امتنعت ذات عن التنفس لتتجنب الرائحة الخانقة، وأطلت برأسها من فرجة الباب باحثة عن المدرس، فاكتشفت ما يمنع الباب من الانفراج؛ صفوف التلاميذ الذين احتلوا الأرض خلفه وأمام السبورة وتحتها.
شعرت ذات، عندما ولجت مكتبها في اليوم التالي، بشيئين؛ صعوبة في التنفس، وتجاهل من جانب الأخريات اللاتي تجمعن حول صاحبة وجه الأرنب تعرض عليهن غطاء إسلاميا للرأس من حرير شفاف أخضر اللون، مزودا بما يشبه العقال السعودي. وعندما حان موعد الانصراف كانت قد تأكدت من عودة المقاطعة بالرغم من العمامة التي وضعتها فوق رأسها. فهل تيأس؟ أبدا.
حصلت على رقم التليفون من إحدى الماكينات المحجبة، ورفعت السماعة ثم أدارت القرص، وقبل أن تتفوه بكلمة جاءها صوت أنثوي رصين: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هنا الجامعة الإسلامية»، هكذا، في نفس واحد دون توقف، ثم طلب منها الصوت أن تنتظر على نغمات موسيقى فيلم «قصة حب» الأمريكي، حتى جاءها صوت آخر أكثر أنثوية ورصانة أقرأها السلام الكامل وقدم إليها المعلومات التي طلبتها. على ضوء هذه المعلومات ذهبت هي وسميحة إلى مبنى حديث بالقرب من نادي الشمس، عبارة عن فيلا من طابقين وسط حديقة حسنة التنسيق، تؤدي إلى باب من الزجاج الفيميه المحاط بإطارات ألوميتال، يفتح على طاولة عريضة تطل عليها كلمة «الاستقبال» بالإنجليزية، من لوحة مضاءة فوق فتاة محجبة بادرت الزائرين بكلمة السر في نفس واحد: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أي خدمة؟»
استمع عبد المجيد إلى تفاصيل الزيارة باهتمام؛ القاعات الواسعة الأنيقة، الرسوم التوضيحية باللغة الإنجليزية، كتاب الصحة والعلوم الملون (الصادر عن شركة يملكها علي لطفي رئيس الوزراء)، وأشرق وجهه عندما تخيل ولي عهده وقد حقق ما عجز هو عنه؛ ونعني بذلك قراءة الكتاب إياه، ثم اصفر واخضر عندما سمع عن الألف جنيه، فضلا عن الملابس والكتب والباص (الأوتوبيس) فورا والآن؛ لأن الطريقة الشرعية للالتحاق بالمرحلة الابتدائية تحتم قضاء ثلاث سنوات تحضيرية في نفس الجامعة.
نظرة التساؤل والترقب في عيني ذات حملته إلى خارج المنزل. بدأ أولا بعم محروس فترحما سويا على أيام السادات التي لم ينل منها عبد المجيد شيئا على عكس محروس: «مكانش يفوت يوم من غير ما أبيع سيارة أو ثلاجة، ثم الشقق المفروشة. كانت الأشيا معدن.» ثم انفرد محروس بالشكوى؛ من الضرائب التي تطالبه بعشرة جنيهات ظلما وجورا؛ ولهذا علق لافتة يعتذر فيها عن استقبال الزبائن، الهدف منها هو تضليل أولاد الأفاعي لأنه ما زال يعمل كالجن. ومن المرض؛ حصوة متشعبة في الكلى وضغط مرتفع، ولإزالة الحصوة لا بد من جراحة تتطلب السيطرة على الضغط، لكن الضغط ناشئ عن الحصوة. ومن الابن وزوجته؛ وجد له عملا وشقة في مدينة العاشر من رمضان، لكن الهانم زوجته لا تريد الحياة هناك، وتصر على الإقامة في شقة الأب، وهنا بيت القصيد؛ فالبنت عينها على الشقة منذ علمت أن عقدها محرر باسم الابن (فعل محروس ذلك تهربا من الضرائب). بيت قصيد آخر: «محتاج لغطا صندوق تواليت من النوع القديم؟ عندي واحد زي الجديد تمام .. اشتريته غلط من زبون ومستعد أبيعه بتمن معقول.»
مرتان وفي الثالثة هرب عبد المجيد إلى الشوارع. بدأ بتلك القريبة من منزله، التي شقت في الخمسينيات وبداية الستينيات؛ لتأوي أقرانه من أبناء القطاع العام (بما فيهم الكريمة من المديرين وكبار العسكريين) في عمارات متشابهة، ضاقت نوافذها وشرفاتها ومداخلها، وطرأ عليها ما طرأ على عمارته من تغيير، فتحطم زجاج مناورها، ونشعت جدرانها، واغبرت واجهاتها، وتكدست مخلفات الأعوام في أركان شرفاتها، فيما عدا الشقق المحظوظة التي فتح الله على أصحابها، فامتدت يد الدهان إلى نوافذها وبلكوناتها، والواجهات المحيطة بها، في حدود دقيقة لا تمتد إلى جيرانها، وقفلت بلكوناتها، أو ظللت بالتندات الإيطالية المخططة والمحبوكة، ودمغت بصناديق التكييف وخراطيمه.
