فأول ما قدمت في كتابك ما يقدمه ذو الفضل والنبل في الثناء على بلدنا وأهله، ووصفت الجميع على اختلاف طبقاتهم، وتباين درجاتهم، من آرائهم التي نحوها، وعلومهم التي وعوها، بأوفر الأقسام، واحتلالهم من ذلك بالغارب والسنام؛ حتى عارض الجبان الأسد، وناطح الجوزاء الجلمد، وناطق الأعجم الفصيح، وبارى الجاهل العالم، وجارى القاعد القائم، تحاسدًا على الفضائل. هذا معنى كلامك لم أورد ألفاظه، وإن أصميت أغراضه، إشفاقًا من أن أفضح كلامي به، وأدل على قصور آلتي بمجتلبه، فأكون كمن جمع بين الشبه والذهب، وقرن الدر إلى المخشلب؛ ثم قلت: إن ذكر الفتى عمره الثاني، والميت المجهول لا الفاني؛ فكم من هالك آثاره كاشفة عيانه، وواصفة قدره وشانه، وحي أثوابه كفنه، وجهله جننه. وهؤلاء الذي أنضيت في وصفهم جياد مدحك، وهتكت ظلامهم بغرة صبحك، على غير هذا الرأي مقيمون، وبخلاف هذا المذهب قائلون. فوليت في حيز وعزلت، وارتفعت في حال ونزلت، وأتيت بغاية المحال، وهو إثبات الضدين في حال، ثم زدت في التعليل، وبالغت في الاجتماع على التمثيل، باعتمادك تكذيب من قال: إن الذي قاله غيرك لو وقع لكان قرب المسافة التي هي شوط جارٍ، بل غمضة سارٍ، توجب حل الشك، وانجلاء الإفك؛