1 - طفولته السعيدة
2 - زيارته لمدينة يارمث
3 - غرباء في المنزل القديم
4 - السفر بالعربة
5 - الأسابيع الأولى في مدرسة سيلم هاوس
6 - جيه ستيرفورث وترادلز
7 - حياة المدرسة
8 - زوار من أجل ديفيد
9 - مثل الأيام الماضية تماما
10 - عيد ميلاد لا ينسى
11 - زفاف بيجوتي
12 - ديفيد يخرج إلى الدنيا
13 - العسر المالي لأسرة ميكوبر
14 - ديفيد يتخذ قرارا
15 - رحلته الزاخرة بالأحداث
16 - كيف استقبلته الآنسة بيتسي
17 - الآنسة تروتوود تقرر
1 - طفولته السعيدة
2 - زيارته لمدينة يارمث
3 - غرباء في المنزل القديم
4 - السفر بالعربة
5 - الأسابيع الأولى في مدرسة سيلم هاوس
6 - جيه ستيرفورث وترادلز
7 - حياة المدرسة
8 - زوار من أجل ديفيد
9 - مثل الأيام الماضية تماما
10 - عيد ميلاد لا ينسى
11 - زفاف بيجوتي
12 - ديفيد يخرج إلى الدنيا
13 - العسر المالي لأسرة ميكوبر
14 - ديفيد يتخذ قرارا
15 - رحلته الزاخرة بالأحداث
16 - كيف استقبلته الآنسة بيتسي
17 - الآنسة تروتوود تقرر
ديفيد كوبرفيلد
ديفيد كوبرفيلد
أعدتها للأطفال أليس إف جاكسون
تأليف
تشارلز ديكنز
ترجمة
إسلام سميح الردان
مراجعة
محمد يحيى
الفصل الأول
طفولته السعيدة
لم يعرف ديفيد كوبرفيلد والده مطلقا؛ لأنه توفي قبل أن يولد ديفيد؛ لكن ديفيد لم ينس قط والدته الشابة الجميلة، ولا شعرها الجميل، وعينيها اللطيفتين اللامعتين.
عندما عاد ديفيد بذاكرته إلى الأيام الضبابية لطفولته، كانت أمه هي أول شخص تذكره؛ وكذلك بيجوتي.
كانت عينا بيجوتي سوداوين، ووجنتاها وذراعاها شديدة الحمرة، لدرجة أن ديفيد كان يتعجب لم لم تفضل الطيور نقرها هي على نقر ثمار التفاح.
وفي عصر يوم صحو نشطت فيه الرياح، من أيام شهر مارس، وهو اليوم الذي ولد فيه ديفيد، كانت السيدة كوبرفيلد جالسة بجوار مدفأة ردهة المنزل، وعندما رفعت عينيها إلى النافذة المقابلة لها رأت في الحديقة سيدة غريبة قادمة.
وعلى الرغم من أن الأرملة الشابة لم تكن قد رأتها من قبل قط؛ فإنها شعرت شعورا جازما أنها الآنسة بيتسي تروتوود؛ عمة زوجها المتوفى، التي كثيرا ما كان يتحدث عنها. لقد كان ابن أخي الآنسة بيتسي أثيرا عندها، لكنها غضبت عليه للغاية عندما تزوج مثل هذه الزوجة الشابة الأشبه ببنت صغيرة. كانت الآنسة بيتسي تسميها «دمية شمعية»، رغم أن عينيها لم تقعا عليها مطلقا قبل عصر ذلك اليوم.
بدلا من أن تدق الآنسة بيتسي الجرس كأي ضيف آخر، جاءت وأخذت تنظر من النافذة إلى داخل المنزل، حيث ألصقت طرف أنفها قريبا جدا من الزجاج لدرجة أنه صار أفطس وشاحبا للغاية من أثر ضغطه بالزجاج؛ وعندما رأت جسد السيدة كوبرفيلد الشابة الشبيهة بالبنات الصغيرات في ثوب الحداد مثل الأرامل، أشارت إليها لكي تأتي وتفتح الباب.
قالت الآنسة بيتسي وهي تقلب النظر فيها بازدراء: «أظنك السيدة ديفيد كوبرفيلد.»
قالت السيدة كوبرفيلد بوهن: «نعم.»
قالت الضيفة: «أنا الآنسة تروتوود، لقد سمعت عني، أظن هذا.»
قالت السيدة كوبرفيلد إنها سمعت عنها بالفعل.
قالت الآنسة بيتسي، وهي تسير خلف مضيفتها إلى الردهة: «الآن ترينني.»
كانت الآنسة بيتسي تبدو مهيبة للغاية، كما أنها راحت تحدق بقوة، لدرجة أن السيدة كوبرفيلد المسكينة بدأت تبكي.
قالت الآنسة بيتسي: «يا إلهي، كفى. لا تفعلي هذا! تعالي إلي! اخلعي قبعتك يا ابنتي، ودعيني أراك.»
كانت السيدة كوبرفيلد خائفة جدا بحيث لم تستطع أن ترفض؛ لذا خلعت قبعة الأرامل التي ترتديها بيدين متوترتين للغاية لدرجة أن شعرها، الذي كان في غاية الجمال، سقط على وجهها.
صاحت الآنسة بيتسي قائلة: «يا إلهي، يا للروعة! إنك صغيرة للغاية!»
نكست السيدة كوبرفيلد المسكينة رأسها خجلا وكأنما كانت هي المسئولة، تلك البائسة، عن هيئتها التي بدت صغيرة للغاية؛ وبينما راحت تبكي وتتحسر بصوت خافت على أنها ليست سوى أرملة شبيهة بالأطفال، وأنها إذا عاشت فلن تصبح سوى أم شبيهة بالأطفال، خيل إليها أنها أحست بالآنسة بيتسي تلمس شعرها في رفق؛ لكنها عندما رفعت رأسها رأت الضيفة جالسة وقدماها على حاجز المدفأة، وقد شبكت يديها فوق ركبتها، وراحت تنظر بعبوس في النيران.
قالت الآنسة بيتسي، عندما رأت مضيفتها وكأنها قد أوشكت على الإغماء: «تناولي بعض الشاي. بم تنادين خادمتك؟»
قالت السيدة كوبرفيلد: «بيجوتي.»
رددت الآنسة بيتسي الاسم بسخط: «بيجوتي!» ثم قالت: «أتقصدين أن تقولي إن أي إنسانة قد سميت بيجوتي عند تعميدها؟»
قالت السيدة كوبرفيلد بوهن : «إنه اسم عائلتها. كان السيد كوبرفيلد يناديها به؛ لأن اسم معموديتها كاسمي تماما.»
صاحت الآنسة بيتسي وهي تفتح باب الردهة: «يا بيجوتي! أحضري الشاي. إن سيدتك متعبة قليلا. لا تتلكئي.»
كانت بيجوتي قادمة في الدهليز وفي يدها شمعة، لكنها وقفت مشدوهة من الصوت الغريب الذي يصيح معطيا الأوامر وكأنه صوت سيد المنزل. بعد ذلك أغلقت الآنسة بيتسي الباب من جديد، وجلست كما كانت تجلس من قبل، واضعة قدميها على حاجز المدفأة.
ثم سألت الآنسة بيتسي بعد فترة صمت قصيرة: «وهل كان ديفيد يحسن معاملتك يا بنيتي؟ هل كان كل منكما مرتاحا مع الآخر؟»
كانت الإجابة: «لقد كنا سعيدين للغاية. وكان السيد كوبرفيلد طيبا معي للغاية.»
دخلت بيجوتي بعد برهة ومعها الشاي وبعض الشموع، وعندما رأت مدى السقم البادي على سيدتها الصغيرة أوصلتها إلى غرفتها، واستدعت الطبيب، وتركت الضيفة الغريبة جالسة بمفردها في الردهة.
وقد ولد ديفيد في تلك الليلة؛ وبعد إتمام الولادة توجه السيد تشيليب، الطبيب، إلى الردهة ليتحدث إلى الضيفة الغريبة. التي خلعت قبعتها الصغيرة وربطتها بالأشرطة على ذراعها اليسرى.
فسألت الآنسة بيتسي بجفاء وهي تحدق في الطبيب بتجهم شديد جعل أعصابه تتوتر، وقد كان رجلا قصير القامة للغاية: «كيف حالها؟»
أجاب السيد تشيليب بلطف: «بخير يا سيدتي، سوف ترتاح جدا قريبا، أرجو ذلك، ستنعم بالراحة التي نأمل أن تنعم بها أي أم صغيرة. لا مانع من أن تريها الآن يا سيدتي. قد يكون هذا في صالحها.»
قالت الآنسة بيتسي بحدة: «وهي، كيف حالها؟» أمال السيد تشيليب رأسه قليلا على جنب، وراح ينظر إلى الآنسة تروتوود نظرة طائر لطيف.
قالت الآنسة بيتسي: «المولودة، كيف حالها؟»
أجاب السيد تشيليب: «سيدتي، كنت أظن أنك عرفت. إنه صبي.»
لم تنطق الآنسة تروتوود بكلمة واحدة، وإنما أمسكت قبعتها الصغيرة من الأشرطة، مثلما تمسك مقلاع الحجارة، ووجهت بها ضربة لرأس السيد تشيليب، ثم وضعتها فوق رأسها مائلة، وخرجت؛ ولم تعد بعد ذلك مطلقا. لقد كانت في حالة كبيرة من خيبة الرجاء لأن المولود كان صبيا.
يا إلهي! لقد كانت تلك أياما جميلة، أقصد السنوات الأولى من طفولة ديفيد. وكانوا سعداء ومبتهجين دائما؛ هو والأم الصغيرة الجميلة، والمخلصة بيجوتي.
وقد كان لمطبخ بيجوتي باب يفتح على فناء خلفي؛ يوجد في منتصفه بيت حمام منصوب على سارية، لكن لم يكن فيه أي حمام، كما يوجد بيت صغير للكلب في أحد الأركان، ولم يكن به أي كلب كذلك، وهناك عدد من الدجاج وديك يقف على عمود ليصيح فوقه.
كما توجد حديقة اعتاد أن يلعب فيها؛ حيث كانت ثمار الفاكهة الناضجة تتراكم على الأشجار في فترة الصيف الدافئة؛ وهناك في طرف الحديقة البعيد أشجار دردار طويلة تميل إحداها على الأخرى في النسيم مثل عمالقة يتهامسون بالأسرار، وتتدلى من فروعها العليا أعشاش غربان بالية هجرتها الغربان منذ زمن بعيد.
وفي فترة الشتاء كان ديفيد يلعب في الردهة، ويتعلم دروسه الصغيرة على يدي أمه وهو لا يزال ملازما لها، كما يرقص معها على ضوء المدفأة عندما تنتهي كل الدروس؛ ويمضيان وقتا جميلا سعيدا!
وذات ليلة كان يجلس هو وبيجوتي بمفردهما إلى جوار مدفأة الردهة؛ لأن السيدة كوبرفيلد كانت قد خرجت لقضاء جزء من الليلة في منزل إحدى جاراتها، وكانت متعة كبيرة لديفيد أن يطيل السهر حتى عودة أمه. حيث ظل يقرأ عن التماسيح، حتى شعر بالإرهاق، وأحس أنه نعسان تماما، لكنه لم يكن ليعترف بذلك مهما كانت الأسباب، بالتأكيد.
قال ديفيد فجأة: «بيجوتي، هل تزوجت قبل ذلك قط؟»
أجابت بيجوتي: «يا للعجب، سيد ديفي، ما الذي جعلك تفكر في أمر الزواج؟» «لكن هل سبق لك الزواج قط يا بيجوتي؟ إنك امرأة جميلة للغاية، أليس كذلك؟» «أنا جميلة؟ يا ديفي! يا للعجب، لا، يا عزيزي! لكن ما الذي جعلك تفكر في أمر الزواج؟» «لا أدري! لكنك لا تستطيعين الزواج بأكثر من شخص في آن واحد، أليس كذلك يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «بلى، بالتأكيد لا يمكنني ذلك.» «لكن لو أنك تزوجت شخصا، وهذا الشخص مات، عندئذ، تستطيعين في هذه الحالة أن تتزوجي شخصا آخر، أليس كذلك يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «بلى! أستطيع، إذا اخترت ذلك.» ونظرت باستغراب إلى ديفيد. «أنت لست غاضبة، أظن هذا، أليس كذلك يا بيجوتي؟!» هكذا قال ديفيد؛ لأنه في الحقيقة اعتقد أنها غضبت؛ حيث كانت تتكلم باختصار نوعا ما.
وردا على هذا السؤال وضعت بيجوتي الجورب الذي كانت تنسجه جانبا، وفتحت ذراعيها واحتضنت بينهما ذلك الرأس ذا الشعر المجعد، وضمته إليها ضمة قوية.
وقالت: «والآن أخبرني المزيد عن التماسيح، فإن ما سمعته لا يكاد يكفيني.» بدت بيجوتي متأثرة للغاية، وتمنى ديفيد لو يعرف لم بدت غريبة هكذا؛ لكنه واصل القراءة مرة أخرى حتى دق جرس الحديقة.
خرج الاثنان ليفتحا الباب معا، فوجدا والدة ديفيد وقد بدت أجمل من المعتاد، ومعها رجل ذو شعر أسود جميل وسالفين أسودين جميلين، كان ذلك الرجل قد رافقهما وهما عائدان من الكنيسة يوم الأحد الماضي. فانحنت السيدة كوبرفيلد لتمسك ديفيد بين ذراعيها وتقبله، وقال الرجل إنه فتى أكثر حظا من أي ملك.
فسأل ديفيد بينما تحمله: «ما معنى هذا؟»
لم يزد الرجل على أن ربت على رأسه؛ لكن ديفيد بطريقة ما لم يحبه، وحاول إبعاد يده.
اعترضت السيدة كوبرفيلد على ابنها قائلة: «أوه، ديفي!»
قال الرجل: «يا ولدي العزيز! لست مستغربا من حبه الشديد لك.»
تسلل تورد جميل إلى وجه السيدة كوبرفيلد. وعاتبت ديفيد برفق على وقاحته؛ لكنها ضمته قريبا منها وهي تشكر رفيقها على توصيلها إلى المنزل.
قال الرجل بعدما انحنى مقبلا يد الأم الصغيرة: «ليتمن كل منا ليلة سعيدة للآخر يا ولدي الجميل.»
قال ديفيد: «ليلة سعيدة.»
قال الرجل ضاحكا: «هلم! لنصبح أحسن صديقين في الدنيا. فلنتصافح!»
كانت يد ديفيد اليمنى في يد أمه اليسرى، لذا ناول الرجل يده الأخرى.
قال الرجل ضاحكا: «يا للعجب، هذه اليد الخطأ يا ديفي.»
سحبت السيدة كوبرفيلد يده اليمنى للأمام؛ لكن ديفيد لم يحبه، ولم يرد أن يناوله إياها، وإنما أصر على تقديم يده اليسرى. لكن الرجل صافحها بحماسة، وقال إنه ولد شجاع، وانصرف؛ وبينما هو في طريقه التفت وراءه وهو في الحديقة، وألقى عليهما نظرة أخيرة بعينيه السوداوين الداكنتي السواد قبل أن يغلق الباب.
اندفعت بيجوتي - التي لم تنطق بكلمة واحدة - وأغلقت الباب، ودخلوا جميعا إلى الردهة. قالت بيجوتي وهي واقفة في وسط الغرفة متيبسة كبرميل، وفي يدها شمعدان: «أرجو أن تكوني قد قضيت ليلة ممتعة يا سيدتي.» قالت السيدة كوبرفيلد بابتهاج إنها قضت ليلة بهيجة جدا. قالت بيجوتي: «يبدو أن ضيفا ما أو ما شابه قد أحدث تغييرا سارا.»
أجابت السيدة كوبرفيلد: «تغيير سار جدا في الواقع.» كان ديفيد بين النائم واليقظان؛ لكن شعورا مقلقا خامره بأن بيجوتي كانت تلوم والدته على شيء ما، وأن والدته كانت تحاول أن تبرر خطأها، وأنها كانت تبكي؛ بعد ذلك انفجرت بيجوتي نفسها في البكاء، واستيقظ ديفيد وراح يبكي هو الآخر، وأخذوا جميعا يبكون.
لكن في يوم الأحد التالي أوصلهم الرجل إلى المنزل مرة أخرى وهم عائدون من الكنيسة، وأدرك ديفيد أن بيجوتي لم تكن أكثر حبا منه لذلك الرجل؛ لكن هذا لم يمنع السيد ميردستون من مرافقتهم إلى المنزل مرة أخرى. أما والدة ديفيد فكانت تلبس أجمل ما في خزانتها من الفساتين، حتى لبستها كلها تباعا، وكانت تكثر جدا من زيارة جارتها تلك.
وفي صباح أحد الأيام من فصل الخريف، عندما كان ديفيد في سن الثامنة تقريبا وبينما هو مع والدته في الحديقة الأمامية، أقبل عليهما السيد ميردستون على صهوة حصان، وبعدما شد عنان حصانه ليوقفه قال إنه ذاهب إلى مدينة لويستوفت لزيارة بعض أصدقائه الموجودين هناك على أحد اليخوت، واقترح أن يركب ديفيد على السرج أمامه، إذا كان يرغب في نزهة على ظهر الحصان.
كان الجو صحوا وصافيا للغاية، وبدا أن الحصان نفسه قد أعجب جدا بفكرة الخروج في نزهة، حيث ظل يصهل وينكت الأرض بحافره وهو واقف عند بوابة الحديقة، لدرجة أن ديفيد أحس برغبة كبيرة في الذهاب. لذا أرسلته أمه إلى بيجوتي في الطابق العلوي كي تهندم مظهره؛ وفي غضون ذلك ترجل السيد ميردستون عن حصانه، وراح، ولجام حصانه يغطي ذراعه، يتمشى ببطء ذهابا وإيابا في الجانب الخارجي من سياج زهور النسرين، بينما راحت السيدة كوبرفيلد تتمشى معه في الجانب الداخلي من السياج.
اختلس ديفيد وبيجوتي النظر إليهما من نافذة ديفيد الصغيرة، وبطريقة ما انزعجت بيجوتي للغاية، وسرحت شعر ديفيد في الاتجاه الخطأ وبشدة كبيرة.
لكن ديفيد أصبح جاهزا بعد قليل، وخلال وقت قصير أصبحا على ظهر الحصان وقد انطلق يعدو بهما فوق العشب الأخضر على جانب الطريق. أمسك السيد ميردستون ديفيد بسهولة كبيرة بذراع واحدة، وأحس ديفيد بشيء ما يجذبه للاستدارة والنظر إلى وجهه؛ ورغم أنه لم يستطع أن يتخذ قرارا بزيادة درجة محبته له بأي صورة، فقد اعتقد أنه رجل وسيم للغاية.
ذهب ديفيد والسيد ميردستون إلى فندق على البحر، وكان في الفندق رجلان يدخنان السيجار في غرفة بمفردهما.
صاح الرجلان قائلين: «مرحبا ميردستون! لقد حسبناك مت.»
قال السيد ميردستون: «ليس بعد.»
قال أحد الرجلين وهو ممسك بديفيد: «ومن هذا الغلام؟»
أجاب السيد ميردستون: «إنه ديفي.»
قال الرجل: «ديفي من؟ ديفي جونز؟»
قال السيد ميردستون: «كوبرفيلد.» «ماذا! ابن الفاتنة السيدة كوبرفيلد؟ الأرملة الصغيرة الجميلة؟»
قال السيد ميردستون: «انتبه لكلامك لو سمحت. ثم شخص حاد الذهن هنا.»
راح الاثنان بعد ذلك يتمشيان فوق المنحدر الصخري، ثم جلسا على العشب، وبعدها نظرا إلى إلى السماء بواسطة أحد التلسكوبات، ثم عادا إلى الفندق ليتناولا غداء مبكرا؛ وبعد ذلك ركبا اليخت.
كان على متن اليخت رجل لطيف للغاية، ذو رأس كبير جدا وشعره أحمر اللون، ويرتدي فوقه قبعة لامعة صغيرة للغاية، كما كان يلبس قميصا أو صديريا مخططا بخطوط عرضية ومكتوبا على صدره بأحرف كبيرة «قبرة السماء». وقد ظن ديفيد أن هذا هو اسمه؛ ولأنه يعيش على متن اليخت وليس لديه باب على الشارع ليضع اسمه عليه، فقد وضعه على صدره بدلا من ذلك؛ لكنه عندما نادى عليه باسم السيد قبرة السماء، قال الرجل إنه اسم اليخت.
ثم عادا إلى المنزل مع بداية المساء، وراحت السيدة كوبرفيلد والسيد ميردستون يتمشيان مرة أخرى بجوار السياج بينما أرسلت ديفيد إلى داخل المنزل ليتناول شاي الخامسة مساء؛ وعندما رحل السيد ميردستون سألت والدة ديفيد ابنها عما فعله طوال اليوم.
وقد قص عليها ديفيد كل شيء، دون أن ينسى إخبارها أن أحد الرجلين في الفندق نعتها ب«السيدة كوبرفيلد الفاتنة»، و«الأرملة الصغيرة الجميلة»، وهو ما وصفته السيدة كوبرفيلد بالهراء، لكنها راحت تضحك كذلك، وبدت مسرورة قليلا.
قالت السيدة كوبرفيلد بتلعثم: «ديفيد، عزيزي.» «نعم يا أمي.» «لا تخبر بيجوتي؛ فربما تغضب منهما. أفضل ألا تعرف بيجوتي بهذا.» وبالطبع وعدها ديفيد ألا يخبرها.
الفصل الثاني
زيارته لمدينة يارمث
«سيد ديفي.» هكذا قالت بيجوتي ذات ليلة، بعد حوالي شهرين من نزهته مع السيد ميردستون على متن الجواد - بينما كانا جالسين معا، حيث كانت السيدة كوبرفيلد تقضي الليلة خارج المنزل - «سيد ديفي، ما رأيك في السفر معي لقضاء أسبوعين في منزل أخي بمدينة يارمث؟ ألن يكون هذا ممتعا؟»
سألها ديفيد: «هل أخوك رجل لطيف يا بيجوتي؟»
صاحت بيجوتي قائلة، وقد رفعت يديها للأعلى: «أوه، كم هو لطيف! ثم إن هناك البحر، والقوارب والسفن؛ والصيادين والشاطئ؛ وآم لتلعب معه.» وهي تقصد هام ابن أخيها.
تحمس ديفيد كثيرا للفكرة، وأجاب بأنه سيكون شيئا ممتعا حقا، لكنه تساءل عن رأي أمه في الأمر؟
قالت بيجوتي: «يا إلهي، إنني في الواقع أراهن على جنيه ذهبي أنها ستسمح لنا بالذهاب. سأطلب منها ذلك، إذا أحببت، حالما تأتي إلى المنزل. ما رأيك الآن!»
سألها ديفيد: «لكن ماذا ستفعل أثناء سفرنا؟ إنها لا تستطيع العيش بمفردها.»
بدت بيجوتي مرتبكة جدا للحظة، وتظاهرت بالبحث عن ثقب آخر في الجورب الذي كانت ترفوه. «أرى يا بيجوتي أنها لا تستطيع العيش بمفردها، كما تعلمين.»
قالت بيجوتي وهي ترفع نظرها إليه وكأنها تذكرت فجأة: «أوه، باركك الله! ألا تعلم أنها ستمكث مدة أسبوعين مع السيدة جريبر؟ سيكون عند السيدة جريبر الكثير من الضيوف.»
وهكذا، أصبح ديفيد مستعدا تماما للذهاب؛ وراح ينتظر على أحر من الجمر أن تعود أمه إلى المنزل كي ينطلق لتنفيذ هذه الفكرة العظيمة.
لم تتفاجأ أمه ألبتة من دعوة بيجوتي. وفي الواقع، لقد بدا أنها كانت تعلم كل شيء عن الأمر، ووافقت على الخطة في الحال.
وقد تقرر أن يسافرا في عربة أحد الحمالين والتي غادرت قرية بلاندستن في الصباح؛ بعد الإفطار؛ لأنه في تلك الأيام لم يكن يوجد سكك حديدية على الإطلاق. حيث حزمت حقيبة ديفيد، وحزمت حقيبة بيجوتي، وعندما جاء الصباح الزاخر بالأحداث، وقفوا عند البوابة ينتظرون عربة الحمال؛ وراحت أم ديفيد تقبله قبلات الوداع، وتضمه إليها بشدة لدرجة أنه أحس بقلبها يدق على قلبه. وعندما وصلت العربة، ركبها هو وبيجوتي، وبينما هي تبتعد بهما انطلقت أمه تجري من عند البوابة، وراحت تنادي على الحمال ليتوقف كي تقبل ابنها الصغير مرة أخرى.
