Daula Uthmaniyya Kafin Tsarin Mulki Da Bayansa
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Nau'ikan
أما في الأستانة فكأنهم خلطوا بين عبيد الله والمرتب محمد أفندي، وكان هذا فتى ذكيا مجتهدا، أراد أن يتم الحفر في الزنك فاستأذنني بالبقاء ثلاثة أشهر كانت في أثنائها التلغرافات متتابعة بالسؤال عنه. وما كان أشد هزئي وهزء الناس بسخافة عقولهم؛ إذ وصل الأستانة بعد زهاء شهرين، وكان اهتمامهم بتتبع خطواته من أميركا إلى الأستانة أعظم من الاهتمام بقدوم أمير عظيم. فما شعر يوم أرست الباخرة في السركه جي إلا وحاجبان من حجاب «المابين» يسألان عنه. فأخرجاه بما معه إلى عربة معدة لاستقباله وساقاه إلى «المابين»، فلبث ثلاثة أيام تحت الاستنطاق ولم يجدوا بين ثيابه إلا رسوم المعرض وهدايا قليلة أتى بها لوالدته العاجزة. وكأن الله ألقى الرحمة في قلب بعضهم؛ فأذنوا له بالخروج لمشاهدة والدته وأصحبوه برقيب يلازمه، فأتاني شاكيا باكيا، فبادرت مسرعا إلى أبي الضيا وواصلنا السعي إلى أن من الله عليه بالفرج.
وإليك غريبة أخرى من أذيال هذه المسألة، وهي وإن لم تكن من لباب الحديث لا تخلو من فائدة وتفكهة.
في تلك الآونة استدعاني ناظر الخارجية، فذهبت إلى النظارة، ولم يكن أتاها في ذلك اليوم فاستقبلني أحد معاونيه، وكانت لي به معرفة سابقة. فقال: إن لدينا رسائل شتى من السفير العثماني في واشنطون تفيض في الثناء عليك، وما كان لك من اليد في خدمة الاسم العثماني، ولذلك يود دولة الناظر أن يبلغك شكره، ويطلب لك ما تشاء من المكافأة المعنوية. قلت: حسبي منه فضلا أن يكون فكر في ذلك، فلست من سلك أصحاب الرتب. وبعد حديث طويل ومجاملة، قال: إن لنا حاجة لديك. قلت: مقضية، إن شاء الله. قال: أن تعلمنا ماذا فعلت بحروف المطبعة التي أخذتها من أبي الضياء. قلت : استبقيتها في نيويورك عند وكيل لي على أن يسلمها إلى صاحب جريدة المهاجرين السوريين كان رغب في مشتراها.
قال: نسألك، إذا، أن تكتب تلغرافا مفصلا على نفقتنا تأمر وكيلك به بتسليمها إلى قنصل الدولة العلية في نيويورك إذا كانت لا تزال باقية في حيازته، والثمن يدفع إليك هنا حالما يرد الجواب من القنصل باستلامها. فكتبنا التلغراف وأرسل في الحضرة فورد الجواب أن صاحب الجريدة لم يستلم الحروف؛ ولذلك استلمها القنصل فنقدوني الثمن. ولكنهم بادروا في الحال إلى إصدار الأوامر بمنع إخراج الحروف المطبعية من البلاد العثمانية، ويا لكثافة تلك الغشاوة على أبصارهم! أجهلوا أن مكاتب البريد الأجنبية تحمل ما شاء العثمانيون منها حيث شاءوا، وأن مسابك الحروف في أوروبا في غنى عن حروفنا إذا أحرجها الأمر؟
ولنختم هذه الرحلة - وإن طالت - بكلمة عن حقي بك ناظر المعارف الحالي؛ فإنه رفع التقارير الضافية الأذيال عما شاهد من ترقيات الصناعة والتجارة والزراعة مما يجب تحديه في الممالك العثمانية. فاسألوه عما كانت عليه نتيجة كل ذلك العناء، وذلك الجهد، أفلم تكن أوراقه لدى عمال «المابين» أقل قيمة من مهملات الجرائد؟
وهذا رجب باشا ناظر الحربية الحالي، وهو الذي ذكره كامل باشا منذ أعوام طويلة لجلالة السلطان، فقال: أعلن الدستور وألق مقاليد الحكومة إلى ذويها، واجعل زمام السر عسكرية بيد رجب باشا، فيستقيم لك الأمر. أنسوا منه ميلا إلى الحرية والإصلاح، فما وسعهم نبذه نبذا مطلقا لحاجتهم إليه، وما وسعهم أيضا أن يكون قريبا منهم فكانوا يلقون به إلى أطراف البلاد ليدفع عنهم المحن وهو بعيد عنهم؟
كان سنة 1878 قومندانا عسكريا في بغداد، وصديقه الفريق ثابت باشا الناشئ على مشربه واليا للبصرة. وكانا متضافرين على ما تناله أيديهما من ضروب الإصلاح، فهالهما ما رأيا من اضمحلال آثار مدحت باشا وساءهما - خصوصا - ما رأياه من مآل إدارة عمان النهرية وعجزها عن القيام بنفقاتها وكثرة بواخرها وبإزائها شركة لنج الإنكليزية، وليس لها إلا باخرتان يفيض من دخلها الألوف؛ فعرضا الأمر بتقرير مفصل إلى الأستانة. وأخذ ثابت باشا والي البصرة على نفسه أن يزيل العجز، ويفي الديون ويبقي للخزينة مبلغا وافرا من الدخل؛ ذلك لما كان يرى من اختلال تلك الإدارة ومن إثراء الذين تولوا أمرها على كثرتهم، فبلغت تقاريره الأستانة في ساعة حظ، فعهدوا إليه بالأمر.
وبعد البحث الطويل مع مجلس إدارة البصرة أقروا على تسليم زمام البواخر ومعمل الحديد اللاحق بها إلى رجل لا يطمعه كسب المال الحرام، وكانت له مشاغل تشغله، فاعتذر أولا ثم قبل استلام تلك المهمة على شرطين، أولهما أن لا تطول مدة تغيبه عن البصرة إلا أربعة أشهر، ريثما يعين ناظر آخر، والثاني أن يكون مطلق اليد في التصرف الداخلي والعزل والتنصيب. فأجيب إلى كلا الطلبين، وكأن الله فتح الكنوز على يده، فوفيت الديون وأرجع جميع عمال معمل الحديد الذين كانوا غادروا عملهم لتأخر دفع الأجور، وفاض في خزينة الإدارة بضعة ألوف من الذهب. فتهلل رجب باشا وثابت باشا بشرا، ولكنه ما مضى ثلاثة شهور حتى انتزع الأمر من يد رجب وثابت واستقال الناظر من نظارته. فقال رجب باشا حينئذ على مسمع من الناس: ما عسى أن يتاح للبنائين أن يشيدوا والهدامون من حولهم.
أما إدارة تلك البواخر فلم تزل تنحط إلى أن عهد بها في هذه المدة إلى الخزينة الخاصة فأصلحت الحال.
وإن من أراد أن يتتبع أمثال هذه الحقائق الثابتة لا يصعب عليه أن يجمع منها المجلدات.
Shafi da ba'a sani ba