64

النص رقم 10

وجود الله وطبيعته

قال «ديميا»: لا بد لي من الاعتراف يا «كلنثيز»

1

بأن شيئا لا يثير دهشتي بقدر ما يثيرها هذا الضوء الذي عرضت فيه هذا النقاش منذ بدأناه؛ فالمستمع إلى حديثك قد يتصور من كل ما ورد في سياقه أنك إنما تعتقد في وجود إله وتدافع عن ذلك ضد مغالطات الملحدين والكفار، وأنك بهذا قد التزمت أن تكون بطل الدفاع عن هذا المبدأ الذي هو مبدأ للعقيدة الدينية بأسرها؛ ولكن هذا - فيما أرجو - ليس موضع اختلاف بيننا بأي وجه من الوجوه؛ إذ إني على اعتقاد بأنك لن تجد إنسانا، أعني إنسانا يتمتع على الأقل بإدراكه الفطري، قد ساوره الشك جادا في حقيقة لها كل هذا اليقين والوضوح الذاتي؛ فليست المشكلة خاصة ب «وجود» الله، بل ب «طبيعته»؛ فإني أؤكد - مستندا إلى ما في العقل البشري من أوجه العجز - أن هذه الطبيعة (طبيعة الله) غير مفهومة ولا معلومة لنا قط؛ فجوهر ذلك العقل السامي، وصفاته، وكيفية وجوده، وحقيقة ديمومته نفسها؛ هذه الأشياء وكل ما عداها مما يتصل بهذا «الكائن» (الإلهي) الذي له كل هذا القدر من الألوهية إن هي إلا مسائل ملغزة عند الإنسان؛ فما دمنا مخلوقات محدودة بنهايات، وضعيفة، وعمياء، فلزام علينا أن نذل أنفسنا في حضرته المجيدة؛ ثم ما دمنا على علم بأوجه الضعف فينا، فحتم علينا أن نمجد في صمت كمالاته اللانهائية، التي لم ترها عين ولا سمعتها أذن، كلا ولا دخلت قلب إنسان فيتصور بعقله كيف تكون؛ إنها مغطاة بسحابة كثيفة تخفيها عن الإنسان في تطلعه؛ وإنه لمن انتهاك الحرمات أن نحاول التغلغل خلال هذه المعميات المقدسة؛ فالذي يتلو إنكار وجود الله في درجة البعد عن التقوى هو أن تدفعنا القحة إلى التسلل في طبيعة الله وجوهره وأحكامه وصفاته.

ولكن خشية أن يحملك الظن على أن «تقواي» قد غلبت «فلسفتي» على أمرها، فسأدعم رأيي - إن كان بحاجة إلى تدعيم - برجل هو حجة من أعظم الثقات؛ ففي مقدوري أن أستشهد بكافة رجال الدين تقريبا منذ أن نشأت المسيحية، الذين عالجوا هذا الموضوع أو غيره من موضوعات اللاهوت؛ لكنني سأحصر نفسي ها هنا في رجل اشتهر في عالم التقوى وعالم الفلسفة على حد سواء، وأعني به «الأب مالبرانش» الذي عبر عن رأيه - فيما أذكر - بالعبارة الآتية:

2

إنه لا يجوز لأحد (هكذا يقول) أن يسمي الله روحا لكي يعبر بهذه التسمية تعبيرا إيجابيا عن هويته، بقدر ما يطلق عليه هذه التسمية ليدل بها على أنه ليس مادة؛ فالله كائن كامل كمالا لا نهائيا، ليس في ذلك موضع عندنا لشك ...

فأجاب «فيلو»: إنه إزاء رجل حجة له هذه المكانة العظيمة كالذي استشهدت به، وألف غيره من الثقات ممن تستطيع أن تستشهد بهم، قد يبدو سخفا مني أن أضيف شعوري (حيال الموضوع) أو أن أعبر عن استحساني لمذهبك؛ ولكنه لا جدال في أنه حين يعالج ذوو العقل المتزن هذه الموضوعات، فيستحيل أن يكون موضع الإشكال هو «وجود» الله بل «طبيعته» فحسب؛ ذلك لأن الحقيقة الأولى - كما قد لاحظت فأصبت الملاحظة - واضحة بذاتها وليست مما يجوز فيه اختلاف الرأي؛ إذ لا موجود بغير علة والعلة الأولى لهذا الكون (مهما تكن) هي ما نسميه ب «الله»، ثم تحملنا التقوى على أن نعزو إليه كل ضروب الكمال؛ ومن يساوره الشك في هذه الحقيقة الأساسية يستحق كل عقاب يمكن أن ينزل بالفلاسفة، وأعني به أقصى درجات السخرية والازدراء والاستهجان؛ ولكن لما كان الكمال كله أمرا نسبيا بكل معاني الكلمة، لزم علينا ألا نتصور أبدا أننا نفهم الصفات التي ننعت بها هذا «الكائن» الإلهي، وألا نفترض أن ضروب كماله مما يحمل أي مماثلة أو شبه بضروب الكمال التي يتصف بها المخلوق البشري؛ ف «الحكمة» و«الفكر» و«التدبير» و«المعرفة» صفات ننسبها إلى الله صوابا؛ لأن لهذه الكلمات منزلة الشرف بين الناس، وليس لدينا لغة أخرى ولا مدركات عقلية أخرى نستطيع بها أن نعبر عن تمجيدنا له؛ ولكن لنكن على حذر، خشية أن يذهب بنا الظن إلى أن أفكارنا هذه تقابل ضروب كماله بأي وجه من الوجوه، أو أن صفاته تشبه أقل شبه أمثالها مما نطلقه على أفراد الناس؛ فهو أجل بدرجة لا حد لها من إدراكنا ونظرنا المحدودين؛ وهو إلى أن يكون موضع عبادة في المعبد، أقرب منه إلى أن يكون موضوع جدل في المدارس.

ومضى «فيلو» قائلا: إنه في الحق يا «كلينثيز» لا حاجة بنا إلى اللجوء إلى ذلك الشك المصطنع، الذي يلقى منك ما يلقاه من سخط، لكي نصل به إلى هذه الخاتمة؛ فأفكارنا لا تمتد أبعد من حدود خبرتنا؛ وليست لدينا خبرة بصفات الله وأعماله؛ ولا حاجة بي إلى استخراج النتيجة من هذا القياس. وتستطيع أن تنتزع بنفسك نتيجة الاستدلال؛ وإنه ليسرني (وأرجو أن يسرك كذلك) أن الاستدلال العقلي المستقيم، والتقوى السليمة، يلتقيان هنا في نتيجة واحدة، وأن كليهما ينهض دعامة لطبيعة «الكائن الأسمى» التي يحيط بها إلغاز محبب، والتي هي فوق إدراك أفهامنا.

Shafi da ba'a sani ba