في النهاية ابتعدا تماما، وتركاها واقفة في الطريق؛ وعندما نظرا وراءهما رأيا أن السيد ميردستون قد جاء إلى حيث هي واقفة، وبدا أنه كان يتجادل معها بشأن تأثرها الشديد هذا؛ وراح ديفيد، وهو ينظر من النافذة الخلفية المظللة في العربة، يتعجب من علاقة السيد ميردستون بهم.
كان الحصان، كما اعتقد ديفيد، أكثر الأحصنة كسلا في الدنيا؛ فهو يسير متثاقلا ورأسه إلى الأسفل، كما نكس الحمال رأسه هو الآخر، مثلما فعل الحصان، وراح يتهدل إلى الأمام تهدل النعسان أثناء القيادة، بينما إحدى ذراعيه ممدودة على كلتا ركبتيه، وأخذ يصفر كثيرا.
كانت بيجوتي تحمل على ركبتها سلة بها وجبة خفيفة، فراحت هي وديفيد يأكلان الأشياء الطيبة من أجل تمضية الوقت؛ لكن الحمال توقف في أماكن كثيرة ليوصل الطرود التي معه، لدرجة أن ديفيد قد أصيب بسأم شديد، لكنه شعر بسعادة كبيرة عندما رأى مدينة يارمث أخيرا.
كان هناك بحارة يسيرون في الشارع، وعربات تجلجل فيه ذهابا وإيابا، كما فاحت فيه روائح السمك وجدائل الحبال القديمة والقطران و...
صاحت بيجوتي بحماسة قائلة: «ها هو ذا آم ابن أخي! لقد كبر لدرجة أني عرفته بصعوبة!» وذلك عندما خطا شاب قوي ضخم البنية يبلغ طوله ستة أقدام وله وجه صبياني الملامح وشعر متجعد أشقر اللون، خارج باب الحانة التي كان ينتظرهما فيها.
حيث أمسك ديفيد ووضعه على ظهره ليحمله إلى المنزل، بينما حمل حقيبة ديفيد تحت ذراعه. وتبعتهما بيجوتي بالحقيبة الأخرى، وانعطفوا إلى أزقة مكسوة بالرمال وقطع الروث المجفف؛ ثم مروا على ساحات صناع القوارب، ومصانع الحبال، ودكاكين الحدادين، حتى خرجوا إلى أرض قاحلة منبسطة يمكنهم رؤية البحر على جانبها الآخر.
فقال هام: «منزلنا هذا الذي هناك يا سيد ديفي.»
تساءل ديفيد قائلا: «إنه ليس هذا، أليس كذلك؟ هذا شيء شبيه بسفينة.» لأنه لم ير أي منزل على الإطلاق - لا شيء سوى مركب بضائع أسود اللون، لم يكن بعيدا جدا، وهو جاف وثابت على اليابسة، ويخرج منه أنبوب معدني يقوم مقام مدخنة، ينبعث منه الدخان بانسيابية شديدة.
قال هام: «إنه هو يا سيد ديفي.»
أخذ ديفيد يشهق ابتهاجا بالفكرة الرومانسية التي جعلتهم يعيشون في مكان كهذا. حيث يوجد هناك باب مبهج صنعت فتحته في جانب المركب، وهو مسقوف، ويحتوي على نوافذ صغيرة؛ لكن الجميل المدهش فيه أنه كان مركبا حقيقيا وقد نزل من دون شك إلى الماء مئات المرات قبل ذلك، ولم يكن مصمما مطلقا للعيش فيه على اليابسة.
كان المركب نظيفا بصورة مبهجة من الداخل، وفي غاية الترتيب. حيث توجد منضدة، وساعة هولندية، وخزانة ذات أدراج وضعت فوقها صينية شاي، وهي مسنودة بإحدى نسخ الكتاب المقدس كي لا تسقط، مع بعض الفناجين وصحون الفناجين وإبريق شاي حول الكتاب. كما توجد صناديق للجلوس عليها بدلا من الكراسي، ويتدلى من دعائم السقف بعض الخطاطيف التي راح ديفيد يتساءل فيم كانت تستخدم.
وقد رحبت بهم امرأة مهذبة للغاية ترتدي مريلة بيضاء، وبنت صغيرة جميلة ترتدي عقدا من خرز أزرق اللون، ولم تسمح لديفيد بأن يقبلها، وإنما جرت بعيدا واختبأت.
وبعد ذلك فتحت بيجوتي بابا صغيرا لترشد ديفيد إلى غرفة نومه. وهي تقع في مؤخرة المركب؛ وقد وجدها ألطف غرفة نوم صغيرة رأتها عينه على الإطلاق، وبها نافذة صغيرة في المكان الذي كانت توضع فيه الدفة؛ ومرآة صغيرة، تناسب طول قامة ديفيد تماما، وهي مثبتة على الحائط، ومحاطة بإطار من أصداف المحار؛ وبها كذلك سرير صغير يستطيع المرء بالكاد أن يدخله من ضيق المساحة المتاحة لذلك؛ كما كان في الغرفة باقة زهر من العشب البحري في كوب أزرق اللون على المنضدة.
ثم تناولوا أسماك الداب الصغيرة المفلطحة المسلوقة على الغداء، مع زبد مصهور، وبطاطس، وشريحة لحم من أجل ديفيد؛ وما إن انتهوا من تناول الغداء حتى دخل عليهم رجل كثير الشعر ذو وجه لطيف للغاية، وقدموه لديفيد باسم السيد بيجوتي؛ ربان البيت، وأخو السيدة بيجوتي.
قال السيد بيجوتي: «سررت برؤيتك يا سيدي، سوف تجد أننا خشنو الطبع يا سيدي، لكننا متأهبون للمساعدة.»
شكره ديفيد، وقال إنه متأكد أنه سيكون سعيدا في مثل هذا المكان المبهج.
سأله السيد بيجوتي: «كيف حال والدتك يا سيدي؟ هل تركتها سعيدة بدرجة كبيرة؟»
قال ديفيد: «نعم.» وأضاف أنها ترسل له تحياتها.
قال السيد بيجوتي: «أنا في غاية الامتنان لها بالتأكيد.» ثم قال وهو يومئ إلى أخته، وهام، والصغيرة إميلي: «حسن يا سيدي، إذا كنت ستستطيع الإقامة هنا مدة أسبوعين كاملين معنا، فسنشرف بصحبتك.» ثم خرج السيد بيجوتي ليغتسل بملء قدر من الماء الساخن.
وبعد احتساء الشاي أغلق الباب، وأعد كل شيء ليصبح مريحا ودافئا؛ لأن ليالي تلك الفترة كانت باردة وضبابية.
ثم تغلبت الصغيرة إميلي على خجلها، وجلست مع ديفيد على الخزانة الأقرب إلى الأرض، والتي لم تكن تتسع إلا لشخصين، وكان ركن المدخنة يستوعبها تماما. بينما أخذت السيدة المهذبة ذات المريلة البيضاء تحيك شيئا ما على الجانب الآخر من نار المدفأة؛ وبدت بيجوتي، وهي تعمل بالتطريز، على حريتها تماما وكأنها في بيتها. أما هام فراح يعلم ديفيد بعض الحيل في لعبة الورق، وجلس السيد بيجوتي في استرخاء يدخن غليونه.
بعد قليل قال ديفيد: «سيد بيجوتي.»
قال السيد بيجوتي: «نعم يا سيدي.» «هل سميت ابنك هام لأنك تعيش في نوع من أنواع الفلك؟» «لا يا سيدي، أنا لم أسمه مطلقا.» «فمن سماه بهذا الاسم إذن؟» «يا إلهي، أبوه يا سيدي هو الذي سماه به.»
قال ديفيد: «كنت أحسب أنك أنت أبوه.»
قال السيد بيجوتي: «لقد كان أبوه أخي جوي.»
سأل ديفيد، بعد فترة صمت معبرة عن الاحترام: «هل توفي، يا سيد بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «لقد غرق.»
تفاجأ ديفيد للغاية عندما اكتشف أن السيد بيجوتي لم يكن والد هام، لدرجة أنه بدأ يتساءل بعد ذلك عن طبيعة صلته بالصغيرة إيميلي؛ فبادر ديفيد، وهو يلقي إليها نظرة عجلى، قائلا: «والصغيرة إيميلي، إنها ابنتك أليس كذلك يا سيد بيجوتي؟» «لا يا سيدي. بل كان أبوها توم، زوج أختي.»
سأل ديفيد، بعد فترة صمت أخرى معبرة عن الاحترام: «هل توفي يا سيد بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «غرق.» «أما لديك أي أطفال يا سيد بيجوتي؟» «بلى يا سيدي. إنني أعزب.»
صاح ديفيد باندهاش: «أعزب!» وأشار إلى السيدة المهذبة ذات المريلة البيضاء وقال: «يا للعجب، ومن هذه؟»
قال السيد بيجوتي: «هذه السيدة جوميدج.»
بادر ديفيد إلى السؤال: «جوميدج؟» لكن بيجوتي - مربيته بيجوتي - عبست في وجهه ليكف عن الكلام؛ وهكذا ظل ديفيد ساكتا حتى حان وقت النوم.
بعد ذلك، عندما انفردت به في حجرته الصغيرة، أخبرته أن هام وإيميلي يتيمان، وأن عمهما تبناهما عندما فقدا أبويهما؛ وأن السيدة جوميدج أرملة شريكه في أحد القوارب، وقد توفي شريكه هذا فقيرا جدا، فآواها السيد بيجوتي في بيته هي الأخرى عندما أصابها العوز؛ وأن الشيء الوحيد الذي يغضب السيد بيجوتي هو أن يذكره أحد بعمله النبيل معها.
أعجب ديفيد للغاية بطيبة السيد بيجوتي، وظل يفكر فيها قبل أن يأخذه النوم.
ذهبت بيجوتي والسيدة جوميدج والصغيرة إيميلي للنوم في حجرة صغيرة أخرى في الطرف المقابل من المركب، وعلق السيد بيجوتي وهام لنفسيهما أرجوحتين شبكيتين في الخطاطيف التي كان ديفيد قد رآها معلقة في السقف عند أول دخوله إلى البيت.
استيقظ ديفيد مبكرا في صباح اليوم التالي، وخرج مع الصغيرة إيميلي يجمعان الصخور على الشاطئ.
قال لها ديفيد: «لا بد أنك بحارة ماهرة.»
أجابت إيميلي، وهي تهز رأسها: «لا، أنا أخاف من البحر.»
صاح ديفيد بقوة، وهو ينظر بجسارة إلى الأمواج العظيمة: «تخافين! أنا لا أخاف منه.»
قالت الصغيرة إيميلي: «آه! لكنه قاس. لقد رأيت منه قسوة شديدة على بعض رجالنا. لقد رأيته وهو يمزق مركبا في حجم بيتنا قطعا.» «أرجو ألا يكون هو المركب الذي ...»
قالت إيميلي: «الذي غرق فيه أبي؟ لا. ليس هذا. أنا لم أر ذلك المركب قط.»
سألها ديفيد: «ولا رأيت أباك؟»
هزت الصغيرة إيميلي رأسها. وقالت: «ليس بما يكفي لأتذكره.»
أخبرها ديفيد أنه هو الآخر لم ير أباه مطلقا، وأنه يعيش هو وأمه بمفردهما وينويان أن يكونا كذلك دائما؛ لأنهما سعيدان للغاية. كما أخبرها أن قبر أبيه موجود في فناء الكنيسة قريبا من منزلهم، حيث تظلله إحدى الأشجار.
قالت إيميلي إنه ما من أحد يعرف شيئا عن مكان قبر أبيها، باستثناء أنه في موضع ما في البحر.
وأضافت، وهي تبحث عن الأصداف والحصى: «وفوق ذلك، فقد كان والدك سيدا نبيلا، وأمك سيدة نبيلة؛ أما أبي فكان صيادا وأمي بنت أحد الصيادين، وعمي دان صياد كذلك.»
سألها ديفيد: «دان هو الاسم الأول للسيد بيجوتي، أليس كذلك؟»
أجابت إيميلي وهي تومئ برأسها ناحية البيت المركب: «عمي دان؛ الذي هناك.»
قال ديفيد: «نعم. أقصده هو. لا بد أنه طيب للغاية، أعتقد هذا.»
قالت إيميلي: «طيب؟! لو كان لي أن أصبح من النبيلات يوما لمنحته سترة زرقاء سماوية ذات أزرار ماسية، وبنطلونا من قماش الننكين، وصديريا مخمليا أحمر اللون، وقبعة مرفوعة الحواف، وساعة جيب ذهبية كبيرة، وغليونا فضيا، وصندوقا من المال.»
ظل الاثنان يتمشيان مسافة طويلة، ويلتقطان أشياء غريبة من على الشاطئ، ثم عادا لتناول الإفطار في البيت المركب ووجهاهما يتوهجان صحة وسعادة.
لقد أصبحا صديقين حميمين للغاية، وصارا يتمشيان في سهل يارمث ذاك بالساعات يبحثان فيه عن أشياء لافتة للنظر، ثم يعودان إلى البيت المركب في أوقات الطعام وهما جائعان مثل طائرين صغيرين من طيور السمنة، هكذا كان يقول السيد بيجوتي.
لقد كان وقتا بهيجا جدا.
أما الإنسانة الوحيدة التي لم تكن على درجة كبيرة من التناغم، الذي كان بإمكانها تحقيقه، مع هذا البيت الصغير الهانئ هي السيدة جوميدج.
كانت السيدة جوميدج تعاني اكتئابا، وتشير إلى نفسها «كإنسانة بائسة وحيدة»؛ وعندما يزيد اكتئابها جدا، كانت تلمح كثيرا بطريقة رآها ديفيد أكثر من المستساغ، إلى أنه كان الأجدر بها أن تذهب إلى الملجأ، وأن تموت، وتنال الخلاص.
وهو ما كان السيد بيجوتي يرد عليه بلطف قائلا: «لا تبتئسي أيتها الفتاة.»
فترد السيدة جوميدج قائلة: «إنني لست كما أتمنى أن أكون، أنا بعيدة جدا عن ذلك. أنا أعلم حقيقتي. إن مشاكلي قد جعلت مني امرأة مناقضة. ليتني أتعود على احتمال صعابها، لكنني لا أستطيع. إنني أبث الضيق في البيت. أنا إنسانة بائسة وحيدة، ويجدر بي ألا أجعل من نفسي امرأة مناقضة هنا. إذا كان لا مفر من أن تناقضني الظروف، وأن أصبح مناقضة أنا الأخرى، فلتدعني أعيش مناقضة في ملجأ أبرشيتي يا دانيال؛ إنه ليجدر بي أن أدخل الملجأ، وأن أموت هناك، وأنال الخلاص.»
ثم تذهب السيدة جوميدج بعد ذلك إلى فراشها، وعندما كان ديفيد ينظر إلى السيد بيجوتي، وهو يتوقع أن يراه مغتاظا أو منزعجا، يجده لا يزيد على أن ينكس رأسه وعلى وجهه نظرة تعاطف عميق، ويهمس قائلا: «لقد كانت تفكر في رجلها.»
وهو يقصد الفقيد السيد جوميدج. وعندما أدخل نفسه في أرجوحته الشبكية ليلا، بعد واحدة من نوبات المشاكسة التي تعتري السيدة جوميدج، سمعه ديفيد وهو يردد بينه وبين نفسه: «المسكينة! لقد كانت تفكر في رجلها.»
يا للعجب! ما أسرع انقضاء هذين الأسبوعين! حيث كان هام في وقت فراغه يمشي مع ديفيد والصغيرة إيميلي، ويريهما القوارب والسفن، وقد أخذهما مرة أو مرتين في جولة على قارب ذي مجاديف. وبأسرع مما يتمنون حان في نهاية الأمر وقت العودة إلى البيت.
رافقت الصغيرة إيميلي ديفيد إلى الحانة حيث كانت عربة الحمال تنتظر، ووعدها ديفيد، وهو في الطريق، أن يكتب إليها.
لقد حزن الاثنان جدا لافتراقهما؛ وذلك لأنهما صارا صديقين مقربين للغاية؛ لكن كان عليهما أن يودعا بعضهما؛ وعندما بدأت عربة الحمال رحلتها إلى قرية بلاندستن، تذكر ديفيد، وهو يهتز سرورا، أنه سيرى أمه ثانية.
الفصل الثالث
غرباء في المنزل القديم
عندما اقتربا من البيت العتيق الحبيب إليهما، ومرا بأماكن مألوفة، ازدادت حماسة ديفيد للغاية، وأخذ يلفت انتباه بيجوتي إلى تلك الأماكن، ويبدي مدى توقه للارتماء بين ذراعي أمه.
ولسبب ما، لم تنخرط بيجوتي معه في فرحته العارمة، وإنما حاولت أن تكبحها بهدوء، وبدت مرتبكة غاضبة.
لكنهما وصلا أخيرا إلى منزل روكاري (هو اسم منزلهم، ويعني اسمه: بيت الغربان) بقرية بلاندستن؛ فأوقف الحمال حصانه، ونزل ديفيد وبيجوتي.
انفتح الباب، ورفع ديفيد رأسه، وهو بين ضحك وبكاء، كي يرى أمه؛ لكن لم تكن أمه تلك التي عند الباب. لقد كانت خادمة غريبة.
صاح ديفيد بنبرة حزينة قائلا: «يا إلهي، بيجوتي! ألم تأت أمي إلى البيت؟»
قالت بيجوتي: «بلى، بلى يا سيد ديفي، لقد عادت إلى البيت. انتظر قليلا يا سيد ديفي، وسوف ... سوف أخبرك أمرا.»
كانت بيجوتي في حالة شديدة من القلق. ثم أمسكت ديفيد من يده، وأخذته إلى المطبخ، وأغلقت الباب.
صاح ديفيد في ذعر شديد: «بيجوتي! ما المشكلة؟»
أجابت بيجوتي، وهي تحاول الكلام بنبرة مبتهجة: «ما من مشكلة يا سيدي العزيز ديفي، باركك الله.» «بل هناك مشكلة، أنا متأكد من هذا. أين أمي؟»
رددت بيجوتي كلامه قائلة: «أين أمك، يا سيد ديفي؟»
قال ديفيد: «نعم، لماذا لم تخرج إلى البوابة، ولماذا أتينا إلى هنا؟ آه يا بيجوتي!» وبدأ يرتجف. «بوركت أيها الغالي! ما الأمر؟ تكلم يا حبيبي!» «لم تمت، هي الأخرى! آه، هل ماتت يا بيجوتي؟»
صاحت بيجوتي قائلة: «لا.» ثم قالت له، وهي تلهث، إنه قد أفزعها للغاية. وأضافت، عندما هدأت: «أتدري يا عزيزي، كان يجدر بي أن أخبرك قبل الآن، لكن لم تتح لي الفرصة. ربما كان ينبغي لي أن أصنع أنا تلك الفرصة، لكنني لم أستطع أن أتذكرها.»
ألح عليها ديفيد قائلا، وقد تملكه الخوف أكثر من ذي قبل: «أكملي يا بيجوتي.»
قالت بيجوتي وهي تحل قلنسوتها بيد مرتعشة: «سيد ديفي، ما رأيك؟ لقد أصبح لديك أب! واحد جديد!»
ردد ديفيد كلامها: «واحد جديد!»
التقطت بيجوتي أنفاسها، وقالت وهي تمد يدها: «تعال لتراه.» «لا أريد أن أراه.»
قالت بيجوتي: «ووالدتك.»
أخذته بيجوتي إلى الردهة، وتركته هناك.
حيث كانت أمه تجلس على أحد جانبي المدفأة؛ وعلى الجانب الآخر يجلس الرجل ذو السالفين الأسودين.
لقد تزوجت السيدة كوبرفيلد السيد ميردستون.
تركت السيدة كوبرفيلد ما كان في يدها من أعمال التطريز، ونهضت مسرعة، ولكن بتهيب، لاستقبال ابنها الصغير.
قال السيد ميردستون: «والآن يا كلارا، يا عزيزتي، تحكمي في أعصابك. أيها الولد ديفي، كيف حالك؟»
صافحه ديفيد. ثم ذهب وقبل أمه. فقبلته أمه هي الأخرى، وربتت برفق على كتفه، وعادت لما كان في يدها من أعمال التطريز ثانية، وكأنما كانت تخشى أن تظهر مدى شدة حبها لابنها الصغير أمام زوجها.
شعر ديفيد بذهول شديد. وهو يعلم أن السيد ميردستون ينظر إلى كل منهما، فاستدار إلى النافذة وراح ينظر خارجها.
ثم انسل ديفيد إلى الطابق العلوي حالما أتيحت له الفرصة. ولم يدخل إلى غرفة النوم القديمة الحبيبة. حيث أصبحت له غرفة نوم غيرها الآن. كم تغير كل شيء! لم يعد المكان يشبه البيت القديم في شيء تقريبا. نزل ديفيد إلى الطابق السفلي، وراح يتجول في الفناء؛ لكن بيت الكلب الخالي أصبح به كلب أسود كبير، وقد ثار غضبه جدا عندما رأى ديفيد، وقفز خارج البيت ليصل إليه.
فعاد ديفيد مسرعا إلى غرفة نومه، وظل طوال المسافة إلى الطابق العلوي يسمع نباح الكلب في الفناء. كان قلبه مثقلا بحزن كبير؛ يا إلهي! يا لها من عودة إلى المنزل!
جلس ديفيد على طرف سريره وراح يتذكر الصغيرة إيميلي، وتمنى لو أنهم تركوه معها؛ لأنه يبدو ألا أحد يريده هنا. لقد أحس بتعاسة كبيرة ، وفي النهاية غطى نفسه بأحد أطراف غطاء السرير، وراح يبكي إلى أن نام.
استيقظ ديفيد في النهاية على صوت يقول: «ها هو ذا.» وأزال شخص ما غطاء السرير من على رأسه. وحينئذ وجد أن والدته وبيجوتي قد جاءتا تبحثان عنه.
قالت أمه: «ديفي، ما المشكلة؟»
اعتقد ديفيد أنه من الغريب أن تسأله أمه هذا السؤال؛ وأدار وجهه ليخفي شفتيه المرتجفتين.
قالت أمه ثانية: «ديفي، ديفي، يا بني.»
لكن ديفيد خبأ وجهه في كسوة السرير، وأبعد أمه عنه بيده.
قالت والدة ديفيد: «بيجوتي، هذه فعلتك، أنت أيتها القاسية.» هكذا راحت تصيح متهمة إياها بأنها حاولت أن تجعل ابنها يتحامل عليها.
قالت بيجوتي: «سامحك الله يا سيدة كوبرفيلد، وأرجو ألا تندمي أبدا على ما قلته الآن!»
قالت والدة ديفيد: «يكفي تشويشا لي ... في شهر العسل أيضا، بينما كان من الممكن أن أحظى بقليل من راحة البال والسعادة.» ثم صاحت وهي تدير رأسها بينهما بطريقتها العنيدة الشبيهة بتصرفات البنات: «ديفي، أنت أيها الولد السيئ السلوك! وأنت يا بيجوتي!»
فجأة أحس ديفيد بلمسة يد علم أنها لم تكن يد أمه ولا يد بيجوتي، فانزلق واقفا على قدميه بجوار السرير. حيث كانت يد السيد ميردستون، وظل ممسكا ذراع ديفيد بها، وقال: «ما هذا؟ كلارا، حبيبتي، هل نسيت؟ الثبات يا عزيزتي!»
قالت والدة ديفيد بتلعثم: «أنا آسفة جدا يا إدوارد. كنت أريد أن أكون في أحسن حال، لكنني منزعجة جدا.»
قال السيد ميردستون: «فعلا! هذا خبر سيئ وقد جاء قبل أوانه.» ثم جذبها إليه، وهمس بشيء في أذنها، وقبلها، وأضاف قائلا: «انزلي أنت يا حبيبتي؛ سوف أنزل أنا وديفيد معا.» ثم التفت إلى بيجوتي عابسا وقال: «صديقتي، هل تعلمين اسم سيدتك؟»
قالت بيجوتي: «إنها سيدتي منذ وقت طويل يا سيدي. ينبغي أن أكون على علم به.»
أجابها: «هذا صحيح، لكنني وأنا صاعد على الدرج، سمعتك تخاطبينها باسم غير اسمها. ألا تعلمين أنها قد أصبحت تحمل اسمي، هل ستتذكرين هذا؟»
انحنت بيجوتي، دون رد، ثم خرجت من الغرفة، وهي تنظر إلى ديفيد نظرات خائفة عجلى؛ وعندما أصبح الاثنان بمفردهما، جلس السيد ميردستون على كرسي وأوقف ديفيد أمامه.
