وحدث بعد ذلك بقليل أن طلبه قائد عسكري ليكون كاتما لسره في رحلة سيقوم بها في بعض أنحاء أوروبا؛ حتى إذا ما ارتحل معه، عاد وفي نفسه قرار حاسم بأن يتولى «الرسالة» بالمراجعة والتعديل، معترفا بأنه قد تهور في نشرها مستعجلا شهرته، وبأنه كان مدفوعا في عمله ذاك بالشكل أكثر منه بالموضوع، ولو وضع الموضوع نصب عينيه، لتمهل حتى يتقن ويجيد، ويقول: «لقد اقترفت خطيئة يقترفها كثيرون، وأعني بها حماقة الذهاب إلى المطبعة قبل الأوان ...» ولكي يكفر عن هذه الخطيئة أعاد أجزاء «الرسالة» بحيث أخرج كل جزء منها في كتاب مستقل، بعد أن راجعه وجوده؛ بادئا بالجزء الأول الذي أطلق عليه في الإخراج الجديد اسم «بحث في العقل البشري».
7
كان هيوم في «الرسالة» طموحا مسرفا في طموحه؛ إذ أراد أن يطبق مبدأه الجديد على شتى نواحي الطبيعة البشرية من عقل وعاطفة وسلوك؛ لكنه أراد الآن أن يخرج كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة - وهي التي تكون على التوالي أجزاء «الرسالة» الثلاثة - في بحث خاص مستقل، فقد يجد أن المبدأ الذي ينطبق على المجال العقلي لا ينطبق على العواطف، وأن ما ينطبق على هذه قد لا ينطبق على مجال الأخلاق، وإذن فليختص كل موضوع بكتاب.
وبدأ تنفيذ مشروعه الجديد ب «البحث في العقل البشري» الذي كانت مادته في أساسها هي نفسها مادة الجزء الأول من «الرسالة في الطبيعة البشرية» لكنه كان يختلف من حيث الأسلوب وجودة العرض، حتى إن هيوم مع اعترافه بألا اختلاف في المادة بين «البحث» و«الرسالة» إلا أنه كان يحرص أشد الحرص على أن يقرأه القارئ في الأولى دون الثانية، وكان يريد للنقاد أن يتناولوه في «البحث» لا في «الرسالة» اعتقادا منه بأن ما جاء في «الرسالة» فجا ملتويا قد ورد في «البحث» ناضجا مستقيما.
ومع ذلك فقد ورد في «البحث» موضوعان لم يكونا في «الرسالة»، وهما موضوع «المعجزات» وموضوع «النتائج العملية للديانة الطبيعية»؛ وقد أثارت آراؤه في «المعجزات» ضجة شديدة، ولعله أراد لهذه الضجة أن تثور حتى يستيقظ له من لم يكن قد أيقظته «الرسالة»، أو لعله لم يرد شيئا أكثر من إثبات رأيه مهما يكن متعارضا مع الرأي السائد.
ومهما يكن من أمر فقد أخذت شهرته الآن في الذيوع، وتحرك له النقاد، فنزل ذلك كله من نفسه منزل النشوة؛ وهم بالخطوة الثانية من مشروعه الجديد، وهو إعادة أجزاء «الرسالة» في كتب مستقلة؛ فأخرج في عام 1751م كتابه الثاني «بحث في مبادئ الأخلاق»
8
يعيد به مادة الجزء الثالث من أجزاء «الرسالة»؛ ولقد عبر فيما بعد عن عجبه أن صدر هذا البحث في مبادئ الأخلاق دون أن يسترعي من النقد ما هو جدير به من اهتمام، مع أنه في رأيه أعظم جزء في إنتاجه كله بشتى أنواعه من فلسفة وأدب وتاريخ؛ بل إن المقارنة - في رأيه - لا تجوز بين هذا البحث وأي جزء آخر من إنتاجه؛ لأن بعد الشقة بينهما لا يجعل سبيلا إلى المقارنة العادلة .
وكما كانت الحال في الموازنة بين «بحث في العقل البشري» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، فكذلك الحال في الموازنة بين «البحث في مبادئ الأخلاق» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، من حيث إن «البحث» أوضح رأيا وأجود أسلوبا وأحسن عرضا من جميع الوجوه؛ فها هنا قد أوجز القول وركزه في المهم، وهو فكرة المنفعة التي كانت المحور الذي تدور حوله نظريته الأخلاقية كلها، ركز القول في هذه الفكرة تركيزا أوضحها وبينها حتى لا يختلط الأمر في أفهام القارئين.
وقد ألحق بكتابه «بحث في مبادئ الأخلاق» موضوعا أطلق عليه اسم «محاورة»
Shafi da ba'a sani ba