إنك بهذا المبدأ تستطيع أن تتخلص من كثير جدا من أشباه المدركات العقلية التي يجعلها الميتافيزيقيون موضوعات لأحاديثهم على حين لا تكون في حقيقة أمرها أفكارا مستندة إلى أصول انطباعية مارسناها في خبراتنا المباشرة حسا كانت تلك الخبرات أو شعورا؛ فالأفكار بطبيعتها لا بد أن تكون - كما أسلفنا - أخفت لونا وأضعف أثرا من الانطباع المباشر، وإذا كان ذلك صحيحا عن الأفكار التي هي صور ذهنية تحاكي الانطباعات محاكاة التطابق، فهو أصح بالنسبة إلى الأفكار المجردة التي لا تطابق انطباعات بعينها، بل تحتاج إلى تحليل إلى عناصر أولية، يكون كل عنصر منها صدى لأصل انطباعي؛ إذن فالأفكار المجردة، التي منها تتألف الميتافيزيقا وعليها تدور مباحثها، محتوم عليها أن تكون على كثير من الغموض بالقياس إلى الانطباعات المباشرة، ولذلك فالانزلاق هنا هين والوقوع في الخطأ يسير؛ إذ سرعان ما يختلط علينا الأمر فلا نفرق بين فكرة مجردة مما يمكن تحليله ورده إلى أصول من الخبرة المباشرة، وبين فكرة أخرى مزعومة، نحاول رد عناصرها إلى أصولها الانطباعية الأولى فلا ترتد؛ ولا يخدعنا أن نجد الفيلسوف الذي يستخدم أمثال هذه الأفكار المزعومة يعرفها ويحددها بسلسلة من اللفظ؛ فإذا ما وقفت موقف المرتاب إزاء فكرة مما يسوقه الفلاسفة في مباحثهم، فما عليك إلا أن تسأل: إلى أي انطباع مباشر نستطيع أن نرد هذه الفكرة المزعومة؟ فإذا لم يدلوك على انطباع بذاته من انطباعات الحس أو الشعور كان مصدرا لتلك الفكرة، فلك أن تتنكر لها وأنت على ثقة من صوابك؛ وهكذا يزول عن أفكارنا ما قد يكتنفها من غموض يسبب اختلافنا في الرأي والمذهب، إذا نحن أخرجناها إلى الضوء الواضح، ضوء خبراتنا المباشرة.
12 •••
ذلك هو الأساس الأول الذي يبني عليه هيوم مذهبه الفلسفي، وهو أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا المباشرة التي كانت بمثابة النوافذ التي دخلت منها الخبرة التي كونت تلك الفكرة، وما ليس يمكن رده من أفكارنا إلى انطباعاته الأولية فليس هو من الأفكار التي يركن إليها على أنها صواب؛ على أن أفكارنا إما أن تكون بسيطة أو مركبة، ونعني بالبسيط ما لا يمكن تحليله، وبالمركب ما يمكن تحليله إلى عناصر أبسط منه؛ فإن كانت الفكرة بسيطة كانت صورة لانطباع معين، كفكرتي - مثلا - عن لون البرتقالة أو عن طعمها، وأما إن كانت الفكرة مركبة فينبغي أولا تحليلها إلى عناصرها، لنرد كل عنصر على حدة إلى انطباعه الذي هو صورة له، كفكرتي عن البرتقالة في مجموعها، فهي فكرة مؤلفة من لون وطعم ورائحة وشكل ... إلخ، فلا بد - إذن - أن أحلل الفكرة إلى هذه العناصر، ليسهل رد كل واحد منها إلى أصله الحسي.