ما كان يمثل أطراف مصر الجديدة في الستينيات، أوشك أن يصبح في وضع المركز في الثمانينيات؛ ولهذا ألفى عبد المجيد نفسه، تبعا للآلية التي تحكم حركة التاريخ، يتدحرج إلى الأطراف الجديدة التي مدت إليها خطوط المترو والأوتوبيس، وشيدت بها المجمعات السكنية الضخمة، على مدى سنوات طويلة من انتظار حاجزيها (بإحدى دول الخليج في أغلب الأحيان) تسلموا في نهايتها جدرانا وأرضيات على العظم ، بتركيبات صحية يتعين استبدالها على الفور، بواسطة نفس المقاول أو السباك، بطبيعة الحال؛ لتترك بعد ذلك مغلقة لحين الحاجة إليها.
منظر الشقق المغلقة في انتظار حاجزيها، أو أولادهم وبناتهم عندما يشبون ويتزوجون، كان كفيلا بدحرجة عبد المجيد، عكس حركة التاريخ، من الأطراف إلى المركز، عبر زوايا مشجرة، مخبأة جيدا بين كتل الأبنية، لن يطول بها العهد قبل أن تلتقطها عيون النسور الحادة؛ لتقيم فوقها أكشاك الأمن الغذائي أو تحولها إلى مقلب زبالة، وفوق أرصفة مكسرة شغلتها السيارات المنتظمة في صفوف، أول وثان وثالث، وكأنما صار لكل مصري ركوبة، عدا عبد المجيد الذي تدحرج إلى عرض الطريق وهو يتأمل الحواف الانسيابية اللامعة، والمؤخرات العريضة المستقرة فوق عجلاتها في ثبات واعتداد، بنفس اللوعة التي يتأمل بها شقق الميرغني الرحبة بشرفاتها الواسعة المظللة بالنباتات والأجهزة، إلى أن يصعد ثانية فوق أرصفة خلت من كل شيء عدا الحراس المسلحين، أمام قصور العروبة وفيلاتها التي تداولتها الأيدي، عبر التحولات، من كريمة إلى أخرى، ثم فيلات الأربعينيات وعماراتها الراسخة، بمداخلها الرحبة (التي انتثرت أمامها زبالة لا يجد أحد الهمة لإزالتها)، وطوابقها القليلة (فيما عدا حالات التعلية)، تخدمها مصاعد بطيئة احتفظت أخشابها بروائح ذلك الزمان، وشرفاتها الواسعة، التي ظهر أثر الزمن على بعضها، في حالة من أخنى عليهم الدهر، أو من ينتظرون في أوروبا وأمريكا حتى تستقر الأحوال، بينما تحول البعض الآخر، على يد الجيل الثاني أو الثالث، بعد تقفيله بالألوميتال والفيميه ودهانه باللون الأبيض الناصع أو البني الداكن، إلى مكاتب بيزنيس، علقت فوقها لافتات مضيئة تعلن عن شركة سياحة، أو استيراد وتصدير، شحن وتفريغ، تنشيط وتنظيم، تنظيف وتحليل، تزيين وتجميل، تدكير وتأثيث، أو مجرد بوتيك، بواجهة زجاجية عريضة، يزينها صندوق الكومبريسور، وخرطومه المعهود، إلى جوار لافتة كتبت بحروف مذهبة، بالخط الكوفي أو الفارسي أو المغربي، خرجت من خطوط إنتاج متوازية، تمتد من مرجانة إلى كهرمانة، أو لورد فإمبراطور، أو باشا حتى أفندينا.
نهاية المطاف الحتمية في سرة المركز، حيث عمارات البارون البلجيكي الذي أسس مصر الجديدة (منافسا زميله الحلواني الذي شيد الأخرى القديمة)، فأعطى مبانيها ذلك الشكل الغريب المميز، الذي يجمع بين طرز مختلفة، يتجاور فيها الروماني مع الإسلامي والهندي ، في نظرة إنسانية شاملة، على طريقة السلاطة، كانت لها مع ذلك جمالية خاصة، تجلت في السقوف العالية، والشرفات الرحبة، والبواكي المسقوفة، والمساحات الخضراء، وزالت بالتدريج، بعد نزوح الأرمن واليونانيين والطليان؛ إذ اكتسحها الطابع القومي، الذي عبرت عنه اللافتة الكبرى المعلقة فوق سرة السرة، الحديقة الصغيرة وسط ميدان روكسي، التي حملت مناشدة مسببة: «حافظوا على نظافة مصر الجديدة لأنها أول ما يقابل السائح»، لقت استجابة واسعة؛ إذ امتلأ الميدان وامتداداته، فضلا عن صناديق الزبالة التي زبلت ما حولها، بدكاكين التنظيف، للنفوس والأموال، حتى فندق هليوبوليس بالاس، الذي تحول بعد تنظيفه إلى مقر لرئاسة الجمهورية.
جولة مرهقة تلقي بعبد المجيد في النهاية فوق أحد مقاعد مقهى الأمفتريون، حيث ظهرت عليه علامات العشق المفاجئ للآيس كريم، لا بأكله، وإنما بالفرجة عليه؛ فالمقهى القديم الذي احتفظ بطابعه اليوناني، وبشرفته الواسعة المرتفعة عن الرصيف بأقدام قليلة، تم تمصيره بماكينة بث عابرة لحاجز الصوت، وصندوق زجاجي مغبش من الوسخ، به أطباق الكفتة والكبدة والمخ والروزبيف، تحف بها عيدان ذابلة من البقدونس، وإناء مخللات، وعمود شاورمة، وثلاجة للسفن أب والكولا، وأخرى للآيس كريم.
Shafi da ba'a sani ba