هكذا لم تكتم ذات فحسب أن هناك العشرات وليس مجرد «حد تاني»، وإنما أخفت أيضا، وربما عن نفسها أساسا، الدافع الحقيقي الذي أتى بها إلى الإسكندرية؛ وهو إشعال إحدى الجمرتين الخامدتين في حياتها الروحية القاحلة، الأمر الذي تبين من الوهلة الأولى عدم جدواه.
فصفية، بسحنتها الذابلة المهمومة، وجلبابها الكستور فوق ثدييها المتهدلين، والإشارب الذي حال لونه حول شعرها الملموم، ألقت جردلا من المياه الباردة فوق واحدة، وتكفل عزيز بالثانية عندما وصل في المساء بوجه شاحب ملأته التجاعيد وجللته الفضة قبل الأوان.
كان في صحبة ماكينة بث من نوع آخر؛ شيخ العرب، عجوز قصير القامة، أبيض شعر الرأس، ناري النظرات، باسم الوجه، دائب الحركة، يتيه بنفسه إعجابا، يرتدي قميصا مفتوحا يكشف عن صدر عريض امتلأ بغابة من الشعر الأبيض الكثيف، ابتدر المرأتين في مرح: «السلام على من اتبع الهدى.»
في المطبخ، أمام براد الشاي، وبين جدران غير مدهونة حتى بالزيت، ولا شبر واحد، تساءلت ذات هامسة: «شيوعي؟» فقالت صفية: «إنه شخص طيب .. لكن لا يمل الحديث عن أمجاد الماضي. حتاخدي نصيبك.»
وما كان شيخ العرب ليصمد أمام إغراء مستمع جديد: «سنة 46 كنت أعمل في مصنع نسيج في شبرا، وخرجنا في مظاهرة كبيرة حتى باب الحديد، وحملني العمال على أكتافهم. واستمرت المظاهرة حتى ميدان الإسماعيلية، التحرير الوقت. وكان عندي صورة وأنا أهتف والرصاص يتطاير حولي لكن المباحث خدتها، وكان صوتي قويا يرن في الميدان بدون ميكروفون. كنا نهتف بكفاح الطبقة العاملة والطلبة والشعب المصري وسقوط بريطانيا. وجاء عمال شبرا الخيمة وطلبة الأزهر والموظفون وكل الطوائف، والشوارع بقت عمم وطرابيش. ثم اشتدت المظاهرات وبدأ ضربها بالرصاص من ثكنات قصر النيل، مكان الهيلتون الوقت، فردينا عليهم بالحجارة وكرات النار. كان معنا عامل في قسم تشحيم الماكينات، خلع جاكتته ولفها وأشعل فيها النار وطوحها على الثكنات، وبدأت قوات الشرطة تطلق النار علينا، وحاصرتنا بالنيران، فألقى كثيرون بأنفسهم في النيل، واستشهد العديد من المتظاهرين، لكن الجيش الإنجليزي انسحب بعد ذلك من معسكرات القاهرة؛ قصر النيل والزيتون والعباسية ومن الإسكندرية وغيرها إلى منطقة القناة.»
الإنجليز تركوا خلفهم الإقطاعيين والرأسماليين، و46 تلتها سنوات أخرى أغلبها في السجون، لكن صفية اعترضت التسلسل الزمني بتعلية التليفزيون ليسمعوا نشرة الأخبار، وفقد شيخ العرب مستمعيه لصالح رئيس الجمهورية الذي كان يقول: «خفض دولار واحد في سعر برميل البترول معناه خفض 75 مليون دولار في إيراداتنا، ومع ذلك أوضاعنا مستورة والحمد لله»، ومن بعده وزير الحكم المحلي: «المرحلة القادمة بداية لتطور جذري في ديمقراطية التخطيط والتنفيذ»، ثم تمثيلية، زيادة، بطلها عمر الحريري. خلال ذلك أدرك شيخ العرب أن الليلة ليست له، فانسحب في وقار.
بانسحاب شيخ العرب ألفى عزيز نفسه وحيدا؛ فالمرأتان اللتان تجلسان على بعد سنتيمترات منه، وتربطه بهما خيوط موغلة في الزمان فضلا عن المكان (في حالة إحداهما على الأقل)، أصبحتا تبعدان عنه بمسافة ضوئية وقد استغرقتهما أحداث التمثيلية التليفزيونية. حاول أن يسخر من عمر الحريري الذي كان يمثل دور موظف مطحون، بينما كان شعره الفضي مكويا، فاحتدت صفية مؤكدة أن شعره هكذا في الحقيقة، ومرة أخرى سخر من الحماة الطيبة التي تحب زوجة ابنها وتحرص على سعادتها، فاحتدت ذات مؤكدة وجود نماذج من هذا النوع. وفي أثناء ذلك أصيب طفل الموظف المطحون بورم في المخ، بينما عهد إليه رئيسه بأربعة آلاف جنيه يحتفظ بها حتى الصباح، فهتف عزيز منتصرا: «سيضطر لإنفاقها على علاج طفله، ثم يذهب إلى السجن.» لكن المرأتين كانتا تبكيان فعلا أمام المأساة، فلزم الصمت، وأشعل السيجارة الأخيرة المسموح له بها.
بعد عشاء من الجبن والحلاوة، حملت ذات حقيبتها إلى الحمام الصغير، الذي تعاون الجميع على إغلاق بابه المصنوع من خشب الأبلكاش؛ لأن لسان المزلاج النحاسي الصغير كان بعيدا عن بيته. خلعت السوتيان والكيلوت، وكورتهما في كيس من البلاستيك دسته في حقيبتها وأخرجت منها آخرين نظيفين، ثم انحنت فوق حوض غسيل الأيدي تحدق في مرآة رخيصة، متوسطة الحجم، ثبتت بمسمار علاه الصدأ والتوى بتأثير اليد التي دقته. مرت بأصبعها على الجيوب التي برزت تحت عينيها، وعلى ندبة تشق شفتها العليا ويعجز الروج عن إخفائها، وتأكدت من أن تأثير آخر صبغة لشعرها لم يتلاش بعد، ثم خطت إلى ركن الحمام؛ لتقف أسفل الدوش الذي تتدفق مياهه على الأرض مباشرة، دون حوض كبير أو صغير، وغسلت شعرها بالمياه ثم بشامبو صفية الذي ظنته أجنبيا لأنها لم تنتبه إلى
Made in Egypt
كتبت بخط دقيق للغاية في قعر الزجاجة؛ ولهذا دعكت شعرها مرتين وكومته فوق رأسها، ثم دعكت جسمها جيدا بالصابون، وهنا اكتشفت بضع خيوط بيضاء في شعر عانتها، الذي أهملت إزالته في الآونة الأخيرة، فحاولت انتزاعها بطريقة تساعدها على الاختيار بين البديلين المطروحين أمامها بشأن علاقتها بعبد المجيد، باستبعاد كل منهما بالتتابع مع كل شعرة تخرج من منبتها، لكنها لم تنجح في انتزاع شعرة واحدة، فأسلمت نفسها لمياه الدوش، وقد ضاعت عليها فرصة اتخاذ القرار.
Shafi da ba'a sani ba