وقال: «ديفيد، لو كان علي التعامل مع حصان أو كلب عنيد، ماذا تظنني سأفعل؟» «لا أدري.» «سأضربه.» وهنا شهق ديفيد. «سأجعله يجفل ويتألم ألما شديدا. ما هذا الذي على وجهك؟»
قال ديفيد: «إنه متسخ.» لأن قلبه الطفولي كان سيتفطر حزنا قبل أن يعترف بأن البقع التي على وجهه كانت من أثر الدموع.
ابتسم السيد ميردستون. وقال وهو يشير إلى حوض الاغتسال: «اغسل هذا الوجه أيها السيد، وتعال معي إلى الأسفل.»
ففعل ديفيد ما أمره به، ثم أخذه السيد ميردستون إلى الردهة بالطابق السفلي، ويده لا تزال ممسكة بذراعه.
وقال: «كلارا، عزيزتي، لن يزعجك شيء بعد الآن، أرجو ذلك. قريبا سنحسن من سلوك فتانا.»
كان ديفيد يعلم أن أمه حزينة لرؤيته وهو يبدو خائفا وغريبا هكذا، وعندما انسل إلى أحد المقاعد، أحس بها تتبعه بعينيها بحزن أشد؛ لكنها بدت أكثر تهيبا من أن تضمه بين ذراعيها وتقبله كما كانت تحب أن تفعل.
ثم تناولوا العشاء بمفردهم ... هم الثلاثة معا. وقد بدا السيد ميردستون مغرما للغاية بزوجته الشابة الجميلة، وهي كذلك. لكن هذا لم يزد ديفيد حبا له عن ذي قبل مطلقا. وقد استنتج من كلامهما أنهما كانا يترقبان مجيء أخت السيد ميردستون الكبرى لتقيم معهم تلك الليلة.
وبعد العشاء توقفت عربة أمام الباب، وخرج السيد ميردستون لاستقبال أخته. حينئذ احتضنت ديفيد والدته بين ذراعيها وقبلته بحنان، وقالت له هامسة إن عليه أن يحب أباه الجديد وأن يطيعه؛ ثم مدت يدها وراءها، وأمسكت يده في يدها، وخرجت معه وهما على هذه الهيئة إلى الحديقة.
كانت الآنسة ميردستون سيدة كئيبة المظهر؛ عابسة مثل أخيها، كما تشبهه كثيرا في وجهه وصوته.
سألت الآنسة ميردستون، بعدما أدخلوها إلى الردهة: «هل هذا هو ابنك يا زوجة أخي؟ أنا لا أحب الصبيان. كيف حالك يا ولد؟»
وكان من الواضح أن الآنسة ميردستون قد جاءت لتمكث إلى الأبد .
وفي صباح أول يوم بعد وصولها مباشرة قالت على مائدة الإفطار: «والآن، كلارا، عزيزتي، لقد جئت إلى هنا لأريحك من كل عناء أستطيع إراحتك منه. إنك أكثر جمالا وطيشا بكثير من أن يفرض عليك أي واجبات أستطيع أنا التكفل بها. إذا تكرمت بإعطائي مفاتيحك يا عزيزتي، فسأعنى بكل هذه الأمور في المستقبل.»
وهكذا تسلمت الآنسة ميردستون المفاتيح، وشرعت في إفراغ محتويات غرفة الخزين وجميع الخزانات، وتنظيم كل شيء على هواها؛ وهمشت زوجة أخيها تماما.
لم يعجب هذا والدة ديفيد كثيرا، وحاولت أن تعترض؛ وفي النهاية تكلمت فجأة ذات يوم وقالت: «إنه أمر صعب الاحتمال للغاية ألا أستطيع وأنا في منزلي أن ...»
ردد السيد ميردستون كلامها: «منزلي؟ يا كلارا!»
قالت متلعثمة، ومن الواضح أنها كانت مذعورة: «أعني منزلنا. إنه لصعب الاحتمال للغاية ألا أستطيع، وأنا في منزلك يا إدوارد، أن أقول كلمة واحدة بشأن الأمور المنزلية. أنا متأكدة أنني كنت أفعل هذه الأشياء جيدا جدا من دون مساعدة قبل زواجنا.»
قالت الآنسة ميردستون: «إدوارد، فلننته من هذا الأمر. أنا راحلة غدا.»
غضب السيد ميردستون للغاية بسبب ذلك، وأخذت والدة ديفيد تبكي، وفي النهاية طلبت من الآنسة ميردستون أن تسامحها، وطلبت منها بتواضع أن تحتفظ بالمفاتيح، وقبلتها، وحاولت أن تصالحها.
شعر ديفيد بحزن كبير على والدته لدرجة أنه ظل يبكي حتى نام. وبعد هذا تركت الزوجة المسكينة الصغيرة إدارة منزلها كله في يدي الآنسة ميردستون، ولم تعد إلى الاعتراض مطلقا.
وقد اعتاد ديفيد أن يتساءل، كلما ساروا إلى المنزل عائدين من الكنيسة - السيد والآنسة ميردستون في المقدمة، والزوجة الصغيرة بينهما، وديفيد نفسه يسير خلفهم متباطئا - إن كان الجيران قد تذكروا قط، مثلما يتذكر هو دائما، كيف كان يسير هو ووالدته عائدين إلى المنزل وكل منهما ممسك بيد الآخر في محبة وسعادة كبيرتين وهما معا. لقد ولى ذلك الزمن السعيد إلى الأبد!
لقد كان يرى الجيران يتهامسون أحيانا، وينقلون أبصارهم بينها وبينه. وعندما ينظر إليها يجد أن مشيتها لم تعد رشيقة للغاية كما كانت من قبل، وأن وجهها الذي كان يوما ما يشبه وجوه البنات أصبحت تكسوه نظرة قلقة حزينة.
كان ديفيد يتعلم دروسه على يد أمه مثلما يفعلان دائما، لكن لأن السيد والآنسة ميردستون كانا موجودين عادة في الغرفة؛ فقد أصابه وجودهما بالتوتر، وأصبحت دروس الجغرافيا أو التهجئة التي كان يبذل جهدا كبيرا للغاية كي يتعلمهما تطير من رأسه، وأخذ يتلعثم ويخطئ.
كان يجول في خاطره، في تلك الأوقات، أن أمه لو امتلكت الجسارة لأرته الكتاب. وفي الواقع، لقد كانت تحاول أحيانا أن تلمح له بالكلمة عن طريق تحريك شفتيها أمامه دون أن تصدر صوتا. «كلارا!» لكن صرخة الاحتجاج هذه كانت تنطلق من فم السيد ميردستون؛ حيث تنتفض والدة ديفيد فزعا، ويحمر وجهها خجلا، وتحاول أن تبتسم.
حينئذ كان السيد ميردستون يأخذ الكتاب منها، ويرميه على ديفيد، أو يلكم به أذنيه، أو يدفعه في كتفيه ويطرده خارج الغرفة.
جعلت هذه المعاملة ديفيد غاضبا ومتبلدا وعنيدا؛ خاصة لأن السيد والآنسة ميردستون كانا يبعدانه عن أمه كلما سنحت لهما الفرصة. لكنه برغم هذا لديه مصدر سلوان لم يكن السيد ولا الآنسة ميردستون يعرفان عنه شيئا؛ ومنبع سرور، كذلك، ما كانا يستطيعان أن يسلباه منه.
كان الأمر كالآتي. في غرفة صغيرة مجاورة لغرفته، في الدور العلوي، ويستطيع دخولها متى شاء، وجد مجموعة كتب كان يمتلكها أبوه المتوفى. يا إلهي! يا لتلك الكتب البهيجة! فكلما أحس بضيق ينسل إلى الأعلى ويقرأ هذه الكتب؛ يا لها من كتب! «مغامرات رودريك راندوم»، «مغامرات بيراجرن بيكل»، «بعثة هامفري كلينكر»، «روبنسون كروزو»، «ألف ليلة وليلة»، وعدد كبير من الكتب الأخرى التي حفظها عن ظهر قلب. وكان بطريقته الصبيانية يتخيل نفسه رودريك راندوم، أو يحاكي روبنسون كروزو، وقد وجد بهذا قدرا كبيرا من العزاء.
وفي صباح أحد الأيام دخل ديفيد بكتبه إلى الردهة، فرأى على وجه أمه علامات قلق كبير، بينما راح السيد ميردستون يلوح بعصا في الهواء، وسمعه ديفيد يقول: «لقد ضربت أنا نفسي بالعصا مرارا.»
لا شك أن هذا جعل ديفيد أكثر توترا وبلادة من أي وقت مضى، وبدأ يخطئ أخطاء كثيرة في دروسه. وقد كانت الدروس تدخر له درسا بعد الآخر ليذاكرها من جديد، إلى أن انفجرت أمه في البكاء.
قالت الآنسة ميردستون بنبرة تحذير: «كلارا!»
قالت الأم متلعثمة: «أظن أنني لست على ما يرام.»
قال السيد ميردستون وهو يرفع العصا: «ديفيد، سوف تصعد معي إلى الطابق العلوي، أيها الولد.»
مدت الأم ذراعيها وجرت خلفهما إلى الباب؛ لكن الآنسة ميردستون أوقفتها، ورآها ديفيد وهي تضع أصبعيها في أذنيها، وسمعها تبكي.
أخذ السيد ميردستون ديفيد إلى الطابق العلوي، وعندما وصلا إلى غرفته أمسك برأس ديفيد تحت ذراعه.
صاح ديفيد: «سيد ميردستون! سيدي! لا تفعل! أرجوك لا تضربني! لقد حاولت أن أتعلم يا سيدي، لكنني لا أستطيع التعلم عندما تكون أنت والآنسة ميردستون موجودين. لا أستطيع بالفعل.»
قال السيد ميردستون: «ألا تستطيع حقا يا ديفيد؟ سنجرب هذا.»
حينئذ ارتفعت العصا وهوت عليه بقوة، وفي اللحظة نفسها وضع ديفيد يد السيد ميردستون بين أسنانه، وعضها بشدة.
وعندها ضربه السيد ميردستون وكأنما سيضربه حتى الموت. فراح ديفيد يصرخ، وسمع الآخرين يجرون إلى الدور العلوي. كما سمع أمه وهي تصرخ؛ وبيجوتي كذلك.
بعد ذلك تركه السيد ميردستون وأغلق الباب، وانهار ديفيد على الأرض باكيا متألما غاضبا.
بعد قليل بدأ غضبه يفتر، وبدأ يعتقد أنه كان مؤذيا جدا عندما عض يد السيد ميردستون. فجلس يستمع؛ لكنه لم يسمع أي صوت. ثم أخذ يحبو ببطء حتى نهض من على الأرض، ونظر إلى وجهه في المرآة، فرآه متورما ومحمرا وملطخا للغاية؛ وقد كان جسمه متقرحا ومتيبسا جدا من أثر الضرب لدرجة أن الحركة كانت تؤلمه ألما شديدا؛ لكنه راح يحبو حتى وصل إلى النافذة وأسند رأسه على حافتها، وراح ينظر بخمول خارج النافذة، وظل يراوح بين البكاء والإغفاء.
كان الظلام قد بدأ يملأ الغرفة عندما أدير مفتاح الباب، ودخلت الآنسة ميردستون بغطرسة ومعها بعض الخبز واللحم واللبن. لم تقل الآنسة ميردستون كلمة واحدة، وإنما نظرت إليه ببرود؛ ثم خرجت مرة أخرى وأغلقت الباب.
ظل ديفيد جالسا في غرفته حتى أظلم الجو تماما، وظل يتساءل إن كان أي أحد آخر سيأتي إليه؛ ثم خلع ملابسه وزحف إلى فراشه. وبدأ يشعر بالخوف، وهو يرقد في فراشه، بسبب ما فعله، وراح يتساءل عما سيفعلون به.
هل كان ما فعله جريمة؟ وهل سيأتي شرطي ليأخذه إلى السجن؟ لم يدر.
في صباح اليوم التالي وقبل نهوض ديفيد من فراشه ظهرت الآنسة ميردستون من جديد، وقالت له بفتور إن بإمكانه أن يتمشى مدة نصف ساعة في الحديقة. بعد ذلك كان عليه أن يعود إلى غرفته مرة أخرى؛ وفي المساء جاءت إليه ورافقته إلى الردهة بالأسفل للمشاركة في صلوات العائلة، حيث كان عليه أن يجثو على ركبتيه من أجل الصلاة بعيدا عن الآخرين، بقرب الباب. ولم يسمح لأمه بالحديث معه؛ بينما كانت يد السيد ميردستون ملفوفة في ضمادة كبيرة من الكتان.
لو أنه رأى أمه بمفردها لكان جثا على ركبتيه راجيا عفوها؛ لكنه لم يرها بمفردها مطلقا. وقد ظل حبيس غرفته طيلة خمسة أيام، وفي الليلة الخامسة، بعدما ذهب إلى النوم، استيقظ على صوت شخص ما يهمس باسمه. فانتفض ديفيد من مكانه، وتلمس طريقه إلى الباب ووضع فمه على ثقب المفتاح، وهمس قائلا: «هل هذه أنت يا عزيزتي بيجوتي؟»
ردت بيجوتي: «نعم يا حبيبي الغالي ديفي. أبق صوتك خفيضا كصوت الفأر وإلا فستسمعنا القطة.»
عرف ديفيد أنها تقصد الآنسة ميردستون.
وقال: «كيف حال أمي، يا عزيزتي بيجوتي؟ هل هي غاضبة علي كثيرا؟»
كانت بيجوتي تتكلم بصوت خفيض على الجانب الآخر من ثقب المفتاح، وقالت: «لا. ليس كثيرا.» «ماذا سيحدث لي يا بيجوتي، هل تعلمين؟»
جاءت همسة بيجوتي من ثقب المفتاح قائلة: «مدرسة. بقرب لندن.» «متى يا بيجوتي؟» «غدا.» «ألن أرى أمي؟»
همست بيجوتي: «بلى ستراها، في الصباح» ثم قربت فمها من ثقب الباب، وقالت في جمل مفككة: «ديفي، عزيزي. إذا كنت لم أتعامل معك بود. مؤخرا، كما كنت من قبل. هذا ليس لأنني لا أحبك. كما كنت من قبل وأكثر، يا حبيبي الجميل. لكن لأنني ظننت أن هذا أفضل لك. ولشخص آخر كذلك. ديفي، حبيبي، هل تسمعني؟ هل تستطيع سماعي؟»
قال ديفيد وهو يبكي: «نع... نع... نعم يا بيجوتي.»
قالت بيجوتي بحنو عظيم للغاية: «عزيزي، ما أريد قوله هو. عليك ألا تنساني أبدا. لأنني لن أنساك أبدا. وسوف أعتني بوالدتك يا ديفي. كما كنت أعتني بك دائما. ولن أتركها أبدا. وسوف أراسلك يا عزيزي. وسوف ... سوف.» انكبت بيجوتي على ثقب المفتاح تقبله، لأنها لم تستطع تقبيل ديفيد نفسه. «أشكرك يا عزيزتي بيجوتي. آه، أشكرك! أشكرك. هل تعدينني بشيء يا بيجوتي؟ هل تكتبين رسالة للسيد بيجوتي والصغيرة إيميلي، والسيدة جوميدج وهام تخبرينهم فيها أنني لست سيئا للغاية كما قد يظنون، وأنني أبعث لهم جميعا مودتي؛ وخصوصا للصغيرة إيميلي؟ هل تفعلين هذا، لو تكرمت يا بيجوتي؟»
وعدته الطيبة الكريمة بيجوتي أن تفعل، وقبل الاثنان ثقب المفتاح بحب كبير.
وفي الصباح ظهرت الآنسة ميردستون كالمعتاد، وأخبرت ديفيد أنه سيذهب إلى المدرسة. فلم يقل لها ديفيد إنه خبر قديم.
ونزل معها إلى الردهة حيث كان عليه أن يتناول إفطاره؛ وهناك وجد أمه، التي كانت شاحبة للغاية، وعيناها حمراوان. فجرى ديفيد وارتمى بين ذراعيها، وراح يرجوها أن تسامحه.
قالت: «يا إلهي، يا ديفي! لا أصدق أنك تستطيع إيذاء أي شخص أحبه! حاول أن تكون أفضل من هذا. لقد سامحتك؛ لكنني حزينة للغاية يا ديفي لأنك تحمل في قلبك مثل هذه المشاعر السيئة.»
هذا لأن السيد والآنسة ميردستون كانا قد صورا لها ديفيد على أنه ولد مؤذ، لا يستحق رحمتها وحبها. حاول ديفيد أن يتناول إفطاره، لكن الدموع سقطت على شطيرة الزبد، وسالت داخل فنجان شايه. رأى ديفيد أمه تنظر إليه بشفقة، لكن الآنسة ميردستون نظرت إليها، فحولت أمه عينيها عنه.
بعد قليل سمع صوت عربة أمام البوابة. وسمع ديفيد الآنسة ميردستون تقول: «ضع حقيبة السيد كوبرفيلد هناك!» فجاء باركس، الحمال، ورفعها من على الأرض ووضعها داخل عربته.
قالت والدة ديفيد وهي ممسكة به: «مع السلامة يا ديفي. إنك ذاهب إلى هناك من أجل مصلحتك. مع السلامة يا بني. لقد سامحتك يا ولدي الحبيب. باركك الله.»
قاطعتها الآنسة ميردستون: «كلارا!» فتركته والدته، وأوصلته الآنسة ميردستون إلى العربة وقالت إنها ترجو له أن يتوب قبل أن ينتهي به المطاف إلى نهاية سيئة بسبب أفعاله. لم ير ديفيد بيجوتي في أي مكان، ولم يظهر السيد ميردستون.
ركب ديفيد العربة، وراح الحصان الكسول الذي أوصله في ذلك اليوم البهيج إلى يارمث، يجر قدميه جرا كعادته مبتعدا عن المنزل.
الفصل الرابع
السفر بالعربة
ربما ساروا مسافة نصف ميل تقريبا قبل أن يتوقف الحمال فجأة. وعندما نظر ديفيد من نافذة العربة ليعرف ما الذي منعه من مواصلة السير رأى بيجوتي تخرج من وراء سياج وتسرع نحوهما، وتصعد إلى العربة.
أخذته بيجوتي بين ذراعيها وقبلته وضمته؛ لكنها كانت تلهث بشدة بحيث لم تستطع قول كلمة واحدة. ثم أفلتت إحدى ذراعيها، ودسته في جيبها حتى مرفقها، وأخرجت بعض الأكياس الورقية المليئة بالكعك، وحشت بها جيوب ديفيد، ومحفظة وضعتها في يده. ثم احتضنته مرة أخرى ونزلت من العربة وأسرعت بالانصراف.
قال الحمال للحصان الكسول: «هيا.» وراح الحصان يسير متثاقلا من جديد.
بكى ديفيد حتى لم يعد يستطيع البكاء، واقترح عليه باركس، عندما نظر إليه، أن ينشر منديله المبلل فوق ظهر الحصان ليجف. أعطاه ديفيد إياه، ونشره الحمال على ظهر الحصان؛ وعندما نظر ديفيد في المحفظة التي أعطتها له بيجوتي وجد بها ثلاثة شلنات لامعة. وفي جزء آخر منها وجد قطعتي نقد من فئة نصف الكراون ملفوفتين في قصاصة ورق كتب عليها بخط والدته: «من أجل ديفي، مع حبي.»
تأثر ديفيد تأثرا شديدا لدرجة أنه بدأ يبكي من جديد، وطلب من الحمال أن يناوله منديله من على ظهر الحصان. لكن باركس قال إنه يعتقد أنه سيكون أفضل من دونه؛ لذا جفف ديفيد عينيه بكميه بدل المنديل، وتوقف عن البكاء.
بعد ذلك تكلم الاثنان قليلا، وقال باركس إنه ذاهب إلى مدينة يارمث فقط. وقال: «وهناك، سأوصلك إلى عربة السفر العمومية، وستوصلك عربة السفر إلى ... حيثما ستذهب.»
بعد ذلك قدم ديفيد كعكة من الكعك الذي معه لباركس، فالتهمها باركس مرة واحدة، مثلما يفعل الفيل تماما. ثم سأل ذلك الحمال، وهو منحن إلى الأمام انحناءته المترهلة المعتادة: «هل صنعته الآن؟» «أتقصد بيجوتي؟»
قال باركس: «نعم! هي.» «نعم. إنها تصنع جميع معجناتنا وتطهو الطعام كله.»
قال باركس: «هل هي مع ذلك؟» وضم شفتيه ليصفر، لكنه لم يصفر، وراح ينظر إلى أذني الحصان.
ثم سأل بعد فترة ليست بالقليلة: «ما من محبوب، على ما أظن، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «ما من ماذا؟ أتقصد الحلوى يا سيد باركس؟» وكان يظن أنه يريد المزيد من الطعام.
قال باركس: «محبوب، حبيب؛ ما من رجل في حياتها!» «حياة بيجوتي؟» «نعم! هي.» «يا إلهي، لا. لم يكن في حياتها حبيب قط.»
قال باركس: «ألم تكن مع ذلك؟» ومن جديد ضم شفتيه ليصفر، ولم يصفر كذلك، وإنما جلس ينظر إلى أذني الحصان.
وقال: «إذن هي التي تصنع جميع فطائر التفاح، وتطهو الطعام كله، أليس كذلك؟»
قال ديفيد نعم.
قال باركس: «حسنا، اسمع، لعلك سترسل لها رسالة، أليس كذلك؟»
أومأ ديفيد برأسه أنه سيفعل.
قال باركس ببطء، وقد حول عينيه إلى ديفيد: «نعم! حسنا! إذا كتبت لها، فلعلك تتذكر أن تقول لها إن باركس راغب؛ أتسمح؟» «إن باركس راغب. هل هذه هي كل الرسالة؟»
قال باركس وهو يفكر: «نع... عم، نع... عم. باركس راغب.» «لكنك ستعود إلى بلاندستن مرة أخرى غدا يا سيد باركس، وتستطيع إيصال رسالتك بطريقة أفضل من هذا بكثير.»
لكن باركس لم يزد على أن هز رأسه وردد قائلا: ««إن باركس راغب.» هذه هي الرسالة.»
وهكذا أثناء جلوسهما في الفندق في مدينة يارمث ينتظران وصول عربة السفر، أحضر ديفيد ورقة ومحبرة، وكتب هذه الرسالة لبيجوتي:
عزيزتي بيجوتي. لقد وصلت إلى هنا سالما. إن باركس راغب. أبلغي حبي لأمي. المخلص لك ديفيد. ملحوظة: إنه يقول إنه يريد على وجه التحديد أن تعلمي أن «باركس راغب».
بعد قليل سألت مالكة الفندق إن كان هذا هو السيد الصغير من قرية بلاندستن، وعندما اكتشفت أنه هو، دقت جرسا واستدعت نادلا ليأخذ ديفيد إلى غرفة القهوة.
أدخله النادل غرفة كبيرة مستطيلة، وفرش غطاء مائدة، وأحضر بعض الخضروات وشرائح اللحم، ووضع كرسيا لديفيد عند المنضدة، وقال برقة: «والآن يا فارع الطول! تفضل!»
جلس ديفيد على كرسيه، لكنه كان مرتبكا للغاية من النادل الواقف أمامه والذي راح يحدق فيه، حتى إنه سكب مرق اللحم على نفسه، فاحمر وجهه جدا من الخجل. قال النادل: «هناك نصف لتر من عصير الفاكهة من أجلك. هل ستشربه الآن؟»
شكره ديفيد، وقال: «نعم.» وعلى إثر ذلك صب النادل العصير من دورق كان معه في قدح كبير، ورفعه في ضوء المصباح.
وقال: «يا للعجب! يبدو قدرا كبيرا من العصير، أليس كذلك؟» وافقه ديفيد الرأي، وسر للغاية عندما وجده رجلا لطيفا هكذا.
قال النادل: «كان هنا رجل بالأمس، رجل قوي البنية، يدعى توبسوير؛ لعلك تعرفه؟»
قال ديفيد: «لا.»
قال النادل: «كان يرتدي بنطالا قصيرا من بناطيل ركوب الخيل وحذاء طويلا، وقبعة عريضة الحافة، وربطة عنق منقطة.»
كرر ديفيد إجابته باستحياء: «لا.»
قال النادل: «لقد دخل إلى هنا، وطلب كأسا من هذا العصير - وقد نصحته بألا يفعل - لكنه شربه، وسقط ميتا.»
ارتاع ديفيد للغاية، وقال إنه يظن أنه ينبغي له الحصول على بعض الماء.