وإن هيوم ليتحدى معارضيه أن يأتوا له بفكرة لا يمكن إرجاعها على هذا النحو إلى أصولها الحسية التي جاءت منها؛ ومن هم معارضوه؟ هم أولئك الذين كانوا يزعمون أن لبعض الأفكار مصدرا غير الانطباعات المباشرة؛ إذ يزعمون أن الأفكار قد تخرج من باطن العقل بغير حاجة منها إلى أصول تأتي من الخارج، وذلك هو مذهب «الأفكار الفطرية» المشهور في الفلسفة؛ فمنذ أفلاطون لم ينفك الفلاسفة عن القول بوجود أفكار تنبع من فطرة الإنسان لا تستند إلى خبرة حسية، بل هي أفكار قد نجاوز بها حدود الخبرة الإنسانية كلها؛ فالأفكار الرياضية المجردة - مثلا - لم تكن عند هؤلاء الفلاسفة مما يستمده العقل من خبرة، وكذلك قل في جواهر الأشياء، فهي أيضا عند هؤلاء الفلاسفة لم تكن مما تجيء به الخبرة المباشرة، فالروح التي هي جوهر الإنسان - مثلا - لا سبيل إلى إدراكها بالخبرة المباشرة، ومع ذلك ففكرتها - عندهم - قائمة في العقل، مستمدة من طبيعة العقل نفسها؛ والعالم الروحاني كله الذي كان يقول به رجال اللاهوت، لا نعرف ما نعرفه عنه بالخبرة المباشرة ، فليس لدي «انطباع» مما جاء عن طريق البصر أو السمع أو اللمس، أعده أصلا لما عندي من أفكار عن الكائنات الروحانية التي أظن أنني على علم بها؛ نعم إنه منذ أفلاطون والفلاسفة «العقليون» لا ينفكون يذكرون لنا أمثلة من الأفكار التي لا يستمدها الإنسان من خبرته الحسية؛ فمن ذا الذي رأى في خبرته الحسية نقطة أو خطا مستقيما يتحقق فيه التعريف الهندسي؟ أليست النقطة الهندسية هي كائن بغير أبعاد، أي إنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ فأين شهدت جزءا من مكان بغير طول ولا عرض؟ ثم أليس الخط المستقيم في تعريف الهندسة هو ما له طول بغير عرض - إذ لو كان له عرض لأصبح سطحا لا خطا مستقيما - فأين شهدت مثل هذا الخط المستقيم؟ وقل هذا في الحقائق الرياضية المجردة كلها، دع عنك الكائنات الروحية من أنفس وعقول وملائكة وشياطين وآلهة ... هذه كلها عند الفلاسفة العقليين حقائق لها عندنا أفكار لم تكن «الانطباعات» المباشرة مصدرا لها.
فإذا ما جاء هيوم يقضي ببطلان كل فكرة لا تستند في أصلها إلى انطباع فإنما جاء يقول شيئا يهدم للفلاسفة كثيرا جدا مما ظنوه «أفكارا» وما هو من «الفكر» في شيء، فإن هي إلا ألفاظ يرددونها بغير معنى؛ وكيف يكون للكلمة معنى دون أن تكون مشيرة إلى عنصر أو عناصر مما عسى أن يقع في خبرة الإنسان؟ ماذا «أعني» إذن بهذه الكلمة التي لا تشير إلى مسمى؟
إن الوضعيين المعاصرين ليعدون هيوم أباهم الحقيقي، على الرغم من أنهم لا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها عن «الانطباعات» و«الأفكار»، بل هم يحصرون جهدهم الفلسفي - لا في أبحاث نفسية معرفية كما فعل هيوم - بل في العبارات اللغوية والألفاظ، يحللونها إلى عناصرها، فالأساس بينهم وبين هيوم واحد، أما طبيعة ما يعملونه على هذا الأساس فمختلفة عن طبيعة ما كان يعمله؛ ذلك أن الوضعيين المعاصرين حين يتناولون كلمة بالتحليل، تراهم يلجئون إلى تعريفها، لكن التعريف سيتألف من عدة كلمات، ولذلك فهم يعودون إلى هذه الكلمات نفسها واحدة فواحدة يحاولون تعريفها بكلمات أخرى، وهكذا ... فأين تنتهي سلسلة التعريف؟ أنظل نسير في ألفاظ بعد ألفاظ بعد ألفاظ؟ كلا، بل لا بد أن تنتهي إلى كلمات يكون تعريفها لا بكلمات أخرى بل بالإشارة إلى مسمياتها فيما تحتوي عليه خبرة الإنسان المباشرة؛ وإن شئت فسم هذه الكلمات الأخيرة التي نعرفها بالإشارة إلى مسمياتها، باللامعرفات، أي هي الكلمات التي لا يكون تعريفها بكلمات سواها؛ وبذلك تنقسم الكلمات إلى «معرفات» و«لا معرفات» وبالثانية نعرف الأولى.
