Daula Uthmaniyya Kafin Tsarin Mulki Da Bayansa
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Nau'ikan
وإذا علمنا - مع هذا - أن جميع الأفكار تنبهت، والعلم قد بسط جناحيه، ووسائل الأسفار قد تعددت أدركنا لأول وهلة سبب الاندفاع الهائل لمهاجرة الأوطان إلى حيث لا واش ولا رقيب، والصبر على مضض العيش تملصا من مخالب الموت أو مناسر الذل والهوان.
أما المهاجرون من البلاد العثمانية ففئتان؛ فئة فرت من البطش والاغتيال، وفئة جلت في طلب الرزق، ومرجع هجرة كلا الفريقين إلى الاستبداد، والمسلمون والمسيحيون في ذلك سواء، بل ربما كانت الوطأة أشد على المسلمين منها على المسيحيين.
لما قلت الأرزاق وتقلصت الأعمال باختلال الأمن في البلاد العثمانية، وتفتحت أبواب الكسب في أميركا وأستراليا ومستعمرات أوروبا الأفريقية تنبه إليها الأرمن واليونان والسوريون منذ زهاء أربعين عاما، ولكن المهاجرين في السنين العشر الأولى كانوا نزرا قليلا من صناع الأرمن وخدمة اليونان وفعلة السوريين اللبنانيين وأفراد من التجار لا يتجاوزون العشرات، ثم أخذوا يزدادون شيئا فشيئا إلى أن باتت كل باخرة من بواخر المساجري مربتيم تحمل كل أسبوع من ثغر واحد كثغر بيروت مئات منهم، وقل مثل ذلك في الأرمن وأقل من الفريقين اليونان.
ثم إذا نظرت إلى كل فئة من أبناء هذه الملل الثلاث رأيت لها أسبابا خاصة تدفعها إلى الجلاء مما يخرج عن الأسباب العامة، فاليونان أهل ملاحة واغتراب منذ القدم يدفعهم الجد إلى انتجاع الكسب حيث وجدوه، ولهم - منذ مئات سنين - تجار من أبناء جلدتهم أثروا في بلاد الغربة يعاونوهم إذا وفدوا عليهم، وهي خطة ألفوها قبل الجميع. فظلوا سائرين عليها حتى إذا قضوا وترهم من الأسفار انقلب أكثرهم راجعين إلى بلاد اليونان مما خرج عن سلطة الدولة العثمانية.
والأرمن أهل زراعة وتجارة في أرضهم وقل من يغادر أرضه منهم من سكان الأرياف، ولكن قليلين من أبناء المدن كانوا يهاجرون في سبيل التجارة.
والسوريون وإن كانت لهم بلادهم منذ القدم بلاد الاستعمار وسلك البحار، فإنهم انقطعوا قرونا طوالا إلى زراعتهم وتجارتهم في بلادهم، وكانت الأسفار لفئة قليلة من التجار أكثرهم من الحلبيين. فلما ضاقت أبواب المعيشة في البلاد العثمانية، واتسعت في الديار النائية كان اللبنانيون - وفيهم بقية دم من الفينيقيين - أول من أثار عاطفة الجلاء، كأن روح أجدادهم بعد أن استكنت تلك القرون تحركت في صدورهم فهزتهم هزة واحدة.
كان لبنان قبل سنة 1840 أحزابا سياسية غير دينية تتضاغن وتتصافى ، تتحارب وتتسالم؛ فتفني الفتن منهم من تفني ويعيش من يعيش، وهم جميعا مشتغلون بزراعتهم قانعون بما قسم لهم من الرزق الضيق. والقناعة رفيق الجهل.
ثم تحولت تلك الأحزاب السياسية إلى أحزاب دينية؛ لبواعث نبسطها في محل آخر، وبقيت الحال على ما هي عليه إلى سنة 1860.
فلما نال لبنان ذلك النظام (النافع في حينه المضر الآن) وزالت الفتن واستتب الأمن وكثرت المدارس؛ فانتشر العلم وعاف اللبنانيون شظف العيش القديم؛ باتت أراضيهم غير وافية بحاجياتهم، ولا تجارة تذكر عندهم ولا صناعة، ما خلا منسوجات وإن كانت من أحسن طراز، فلا رواج لها فأخذوا يتطلعون إلى موارد أخرى للمعيشة، فلم تلح لهم إلا من وراء البحار.
نظروا إلى ما حولهم من الممالك العثمانية، وهي بطبيعتها من أغنى أقاليم الكرة، فإذا بها فقيرة على غناها، ضيقة على اتساعها، وهم أهل إقدام وذكاء ونزق وإباء، فما راعهم تجشم المشاق، وضربوا في مناكب الأرض كل مضرب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
Shafi da ba'a sani ba