قال النادل وهو ينظر إلى قدح الشراب وإحدى عينيه مغلقة: «يا للعجب، أتدري، إن صاحبة الفندق لا تحب أن يطلب الزبائن الأشياء ثم يتركونها. إن هذا يضايقها. لكنني سأشربه إذا أحببت. أنا متعود عليه، والتعود هو الأهم في هذه الأمور. لا أظن أنه سيؤذيني إذا ألقيت رأسي إلى الوراء وابتلعته بسرعة. أتسمح لي؟»
قال له ديفيد إنه إذا كان متأكدا من أنه لن يؤذيه، فسيكون ممتنا له للغاية. وعندما ألقى النادل رأسه إلى الوراء، وابتلع العصير بسرعة، راح ديفيد يراقبه بشيء من الذعر خشية أن يسقط ميتا هو الآخر. لكن العصير لم يؤذه.
في الواقع، وعلى عكس ما توقعه ديفيد تماما، لقد بدا النادل أكثر نشاطا بعدما شربه.
قال النادل وهو يضع شوكة طعام في الطبق: «ماذا لدينا هنا؟ أليست هذه شرائح لحم؟»
قال ديفيد: «بلى، شرائح لحم.»
هتف النادل قائلا: «يا إلهي! لم أكن أعرف أنها شرائح لحم. يا للهول، إن شريحة اللحم تحديدا هي ما يزيل الآثار السيئة لهذا العصير! أليس هذا من حسن الحظ؟»
وهكذا أمسك شريحة لحم من ضلعها بيد، وقطعة بطاطس في اليد الأخرى، وراح يأكل بشهية مفتوحة جدا.
بعدما انتهت شرائح اللحم، أحضر النادل حلوى البودينج، وعندما وضعها أمام ديفيد، بدا شارد الذهن للحظات.
ثم قال فجأة: «ما رأيك في الفطيرة؟»
قال ديفيد: «إنها حلوى البودينج.»
هتف النادل: «بودينج! يا للعجب، يا إلهي، إنها كذلك بالفعل.» ثم نظر إليها عن قرب أكثر وقال: «ماذا! لا تقل لي إنها حلوى البودينج المخفوقة!» «بلى، إنها هي بالفعل.»
قال النادل وهو يتناول ملعقة من ملاعق المائدة: «يا للعجب، بودينج مخفوق، إنها النوع المفضل عندي من حلوى البودينج! أليس هذا من حسن الحظ! هيا أيها الصغير، لنر من منا سيأكل أكثر من الآخر.»
بالتأكيد أكل النادل النصيب الأكبر. وقد توسل إلى ديفيد أكثر من مرة كي ينخرط في السباق ويفوز، لكن بسبب كبر ملعقة المائدة التي كانت معه مقارنة بملعقة الشاي التي كانت مع ديفيد، وبسبب انفتاح شهيته الكبير مقارنة بشهية ديفيد، فقد جاء الصبي الصغير في ذيل السباق.
بعد قليل دوى نفير عربة السفر في الساحة؛ وبينما يساعد شخص ما ديفيد على صعود العربة من جهتها الخلفية، سمع صاحبة الفندق تقول للحارس: «اعتن بهذا الطفل يا جورج وإلا سينفجر!» وفي تلك اللحظة خرجت بعض خادمات الفندق لينظرن إليه، ويضحكن.
كن يحسبنه هو الذي أكل كل شرائح اللحم وكل البطاطس التي كانت في الطبق، وحلوى البودينج كلها.
وعندما استحث سائق عربة السفر جياده على المسير بلسعات سوطه وصاروا في الطريق إلى وجهتهم، راح هو والحارس يتندران على ثقل العربة خلفهما، بسبب جلوس ديفيد فيها، ويقترحان أنه كان ينبغي أن يسافر بعربة كبيرة خاصة.
بعد ذلك أمسك الركاب الذين على سطح العربة قصة شهية ديفيد الكبيرة المزعومة، وراحوا يسألونه إن كان سيدفع في المدرسة مصروفات أخوين أو ثلاثة، وكانوا مبتهجين للغاية من القصة في الواقع.
اعترى ديفيد المسكين شعور كبير بالخجل، لدرجة أنه عندما توقفت العربة أمام فندق آخر ليتناول الركاب العشاء، تظاهر بأنه ليس جائعا على الإطلاق، ولم يتناول أي شيء على العشاء، رغم أنه كان يود بشدة أن يتناول بعض الطعام. لكن هذا لم ينقذه من المزيد من النكات، حيث قال رجل عجوز إنه مثل الثعبان العاصر الذي يتناول في وجبة واحدة ما يكفيه وقتا طويلا.
في تلك الأيام، كما أوضحت من قبل، لم يكن هناك سكك حديدية على الإطلاق، وكان من يسافرون من مكان إلى آخر يستقلون العربات دائما.
وهم قد غادروا يارمث في الساعة الثالثة بعد الظهر، ولن يصلوا إلى لندن قبل الثامنة من صباح اليوم التالي. لكن الجو كان صيفيا معتدلا، والمساء صاف للغاية. وقد أحب ديفيد التنقل بالعربة عبر القرى واحدة تلو الأخرى، وحاول أن يتخيل كيف تبدو البيوت من الداخل. وكان بعض الصبية يجرون خلفهم أحيانا ويتعلقون في المركبة قليلا، بينما ديفيد يتساءل إن كان آباؤهم على قيد الحياة، وإن كانوا سعداء في بيوتهم. لقد فكر مدة طويلة كذلك في والدته وفي بيجوتي، لكنه أحس وكأنه قد انقضت دهور على مغادرته قرية بلاندستن.
طلع الصبح أخيرا، وبعد قليل لاحت لأعينهم مدينة لندن العظيمة النشيطة الصاخبة، وفي الوقت المناسب وصلت العربة إلى وجهتها أمام أحد الفنادق، في مكان ما بمقاطعة وايتشابل.
فسأل الحارس عند مكتب الحجز: «هل يوجد أي أحد هنا ينتظر وصول طفل محجوز له في عربة السفر العمومية باسم ميردستون، من قرية بلاندستن، بمقاطعة سافك، كي أسلمه له؟»
لم يجبه أحد.
قال ديفيد: «لو سمحت يا سيدي، جرب اسم كوبرفيلد.»
أعاد الحارس سؤاله، مضيفا: «لكنه ينتمي لعائلة كوبرفيلد.»
لا ، لم يكن هناك أحد.
واقترح رجل سخيف يرتدي حذاء طويلا أن يضعوا طوقا نحاسيا في رقبة ديفيد، وأن يربطوه في الإسطبل.
بعد ذلك أحضر سلم خشبي، ونزل جميع الركاب، وأزيلت حقائب السفر، وحررت الخيول من العربة. وحتى الآن لم يأت أحد للمطالبة بالطفل المغبر القادم من قرية بلاندستن، بمقاطعة سافك.
فدخل ديفيد مكتب حجز التذاكر، وأجلسه الموظف على الميزان الذي توزن عليه جميع حقائب السفر؛ وجلس الفتى الصغير ينظر إلى الطرود، ويتساءل عما قد يحدث له إذا لم يأت أحد لاصطحابه.
الفصل الخامس
الأسابيع الأولى في مدرسة سيلم هاوس
أخيرا دخل شاب نحيل شاحب، غائر الخدين، يرتدي بدلة لونها أسود صدئ، وأكمامها وأرجل بنطلونها قصيرة نوعا ما، إلى المكتب وهمس في أذن الموظف، فأمال الموظف ديفيد من على الميزان ودفع به إلى الوافد الجديد. فأمسك الشاب يد ديفيد، وخرج الاثنان معا.
قال الشاب: «أنت الولد الجديد، أنا أحد مدرسي مدرسة سيلم هاوس.»
أحنى ديفيد رأسه محييا إياه وأحس برهبة شديدة تعتريه؛ واستحيا للغاية أن يذكر شيئا شديد الابتذال مثل حقيبته، لواحد من علماء ومدرسي مدرسة سيلم هاوس، لدرجة أنهما سارا بعض المسافة قبل أن يمتلك الشجاعة لكي يلمح إليها. وهكذا رجعا إلى المكتب، وقال المدرس للموظف إن الحمال سيأتي لأخذها في الظهيرة.
سأله ديفيد، بعدما سارا في طريقهما مرة أخرى: «لو سمحت يا سيدي، هل المدرسة بعيدة؟»
قال: «إنها في الجنوب بجوار مقاطعة بلاكهيث.»
سأله ديفيد: «هل هذه المسافة بعيدة يا سيدي؟»
قال: «إنها بعيدة بالفعل، سوف نستقل عربة السفر العمومية. فهي تبعد ستة أميال تقريبا.»
شعر ديفيد بإرهاق ووهن شديدين، فهو لم يأكل شيئا منذ أن ساعده النادل على إنهاء طعامه من شرائح اللحم وحلوى البودينج بالأمس، لدرجة أن تشجع على أن يقول للمدرس ذلك.
حينئذ قال المدرس إنه يريد أن يزور سيدة عجوزا لا يبعد بيتها كثيرا عنهما، وإنه إذا اشترى ديفيد شيئا ما وهما في الطريق فإن بإمكانه أن يتناوله في بيتها.
وهكذا اشتريا رغيفا صغيرا لذيذا من الخبز البني من محل أحد الخبازين؛ ثم اشتريا بيضة وشريحة من اللحم المملح المقدد من البقال، وحملهم ديفيد حتى وصلا إلى بيت السيدة الفقيرة، والذي أدرك ديفيد في الحال أنه جزء من أحد ملاجئ الفقراء.
رفع المدرس رتاج باب من عدة أبواب صغيرة سوداء متشابهة كلها، ودخلا المنزل الصغير الذي تسكنه امرأة عجوز فقيرة كانت توقد نارا كي تضع فوقها قدرا صغيرة لتغلي.
وما إن رأت المرأة المدرس حتى صاحت بشيء يشبه «ولدي تشارلي!» لكنها عندما رأت ديفيد يدخل هو الآخر، نهضت وانحنت محيية إياه في ارتباك.
قال مدرس مدرسة سيلم هاوس: «أيمكنك أن تطهي لهذا السيد الصغير إفطاره، من فضلك؟»
قالت السيدة العجوز: «أيمكنني؟ نعم، يمكنني، بالتأكيد.» وأنضجته ببراعة حقا.
بينما ديفيد يستمتع بوجبته قالت السيدة العجوز: «هل أحضرت مزمار الفلوت معك؟»
أجابها المدرس: «نعم.»
قالت السيدة العجوز، بنبرة ملاطفة: «فلتعزف به، هيا.»
وهكذا أخرج المدرس مزماره المكون من ثلاث قطع، وربط بعضها ببعض، وبدأ العزف في الحال.
أحس ديفيد أن اللحن الذي عزفه كان كئيبا وسوداويا إلى أبعد الحدود، وفي الحقيقة، لقد أحس أنه مغرق في السوداوية، لدرجة أنه جعله يذرف الدموع في البداية، ثم بعد ذلك ألقى على عينيه أغشية النوم. وبينما ديفيد ينعس خيل إليه أن السيدة العجوز راحت تقترب ببطء من المدرس حتى أصبحت قريبة بما يكفي لتطويق عنقه بذراعيها في حنان.
لكنه استيقظ بعد قليل، وحل المدرس مزماره وأعاد القطع إلى مكانها؛ وقال لديفيد إنه قد حان وقت الذهاب إلى عربة السفر.
لم تكن العربة بعيدة، وركب الاثنان فوق السطح؛ لكن النعاس كان متمكنا جدا من ديفيد حتى إنهم عندما توقفوا في الطريق لاصطحاب شخص آخر، وضعوه داخل العربة التي كانت خالية من الركاب، ونام نوما عميقا.
توقفت العربة بعد قليل، وأخرجه المدرس منها، ثم سارا لمسافة قصيرة حتى وصلا إلى مكان كئيب المنظر يحيط به سور قرميدي عال من جميع الجهات، وكان مكتوبا على رقعة خشبية وضعت فوق باب في الحائط «مدرسة سيلم هاوس»؛ وعندما دقا الجرس راح وجه مكفهر يحدق فيهما عبر نافذة شبكية في الباب، ثم فتح لهما الباب رجل قصير القامة ذو رقبة غليظة قصيرة، ورجل خشبية، وشعر قصير.
قال المدرس: «الصبي الجديد.»
حدق الرجل ذو الرجل الخشبية في ديفيد، وأغلق البوابة خلفهما، وصاح قائلا: «مرحبا!» بينما اتجها نحو مبنى المدرسة.
ثم نظر الاثنان خلفهما، إذ قال الرجل، الذي كان واقفا عند باب كوخ بواب صغير وفي يده حذاء طويل: «تفضل! لقد جاء الإسكافي، بعد أن غادرت، يا سيد ميل، ويقول لك إنه لا يستطيع إصلاحه بعد الآن. كما يقول إنه لم يعد يوجد فيه حتى ولو جزءا صغيرا من الحذاء الأصلي، وهو يعجب من تمسكك به.» ثم ألقى الحذاء إلى السيد ميل، فالتقطه وراح ينظر فيه بخيبة أمل شديدة. وعندئذ لاحظ ديفيد للمرة الأولى أن الحذاء الذي كان يرتديه أسوأ بكثير من أن يرتديه أحد.
لم يكن هناك أي صوت في المكان. كان هادئا جدا لدرجة أن ديفيد تساءل إن كان الأولاد جميعهم قد خرجوا.
عندئذ أوضح له السيد ميل أنهم كانوا في وقت الإجازة، وجميع الأولاد في بيوتهم، كما أن السيد كريكل، مالك المدرسة، ذهب إلى شاطئ البحر مع السيدة والآنسة كريكل؛ وأن ديفيد أرسل إلى المدرسة في وقت الإجازة عقوبة له بسبب عضه ليد السيد ميردستون.
كانت حجرة الدرس أكثر مكان موحش رآه ديفيد في حياته؛ فهي حجرة مستطيلة بها ثلاثة صفوف طويلة من المكاتب، وستة مقاعد طويلة ملطخة تماما بالحبر.
تركه السيد ميل هناك ريثما يحمل حذاءه إلى الطابق العلوي، وبينما ديفيد يستكشف الحجرة، لمح فجأة لافتة من الورق المقوى موضوعة على المكتب، وكان مكتوبا عليها بخط جميل: «احترسوا منه. إنه يعض.»
عندئذ صعد فوق المكتب في الحال وراح يبحث بعينين قلقتين عن الكلب، لكنه لم يجده؛ وفي تلك اللحظة دخل السيد ميل، وسأله عما يفعله فوق المكتب.
قال ديفيد: «معذرة يا سيدي، لو سمحت، إنني أبحث عن الكلب.»
قال السيد ميل: «كلب؟ أي كلب ؟» «أليس هذا كلبا يا سيدي؟» «عن أي شيء تتحدث؟» «ذاك الذي ينبغي الاحتراس منه يا سيدي؛ ذاك الذي يعض.»
قال السيد ميل بوقار يشوبه الحزن: «لا، يا كوبرفيلد، ليس هذا كلبا. إنه ولد. إن التعليمات التي لدي، يا كوبرفيلد، أن أعلق هذه اللافتة على ظهرك. أنا حزين أن أبدأ علاقتي معك بمثل هذه البداية، لكنني مضطر لفعلها.»
بعد ذلك مباشرة أنزل ديفيد من على المكتب، وربط اللافتة في كتفيه مثل حقيبة الظهر. هنا موضع صورة، مكتوب تحتها:
شكل 5-1: كل من جاءوا إلى المدرسة ذات صباح، قد قرءوا أنه ينبغي الاحتراس منه لأنه يعض.
مسكين ديفيد! إن ما عاناه من تلك اللافتة لا يستطيع مخلوق أن يتخيله. لقد كان يعلم أن الخدم قرءوها، وأن الجزار قرأها؛ لأن كل من جاءوا إلى المدرسة ذات صباح كان هو قد أمر أن يمشي فيه في ملعب المدرسة - وهو عبارة عن فناء مكشوف مكسو بالحصى في الجزء الخلفي من المدرسة - قد قرءوا أنه ينبغي الاحتراس منه لأنه يعض. وكان الرجل ذو الرجل الخشبية كلما رآه يستند على الحائط ليخفي اللافتة، يصيح عاليا بصوت قاس: «أنت أيها السيد! أنت يا كوبرفيلد! أظهر هذا الشعار وإلا أبلغت عنك!»
وكان ديفيد يستذكر واجبات دراسية طويلة كل يوم مع السيد ميل؛ لكن، نظرا لعدم وجود السيد والآنسة ميردستون معه كي يوترا أعصابه، أصبح يستذكر واجباته دون أن يشعر بأي خزي.
كان هو والسيد ميل يتغديان معا في طرف غرفة طعام مستطيلة خالية من التجهيزات. وبعدها يستذكر المزيد من الواجبات المدرسية حتى موعد تناول شاي الخامسة عصرا، ثم يسير بعد ذلك في ملعب المدرسة، والرجل ذو الرجل الخشبية يراقبه.
لم يكثر السيد ميل من الكلام مع ديفيد مطلقا، لكنه كذلك لم يقس عليه مطلقا. وعندما كان ديفيد يذهب إلى النوم في الغرف الشاغرة المليئة بالأسرة الخالية، لم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء أحيانا شوقا إلى سماع كلمة مواساة من بيجوتي.
وكان في ملعب المدرسة باب قديم تعود الأولاد أن يحفروا أسماءهم عليه. وهو مغطى بالكامل بأسمائهم. وعندما قرأ ديفيد الأسماء لم يملك إلا أن يتساءل كيف سيقرأ كل ولد اللافتة المعلقة على ظهره: «احترسوا منه، إنه يعض.»
فهناك ولد - يدعى جيه. ستيرفورث - وقد حفر اسمه عميقا جدا، فتخيل ديفيد أن يقرأ اللافتة بصوت جهوري نوعا ما، ثم بعد ذلك يجذبه من شعره. وهناك آخر، يدعى تومي ترادلز، وقد خشي ديفيد أن يجعل منه أضحوكة، ويتظاهر بأنه يرتعد خوفا منه.
كان عدد الأولاد خمسة وأربعين ولدا في المجمل، كما أخبره السيد ميل، ورغم أن نفسه كانت تتوق في أحوال كثيرة لرفقتهم، فقد خشي مما سيحدث عندما يقرءون: «احترسوا منه، إنه يعض.»
الفصل السادس
جيه ستيرفورث وترادلز
عاش ديفيد هذه الحياة على مدى شهر تقريبا، حيث بدأ يعتاد على منظر الرجل ذي الرجل الخشبية وهو يمشي بتثاقل وجلبة ومعه ممسحة ودلو مليء بالماء، بينما تقوم امرأتان أو ثلاثة بأعمال التنظيف بالفرش وينفضن الغبار عن الأشياء. ثم في يوم من الأيام أخبره السيد ميل أن السيد كريكل سيعود إلى بيته في المساء؛ وفي تلك الليلة قبل موعد نومه جاء الرجل ذو الرجل الخشبية وأخذه للمثول أمام السيد كريكل.
أخذ الرجل ديفيد إلى الردهة، لكنه كان يرتعد للغاية بحيث من المحتمل ألا يكون قد رأى السيدة والآنسة كريكل اللتين كانتا تجلسان هناك، أو أي شيء آخر غير السيد كريكل؛ وهو رجل بدين يحمل مجموعة من سلاسل الساعات والأختام، وكان يجلس على كرسي ذي ذراعين، وإلى جواره قدح وزجاجة.
قال السيد كريكل: «إذن! هذا هو الفتى الذي تحتاج أسنانه أن تبرد! أدره!»
أداره الرجل ذو الرجل الخشبية لكي يظهر اللافتة، ثم أعاد وجهه مرة أخرى في مواجهة السيد كريكل، ووقف هو إلى جوار السيد كريكل.
كان وجه السيد كريكل شديد الاحمرار، وعيناه صغيرتين وغائرتين في رأسه؛ مع أنف صغير، وذقن عريض؛ لكن أشد ما أثار انتباه ديفيد أن السيد كريكل لم يكن له صوت، لأنه يتحدث بالهمس.
قال السيد كريكل: «والآن، ما هو تقريرك عن حالة هذا الولد؟»
قال الرجل ذو الرجل الخشبية: «لا شيء ضده حتى الآن.»
بدت على السيد كريكل علامات خيبة الرجاء. أما السيدة والآنسة كريكل، واللتان كانتا كلتاهما نحيلتين وهادئتين، فقد بدت عليهما أمارات السرور. فقال السيد كريكل، مشيرا بيده إلى ديفيد: «تعال إلى هنا أيها السيد.» «لقد سررت بالتعرف على زوج أمك،» هكذا قال السيد كريكل بصوته الهامس، وهو يمسك ديفيد من أذنه. وأضاف وهو يقرص أذنه: «وهو رجل فاضل جدا، وقوي الشخصية. إنه يعرفني، وأنا كذلك أعرفه. هل تعرفني أنت؟ أجب؟»
قال ديفيد وهو يتراجع إلى الوراء من الألم: «لم أعرفك بعد يا سيدي.» «ليس بعد؟ أليس كذلك؟ لكنك ستعرفني قريبا، أليس كذلك؟»
ردد الرجل ذو الرجل الخشبية: «ستعرفه قريبا، أليس كذلك؟» واكتشف ديفيد فيما بعد أنه كان في العادة يوضح، بصوته الجهوري، كلام السيد كريكل للأولاد.
ارتعب ديفيد للغاية، وقال إنه يرجو ذلك، إذا سمح له السيد كريكل.
همس السيد كريكل، وهو يترك أذنه أخيرا، بعدما قرصها قرصة أخيرة جعلت عينيه تترقرقان بالدموع: «سوف أخبرك ماذا أكون، إنني رجل تتري.»
ردد الرجل ذو الرجل الخشبية: «رجل تتري.»
قال السيد كريكل: «عندما أقول إنني سأفعل شيئا، فإنني أفعله، وعندما أقول إنني سأنجز شيئا، فسوف أنجزه.»
ردد الرجل ذو الرجل الخشبية، وكأنه صدى الصوت: «... سأنجز شيئا، فسوف أنجزه.»
بعد ذلك أمر السيد كريكل بإخراجه، لكن ديفيد قال فجأة؛ وهو مندهش من تلك الشجاعة التي تحلى بها: «لو سمحت يا سيدي ...»
همس السيد كريكل: «ها؟ ما هذا؟» «بعد إذنك يا سيدي، أنا في غاية الأسف حقا يا سيدي لما فعلته؛ فهل تسمح لي أن أخلع هذه الكتابة، قبل أن يعود الأولاد ...»
اندفع السيد كريكل من كرسيه فجأة، ودون أن ينتظر ديفيد الرجل ذا الرجل الخشبية، فر خارج الغرفة، ولم يتوقف بتاتا حتى وصل إلى غرفة نومه؛ وعندما رقد على سريره ظل يرتعد فيه طوال ساعتين.
في صباح اليوم التالي عاد السيد شارب إلى المدرسة. كان السيد شارب المدرس الأول ، وكان أعلى منزلة من السيد ميل. حيث يتناول السيد ميل وجباته مع الأولاد، أما السيد شارب فهو يتغدى ويتعشى على مائدة السيد كريكل. وكان رجلا ضعيفا واهن البنية، وله أنف كبير، وشعر ناعم متموج كثيف.
أما أول ولد عاد إلى المدرسة فكان تومي ترادلز. الذي قدم نفسه لديفيد بقوله إنه سيجد اسمه مكتوبا على الركن الأيمن من البوابة، فوق الرتاج العلوي.
قال ديفيد: «ترادلز؟»
قال ترادلز: «هو نفسه.» ثم طلب وصفا كاملا لديفيد وعائلته؛ وأخبره أن شعر السيد شارب ليس حقيقيا، وإنما يضع شعرا مستعارا (مستعملا)، وهو يخرج كل سبت بعد الظهر ليجعده.
كان من حسن حظ ديفيد أن وصل ترادلز إلى المدرسة أولا. فقد استمتع باللافتة كثيرا، وأنقذ ديفيد من الإحراج بتقديمه لكل من عاد إلى المدرسة من الطلاب بصيغة التقديم هذه: «انظر! انظر لهذه المزحة.»
أخذ بعض الأولاد يرقصون حوله كالهنود الهمجيين، وناداه بعضهم ب «الكلب تاوزر»، وراح آخرون يربتون عليه ويقولون «استلق على الأرض يا سيدي.» لكن الجزء الأعظم من الأولاد كانوا مكتئبين للغاية بسبب عودتهم إلى المدرسة، بحيث إنهم لم يمرحوا على حساب إيذاء ديفيد كما كان من الممكن أن يفعلوا في حالة غير هذه.
لم يكن جيه. ستيرفورث قد جاء بعد. لقد قال الأولاد عنه إنه فتى ذكي وحسن المظهر جدا، ولم يعدوا أن ديفيد قد قبل رسميا في المدرسة قبل وصول جيه. ستيرفورث.