فماذا لو صادفت كلمة وأردت تعريفها بكلمات، ثم هذه بأخرى، والأخرى بأخرى، وهكذا دون أن أجد نقطة أقف عندها لأخرج من نطاق الكلمات إلى دنيا الأشياء؟ أعني دون أن أجد النقطة التي أنتهي عندها مشيرا إلى المسميات الواقعة؟ إنها عندئذ تكون كلمة منتحلة مختلقة ليست بذات معنى حقيقي.
فالوضعيون المعاصرون يقابلون بين «اللامعرفات» و«المعرفات» كما كان هيوم يقابل بين «الانطباعات» و«الأفكار»، الأساس واحد لكن العمل مختلف؛ الأساس المشترك بينهما هو المعيار الذي أقيس به مشروعية «الفكرة» وصلاحيتها، فإن كانت الفكرة من أفكاري مشروعة تحتم أن ترتد إلى مصدرها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة، هذا هو المبدأ بلغة هيوم، فإذا عبرت عنه بلغة المدرسة الوضعية المعاصرة قلت: إن كانت اللفظة التي أستخدمها مما يمكن تعريفه في النهاية بالإشارة إلى مسماها في عالم الأشياء الواقعة، فهي لفظة مشروعة وإلا فهي لفظة زائفة. (1-2) الألفاظ الكلية المجردة
لو كانت الفكرة من أفكارنا نسخة تطابق انطباعا خبريا صادفناه في حياتنا التجريبية، بحيث إذا وجدنا بين أفكارنا فكرة لا نجد لها الأصل الخبري الذي هي نسخة منه، كانت فكرة زائفة، أقول إنه لو كان الأمر كذلك لنشأ إشكال عسير، هو: كيف - إذن - أفهم اللفظة الكلية المجردة؟ كيف أفهم - مثلا - لفظ «إنسان»؟ ماذا يرد إلى ذهنك مما تعده «معنى» لهذه الكلمة؟ إن من صادفتهم في حياتك من أفراد الإنسان مختلف بعضهم عن بعض في نواح كثيرة، فلا هم ذوو طول واحد ولا لون واحد ولا جنس واحد ولا مجموعة واحدة من العادات السلوكية؛ لكن هؤلاء الأفراد أنفسهم هم الذين انطبعت بهم حواسك انطباعا مباشرا، فإذا كانت الفكرة الصائبة هي تلك التي ترتد إلى انطباع معين، فإلى من من هؤلاء الأفراد ترد فكرة «إنسان» لتقضي في أمرها إن كانت فكرة صحيحة أو لم تكن؟ أتردها إلى فلان؟ لكن فلانا هذا ذو صفات خاصة به لا تتكرر في سواه، فلو جاز أن ترد إليه هو فكرة «إنسان»، فكيف إذن تطلق هذه الكلمة نفسها بعد ذلك على أفراد آخرين؟ إنها إن طابقته هو فلن تطابق أحدا عداه، أي إن هذه الفكرة إن ارتكزت في مبررات وجودها على فلان هذا، فلا يجوز بعد ذلك أن ترتكز على غيره من الأفراد الذين يختلفون عنه.
قد تقول: ولكني أطلق هذه الكلمة «إنسان» على ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد جميعا، بعد تجريدهم من الصفات التي هي فيهم موضع اختلاف، فلا أطلق الكلمة «إنسان» - مثلا - على طول بعينه أو لون بعينه أو جنس بعينه، بل أطلقها على كذا وكذا من الصفات التي هي كائنة في كل فرد من الناس، كصفة التفكير العاقل مثلا ... قد تقول هذا - وقد قاله فيلسوف مثل أرسطو وغيره - لكنك عندئذ تقول ما يستحيل أداؤه؛ كيف تستبعد صفات وتستبقي صفات مع أن هذه وتلك مما يستحيل أن تكون إلا مجتمعة معا؟ فهل رأيت فردا من الناس بغير لون حتى يجوز لك أن تتصور «إنسانا» بغير لون؟ هل رأيت فردا بغير طول معين حتى تنشئ لنفسك فكرة «الإنسان» الذي لا طول له؟
Shafi da ba'a sani ba