أعدت لها صفية مكانا للنوم فوق مرتبة صلبة مليئة بالنتوءات، ووسائد مشبعة برائحة العرق. وقبل أن تفرغ من استعراض أحداث اليوم كانت الزيارات الليلية قد بدأت، باختلاف بسيط عن السابق، فرضته، بالطبع، هذه الأحداث نفسها.
رأت نفسها تسير في أحد شوارع الإسكندرية عندما شعرت برجل يخطو إلى جوارها، ثم يقترب منها حتى أوشك أن يلتصق بها. رمقته بنظرة جانبية، فطالعها صدر عريض وقميص مفتوح عند العنق يكشف عن شعر أسود كثيف ، فضلا عن انبعاج تحت العانة لا يحتمل أكثر من قراءة واحدة. تراءى لها أنه معجب بنفسه، يستعرض رجولته، فقررت أن تسخر منه. وفجأة ارتطم فخذه بساقها، فالتفتت إليه تريد أن تقول له إنها تدرك ما يسعى وراءه، وإذا بها تلمح عبد المجيد في صحبة امرأة لا تعرفها. وهنا تغير المشهد، لا في اتجاه تراجعي، وإنما في الاتجاه العكسي تماما.
ها هي واقفة في صالة انتظار ما، إلى جوار الرجل ذي القميص المفتوح، وقد بدا الآن شبيها بعصام، العائد في الغد، بينما يقف عبد المجيد ورفيقته على بعد خطوات، وها هي ومرافقها يستديران قليلا بحيث يتواجهان، ويضغط انبعاجه على فخذيها فيبتلان وتشرع في الالتذاذ، لكن شيئا يحدث قبل أن تهزها الرعشة المبتغاة؛ تستيقظ.
عندما استأنفت النوم بعد لحظات كانت تحت سيطرة الرادع الداخلي فلم تتمكن من استعادة اللحظة المراوغة، وألفت نفسها بدلا من ذلك، أو ربما بسبب ذلك مع أبيها، الذي كان عائدا من غيبة طويلة، في ملابس جديدة وطربوش لامع الحمرة. عتبت عليه غيابه دون إعلان أو حتى ورقة صغيرة، ولم يستمر هذا الحوار طويلا؛ لأن الرادع الداخلي لم يكن قويا بما فيه الكفاية، فسرعان ما ألفت نفسها مستلقية على فراش منزل الطفولة المواجه للميدان، تفكر، للعجب، في المطبخ وشكله الآن بعد السنوات التي انصرمت، وكيف أن محتوياته المتداعية قد استبدلت بالتأكيد بالبلاكارات وأحواض الصلب الذي يصدأ، فضلا عن الخلاطات والعصارات. ولتتأكد من الأمر نادت أباها، فجاءها في جلبابه البيتي الناصع البياض، لكن ملامح وجهه هذه المرة لم تكن واضحة، توطئة لما حدث بعد ذلك؛ إذ انحنى عليها وقبلها، لا قبلة المساء المعهودة فوق خدها، وإنما أخرى ألذ، متأنية، في شفتيها، حثتها على أن ترفع جسمها إلى أعلى كي تلمس بقية جسمه، وعندئذ تبينت وجهه بوضوح؛ شيخ العرب.
ألاعيب الرادع الداخلي؟ لكنها على أية حال أدت الهدف المنشود؛ إذ تحولت مغامراتها في اتجاه مغاير تماما، وانهمكت في حديث حاد مع فتاة رائعة الجمال، لا تشبه أحدا تعرفه، تكلل بلمسة ودية من يد الفتاة في المكان إياه، ثم بغزوة أصبع مفاجئة، جلبت الرعشة المتمناة.
لم يتبق من هذا النشاط المحموم، عندما استيقظت في الصباح الباكر، سوى إحساس بالرضا والراحة، تبدد على الفور عندما وقع بصرها - وهي في الطريق إلى الحمام - على ابن صفية المراهق، الراقد فوق كنبة في الصالة، وبالتحديد على الخيمة المشرعة التي صنعها الغطاء بين ساقيه؛ فقد تذكرت كل شيء، عندما استعاذت بالله من الشيطان الرجيم. وكان مقدرا لها أن تتذكر الاثنين؛ الله والشيطان، عدة مرات خلال اليوم.
ففي السابعة تماما كانت سيارة عزيز ال 128 المتهالكة تقلهم جميعا إلى الميناء، وخلفها سيارة نصف نقل أتى بها أحد معارف عزيز من العمال. جلست صفية بالطبع في الأمام إلى جوار عزيز، واستقرت ذات في الخلف مع الطفلين، لكن الطفل الذي جاورها مباشرة كان هو نفسه صاحب الخيمة، وبعثت ساقه التي التصقت بساقها بصورة طبيعية سخونة محببة تضاعفت في المرات التي قامت فيها الطفلة الأخرى بقفزة مفاجئة في صراع الحدود الذي نشب بينها وبين أخيها، أو عندما قامت ذات نفسها باحتضانه لإبعاده عن شقيقته، مما أدى إلى احمرار أذنيه.
لم تخل الرحلة من البث؛ فالأبراج السكنية الجديدة استدعت من عزيز قصة عبد المنعم جابر، الذي تحول في عشر سنوات من عامل نسيج إلى مالك لخمسة أبراج وشركة مقاولات وأخرى للسياحة، قبل أن يهرب بالملايين المقترضة من البنوك، والرائحة الجاثمة في كل الأركان أتاحت لصفية أن تروي مسلسل الصرف الصحي الذي تحولت الإسكندرية في ظله، خلال شهور قليلة، من عروس إلى مباءة.
حملت صفية معها مبلغين من المال؛ واحدا أكبر لجمرك السيارة والعفش اللذين أحضرهما عصام معه أودعته حقيبة يدها، والثاني أصغر للمصروفات النثرية، وزعته على جيوبها، وبدأ استهلاكه على الفور؛ تصريحات الدخول، المنادي الذي انبثق فجأة في ساحة الانتظار القريبة من المرسى، الصبي الذي هنأهم بسلامة الوصول المتوقع، وآخر بشرهم بتمام الوصول الفعلي، وثالث أبدى استعداده لأي خدمة، وعندما تجاهلته صفية مد يده قائلا: «الحمد لله على السلامة.» ورابع انشقت عنه الأرض عندما رست السفينة إلى جوار الرصيف وتطوع لأن يصعد إليها وينبه عصام - الذي يرونه ولا يراهم - إلى وجودهم، ثم رجل أنيق يرتدي قميصا فاخرا وردي اللون ونظارة مذهبة الإطار، يخطو في وقار واعتداد، تجاهل عزيز إذ تبين على الفور موقع الخزانة، فقدم لصفية بطاقة لامعة السطح امتلأت بأرقام التليفونات قائلا: «كامل الرشيدي .. مخلص سيارات .. تحت أمركم.» وأخيرا عزيز نفسه الذي مد يده قائلا: «أعطيني حاجة للحمالين.»
عاد عزيز بملف يضم ورقتين أعطاه لصفية: «السيارة عليك وسأهتم أنا بالعفش.» واتجه إلى موقع الجمرك ساحبا الولد والبنت خلفه، بينما تأبطت صفية ذراع ذات قائلة: «تعالي ندور على الرشيدي.»
Shafi da ba'a sani ba