ثم جاء ستيرفورث أخيرا؛ وهو أكبر من ديفيد بست سنوات تقريبا، وأخذ الولد الجديد إليه وكأنما أخذ للمثول أمام قاض من القضاة.
وتحت سقيفة في ملعب المدرسة تفحص ستيرفورث اللافتة، واستعلم عن تفاصيل عقوبة ديفيد.
أخبره ديفيد بكل شيء عن السيد ميردستون وعن عضه يده.
وعندئذ قال جيه. ستيرفورث إن اللافتة «عار كبير.» مما وثق صلة ديفيد به للغاية بعد ذلك.
انفرد ستيرفورث بديفيد وسأله: «كم معك من النقود يا كوبرفيلد؟»
أخبره ديفيد أن معه سبعة شلنات.
قال ستيرفورث: «يجدر بك أن تعطيني إياها كي أعتني لك بها، أو على الأقل يمكنك أن تفعل هذا إذا أحببت. لست مضطرا لذلك إذا لم ترغب فيه.»
فتح ديفيد محفظة بيجوتي في الحال، وقلبها بطنا لظهر في يده.
سأله ستيرفورث: «هل ترغب في إنفاق أي شيء الآن؟»
قال ديفيد: «لا، شكرا لك.»
قال ستيرفورث: «يمكنك هذا إذا أحببت، اطلب فقط.»
أعاد ديفيد رده السابق: «لا، شكرا لك.» «ربما تود أن تنفق شلنين أو نحو ذلك لشراء زجاجة من عصير التوت بعد قليل، لتشربها هناك في غرفة النوم. سوف تنام في نفس الغرفة التي أنام فيها، لقد اكتشفت هذا.»
قال ديفيد إنه يحب ذلك.
قال ستيرفورث: «حسن، سوف يسرك أن تنفق شلنا آخر أو نحو ذلك لشراء كعك اللوز، أليس كذلك؟»
قال ديفيد إنه يعتقد أنه يحب ذلك أيضا.
قال ستيرفورث: «وشلن آخر لشراء البسكويت، وآخر للفاكهة، أليس كذلك؟ أرى أيها الصغير كوبرفيلد أنك ستبددها كلها!»
ابتسم ستيرفورث، ولم يملك ديفيد إلا أن يبتسم هو الآخر.
قال ستيرفورث: «حسن، يجب أن نقتصد غاية الاقتصاد في إنفاق هذه النقود؛ هذا كل ما في الأمر. وسوف أبذل أقصى ما بوسعي من أجلك. إنني أستطيع الخروج متى شئت، وسأهرب الطعام إلى هنا.» ثم وضع النقود في جيبه وقال لديفيد بلطف إنه سيحرص على أن يكون كل شيء على ما يرام.
كان ستيرفورث عند كلمته: فعندما صعدا إلى الطابق العلوي ليناما أخرج جميع ما اشتراه بالشلنات السبعة، وبسطه على فراش ديفيد تحت نور القمر، وقال: «هاك ما طلبت، أيها الصغير كوبرفيلد، وقد حصلت على مأدبة ملكية!»
لم يتصور ديفيد أن يحتفي هو بضيوف الوليمة في وجود هذا الفتى الذكي الوسيم، لذا توسل إلى ستيرفورث أن يترأسها بنفسه. أيد الأولاد الآخرون الذين في الغرفة رغبة ديفيد، فوافق ستيرفورث بلباقة عليها، وجلس على الوسادة، وراح يناولهم الكعك والفاكهة بنزاهة تامة حقا، ويوزع عصير التوت في كأس صغيرة من دون ساق، كانت كأسه هو؛ بينما جلس ديفيد على يساره، والتف الآخرون حولهما.
كانوا جميعا يتهامسون بالكلام؛ وكان ستيرفورث، إذا أراد أن يبحث عن أي شيء، يقحم عود ثقاب في قداحة فسفور ويشعل وهجا أزرق لا يلبث أن ينطفئ سريعا.
همس الأولاد للولد الجديد بكل شيء عن المدرسة؛ فعرفوه أن السيد كريكل هو أشد المديرين صرامة وقسوة؛ وأنه لم يكف يوما في حياته عن الضرب بعصاه يمنة ويسرة. وأخبروه أنه لجأ إلى العمل في مجال التعليم بعدما أفلس في تجارة نبات حشيشة الدينار (نبات يدخل في صناعة البيرة)، وأنه قد سرق أموال السيدة كريكل. وأخبروه كذلك أن الرجل ذا الرجل الخشبية، والذي يدعى تنجاي، كان يعمل في تجارة نبات حشيشة الدينار هو الآخر، وأن رجله قد قطعت أثناء عمله مع السيد كريكل. كما أخبروه أن السيد كريكل عنده ابن، وأن هذا الابن لم يكن على وفاق مع تنجاي، وأنه طرد بسبب اعتراضه على طريقة أبيه القاسية في التعامل داخل المدرسة؛ وأن الحزن مسيطر على السيدة والآنسة كريكل منذ ذلك الحين.
وقد سمع كذلك أن الأجر الذي يحصل عليه كل من السيد شارب والسيد ميل زهيد جدا؛ وأن السيد ميل لم يكن من نوع الرجال السيئين، لكنه لم يكن يملك نصف شلن ليسعد نفسه به؛ وأن العجوز السيدة ميل، والدته، قد بلغ منها الفقر ما بلغه من النبي أيوب. فتذكر ديفيد فجأة السيدة المسنة التي صاحت قائلة: «ولدي تشارلي!» عندما ذهب لطهي فطوره، لكنه لم يخبر الآخرين بهذا.
كما سمع ديفيد أيضا أن الأولاد كلهم يعتقدون أن الآنسة كريكل تحب ستيرفورث، وهو ما لم يستغربه على الإطلاق؛ وأن ستيرفورث طالب ذو امتيازات، وهو ابن سيدة غنية جدا، وأنه الولد الوحيد في المدرسة الذي لم يجرؤ السيد كريكل قط على أن يمد يده عليه. بعد ذلك تفرق الأولاد وذهبوا للنوم.
فكر ديفيد كثيرا في ستيرفورث بعدما ذهب إلى فراشه، ورفع نفسه مستندا على كوعه لينظر إليه وهو مضطجع تحت نور القمر ووجهه الوسيم للأعلى، ورأسه معتمد على ذراعه.
كان ستيرفورث قد قال قبل أن ينام: «طابت ليلتك أيها الصغير كوبرفيلد. سوف أعتني بك.»
وفي غمرة إعجاب ديفيد بستيرفورث وعرفانه بجميله راح ينظر إليه بإجلال وكأنه بطل وملك.
الفصل السابع
حياة المدرسة
بدأت المدرسة جديا في اليوم التالي.
وتحولت جلبة الأصوات المتواصلة التي في حجرة الدرس إلى صمت كصمت القبور بمجرد أن دخل السيد كريكل، ووقف في المدخل يجيل النظر بين الأولاد، ويصيح بهمس شرس: «سكوت!»
كان تنجاي واقفا على مقربة من السيد كريكل، وراح يردد بصوته الجهوري ما قاله السيد كريكل همسا. «والآن أيها الأولاد، ها قد بدأ فصل دراسي جديد. فانتبهوا لما أنتم مقدمون عليه في هذا الفصل الدراسي. واحضروا الدروس بنشاط، اسمعوا نصيحتي، فأنا نشيط في توقيع العقاب. إنني لن أحجم عن معاقبتكم. ولن يفيدكم أن تفركوا آثار الضرب بأيديكم؛ فلن تستطيعوا أن تزيلوا آثار عصاي من على أجسامكم. والآن إلى دراستكم جميعا!»
بعد ذلك خرج تنجاي محدثا جلبة برجله الخشبية، بينما أقبل السيد كريكل إلى حيث يجلس ديفيد، وقال له إنه إذا كان هو مشهورا بالعض، فإن السيد كريكل مشهور بالعض أيضا. ثم أظهر العصا لديفيد، وسأله عما إذا كانت تشبه الأسنان؟ هل هي سنة حادة، أجب؟ هل هي سنة مزدوجة، قل؟ هل هي تعض، تكلم؟ وكان مع كل سؤال يضرب ديفيد بها ضربة تجعله يتلوى من الألم.
لكنه لم يكن الولد الوحيد الذي ضرب بالعصا ذلك اليوم؛ فقبل أن ينتهي اليوم الدراسي كان نصف المدرسة يتلوى من الألم ويبكي، ويبدو أن السيد كريكل يستمتع للغاية بمساهمته في إحداث ذلك.
لقد كان رجلا جاهلا متوحشا، لا مهمة له ولا متعة في غير معاقبة الأولاد. أما التدريس فهو متروك للسيد شارب والسيد ميل.
كان المسكين ترادلز تعيس الحظ إلى أبعد الحدود، وقد ضرب بالعصا في كل يوم من أيام هذا الفصل الدراسي؛ لكنه وإن كان أكثر الأولاد بؤسا؛ إلا أنه أكثرهم مرحا، وكان، بعد أن يضع رأسه على المكتب قليلا، يبتهج بطريقة ما، ويبدأ في الضحك من جديد، ويأخذ في رسم هياكل عظمية على طول لوح كتابته الأردوازي وعرضه، قبل أن تجف دموعه .
لقد كان جديرا جدا بالاحترام، إن ترادلز هكذا حقا؛ وقد جعل مساندة الأولاد بعضهم بعضا واجبا مقدسا. فذات مرة ضحك ستيرفورث داخل الكنيسة، وظن الشماس أن ترادلز هو الذي ضحك، وأخرجه خارج الكنيسة؛ لكن ترادلز لم يقل مطلقا من الذي انتهك حرمة المكان في الحقيقة، رغم أنه عوقب على هذا الانتهاك في اليوم التالي. لكنه تلقى مكافأته. حيث قال ستيرفورث إن ترادلز ليس واشيا، وقد شعر الأولاد جميعا أن هذا هو أعلى مراتب الثناء.
واصل ستيرفورث حماية ديفيد، وأثبت أنه صديق نافع جدا؛ لأنه ما من أحد كان يجرؤ على إزعاج شخص شرفه ستيرفورث بصداقته. وذات مرة، بينما هما يتكلمان في ملعب المدرسة، تصادف أن قال ديفيد شيئا عن واحد من كتبه الحبيبة، وهو كتاب «مغامرات بيراجرن بيكل»؛ وفي تلك الليلة أثناء ذهابهما للنوم سأله ستيرفورث إن كان هذا الكتاب معه.
أخبره ديفيد أنه ليس معه، وحكى له كيف ساقته الصدفة إلى قراءته، وقراءة كل تلك الكتب اللطيفة الأخرى التي عثر عليها في تلك الغرفة الصغيرة المجاورة لغرفته بالطابق العلوي.
سأله ستيرفورث: «وهل تذكرها؟»
قال ديفيد إنه يعتقد ذلك. «اسمع إذن أيها الصغير كوبرفيلد، سوف تقصها علي. فأنا لا أستطيع النوم مبكرا جدا بالليل، وعادة ما أستيقظ مبكرا نوعا ما في الصباح. سوف تحكيها لي واحدة تلو الأخرى. ولنجعل الأمر يبدو مثل ألف ليلة وليلة.»
أرضى هذا كبرياء ديفيد للغاية، وبدأ يحكي «مغامرات بيراجرن بيكل» في تلك الليلة نفسها، بعدما استلقيا في فراشيهما. لم يكن ديفيد يحب أن يوقظه أحد من النوم في صباح كل يوم ليكمل القصة، لكن ستيرفورث واظب على إيقاظه بنشاط عظيم؛ وقد كان ديفيد يجله كثيرا بحيث إنه لم يكن ليخذله لأي سبب كان.
وذات يوم وصلت أخيرا رسالة بيجوتي التي كانت قد وعدته أن ترسلها له؛ رسالة مشجعة للغاية، تماما مثل بيجوتي! ووصلت معها فطيرة، وكثير من البرتقال، وزجاجتان من عصير زهرة الربيع.
جاء ديفيد بهذه الكنوز، مثلما يحدث في حالات الالتزام الأدبي، ووضعها بين يدي ستيرفورث، ورجاه أن يوزعها عليهم.
قال ستيرفورث: «اسمع أيها الصغير كوبرفيلد، سوف نحتفظ بالعصير لترطب به فمك عندما تحكي القصص.»
حاول ديفيد أن يعترض؛ لكن ستيرفورث صمم على رأيه. وقال إنه لاحظ أن صوت ديفيد كان «أجش قليلا» وأكد أنه سوف يحتفظ له بكل قطرة من العصير.
وهكذا أغلق ستيرفورث على الزجاجتين في حقيبته هو، وكان كلما أصبح صوت ديفيد «أجش» يصب له قليلا من العصير في قنينة. كما قد يضيف عليه بعض البرتقال من أجل التغيير، أو يمزجه بالزنجبيل، أو يذيب فيه قطرة من النعناع؛ وكان ديفيد يشربه بامتنان كبير، وهو يدرك جيدا جدا اهتمام ستيرفورث به.
كان ديفيد يجيد رواية القصص جدا، لأنه هو نفسه شديد الإيمان بها. كما أنه أصغر الأولاد في حجرة النوم هذه، وربما لهذا السبب تحديدا، كانوا يقدرون هذه المهارة فيه. شيئا فشيئا عرفت المدرسة كلها مهارته تلك، وهكذا اشتهر ديفيد كثيرا.
في هذه الأثناء أزيلت اللافتة القديمة من على ظهره؛ ليس مراعاة أبدا لشعور ديفيد؛ وإنما لأن السيد كريكل وجدها تعترض طريقه عندما جاء فجأة من وراء المقعد الطويل الذي يجلس فيه ديفيد، وأراد أن يضربه ضربة بالعصا أثناء مروره؛ لهذا السبب أزيلت ذات يوم، ولم تعد إلى ظهره بعد ذلك قط.
وقد أحبه السيد ميل كذلك، وبذل أفضل ما لديه كي يتقن تعليمه غاية الإتقان. ولسوء الحظ، أخبر ديفيد - وكان لا يستطيع أن يخفي سرا عن ستيرفورث لأي سبب - بطله ذات مرة بأمر السيدة العجوز التي أخذه السيد ميل لرؤيتها في مأوى الفقراء في صباح ذاك اليوم الأول. ولم يكن يتخيل على الإطلاق كيف ستكون العواقب.
وقد مرض السيد كريكل ذات يوم، ولم يستطع المجيء إلى حجرة الدرس. وابتهج الأولاد بالخبر غاية الابتهاج، لدرجة أنه كان من الصعب جدا الحفاظ على نظامهم في ذلك الصباح. فجاء تنجاي يسير متثاقلا برجله الخشبية حتى دخل الفصل، ودون أسماء أهم من انتهكوا النظام؛ لكنهم كانوا متأكدين غاية التأكد أنهم سيعاقبون غدا لذا رغبوا في أن يستمتعوا بوقتهم اليوم.
وبعد الظهر أصبح الأولاد أسوء من ذي قبل؛ وقد تصادف أنها كانت فترة بعد الظهر من يوم السبت، وعادة ما كانت تعطى إجازة نصف يوم؛ لكن لأن السيد كريكل لم يستطع احتمال ضجيج الأولاد وهم يندفعون بسرعة في ملعب المدرسة، ولأن الجو كان مطيرا جدا ذلك اليوم بحيث يصعب المشي خارج المدرسة، أمر بإدخالهم إلى حجرة الدرس لأداء قليل من الواجبات المدرسية الخفيفة، تحت رعاية السيد ميل. حيث خرج السيد شارب ليجعد شعره المستعار.
وكان الأولاد مشاكسين جدا بحيث إن المسكين السيد ميل، وهو رجل لطيف هادئ، لقي أشد العناء في المحافظة على النظام. حيث كان الضجيج مخيفا.
أسند السيد ميل رأسه الذي يؤلمه بيده وحاول مواصلة عمله المرهق على أكمل وجه يستطيعه.
بينما أخذ الأولاد يثبون داخل مقاعدهم وخارجها، ويلعبون لعبة «الهرة التي تريد ركنا»؛ وكان بعض الأولاد يضحك، وبعضهم يغني، وبعضهم يتكلم، وبعضهم يصرخ؛ وهناك من يجرون أقدامهم على الأرض، ومن يدورون حوله، وهم يبتسمون، ويرسمون على وجوههم تعابير السخرية، ويقلدونه ساخرين من وراء ظهره وأمام عينيه؛ ويسخرون من فقره، أو حذائه، أو معطفه، أو والدته؛ كانوا يسخرون من كل شيء يخصه بينما الأجدر بهم احترامه.
فجأة نهض السيد ميل من مكانه، وضرب المكتب بكتابه، وصاح قائلا: «سكوت! ما معنى هذا؟ من المستحيل احتمال هذا. إنه شيء يدفع إلى الجنون. كيف تفعلون بي هذا أيها الأولاد؟»
لقد كان كتاب ديفيد ذاك الذي ضرب به المكتب؛ حيث يقف ديفيد إلى جواره.
توقف الأولاد جميعا، وقد اعترت الدهشة بعضهم فجأة، وتمكن الخوف جزئيا من بعضهم، وربما تملك الندم بعضهم.
وكان مكان ستيرفورث في الجزء الأخير من الصف، عند الجانب المقابل للحجرة المستطيلة. وقد استند متهدلا بظهره على الحائط، واضعا يديه في جيبيه، وراح ينظر إلى السيد ميل وفمه مغلق على هيئة مستديرة وكأنه كان يصفر، وهنا نظر إليه السيد ميل.
وقال: «اصمت يا ستيرفورث!»
قال ستيرفورث، ووجهه متوهج من الانفعال: «اصمت أنت، إلى من تتكلم؟»
قال السيد ميل: «اجلس.»
قال ستيرفورث: «اجلس أنت، ولا تتدخل فيما لا يعنيك.»
أخذ بعض الأولاد يضحك ضحكا مكبوتا مستهزئا؛ وراح بعضهم يصفق؛ لكن السيد ميل اتقد غضبا لدرجة أن الصمت عم الحجرة في الحال.
قال السيد ميل: «إذا كنت تظن يا ستيرفورث أني لا أعلم عن السلطة التي تسيطر بها على أي عقل هنا؛ أو أني لم أرك، منذ قليل، وأنت تحرض الأولاد الأصغر منك على إهانتي بجميع أنواع الإهانة؛ فإنك مخطئ.»
قال ستيرفورث، في غرور بمركزه الاجتماعي، وازدراء للسيد ميل: «أنا لا أشغل نفسي بك مطلقا، وأنا لست مخطئا في هذا، في الحقيقة.»
واصل السيد ميل كلامه، وشفته ترتعش بشدة: «وعندما تستغل ما تتمتع به من محاباة في معاملتك لتهين سيدا ...»
صاح ستيرفورث: «أهين ماذا؟ أين هو هذا السيد؟»
وهنا صاح شخص ما: «عار عليك يا جيه. ستيرفورث! هذا سيئ جدا!» وقد كان ترادلز.
قال السيد ميل وشفتاه تزدادان ارتعاشا: «... لتهين شخصا ليس له حظ في الحياة، يا سيدي، ولم يسئ لك قط أدنى إساءة، فإنك بهذا ترتكب فعلا دنيئا حقيرا. تستطيع أن تجلس أو أن تقف كما تحب يا سيد كوبرفيلد، هيا.»
قال ستيرفورث وهو يتقدم نحوه داخل الحجرة: «أيها الصغير كوبرفيلد، توقف قليلا. اسمع يا سيد ميل، فهذا كلام نهائي. عندما تجترئ على نعتي بالدنيء أو الحقير، أو أي شيء من هذا القبيل، فإنك بهذا تكون شحاذا وقحا. إنك شحاذ على الدوام، كما تعلم؛ لكنك عندما تفعل هذا، فأنت شحاذ وقح.»
فجأة بدا كل من في المدرسة وكأنهم قد تحولوا إلى تماثيل؛ حيث وجدوا السيد كريكل في وسطهم، وتنجاي إلى جواره، والسيدة والآنسة كريكل تنظران من الباب، وكأنما كانتا خائفتين. وضع السيد ميل مرفقيه على مكتبه، ووجهه بين يديه، وجلس صامتا تماما لبعض الوقت.
قال السيد كريكل وهو يهزه من ذراعه: «سيد ميل، أرجو ألا تكون قد نسيت نفسك.»
أجاب المدرس، وهو يرفع يديه عن وجهه، ويفركهما ببعض من شدة ما يشعر به من الاضطراب: «كلا يا سيدي، كلا. كلا يا سيدي، كلا. أنا لم أنس نفسي. ليتك تذكرتني قبل هذا بقليل يا سيد كريكل. كان هذا ... كان هذا سيصبح أكثر لطفا يا سيدي، وأكثر عدلا يا سيدي. كان هذا سيصون لي شيئا ما يا سيدي.»
أخذ السيد كريكل يحد النظر إليه، ووضع يده على كتف تنجاي، ورفع رجليه على المقعد الطويل القريب منه، وجلس فوق المكتب؛ ثم التفت إلى ستيرفورث وقال: «والآن أيها السيد، حيث إنه لا يريد أن يتعطف ويخبرني، ما الأمر؟»
تهرب ستيرفورث من السؤال قليلا، ثم قال أخيرا: «ما الذي قصده بالحديث عمن يحابون في المعاملة إذن؟»
أعاد السيد كريكل الكلام، وقد انتفخت عروق جبهته سريعا: «من يحابون في المعاملة؟ من تكلم عمن يحابون في المعاملة؟»
قال ستيرفورث: «هو فعل هذا.»
فجأة هاجم السيد كريكل مساعده بغضب، وسأله قائلا: «وماذا قصدت بهذا، من فضلك، يا سيدي؟»
أجابه السيد ميل بصوت خفيض: «كنت أقصد، يا سيد كريكل، كما قلت من قبل؛ إنه ليس من حق أي تلميذ أن يستغل ما يتمتع به من محاباة في معاملته ليحط من قدري.» «ليحط من قدرك أنت؟ يا للعجب! لكن اسمح لي أن أسألك يا سيد ... أيا كان اسمك، إن كنت، وأنت تتكلم عن المحاباة في المعاملة، تحترمني كما ينبغي؟ إن كنت بهذا تحترمني أنا أيها السيد، أنا، مدير المدرسة، وصاحب عملك؟»
قال السيد ميل: «لم يكن هذا تصرفا حكيما مني يا سيدي، أعترف بهذا، ما كنت لأفعل هذا، لو كنت هادئ الأعصاب.»
وهنا قاطعه ستيرفورث فجأة.
وقال: «بعد ذلك قال إنني دنيء، وبعدها قال إنني حقير، وعندئذ نعته بالشحاذ. لو كنت أنا أيضا هادئ الأعصاب، ربما ما كنت لأنعته بالشحاذ. لكنني فعلت، وأنا مستعد لتحمل عواقب ذلك.»
قال السيد كريكل: «أنا متفاجئ يا ستيرفورث - رغم أن صراحتك تعلي من شأنك. نعم، تعلي من شأنك بالتأكيد - أنا متفاجئ، يا ستيرفورث، من دون شك، أنك تنعت أي شخص يعمل ويتقاضى راتبا من مدرسة سيلم هاوس بمثل هذه الصفة أيها السيد.»
ضحك ستيرفورث ضحكة مقتضبة.
قال السيد كريكل: «ليس هذا جوابا على تعليقي أيها السيد.»
قال ستيرفورث: «فلينكر الأمر إذن.»
صاح السيد كريكل: «ينكر أنه شحاذ يا ستيرفورث؟ يا للعجب، وأين يمارس الشحاذة إذن؟» «إذا لم يكن هو نفسه شحاذا، فإن بعض أقربائه وثيقي الصلة به كذلك. والأمران سيان.»
نظر ستيرفورث نظرة خاطفة إلى ديفيد، وكانت يد السيد ميل تربت بلطف على كتف ديفيد. فنظر ديفيد لأعلى بوجه تكسوه حمرة الخجل وقلب يعتصره عذاب الضمير؛ لكن عيني السيد ميل كانتا مثبتتين على ستيرفورث.
قال ستيرفورث: «بما أنك تنتظر مني، يا سيد كريكل، أن أبرر كلامي، وأن أوضح قصدي؛ فلا بد لي من القول بأن أمه تعيش على الصدقة في أحد ملاجئ الفقراء.»
ظل السيد ميل ينظر إليه، ويربت بلطف على كتف ديفيد، وقال لنفسه هامسا: «نعم، هذا ما ظننته.»
التفت السيد كريكل إلى مساعده بوجه شديد التجهم، وقال: «والآن لقد سمعت ما قاله هذا السيد يا سيد ميل. فلتتفضل، إذا سمحت، بتوضيح الحقيقة له أمام المدرسة كلها.»
