على الشنقيطي وهو يقوم بتوصيل جهاز الفيديو بالتليفزيون، وفي نفس الليلة قام بزيارة سرية خاطفة لذات، وفي اليوم التالي صحبت ذات عبد المجيد، في زيارة رسمية للجارين؛ للتهنئة والفرجة على عشاق سميحة في الفيلم الذي استعارته من نادي الفيديو القريب، وحملته طول الطريق بأطراف أصابعها؛ حتى يسهل أرجحته أمام العيون المطلة من النوافذ والشرفات، تحقيقا لشروط الإشهار العلني في هذه الحالات.
لزم عبد المجيد الصمت في الأيام التالية، منزويا أمام تليفزيونه، في روبه الصوفي (الذي حال نسيجه بعض الشيء عند المرفقين)، وإلى جواره علبة السجائر السوبر، وابنتاه (فعندما لم تحقق «دعاء» المطلوب منها؛ أشفعها ب «ابتهال»)، بينما ذات في شقة سميحة تتفرج على عشاقها، وبين الواحد والآخر تأتي لمتابعة ابنتيها أثناء أدائهما لواجباتهما التليفزيونية، وكان الشنقيطي هو الذي أخرجه من صمته وانزوائه.
فقد وجد الأخير في الفيديو فرصة لتعويض بعض ما فقده في حرب الاستنزاف؛ عن طريق الأفلام إياها التي تتميز لغتها البصرية بوضوح يغني عن لغتها المنطوقة. ومن هنا كان التجاؤه إلى جاره، لا من أجل العرض الجماعي لأحد هذه الأفلام (لو كان هذا قد حدث لمضت التطورات في اتجاه آخر أقل مأساوية وأكثر تحضرا)، وإنما من أجل عرض خاص، للذكور فقط.
لم يكن بوسع الشنقيطي أن يقبل عرضا كهذا في شقته، تنزوي سميحة خلاله في غرفة النوم، بينما يجلس هو وجاره في الصالة يتفرجان (حتى مع إلغاء الصوت وهو أمر غير مستحب)، لكن كان بوسعه أن يتصور وضعا مماثلا في شقة عبد المجيد بالرغم من وجود ذات وابنتيها. ولأنه كان ينطلق من مركز قوة، كما كان عبد المجيد متلهفا إلى تعويض ما فاته في حروب استنزافه، فإن هذا هو ما تم التوصل إليه. وتحددت ساعة الصفر بعد منتصف ليلة محايدة، وسط الأسبوع.
فبعد أن اطمأن عبد المجيد إلى استغراق ابنتيه في النوم، وأنصت إلى شخير ذات المنتظم، فتح باب شقته في هدوء، وطرق باب جاره، الذي استجاب في الحال. وتعاون الاثنان على نقل جهاز الفيديو إلى شقة عبد المجيد وتوصيله بالتليفزيون. وبعد تجارب عديدة تم التوصل إلى درجة الصوت المناسبة والكفيلة بعدم إيقاظ النائمات.
كانت التجربة مثيرة وتثقيفية في آن؛ فعندما انتهى العرض وتعاون الرجلان على إعادة الجهاز إلى شقة الشنقيطي، أطفأ عبد المجيد الأنوار وتأكد من إغلاق النوافذ وصنبور الغاز، ودون أن يعبأ بغسل أسنانه، هرع إلى غرفة النوم المظلمة وإلى زوجته النائمة.
وقف بالقرب من رأسها ينصت إلى صوت تنفسها المنتظم، وعندما ألفت عيناه الظلام تبين عينيها المغمضتين. لكنها لم تكن نائمة.
Shafi da ba'a sani ba