أجاب السيد ميل وسط صمت مطبق ساد المكان: «إنه مصيب، دون أن أصحح شيئا، إن ما قاله صحيح.»
قال السيد كريكل: «فلتتكرم وتعلن على الملأ إن كنت أعلم الأمر قبل هذه اللحظة.»
قال السيد ميل: «إن ما أعرفه هو أنك لم تعتقد قط أن وضعي المالي كان على ما يرام، أنت تعرف حقيقة وضعي، وكيف كان هنا في المدرسة طوال الوقت.»
قال السيد كريكل، وعروقه تنتفخ ثانية أكثر من أي وقت مضى: «إن ما أعرفه، في الحقيقة، أنك كنت في وضع خاطئ إجمالا، وأنك كنت تحسب أن هذه مدرسة خيرية. يا سيد ميل، سوف نفترق، إذا سمحت. ومن الأفضل التعجيل بذلك.»
قال السيد ميل وهو ينهض من مكانه: «لا وقت أنسب لهذا من الآن.»
قال السيد كريكل: «القرار قرارك أيها السيد!»
قال السيد ميل، وهو يلقي نظرة سريعة على من في الحجرة، ويربت على كتف ديفيد من جديد: «الوداع يا سيد كريكل، الوداع جميعا. أما أنت يا جيمس ستيرفورث، فأفضل ما أتمناه لك أن تخجل يوما مما فعلته اليوم. والآن فأنا أفضل أن أراك أي شيء سوى أن تكون صديقا، لي أنا، أو لأي أحد يهمني أمره.»
مرة أخرى وضع يده على كتف ديفيد؛ ثم أخذ مزماره وبعض الكتب من على مكتبه، وترك المفتاح فيه لمن سيخلفه، وخرج من المدرسة وهو يحمل ممتلكاته تحت ذراعه.
بعد ذلك ألقى السيد كريكل، الذي كان ميالا إلى تملق ستيرفورث بسبب مكانته وثروته، خطابا شكر فيه ستيرفورث على رفعه لوجاهة مدرسة سيلم هاوس، وطلب من الأولاد أن يحيوه بالهjاف ثلاث مرات.
بعد هذا ضرب السيد كريكل تومي ترادلز بالعصا؛ لأنه بدلا من الهتاف لستيرفورث راح يبكي عند رحيل السيد ميل؛ ثم عاد السيد كريكل للنوم على أريكته، أو من حيثما أتى.
ترك الأولاد بمفردهم، وراح كل منهم ينظر إلى الآخر في ذهول. وكان ديفيد سيبكي، لولا أنه خشي أن بكاءه ربما يغضب ستيرفورث. حيث غضب ستيرفورث من ترادلز للغاية، وقال إنه سعيد لأنه قد عوقب.
قال ترادلز إنه لا يكترث لهذا، وإن السيد ميل قد ظلم. فرد ستيرفورث، وقد شعر بشيء من الخجل، لكن غروره كان أكبر بكثير من أن يدعه يعترف بخطئه: «ومن الذي ظلمه أيتها الفتاة؟» «يا للعجب، أنت ظلمته.»
قال ستيرفورث: «وما الذي فعلته؟»
فرد عليه ترادلز مبكتا: «ما الذي فعلته؟! لقد جرحت مشاعره، وأفقدته وظيفته.»
قال ستيرفورث: «سوف تتعافى مشاعره قريبا من جرحها، أنا واثق من هذا، إن مشاعره ليست كمشاعرك، يا آنسة ترادلز. أما عن وظيفته - والتي كانت وظيفة غالية، أليس كذلك؟ - أتظنين أني لن أرسل رسالة إلى بيتي، وأحرص على أن يحصل على بعض المال، يا آنسة بولي؟»
رأى الأولاد في هذا نبلا كبيرا من ستيرفورث، الذي كانت والدته أرملة غنية جدا، وهي مستعدة، كما شاع عنها، لفعل أي شيء تقريبا من أجل ابنها، إذا ما طلبه منها.
لكن في تلك الليلة أخذ ديفيد يفكر في المزمار القديم، ويتساءل إن كان السيد ميل يعزف في مكان ما وهو حزين، وأحس ببؤس شديد في الحقيقة.
وبعد ذلك جاء إلى المدرسة معلم جديد من إحدى المدارس الثانوية؛ وأكد ستيرفورث أنه شخص طيب؛ لكنه لم يبذل قط في تعليم ديفيد ذلك الجهد العظيم الذي كان يبذله السيد ميل.
الفصل الثامن
زوار من أجل ديفيد
بعد ظهر أحد الأيام، وبينما السيد كريكل يعمل عصاه بشكل مرعب في كل من حوله، أقبل تنجاي، وصاح قائلا: «زوار لكوبرفيلد!»
وقف ديفيد في مكانه، وقد أصيب بدوار شديد من الذهول، وطلب منه أن يذهب عبر السلالم الخلفية لارتداء قميص مكشكش نظيف قبل أن يدخل إلى حجرة الطعام.
وأخذ يتساءل إن كانت الزائرة هي أمه، ثم توجه إلى الباب وهو مضطرب تماما، وتعين عليه أن يوقف بكاء كان قد اعتراه قبل الدخول.
وقد فوجئ بأن السيد بيجوتي وهام هما اللذان أتيا لزيارته.
حيث أمسك كل منهما طرف قبعته بيده وانحنى تحية لديفيد، وحشر أحدهما الآخر في الحائط من الارتباك الذي أصابهما. ضحك ديفيد ابتهاجا برؤيتهما مرة أخرى، وتصافحوا جميعا بمودة شديدة؛ لكن الدموع كانت قريبة جدا من الضحك كذلك، وأخرج ديفيد منديله، رغم أنه ظل يضحك، وراح يجفف به دموعه؛ لقد تأثر تأثرا كبيرا عندما رآهما.
وكز السيد بيجوتي هام بمرفقه برفق كي يقول شيئا.
فبدأ هام قائلا: «فلتبتهج يا صديقي السيد ديفي! يا للعجب، كم كبرت!»
قال ديفيد: «أنا كبرت؟»
قال هام: «كبرت يا صديقي السيد ديفي؟ ألم يكبر بالفعل!»
قال السيد بيجوتي: «لقد كبر بالفعل!» «هل تعلم كيف حال أمي يا سيد بيجوتي؟ وكيف حال عزيزتي بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «على خير ما يرام.» «والصغيرة إيميلي، والسيدة جوميدج؟»
قال السيد بيجوتي: «بخير حال.»
سادت فترة من الصمت. ولكي يبددها السيد بيجوتي، قدم لديفيد جرادتين بحريتين هائلتين، وسلطعونا ضخما، وحقيبة كبيرة مصنوعة من القماش الثقيل مملوءة بالروبيان، وكومها فوق ذراعي هام.
قال السيد بيجوتي: «أتدري، لعلمنا أنك كنت مولعا بالقليل من فواتح الشهية مع طعامك عندما كنت معنا، رفعنا الكلفة وأتينا بهذه الأشياء. لقد طهتها الفتاة الكبيرة.» ولأن السيد بيجوتي لم يجد شيئا آخر يقوله حينها، فقد أضاف: «نعم، صدقني، لقد أنضجتها السيدة جوميدج.»
شكره ديفيد من القلب.
قال السيد بيجوتي: «لقد أتينا، وكانت الرياح والمد يعملان لصالحنا، في واحد من المراكب الشراعية المبحرة من مدينتنا يارمث إلى مدينة جريفزيند. حيث أرسلت لي أختي اسم هذا المكان في رسالة، وقد أرسلتها لي كما لو كنت قد أتيت إلى مدينة جريفزيند في أي وقت من حياتي، وطلبت مني أن آتي إلى هنا وأسأل عن السيد ديفي، وأبلغه أنها تتمنى له - في إخلاص وتواضع - أن يكون على ما يرام، وأنها تخبره أن الأسرة على خير ما يرام من دون شك. وعندما أعود سترسل الصغيرة إيميلي رسالة إلى أختي، وستخبرها فيها أني رأيتك وأنك أيضا على خير ما يرام، وهكذا نجعلها جولة اطمئنان سعيدة.»
شكره ديفيد مرة أخرى، وسأله إن كانت الصغيرة إيميلي قد تغيرت.
قال السيد بيجوتي: «إنها تكبر وستصبح امرأة جميلة، هكذا ستكون. اسأله.»
كان يقصد هام، الذي راح يبتسم، من فوق حقيبة الروبيان، ابتسامة عريضة تنم عن الابتهاج والموافقة.
قال السيد بيجوتي، ووجهه يتألق كالضوء: «فوجهها جميل!»
قال هام: «وهي متعلمة!»
قال السيد بيجوتي: «وخطها! يا لروعته، إنه كالكهرمان الأسود. وهو كبير جدا، يمكنك أن تراه من أي مكان.»
كان على وشك أن يقول المزيد عن محبوبته الصغيرة، لكن ستيرفورث نظر داخل الحجرة فجأة، وقطع أغنية كان يغنيها، وقال: «لم أكن أعلم أنك هنا أيها الصغير كوبرفيلد!» (وذلك لأن هذه لم تكن الغرفة المعتادة للزيارات.) ومضى في طريقه إلى خارج الحجرة.
أراد ديفيد من جهة أن يتباهى بصديقه الأنيق ستيرفورث، ومن جهة أخرى أن يشرح له كيف حدث أن أتاه ضيفان مثل هذين الصيادين الجلفين، فنادى قائلا: «لا تنصرف يا ستيرفورث من فضلك. هذان صيادان من مدينة يارمث - إنهم أناس طيبون وصالحون للغاية - وهما قريبا مربيتي، وقد جاءا من مدينة جريفزيند لزيارتي.»
قال ستيرفورث وهو يعود أدراجه: «نعم، نعم ، سررت برؤيتهما. كيف حالكما؟»
كان يتصرف على طبيعته؛ وبأسلوب مرح ولطيف، كما أنه لم يكن متبجحا، فضلا عن نبرته المبهجة، ووجهه ومظهره الوسيمين، اللذين يبدو أنه كان لهما سلطان طاغ، وما كان يستطيع مقاومتهما الكثيرون. حيث ارتاح له السيد بيجوتي وهام في الحال. وقد أخبرهما ديفيد بكلمات قليلة عن مدى طيبة ستيرفورث معه.
قال ستيرفورث ضاحكا: «إنه يبالغ!»
قال ديفيد: «وإذا حدث يوما يا سيد بيجوتي أن زار السيد ستيرفورث مقاطعة نورفك أو مقاطعة سافك وأنا هناك، فثق أنني سوف آتي به إلى مدينة يارمث، إذا سمح لي بهذا، ليرى بيتك. إنك لم تر قط بيتا في مثل جماله يا ستيرفورث. إنه مصنوع من أحد المراكب.»
قال ستيرفورث: «مصنوع من أحد المراكب، حقا؟ إنه البيت الأمثل لصياد قوي البنية مثلك!»
قال هام وهو يبتسم ابتسامة عريضة: «إنه كذلك يا سيدي، إنه كذلك يا سيدي. أنت محق أيها السيد. يا سيد ديفي، هذا السيد محق. صياد قوي البنية! هه هه! هذه هي حقيقته إلى حد بعيد!»
وقال السيد بيجوتي، وهو يضحك بصوت خافت، ويقحم طرفي منديل عنقه في صدره: «أشكرك يا سيدي، أشكرك! إنني أبذل جهدي في عملي يا سيدي.»
قال ستيرفورث، وكان قد حفظ اسمه بالفعل: «إن أفضل الرجال لا يستطيعون أن يزيدوا على ما تبذله شيئا يا سيد بيجوتي.»
قال بيجوتي: «أنا واثق أن هذا ما تفعله أنت يا سيدي، وهو ما تتقن فعله؛ تتقنه تماما! أشكرك يا سيدي.»
أنهى السيد بيجوتي اللقاء بدعوة ستيرفورث لزيارته يوما ما «مع السيد ديفي.» وتمنى لهما العافية والسعادة.
ردد هام أمنية عمه، وافترق الولدان عنهما بأسلوب غاية في الود؛ ثم عادا وحملا الطعام إلى غرفة النوم دون أن يلاحظهما أحد، حيث أقاما حفلة عشاء عظيمة تلك الليلة.
أفرط المسكين ترادلز جدا في تناول السلطعون، وأصابه الغثيان فجأة أثناء الليل؛ وكان غثيانا شديدا، لدرجة أنه احتاج إلى أن يعالج بجرعات من شراب أسود وحبوب زرقاء؛ وفي صباح اليوم التالي ضرب بالعصا، وفرض عليه حفظ ستة فصول من نسخة الكتاب المقدس اليونانية لرفضه الاعتراف بما أكله وأصابه بالغثيان هكذا.
وهكذا انقضى الفصل الدراسي الأول من حياة ديفيد في المدرسة، ولاحت الإجازات في الأفق وأخذت تقترب أكثر فأكثر. فبدأ ديفيد يخاف من ألا يسمح له السيد ميردستون بالعودة إليهم؛ لكن خوفه تحول إلى سعادة في نهاية المطاف، وفي يوم مبهج وجد نفسه داخل عربة بريد يارمث، وفي طريقه إلى المنزل.
توقفت العربة في مدينة يارمث؛ لكن ليس أمام الفندق الذي تعرفونه حيث ساعده النادل على إنهاء شرائح اللحم وحلوى البودينج. بل فندق آخر يسمى «ذا دولفن»، وأدخل ديفيد حجرة صغيرة لطيفة ليقضي فيها الليلة؛ وكان المفترض أن يقله الحمال باركس في الصباح.
استقبله باركس وكأنما لم يمر على فراقهما سوى خمس دقائق، وما إن صار ديفيد والحقيبة في العربة حتى سار الحصان الكسول بسرعته المعتادة.
قال ديفيد: «تبدو في حال جيدة جدا يا سيد باركس، لقد أبلغت رسالتك. لقد أرسلت خطابا لبيجوتي.»
قال السيد باركس: «نعم!» وقد بدا فظا، ورد على ديفيد بأسلوب جاف.
سأل ديفيد بعد قليل من التردد: «أما كان مناسبا يا سيد باركس؟»
قال باركس: «يا إلهي، بلى.» «الخطاب؟»
قال باركس: «كان الخطاب مناسبا جدا، ربما، لكنه انتهى عند هذا.» «انتهى، يا سيد باركس؟»
أوضح باركس قصده وهو ينظر إلى ديفيد شزرا: «لم يسفر عن شيء، لا رد.»
سأل ديفيد وهو يفتح عينيه: «كنت تتوقع ردا، أليس كذلك يا سيد باركس؟»
قال باركس: «عندما يقول رجل إنه راغب، فإن هذا يعد كما لو أنه ينتظر ردا.» «حسن يا سيد باركس، وماذا بعد؟»
قال باركس، وهو ينظر إلى أذني الحصان: «حسنا، هذا الرجل ينتظر ردا منذ ذلك الحين.»
شكل 8-1: أخرج السيد بيجوتي من جيبيه جرادتين بحريتين هائلتين، وسلطعونا ضخما، وحقيبة كبيرة مصنوعة من القماش الثقيل مملوءة بالروبيان. «هل قلت لها هذا يا سيد باركس؟»
قال الحمال مزمجرا، وقد غرق في التفكير: «ل... لا. لم يدعني أحد ألبتة كي أذهب وأقول لها هذا. كما أني لم أكلمها ولو قليلا قبل ذلك قط. لا، لن أقول لها هذا.»
قال ديفيد بتردد: «هل تحب أن أخبرها أنا يا سيد باركس؟»
قال باركس: «فلتقل لها، إذا أحببت، إن باركس كان ينتظر ردا. فلتقل؛ ما هو الاسم؟» «اسمها؟»
قال باركس وهو يومئ برأسه: «نعم!» «بيجوتي.» «هذا اسمها الأول؟ أم اسم عائلتها؟» «أوه! ليس هذا اسمها الأول. اسمها الأول كلارا.»
قال باركس: «حقا؟» ثم راح يفكر مليا في هذه الحال، واستأنف كلامه أخيرا: «فلتقل: «بيجوتي، إن باركس ينتظر ردا.» وربما تقول لك: «رد على ماذا؟» فقل: «على ما قلته لك.» فإذا قالت: «وما هو هذا الذي قلته؟» فقل: «إن باركس راغب».»
في هذه اللحظة وكز سائق العربة ديفيد بمرفقه برفق في جنبه، ثم جلس مترهلا فوق حصانه كعادته، ولم يشر بعدها أي إشارة أخرى إلى الموضوع. لكنه بعد نصف ساعة أخرج قطعة طباشير من جيبه، وكتب داخل غطاء عربته «كلارا بيجوتي.»
وفي هذه اللحظة أصبح البيت القديم على مرأى من راكبي العربة، حيث كانت أشجار الدردار الطويلة تلوح بأغصانها العارية في الهواء البارد، بينما تجرف الرياح بعض القش من أعشاش الغربان العتيقة.
أنزل الحمال حقيبة ديفيد أمام بوابة الحديقة، وتركه؛ وسار ديفيد فوق المسار القديم، بينما يرفع عينيه ويلقي نظرات خاطفة على النوافذ، ويخشى مع كل خطوة يخطوها أن يرى السيد أو الآنسة ميردستون وهما يطلان من واحدة منها.
الفصل التاسع
مثل الأيام الماضية تماما
وصل ديفيد إلى باب المنزل، وأدار المقبض دون أن ينتظر ليطرق الباب، ومضى إلى الداخل بخطى هادئة متهيبة. وعندما دخل سمع صوتا خافتا يغني في الردهة؛ وقد كان صوت والدته؛ وبدت الأغنية التي تغنيها شبيهة بأغنية قديمة كانت تغنيها له وهو رضيع.
نظر ديفيد داخل الغرفة؛ لكن والدته لم تره؛ حيث كانت تجلس إلى جوار المدفأة وبين ذراعيها طفل رضيع، بينما تضع يده البالغة الصغر على خدها، وعيناها تنظران إلى وجهه. ولم يكن هناك أي أحد آخر في الغرفة.
تكلم ديفيد، فانتفضت في مكانها ، وما إن رأته حتى قالت: حبيبي ديفي، ولدي! ثم مضت إلى منتصف الغرفة لاستقباله، وجثت على ركبتيها وقبلته، ووضعت رأسه على صدرها، قريبا من المخلوق الصغير الذي كان مستقرا هناك، ورفعت يد الرضيع إلى شفتي ديفيد.
وقالت تلاطف ديفيد: «إنه أخوك، يا ديفي، يا ولدي الجميل! يا طفلي المسكين!» ثم راحت تقبله مرة بعد مرة، وتطوق عنقه بذراعيها، وهنا دخلت بيجوتي تجري، ووثبت فجأة على الأرض بجوارهما، واحتفت بهما وعقلها يكاد يطير من الفرح طيلة ربع ساعة.
لقد شعروا وكأن الأيام الماضية الغالية قد عادت من جديد؛ حيث وصل ديفيد مبكرا عما كانوا يتوقعون، وكان السيد والآنسة ميردستون خارج البيت في زيارة، ولن يعودا قبل حلول الظلام.
أوه! لقد كان وقتا سعيدا؛ حيث جلسا لتناول الغداء معا بجوار نار المدفأة بينما تقوم بيجوتي على خدمتهما؛ لكن والدة ديفيد لم تتركها تفعل ذلك، وجعلتها تجلس وتتناول غداءها معهما. كان ديفيد يأكل في طبقه القديم، المرسوم عليه سفينة حربية مبحرة بكامل أشرعتها، والذي كانت بيجوتي قد خبأته بعيدا، وقالت إنها ما كانت لتكسره، ولو في مقابل مائة جنيه. وكذلك كوبه القديم المكتوب عليه «ديفيد»، وسكينه وشوكته الصغيرتان اللتان لا تقطعان.
وبينما هم يتناولون غداءهم مسرورين، بدأ ديفيد يحدث بيجوتي عن السيد باركس، وقبل أن تنهي طعامها، بدأت تضحك، وتغطي وجهها بمريلتها.
قالت والدة ديفيد: «بيجوتي! ما الأمر؟»
لم تزد بيجوتي على أن ضحكت أكثر من ذي قبل، وثبتت مريلتها بقوة على وجهها عندما حاولت أمه أن تزيلها.
قالت والدة ديفيد، وهي تضحك هي الأخرى: «ماذا تفعلين أيتها الحمقاء؟»
صاحت بيجوتي: «يا إلهي! تبا لذلك الرجل! إنه يريد أن يتزوجني.»
قالت والدة ديفيد: «سيكون زوجا مناسبا جدا لك، أليس كذلك؟»
قالت بيجوتي: «يا إلهي! لا أدري. لا تسأليني. لن أتزوجه ولو كان مخلوقا من ذهب. ولن أتزوج أي أحد.» «إذن فلم لا تخبرينه بهذا، أيتها السخيفة؟»
أجابت بيجوتي، وهي تنظر خارج مريلتها: «أخبره بهذا؟ إنه لم يخبرني قط بكلمة واحدة عن الأمر. إنه أعقل من أن يفعلها. لو أنه تجرأ جدا وقال لي كلمة واحدة لصفعت وجهه!»
كان وجهها محمرا للغاية، وظلت بين الحين والآخر تضحك من قلبها.
نظر ديفيد إلى أمه فرأى أنها أصبحت جادة ومستغرقة في التفكير جدا، رغم ابتسامتها في وجه بيجوتي عندما نظرت إليها. لقد ظل وجهها جميلا، لكنه بدا مهموما واهيا، وراحت تنظر إلى بيجوتي نظرات قلقة مرتبكة؛ ثم مدت يدها، ووضعتها بحنان فوق يد خادمتها الرائعة، وقالت: «عزيزتي بيجوتي، ألن تتزوجي؟» «أنا يا سيدتي؟ باركك الله، نعم لن أفعل!»
قالت الأم في حنان: «ليس الآن.»
صاحت بيجوتي: «أبدا.»
قالت أمه وهي ممسكة بيدها: «لا تتركيني يا بيجوتي. ابقي معي. ربما لا يطول هذا كثيرا. ماذا عساي أن أفعل من دونك؟»
صاحت بيجوتي: «أنا أتركك يا غالية؟ لن أفعل هذا لأي سبب كان. يا إلهي، ما الذي وضع هذه الفكرة في رأسك الصغير السخيف؟»
لم تجب الأم إلا بأن شكرتها، وأكملت بيجوتي كلامها قائلة: «أنا أتركك! أنا أعرف نفسي. لا، لا يا عزيزتي! بيجوتي تبتعد عنك؟ لست أنا من يفعل هذا يا عزيزتي. ليس هذا لأنه لا يوجد بعض الأشخاص ممن سيسعدون غاية السعادة لو فعلت، لكنهم لن يسعدوا، بل سوف يغضبون. سوف أبقى معك إلى أن أصير عجوزا عصبية فظة. وعندما أبلغ من الهرم حدا لا أكون فيه ذات فائدة لأي أحد، فسأذهب إلى حبيبي ديفي، وأطلب منه أن يئويني عنده.»
قال ديفيد: «وسيسعدني حينها أن أراك، وسأستقبلك كما تستقبل الملكات.»
قالت بيجوتي وهي تقبله: «بوركت! يا حبيب قلبي، أعلم أنك ستفعل.» ثم أخرجت الرضيع من مهده وأرضعته؛ وأزالت الأطباق من فوق المائدة، وجاءت بعد ذلك وفوق رأسها قبعة أخرى، ومعها علبة أدوات الحياكة، وجلسوا جميعا حول المدفأة وراحوا يتحدثون في ابتهاج.
أخبرهما ديفيد كم كان السيد كريكل مديرا قاسيا، وقد شعرتا بالحزن للغاية. وأخبرهما بكل شيء عن ستيرفورث، وقالت بيجوتي إنها تتمنى لو أن تقطع الأميال سيرا على أقدامها كي تراه. وعندما استيقظ الرضيع أمسكه ديفيد بين ذراعيه وأرضعه في حنان؛ وعندما نام الرضيع مرة أخرى، تزحزح ديفيد ببطء إلى جوار أمه وطوق خصرها بذراعه، ووضع خده على كتفها، وأحس من جديد بشعرها الجميل يتدلى فوقه مثل جناح ملك من الملائكة تماما.
لقد بدا الأمر وكأنه لم يغادر المنزل قط؛ وأنه لم يكن هناك من يدعيان السيد والآنسة ميردستون في الدنيا.
لقد كان وقتا سعيدا حقا.
قالت بيجوتي فجأة: «ترى أين عمة ديفي الأرستقراطية وكيف حالها؟»
قالت والدة ديفي، وهي توقظ نفسها من حلم يقظة: «ما هذا الهراء الذي تقولينه يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «حسنا، لكنني أتوق حقا إلى أن أعلم يا سيدتي.»
قالت والدة ديفي: «ما الذي جعلك تفكرين في امرأة كهذه؟ إن الآنسة بيتسي منعزلة في بيتها الصيفي الصغير على شاطئ البحر، لا شك في هذا، وسوف تظل هناك. على أي حال، ليس من المتوقع أبدا أن تزعجنا مرة أخرى.»
قالت بيجوتي متأملة: «لا! لا. ليس هذا متوقعا أبدا؛ ترى، لو ماتت، هل ستترك لديفيد أي شيء؟» «يا إلهي، يا بيجوتي! يا لك من امرأة سخيفة! وأنت تعلمين أنها انزعجت من مجرد ولادة الصبي العزيز المسكين!»
إذ لعلكم تذكرون كيف خرجت الآنسة بيتسي من المنزل عندما سمعت أن المولود صبي، ولم تعد بعدها مطلقا.
بعد قليل تناولوا الشاي، وأشعلت نار المدفأة وأطفئت الشموع؛ وأخبرهم ديفيد المزيد عن مدرسة سيلم هاوس، وأخبرهم أكثر عن ستيرفورث؛ وكانت الساعة قد اقتربت من العاشرة قبل أن يسمعوا صوت إحدى العربات.
عندئذ انتفضوا جميعا واقفين، وقالت والدة ديفيد في عجلة إن الوقت قد تأخر جدا وربما يحسن بديفيد أن يذهب إلى فراشه. وهكذا قبلها ديفيد وصعد إلى الطابق العلوي على ضوء شمعته مباشرة، قبل دخول السيد والآنسة ميردستون؛ وبينما يصعد درجات السلم تخيل السيد والآنسة ميردستون يجلبان معهما إلى المنزل عاصفة من الهواء البارد بددت الشعور العائلي القديم.
لم يكن ديفيد مرتاحا للنزول لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي؛ وذلك لأن عينيه لم تقعا البتة على السيد ميردستون منذ أن عضه في ذلك اليوم الذي لا ينسى.
لكن لم يكن هناك بد من النزول، وقد وجد السيد ميردستون واقفا وظهره إلى نار المدفأة، بينما كانت الآنسة ميردستون تعد الشاي.
راح السيد ميردستون ينظر إلى ديفيد وكأنه لا يعرفه؛ لكن نظرته كانت ثابتة وغير ودية.
شعر ديفيد بالارتباك؛ لكنه توجه إليه وقال: «معذرة يا سيدي. إنني في غاية الأسف على ما فعلته، وأرجو أن تسامحني.»
رد السيد ميردستون: «أنا سعيد لأنك شعرت بالأسف يا ديفيد.» وناوله اليد التي كان قد عضها. رأى ديفيد أثر العضة عليها.
احمر وجه ديفيد جدا من الخجل، وقال للآنسة ميردستون: «كيف حالك يا سيدتي؟»
تنهدت الآنسة ميردستون، وقالت وهي تناوله ملعقة علبة الشاي ليصافحها بدلا من أن تناوله أصابعها: «آه، يا إلهي! كم ستستغرق الإجازة؟» «شهرا يا سيدتي.» «بداية من متى؟» «من اليوم يا سيدتي.»
قالت الآنسة ميردستون: «يا إلهي! إذن فهناك يوم غير محسوب.»
غضبت الآنسة ميردستون للغاية عندما رأت ديفيد فيما بعد يحمل الرضيع بين ذراعيه؛ كانت متأكدة أنه سيدعه يسقط؛ وقالت لأمه إنه يجب ألا يحمل الرضيع بعد ذلك أبدا. وقد غضبت أكثر عندما قالت والدة ديفيد إن عيني الرضيع تشبهان عيني ديفيد تماما؛ وخرجت تمشي من الغرفة بعجرفة وصفقت الباب.
لم تكن أيام الإجازة أياما سعيدة جدا بالطبع. وكيف تكون سعيدة في وجود السيد والآنسة ميردستون؟ إذ شعر ديفيد أن أمه كانت تخشى أن تتكلم معه، أو أن تعامله بلطف في وجودهما، مخافة أن يزعجهما هذا بطريقة ما؛ لذا تعود أن ينسل إلى المطبخ ليجلس مع بيجوتي، هناك حيث لم يشعر قط أن هناك عقبة في طريقها.
لكن السيد ميردستون اعترض على هذا.
وقال: «يحزنني أن ألاحظ أن لك صداقة مع رفقة وضيعة من العامة. لا يجب أن ترافق الخدم. إن المطبخ لن يفيدك.»
يا إلهي! يا للساعات الكئيبة التي قضاها في الردهة، يوما بعد يوم، وهو يخشى أن يحرك رجلا أو ذراعا خشية أن تتذمر الآنسة ميردستون من تململه.
وهكذا اعتاد أن يسير بمفرده في أزقة موحلة في طقس الشتاء الرديء ليتحاشى لقاءهما! وكم كان يفرحه أن يسمع الآنسة ميردستون وهي تنادي مع أول دقات التاسعة في المساء، وتأمره بالانصراف إلى فراشه!
لم يشعر ديفيد بالحزن عندما انتهت الإجازة؛ إذ كان يتطلع لرؤية ستيرفورث مرة أخرى. لذا لم يشعر بالحزن عندما ظهر باركس أمام البوابة ووضع حقيبته في العربة.
قبل ديفيد والدته وأخاه الرضيع، وعندئذ شعر بشيء من الحزن. فضمته والدته إليها؛ لكن الآنسة ميردستون كانت موجودة، لذا اضطرت لتركه يذهب.
لكنه عندما أصبح داخل العربة وراحت تبتعد به، سمع والدته تناديه. فأطل ديفيد من نافذة العربة، ووجدها واقفة بمفردها أمام بوابة الحديقة، وقد رفعت له الرضيع بين ذراعيها كي يراه.
كان الجو باردا خاليا من الرياح؛ فلم تهتز شعرة واحدة في رأسها، ولا ثنية من ثنيات فستانها، عندما وقفت وعيناها مثبتتان عليه، والرضيع مرفوع بين ذراعيها.
لم يرها ديفيد بعد ذلك مطلقا.
الفصل العاشر
عيد ميلاد لا ينسى
كان ديفيد قد قضى شهرين فقط في المدرسة عندما عادت ذكرى يوم ميلاده من جديد. وقد خيم الضباب على المكان، واكتست الأرض بصقيع فضي؛ في صباح يوم بارد قارس البرودة من أيام شهر مارس.
وعندما انتهى الفطور واستدعي الأولاد للدخول من ملعب المدرسة، دخل السيد شارب حجرة الدرس وقال: «ديفيد كوبرفيلد مطلوب في الردهة.»
قفز قلب ديفيد في صدره. إذ كان يتوقع أن ترسل له بيجوتي سلة هدايا عيد مولده. وطلب منه الأولاد ألا ينساهم عندما تأتي الأشياء الجميلة، لأنهم كانوا يعلمون ما الذي كان يتطلع إليه. وقفز ديفيد من مقعده في الحال.
فقال السيد شارب بنبرة رقيقة غير معتادة منه: «لا تتعجل يا ديفيد، فهناك متسع من الوقت يا بني، لا تتعجل.»
لكن ديفيد أسرع بالدخول إلى الردهة، حيث كان السيد كريكل جالسا على مائدة الإفطار وأمامه العصا وإحدى الجرائد. ولم ير ديفيد سلة الهدايا.
قالت السيدة كريكل وقد أخذته إلى أريكة وجلست إلى جواره: «ديفيد كوبرفيلد، أريد أن أكلمك كلاما خاصا جدا. إن لدي شيئا أريد أن أخبرك به يا بني.»
هز السيد كريكل رأسه، وسد تنهيدته بقطعة كبيرة جدا من الخبز المحمص المدهون بالزبد.
قالت السيدة كريكل: «إنك أصغر بكثير من أن تعلم كيف يتغير العالم كل يوم، وكيف يموت الناس الذين فيه. لكن علينا جميعا أن نعلم هذا يا ديفيد؛ بعضنا يموت وهو صغير، وبعضنا يموت وهو كبير، وبعضنا يموت في أي وقت من أوقات حياتنا.»
كان ديفيد ينظر إليها بجدية.
قالت السيدة كريكل، بعد فترة صمت قصيرة: «عندما عدت من المنزل في نهاية الإجازة، هل كانوا جميعا على ما يرام؟» ثم بعد فترة صمت أخرى قالت: «هل كانت صحة والدتك على ما يرام؟»
بدا وكأن غشاوة قد ظهرت بين ديفيد والسيدة كريكل. وأحس بدموع حارقة في عينيه.
قالت: «لقد كانت مريضة على نحو خطير.»
فعلم ديفيد ما الذي كان قادما.
قالت السيدة كريكل: «ثم ماتت.»
صرخ ديفيد صرخة حزينة، وشعر أنه قد أمسى يتيما في ذلك العالم الكبير المتسع.
كانت السيدة كريكل طيبة معه للغاية؛ إذ أبقته في الردهة طوال اليوم، وكانت تتركه بمفرده أحيانا. ثم نام من فرط ما أرهق نفسه في البكاء، وعندما استيقظ بكى ثانية؛ حيث كان يشعر بثقل كئيب على صدره؛ وراح يتصور والدته كما رآها آخر مرة؛ ترفع الرضيع بين ذراعيها أمام البوابة.
تصور ديفيد المنزل ساكنا مغلق الأبواب والنوافذ؛ وراح يفكر في الرضيع الصغير، الذي قالت السيدة كريكل إنه ظل يضعف بعض الوقت، والذي يعتقدون أنه سيموت هو الآخر؛ كما أخذ يفكر في العودة إلى المنزل، لأنهم أرسلوا له كي يحضر الجنازة.
وظل ديفيد يتمشى في الملعب بعد ظهر ذلك اليوم بينما كان الأولاد الآخرون في المدرسة؛ ولم يقص عليهم شيئا من القصص في غرفة النوم تلك الليلة، وأصر ترادلز على أن يعيره وسادته، رغم أنه كانت لديه واحدة.
غادر ديفيد مدرسة سيلم هاوس بعد ظهر اليوم التالي؛ وقد خرج منها خروج من لن يعود إليها للأبد؛ لكنه لم يكن يعلم ذلك حينها.
أخذ ديفيد ينظر حوله بعناية في مدينة يارمث بحثا عن وجه باركس المألوف؛ لكن رجلا عجوزا لطيف المنظر قصير القامة ذا ملابس سوداء أقبل ينفخ دخان سيجاره في نافذة العربة، وسأله قائلا: «السيد كوبرفيلد؟» «نعم يا سيدي.»
قال الرجل وهو يفتح باب العربة: «هلا تتفضل بالمجيء معي يا سيدي الصغير، إذا سمحت، وسأنال شرف إيصالك إلى المنزل.»
ورحل معه ديفيد، وهو يتساءل عمن عساه يكون، إلى محل مكتوب عليه «أومر، تاجر ملابس وخردوات، خياط، مجهز جنازات ... إلخ.»
أخذه السيد أومر إلى هناك ليقيس له بدلة للحداد، ثم بعد ذلك أخذه إلى قرية بلاندستن.
احتضنته بيجوتي بين ذراعيها قبل أن يصل إلى الباب، وأدخلته إلى المنزل. حيث بكت بكاء مريرا، وكانت تتكلم في همس، وتسير برفق، وكأنما تخشى أن تزعج الموتى. وكان الرضيع الصغير قد مات هو الآخر، ووضعوه بين ذراعي أمه.
لم يبال السيد ميردستون بديفيد عندما دخل إلى الردهة، وإنما ظل جالسا بجوار المدفأة وعيناه محمرتان. ناولته الآنسة ميردستون أظافر أصابعها ليصافحها - حيث كانت منهمكة للغاية في كتابة بعض الرسائل - وسألته بهمسة حديدية إن كان الخياط قد أخذ مقاسه من أجل بدلة الحداد.
وقد ظلت تكتب طوال اليوم، ويبدو أنها كانت تستمتع بصرامتها وقوة عقلها؛ كما أنها لم ترخ قط عضلة واحدة من عضلات وجهها، ولا لطفت نبرة صوتها مرة واحدة.
كان السيد ميردستون يتناول كتابا بين الحين والآخر ليقرأه، لكنه يظل ساعة كاملة من دون أن يقلب منه ورقة، ثم يضعه في مكانه، ويسير في اضطراب ذهابا وإيابا.
وفي تلك الأيام السابقة على الجنازة لم ير ديفيد بيجوتي إلا قليلا؛ لكنها كانت تأتي إليه دائما في المساء وتجلس إلى جوار سريره حتى ينام.
وبعد يوم الجنازة - ذلك اليوم الحزين الذي لم ينسه ديفيد أبدا - صعدت معه إلى غرفته الصغيرة، وجلست معه على سريره الصغير، وأخبرته - وهي ممسكة بيده - بكل ما يريد سماعه.
قالت بيجوتي: «لم تكن أمك في حالة جيدة أبدا، وطوال فترة كبيرة. كما أظن أنها بدأت تصبح أكثر تهيبا، وأكثر خوفا في أيامها الأخيرة؛ إذ إن أي كلمة قاسية كانت كاللطمة بالنسبة لها. لكنها ظلت تعاملني المعاملة نفسها؛ فلم تغير قط معاملتها لخادمتها الحمقاء بيجوتي، لم تفعل فتاتي الجميلة. كانت آخر مرة رأيتها فيها وهي تشبه ما كانت عليه قديما هي تلك الليلة التي عدت فيها أنت إلى المنزل يا حبيبي. وفي اليوم الذي رحلت فيه قالت لي: «لن أرى حبيبي الجميل بعد ذلك أبدا. شيء ما يحدثني بهذا، إنه يحدثني بالحقيقة، أنا متأكدة. فليحفظ الله ولدي اليتيم وليصنه».»
قالت بيجوتي: «لم أتركها بعد ذلك قط. إنها كثيرا ما كانت تتكلم معهما في الطابق السفلي - فقد كانت تحبهما؛ وما كانت تقوى على ألا تحب أي أحد قريب منها - لكن عندما كانا ينصرفان من جانب سريرها، كانت دائما تتوجه إلي، وكأنما كان هناك راحة حيث توجد بيجوتي، ولم تكن تنام قط بأي طريقة أخرى.
في الليلة الأخيرة قبلتني وقالت: «اجعلي ابني العزيز يرافقني إلى قبري، وأخبريه أن أمه، بينما ترقد هنا الآن، لا تباركه مرة واحدة فقط، وإنما تباركه ألف مرة ... بيجوتي، عزيزتي، قربيني منك أكثر.» لأنها كانت تشعر بضعف شديد. وقالت: «ضعي ذراعك الطيبة تحت رقبتي، ووجهيني إليك، فوجهك يبتعد جدا، وأنا أريده أن يكون قريبا مني.» فوضعتها حيث أرادت؛ ويا للألم يا ديفي! لقد جاء الوقت الذي سرها فيه أن تضع رأسها المسكين فوق ذراع خادمتها الحمقاء بيجوتي؛ ثم ماتت وكأنها طفلة خلدت إلى النوم!»
منذ ذلك الحين لم يعد ديفيد يتذكرها إلا في صورة تلك الأم الصغيرة التي كانت تلف عقصات شعرها الزاهية حول أصبعها، وترقص معه ساعة الشفق في ردهة المنزل. لقد عادت أمه بموتها هذا إلى شبابها الهادئ الخالي من الهموم، وألغت كل ما سواه.
الفصل الحادي عشر
زفاف بيجوتي
كان أول ما فعلته الآنسة ميردستون بعد انتهاء يوم الجنازة أن أخطرت بيجوتي بالفصل من عملها بعد شهر. أما بخصوص مستقبل ديفيد، فلم تقل كلمة، ولم تتخذ خطوة. ذات مرة تجرأ وسأل الآنسة ميردستون متى سيرجع إلى المدرسة، فقالت له بأسلوب جاف إنها تعتقد أنه لن يعود إلى المدرسة على الإطلاق.
لا السيد ولا الآنسة ميردستون أرادا رؤيته في الردهة، لذا كان يقضى الوقت مع بيجوتي؛ ولم يبد أن السيد ميردستون كان يكترث لهذا ما دام ديفيد لم يزعجه.
قالت بيجوتي ذات يوم: «ديفي، لقد سلكت، يا عزيزي، كل طريق هداني تفكيري إليه لكي أجد عملا مناسبا هنا في بلاندستن، لكن لا وجود لشيء كهذا يا حبيبي.» «وماذا تنوين أن تفعلي يا بيجوتي؟» هكذا سألها ديفيد بنبرة ملأها الحزن والشفقة؛ فقد كانت هي الصديق الوحيد الذي له في الدنيا في هذه اللحظة؛ وقد كان متشبثا بها.
أجابت بيجوتي: «أتوقع أني سأضطر للذهاب إلى يارمث والعيش هناك.»
قال ديفيد وعلامات الابتهاج تبدو على وجهه: «كان من الممكن أن تبتعدي أكثر من هذا، وتصبحي في مكان سيئ بالنسبة لي وكأني فقدتك. سوف أراك هناك بين الحين والآخر يا عزيزتي بيجوتي؛ فلن تكوني في الطرف الآخر من الأرض، أليس كذلك؟»
صاحت بيجوتي: «بالعكس، وأرجو أن يساعدني الله! ما دمت هنا يا حبيبي، فسآتي كل أسبوع طوال حياتي كي أراك. يوم كل أسبوع على مدى حياتي!»
وبعد ذلك أخبرته أنها ستذهب إلى بيت أخيها أولا، إلى أن يتسنى لها الوقت للبحث عن وظيفة أخرى حولها. ثم قالت إنه من المحتمل أن يسمحا لديفيد بالذهاب معها إلى يارمث لبعض الوقت، لأنه يبدو ألا أحد منهما يرغب في وجوده في المنزل؛ وفيما بعد تجرأت بما فيه الكفاية لاقتراح هذا على الآنسة ميردستون.
قالت الآنسة ميردستون وهي تنظر في برطمان مخلل: «سوف يضيع الولد وقته في البطالة هناك، لكنه بالطبع سيضيعه في البطالة هنا ... أو في أي مكان آخر، في رأيي.» وبعد فترة أضافت: «إن من المهم للغاية ألا يزعج أخي شيء أو يضايقه شيء. أظن أنه يجدر بي أن أوافق.»
شكرها ديفيد، دون أن يظهر أي علامة تدل على الفرح، خشية أن يدفعها هذا إلى سحب موافقتها. وعندما انقضى الشهر، رحل هو وبيجوتي في عربة الحمال.
كانت بيجوتي بطبيعة الحال في حالة من الحزن لمفارقتها ذلك المكان الذي ظل بيتا لها على مدى سنوات عديدة. كما أنها زارت مدفن فناء الكنيسة، مبكرا جدا، لذا فقد جلست في العربة ومنديلها على عينيها.
ظل باركس طوال مدة بقائها على هذه الحال ساكنا سكون الأموات؛ لكنه، عندما بدأت تنظر حولها، راح يبتسم لديفيد عدة مرات.
قال ديفيد: «إنه يوم جميل يا سيد باركس.»
قال السيد باركس: «ليس سيئا.» «لقد هدأت بيجوتي الآن تماما يا سيد باركس.»
قال السيد باركس: «حقا؟»
بعد تفكير جدي في الأمر، نظر لها السيد باركس وقال: «هل هدأت الآن تماما؟»
ضحكت بيجوتي وقالت نعم.
قال السيد باركس بهمهمة، وهو ينزلق مقتربا منها أكثر في المقعد، ويكزها بمرفقه في رفق: «لكن أخبريني، حقا وبصراحة، هل أنت مرتاحة؟ أخبريني؟ هل حقا وبصراحة تشعرين بارتياح كبير؟ حقا؟ أخبريني؟» ثم وكزها ثانية.
كان السيد باركس لطيفا للغاية؛ حيث توقف لأجلهما أمام إحدى الحانات، واشترى لهما لحم ضأن مسلوق وجعة، وكثيرا ما عبر لبيجوتي أثناء ذلك عن تمنيه لها بأن تشعر بارتياح كبير.
كان السيد بيجوتي مع هام ينتظرانهما عند المكان القديم، وحملا الحقائب على أكتافهما ومضوا جميعا، وهنا أشار السيد باركس بسبابته لديفيد بجدية.
وقال في همهمة: «أرى أن الأمر قد سار على ما يرام.»
قال ديفيد: «أوه!» «لم ينته الأمر عند ذلك. لقد سار على ما يرام.»
قال ديفيد مرة أخرى: «أوه!»
قال الحمال: «أنت تعلم من كان راغبا، إنه باركس، وباركس فقط.» ثم صافح ديفيد. وقال: «إنني صديقك المخلص. أنت من بدأت بجعل الأمر يسير على ما يرام. إنه على ما يرام الآن.»
لم يفهم ديفيد شيئا مما عناه السيد باركس؛ وظل واقفا يحدق فيه إلى أن نادته بيجوتي. وعندئذ سألته ما الذي كان يقوله له باركس، فأخبرها ديفيد.
قالت بيجوتي: «هذا يليق بوقاحته، لكنني لا أكترث لهذا. عزيزي ديفي، ما رأيك لو أنني فكرت في الزواج ؟»
قال ديفيد: «يا للمفاجأة؛ أظن أنك ستحبينني عندئذ بقدر ما تحبينني الآن.»
عانقته بيجوتي في الطريق. ثم سألته عندما سارا: «قل لي ما رأيك يا عزيزي؟» «لو أنك فكرت في الزواج ... من السيد باركس يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «نعم.» «أعتقد أنه سيكون شيئا جيدا جدا. لأنك عندئذ يا بيجوتي ستجدين الحصان والعربة دائما ليحضرانك لزيارتي، وستستطيعين المجيء دون أن تدفعي شيئا، وستكونين واثقة من قدرتك على المجيء.»
صاحت بيجوتي: «كم أنت ذكي يا حبيبي! هذا ما ظللت أفكر فيه طوال ذلك الشهر الماضي!» وأضافت أنها ربما ما عادت تصلح للعمل كخادمة عند أحد غريب؛ وتكلمت عن رغبتها في أن يكون لها منزل خاص بها، وألا تكون بعيدة عن قبر ابنتها الحبيبة.
قالت بيجوتي: «إن باركس إنسان بسيط طيب، وإذا ما حاولت أن أفعل ما يتوقع مني وفقا لما يريده، فأظن أنه سيكون من الخطأ ألا ... ألا أشعر بارتياح كبير.» وراحت تضحك من قلبها.
ضحك ديفيد هو الآخر؛ وظلا يتكلمان عن السيد باركس إلى أن لاح البيت المركب لأعينهما.
كانت السيدة جوميدج تنتظر أمام الباب، حيث كل شيء على حاله تماما في البيت المركب القديم الحبيب، حتى العشب البحري الذي في الكوب الأزرق في غرفة النوم. لكن إيميلي الصغيرة لم تكن موجودة ليراها، وقد سأل ديفيد السيد بيجوتي أين هي.
فقال السيد بيجوتي: «إنها في المدرسة يا سيدي.» ثم نظر إلى الساعة الهولندية، وقال: «سوف تعود إلى البيت في ظرف عشرين دقيقة إلى نصف ساعة. إننا جميعا نفتقدها، بوركت.»
أخذت السيدة جوميدج تئن.
قال السيد بيجوتي: «لا تبتئسي أيتها الفتاة.»
قالت السيدة جوميدج: «أنا أفتقدها أكثر من أي أحد آخر، إنني إنسانة بائسة وحيدة، وقد كانت هي الشخص الوحيد الذي لا يشاكسني.»
أخفى السيد بيجوتي فمه بيده وهمس قائلا: «المرأة العجوز!»
وتوصل ديفيد إلى أن حالتها النفسية كانت سيئة كالمعتاد.
بعد قليل ظهر شكل بشري صغير من بعيد. ثم تبين أنها الصغيرة إيميلي، فذهب ديفيد لاستقبالها. حيث أصبحت قامتها أكثر طولا ، وبدت جميلة جدا لدرجة أن ديفيد شعر فجأة بالخجل، وتركها تمر وكأنه لم يتعرف عليها.
لم تزد الصغيرة إيميلي على أن ضحكت وجرت متجاوزة إياه، وعندئذ اضطر ديفيد للجري وراءها كي يلحق بها.
قالت الصغيرة إيميلي: «أوه، إنه أنت، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «يا للعجب، أنت تعلمين من رأيت يا إيميلي، أليس كذلك؟»
قالت إيميلي: «وأنت، ألم تعلم من رأيت؟»
أراد ديفيد أن يقبلها؛ لكنها قالت إنها لم تعد طفلة الآن، وجرت إلى داخل المنزل.
قال السيد بيجوتي، وهو يربت عليها بيده الكبيرة: «إنها قطة صغيرة.»
صاح هام: «إنها كذلك! إنها كذلك! نعم يا سيد ديفي، إنها كذلك.»
كانوا جميعا يدللون الصغيرة إيميلي؛ وخصوصا السيد بيجوتي، والذي كانت تستطيع أن تنال منه أي شيء عندما تلاطفه فقط بوضع خدها على سوالفه الخشنة.
لكنها كانت رقيقة القلب للغاية؛ وعندما جلسوا جميعا حول المدفأة بعدما شربوا الشاي؛ وتكلم السيد بيجوتي مع ديفيد برفق شديد عن فقدانه والدته، ترقرقت الدموع في عيني الصغيرة إيميلي.
قال السيد بيجوتي، وهو يمسك بعقصات شعرها: «آه! ها هي ذي يتيمة أخرى، أترى يا سيدي؟» ثم سدد ضربة بظهر يده إلى صدر هام وقال: «وها هو ذا واحد آخر منهم، رغم أنه لا يشبههم كثيرا.»
أجابه ديفيد: «لو كنت أنت وصيا علي يا سيد بيجوتي، فلا أظن أني كنت سأشعر كثيرا باليتم.»
صاح هام في ابتهاج غامر: «أوافقك تماما، يا سيد ديفي! مرحى! أتفق معك تماما! لم تكن لتشعر به بعد ذلك! هه! هه!» ورد هام ضربة السيد بيجوتي، ونهضت الصغيرة إيميلي وقبلت عمها.
سأل السيد بيجوتي ديفيد: «وكيف حال صديقك يا سيدي؟»
قال ديفيد: «ستيرفورث؟»
صاح السيد بيجوتي، ملتفتا إلى هام: «هذا هو الاسم! كنت أعلم أنه شبيه بشيء ما في مهنتنا.» (كلمة ستير تعني حرفيا: يقود السفينة.)
علق هام ضاحكا: «لقد قلت إنه ردرفورد.» (كلمة ردر تعني حرفيا: دفة السفينة.)
أفحمه السيد بيجوتي قائلا: «حسن، وأنت تقود السفينة بواسطة دفة، أليس كذلك؟ فالفرق ليس كبيرا . كيف حاله يا سيدي؟»
قال ديفيد إنه كان في خير حال في آخر مرة رآه فيها، وانطلق يمدح ستيرفورث كالعادة.
وافقه السيد بيجوتي وهام في كل ما قال، وأصغت له الصغيرة إيميلي بأشد ما يكون من الانتباه، وهي تحبس أنفاسها من الدهشة، بينما تلمع عيناها الزرقاوان كالجوهرتين.
مرت الأيام في الأغلب كما مرت من قبل، باستثناء أن الصغيرة إيميلي كان لديها الكثير من الواجبات لتتعلمها، والتطريز لتنجزه، لذا لم تستطع أن تسير كثيرا مع ديفيد على الشاطئ.
وكان السيد باركس يأتي لزيارتهم كل ليلة. حيث أحضر معه في أول زيارة صرة برتقال مربوطة في منديل من أجل بيجوتي؛ وفي اليوم التالي أربعة أزواج من أقدام البقر، ومرة أخرى فخذ من اللحم المنقوع في الخل؛ وكان أحيانا يخرج مع بيجوتي في نزهة على الشاطئ.
في النهاية، وقبل أن يتركهم ديفيد مباشرة، جاء السيد باركس في صباح أحد الأيام في عربة خفيفة، وكان مظهره أنيق جدا وهو يرتدي معطفا جديدا أزرق اللون، ليأخذ بيجوتي كي تقضي معه يوم العطلة. فذهب ديفيد والصغيرة إيميلي معهما، وعندما ركبوا في العربة ناول السيد بيجوتي السيدة جوميدج حذاء قديما لترميه خلفهم كي يجلب الحظ السعيد.
فقالت السيدة جوميدج: «يجدر بغيري فعل هذا يا دانيال، فأنا إنسانة بائسة وحيدة، وكل شيء يذكرني بأشخاص غير وحيدين ولا بائسين يأتي معي بأثر عكسي.»
قال السيد بيجوتي: «هيا أيتها العجوز، خذي الحذاء واقذفيه وراءهم.»
لكن السيدة جوميدج أبت؛ فألح بيجوتي عليها كي تفعل؛ وهكذا رمت السيدة جوميدج الحذاء وراءهم من أجل الحظ السعيد، فانفجرت في البكاء من فورها، وراحت تقول إنها تعلم أنها عبء، وأنه ينبغي أن تنقل إلى الملجأ في الحال.
وقد رأى ديفيد أنها فكرة سديدة جدا، وراح يتساءل لماذا لم ينفذوها.
وهكذا رحلوا بعيدا بالعربة من أجل نزهة عطلتهم؛ وكان أول ما فعلوه هو أن توقفوا أمام إحدى الكنائس، حيث ربط السيد باركس الحصان في قضبان أحد الأسيجة، ودخل هو وبيجوتي، وتركا الطفلين في الخارج.
وقد بقيا فترة طويلة داخل الكنيسة، لكنهما خرجا في النهاية، ثم انطلقوا بالعربة إلى الريف.
سأل السيد باركس ديفيد بغمزة من عينه: «ما الاسم الذي كتبته على غطاء العربة؟»
قال ديفيد: «كلارا بيجوتي.»
فقال السيد باركس: «أي اسم سأكتب إذا كان هناك غطاء أكتب عليه الآن؟»
قال ديفيد مخمنا: «كلارا بيجوتي مرة أخرى.» «كلارا بيجوتي باركس.» هكذا أجاب الحمال وانفتح في القهقهة.
وهكذا فقد تزوجا، حيث كانا في الكنيسة من أجل هذا الغرض؛ وقررت بيجوتي أن يكون زفافها زفافا هادئا، لأنها كانت لا تزال تلبس ثوب الحداد على روح «ابنتها الغالية.»
قبلت بيجوتي ديفيد قبلة حنونة جدا لتعلمه أن حبها له لا يزال بالقدر نفسه الذي كان عليه دائما؛ وانطلقت المجموعة الصغيرة بالعربة مسافة ليست بالبعيدة حتى وصلوا إلى مطعم صغير تناولوا فيه غداء رائعا، واحتسوا بعده شايا جيدا جدا. وخيم عليهم الظلام عندما ركبوا العربة مرة أخرى، وعادوا بها بينما يدفئهم جو عائلي حميم، وهم ينظرون إلى النجوم ويتحدثون عنها.
حسنا، لقد عادوا مرة أخرى إلى البيت المركب العتيق في توقيت مبكر من الليل؛ وهناك ودعهما السيد والسيدة باركس وانطلقا في جو من الحميمية إلى منزلهما الخاص. عندئذ أحس ديفيد، لأول مرة، أنه فقد بيجوتي؛ لكن هام والسيد بيجوتي، كانا يعلمان بما يدور في خلده؛ لذا فقد تجهزا بشيء أعداه للعشاء، وبوجهيهما المضيافين، لطرد تلك الأفكار.
كان الوقت وقت مد ليلي؛ وما لبث السيد بيجوتي وهام، بعدما استلقيا في فراشيهما، أن نهضا وخرجا للصيد. فأحس ديفيد بشجاعة كبيرة عندما تركوه في المنزل المنعزل ليحمي الصغيرة إيميلي والسيدة جوميدج، وما كان يتمنى سوى أن يهجم عليهم أسد أو ثعبان حتى يفتك به، ويكلل نفسه بالمجد. لكن نظرا لأنه لم يكن شيء من هذه الأشياء يتجول في سهول يارمث في تلك الليلة، تمنى ديفيد أن تهاجمهم التنانين بدلا من ذلك.
جاءت بيجوتي في صباح اليوم التالي، وبعد الإفطار ودع ديفيد السيد بيجوتي وهام والسيدة جوميدج والصغيرة إيميلي، وعاد مع بيجوتي إلى بيتها؛ وقد كان بيتا صغيرا جميلا.
في تلك الليلة نام ديفيد في غرفة صغيرة فوق السطح، وقد قالت بيجوتي إنها ستكون غرفته دائما، وستظل على حالتها نفسها تماما من أجله.
قالت بيجوتي: «سواء كنت صغيرا أم كبيرا يا عزيزي ديفي، ما دمت أنا على قيد الحياة وما دمت أعيش تحت سقف هذا البيت، فستجدها دائما وكأنني أترقب وصولك إلى هنا كل لحظة. وسوف أعتني بها كل يوم كما كنت أعتني بحجرتك الصغيرة القديمة يا عزيزي؛ ولو أنك ذهبت إلى الصين، فتأكد أنها ستبقى كما هي تماما، طوال مدة سفرك.» قالت له هذا وذراعاها يطوقان رقبته؛ ولم يكن ديفيد في حاجة لمن يخبره بمدى صدقها ووفائها.
حاول ديفيد أن يشكرها، وحاول ألا يبكي؛ لكن قلبه كان مثقلا بالأسى، لأنه سيعود في الصباح إلى بيته؛ بيته في بلاندستن حيث السيد والآنسة ميردستون من جديد، ولن تكون أمه هناك، ولا بيجوتي كذلك للأبد.
وفي صباح اليوم التالي أوصلهما باركس بعربة الحمال، حيث تركاه عند البوابة. وكان غريبا عليه أن يرى العربة ترحل، آخذة بيجوتي معها، وتتركه تحت أشجار الدردار القديمة ينظر إلى البيت الذي ما عاد فيه وجه ينظر إلى وجهه بحب أو اهتمام.
الفصل الثاني عشر
ديفيد يخرج إلى الدنيا
كان السيد والآنسة ميردستون يكرهان ديفيد. كما واصلا إهماله في عناد وصرامة. وهما لم يكونا في الحقيقة قاسيين عليه؛ وإنما فقط يهملانه. ولم يتكلم أحد عن ذهابه إلى المدرسة، فظل ديفيد يضيع وقته سدى من دون شيء يفعله. وقد كان يفضل أن لو أرسل إلى مدرسة تدار بأقسى الطرق في الدنيا على أن يبقى في هذه الحالة من الفتور وانعدام الأصدقاء؛ ولكن في تلك الفترة أصبح عمل السيد ميردستون - حيث كان يتعامل مع مؤسسة لتجارة الخمر في لندن - غير مزدهر بالصورة المرضية، وقد اتخذ من هذا مبررا لعدم إرسال ديفيد إلى المدرسة؛ وفي الواقع، لقد حاول إقناع نفسه بأنه ليس للصبي حق في أن يطالبه بشيء على الإطلاق.
كما رفض السيد والآنسة ميردستون أن يصبح له أصدقاء في بلاندستن؛ وأسوأ شيء على الإطلاق أنهما نادرا ما كانا يسمحان له بزيارة بيجوتي. فربما كانا يخافان من احتمال أن يشكو الصبي من معاملتهما؛ لكن بيجوتي، وفاء منها بوعدها، كانت إما تأتي لزيارته، أو تقابله في مكان قريب، مرة كل أسبوع، ولم تأت مرة دون أن تحضر معها شيئا من الطعام الطيب من صنع يدها.
وهكذا ظل ديفيد يعيش حياة الوحدة هذه أسبوعا وراء أسبوع، وشهرا وراء شهر. وفي يوم من الأيام، وبينما هو يتسكع في مكان ما بلا حماس أو هدف، تقابل فجأة مع السيد ميردستون وهو يسير مع أحد الأشخاص.
فضحك الرجل وتكلم مع ديفيد، وعندما نظر ديفيد إليه أحس أنه رآه من قبل، ثم تذكر أنه السيد كوينين، ذلك الرجل الذي كان قد قابله في الفندق في مدينة لويستوفت، عندما أركبه السيد ميردستون أمامه على حصانه ليقضي ذلك اليوم مع أصدقائه.
سأل السيد كوينين: «وكيف حالك في الدراسة، وأين تدرس؟»
لم يعرف ديفيد بم يجيب، ورمق السيد ميردستون بعينه.
قال السيد ميردستون: «إنه في البيت في الوقت الحالي. وهو لا يدرس في أي مكان. لا أعرف ماذا أفعل به. إنه فتى مشاكس.» واكفهرت عيناه وهو يتجهم.
قال السيد كوينين وهو ينظر إلى كليهما: «إنه أمر مؤسف!» «يا له من جو جميل.»
ثم بعد قليل قال: «أعتقد أنك لا تزال فتى حادا للغاية، أليس كذلك؟»
قال السيد ميردستون: «بلى. إنه حاد جدا، يجدر بك أن تتركه.»
رفع السيد كوينين يده من على كتف ديفيد، فانطلق ديفيد مسرعا إلى البيت؛ لكنه نظر خلفه فرآهما ينظران إليه ويتكلمان، وأحس أنهما كانا يتكلمان عنه.
جاء السيد كوينين للمبيت في بيتهم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي، بعد الإفطار، وبينما ديفيد ينصرف من الغرفة، ناداه السيد ميردستون مرة أخرى.
وقال: «ديفيد، إن هذه الحياة بالنسبة للشباب حياة نشاط؛ وليست من أجل التسكع وتضييع الوقت في ...»
أضافت الآنسة ميردستون: «كما تفعل أنت.»
نظر السيد كوينين خارج النافذة.
تابع السيد ميردستون كلامه قائلا: «أعتقد أنك تعلم يا ديفيد أنني لست غنيا. وأنت قد تلقيت قدرا كبيرا من التعليم بالفعل. إن ما أنت مقبل عليه هو معركة مع الحياة؛ ومن الأفضل أن تبدأها مبكرا. لقد سمعت ذكر مكتب المحاسبة يتردد أحيانا، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «مكتب المحاسبة يا سيدي؟»
رد السيد ميردستون: «مكتب ميردستون وجرينبي للمحاسبة، في تجارة الخمر.»
قال ديفيد بشرود: «أعتقد أني سمعت كلمة المكتب تذكر أمامي يا سيدي.»
قال السيد ميردستون: «إن السيد كوينين يدير ذلك المكتب، ويقول إنه يوفر وظائف لبعض الأولاد الآخرين، وإنه لا يدري لماذا لا يوفر لك وظيفة أنت أيضا بالشروط نفسها.»
قاطعه السيد كوينين بصوت خفيض، وقد استدار نصف استدارة: «ليس لديه أي مستقبل غير هذا يا ميردستون.»
أومأ السيد ميردستون إيماءة تبرم وغضب، وواصل كلامه قائلا: «تلك الشروط هي أنك ستكسب بنفسك ما يكفي لدفع نفقات طعامك وشرابك، ومصروف جيبك. أما إقامتك (والتي جهزتها أنا) فسأدفع أنا تكلفتها. وبالمثل غسيل ملابسك ...»
قالت الآنسة ميردستون: «وهو ما سيخضع لتقديري أنا.» «وهكذا فإنك الآن ذاهب إلى لندن يا ديفيد، مع السيد كوينين، لتبدأ الحياة على مسئوليتك الخاصة.»
قالت الآنسة ميردستون: «باختصار، إننا نعيلك، وسيكون عليك، من فضلك، أن تقوم بواجبك.»
لم يستطع ديفيد أن يميز أكان مسرورا أم خائفا. لقد كان بالكاد في العاشرة من عمره، ومن الطبيعي أن اضطراره لبدء الحياة على مسئوليته الخاصة في هذه السن المبكرة كان أمرا مروعا نوعا ما.
لكنه لم يحظ بالكثير من الوقت للتفكير في الأمر؛ ففي صباح اليوم التالي مباشرة حزمت حقيبة ملابسه الصغيرة، ووجد نفسه جالسا في عربة البريد التي كانت تحمل السيد كوينين إلى مدينة يارمث حيث العربة المتجهة إلى لندن؛ فأحس بأنه «إنسان بائس وحيد» في الحقيقة، كما كان من الممكن أن تقول السيدة جوميدج.
كان مستودع ميردستون وجرينبي قريبا من الشاطئ، بجوار منطقة بلاكفرايرز. وهو منزل عتيق للغاية له رصيف خاص به، تمتلئ أقبيته بالجرذان الرمادية الكبيرة. حيث سمع ديفيد أصواتها وهي تتشاجر وتنبش هنا وهناك، عندما ذهب إلى المستودع للمرة الأولى، ويده ترتعش في يد السيد كوينين.
وفي هذا المكان وضعه السيد كوينين في عهدة فتى يرتدي مريلة بالية وقبعة ورقية، يدعى مك ووكر، وأمره بتعليم ديفيد عمله.
وكان عمله هو أن يغسل ويشطف الزجاجات المعدة لأن تملأ بالخمر، وأن يرفعها في الضوء، ويستبعد المكسورة أو التالفة منها. كما توجد سدادات من الفلين تحتاج أن توضع على مقاسها، أو شمع يوضع على السدادات، ولصاقات تعريف تلصق على الزجاجات بعدما تملأ بالخمر، ثم بعد ذلك تعبأ تلك الزجاجات في براميل خشبية.
وقد أخبره مك ووكر أن أباه يعمل على مركب لنقل البضائع؛ وأن الصبي الآخر الذي سيعمل معهما يدعى ميلي بوتيتوز، وهو لقب أطلقه عليه العاملون في المستودع بسبب بشرته الشاحبة.
وكان والد ميلي يعمل سقاء، وإطفائيا أيضا، حسبما قال؛ وكانت أخت ميلي الصغيرة تلعب دور عفريتة صغيرة في المسرحيات الإيمائية، ويبدو أنهم كانوا فخورين جدا بهذا.
فتذكر ديفيد زميليه ستيرفورث وترادلز، وبقية طلاب مدرسة سيلم هاوس؛ وكان كلما خرج مك من الحجرة لإحضار أي شيء، تنحدر الدموع على وجنتي ديفيد، وتمتزج بالماء الذي يغسل فيه الزجاجات، ويبكي وكأنما سينفطر قلبه.
وفي الثانية عشرة والنصف نهض الأولاد ليتناولوا غداءهم، ونقر السيد كوينين على نافذة مكتب المحاسبة، وأشار إلى ديفيد كي يدخل إلى حجرته حيث وجده ديفيد جالسا وراء مكتب.
فدخل ديفيد الحجرة ووجد فيها رجلا بدينا في خريف العمر، يرتدي معطفا طويلا بني اللون وبنطلونا ضيقا أسود اللون وحذاء، ولم يكن يعلو رأسه (الذي كان ضخما وشديد اللمعان) من الشعر أكثر مما يعلو بيضة. كانت ملابسه رثة، لكنه يرتدي ياقة قميص مهيبة المنظر؛ ويحمل عصا أنيقة نوعا ما، وشرابتين بلون الصدأ من أجل العصا؛ بينما تتدلى من معطفه عدسة مكبرة.
قال السيد كوينين، قاصدا ديفيد: «هذا هو.»
قال الرجل الغريب بصوت عال يتصنع اللطف: «هذا هو السيد كوبرفيلد. أرجو أن تكون بخير يا سيدي؟»
قال ديفيد، الذي كان يشعر بارتباك شديد، إنه على ما يرام، وتمنى للرجل أن يكون بخير كذلك.
قال الرجل الغريب: «أنا، بفضل الله، على خير ما يرام.» وأردف يقول إنه تلقى رسالة من السيد ميردستون يطلب منه فيها أن يستقبل ديفيد في منزله.
قال السيد كوينين: «هذا هو السيد ميكوبر، وقد أرسل له السيد ميردستون بشأن إقامتك، وسوف تقيم عنده في غرفة مفروشة من بيته.»
قال السيد ميكوبر: «عنواني في شارع وندسور تيراس، من طريق سيتي روود.» ثم أضاف بنبرة بدت مهذبة: «إنني، باختصار، أسكن هناك.» وانحنى له ديفيد احتراما.
قال السيد ميكوبر: «لدي انطباع بأنك لم تتجول في هذه العاصمة كثيرا حتى الآن، وأنك ربما تواجه بعض الصعوبة في كشف أسرار مدينة بابليون الحديثة تلك الواقعة في طريق سيتي روود باختصار» قال السيد ميكوبر وقد اعترته ثقة مفاجئة: «إنك ربما تضل طريقك؛ لذا فإنه من دواعي سروري أن أصحبك هذه الليلة، وأدلك على أقصر الطرق المؤدية إلى المنزل.»
رأى ديفيد أن تكبده مثل هذا العناء كان أمرا في غاية اللطف منه، وشكره من صميم قلبه.
قال السيد ميكوبر: «متى أ...»
قال السيد كوينين: «في الثامنة تقريبا.»
قال السيد ميكوبر: «في الثامنة تقريبا، أتمنى لكما يوما طيبا.» ثم لبس قبعته، وخرج متأبطا عصاه؛ حيث سار منتصب القامة للغاية، وراح يترنم بأغنية عندما ابتعد عن مكتب المحاسبة.
بعد ذلك قال السيد كوينين لديفيد إن عليه أن يبذل غاية وسعه لصالح المستودع، وإن مرتبه سيكون ستة شلنات في الأسبوع؛ وناوله مرتب أول أسبوع في الحال.
تولى ميلي بوتيتوز مهمة حمل حقيبته إلى منزل السيد ميكوبر، لأنها كانت أثقل بكثير من أن يحملها ديفيد بنفسه، وأعطاه ديفيد نصف شلن من مرتب أول أسبوع نظير ما تجشمه من عناء حمل الحقيبة؛ ثم خرج إلى مطعم صغير قريب منه واشترى فطيرة لحم بنصف شلن آخر، ورشف جرعة ماء من مضخة ماء مجاورة.
في الثامنة مساء جاء السيد ميكوبر، وانصرفا معا، وراح صديقه الجديد يؤكد عليه أثناء سيرهما أسماء الشوارع، وأشكال المنازل الواقعة عند ملتقى شارعين ، لعله يستطيع العودة بسهولة في الصباح.
بدا المنزل في شارع وندسور تيراس رث المنظر مثل مالكه؛ الذي حاول جاهدا أن يضفي عليه كل المظاهر الخادعة. وقد قام السيد ميكوبر بمهمة تعريف ديفيد على السيدة ميكوبر، وهي سيدة نحيلة شاحبة، جلست في الردهة لترضع طفلا صغيرا، وكان أحد توءمين.
كان هناك ولدان آخران غير التوءمين؛ السيد ميكوبر بعمر الرابعة، والآنسة ميكوبر بعمر الثالثة. وكذلك امرأة شابة داكنة البشرة، لديها عادة الشخير، وهي خادمة الأسرة، وقد أخبرت ديفيد، بعد نصف ساعة من مكوثه هناك، أنها «فتاة يتيمة داكنة البشرة»، وأنها كانت تعيش في ملجأ سانت لوك.
ثم أخذته السيدة ميكوبر إلى حجرته، التي كانت فوق سطح المنزل، وحملت الرضيعين معها. وهي حجرة ضيقة نوعا ما، وقليلة الأثاث للغاية.
قالت السيدة ميكوبر: «لم أتوقع قط، قبل زواجي، عندما كنت أعيش مع أبي وأمي، أنني سأضطر يوما لتأجير غرفة في منزلي. لكن مع وجود العسر المالي الواقع فيه السيد ميكوبر، كان لا بد أن تتراجع أي أهمية للشعور بالخصوصية.»
قال ديفيد: «نعم يا سيدتي.»
قالت السيدة ميكوبر: «إن العسر المالي الذي يعانيه السيد ميكوبر يكاد يكون خانقا هذه الأيام، ولا أدري إن كان من الممكن إنقاذه منه.»
أخبرته السيدة ميكوبر كذلك أنها حاولت أن تبذل جهدها؛ وأنها، في الواقع، قد غطت الجزء الأوسط من الباب الخارجي بلوحة نحاسية كبيرة منقوش عليها «مدرسة السيدة ميكوبر الداخلية للفتيات»؛ لكن لم تأت أي فتاة للدراسة هناك.
في الواقع، لم ير ديفيد أي زوار هناك سوى الدائنين، الذين كانوا يأتون طوال الوقت؛ وكان بعضهم شرسا للغاية.
ومنهم رجل متسخ الوجه اعتاد أن يسير ببطء داخل الدهليز في السابعة صباحا، وينادي السيد ميكوبر من على السلم قائلا: «اخرج إلي! إنك لم تغادر المنزل بعد. ألن تدفع لنا ما عليك، ألن تفعل؟ لا تختبئ، هذه دناءة منك. لو كنت مكانك لما تصرفت بدناءة. ألن تدفع ما عليك لنا، ألن تفعل؟ ادفع ما عليك وحسب، هل تسمع؟ اخرج إلي!»
وكان أحيانا يقف في الشارع ويصيح قائلا: «لصوص» و«نصابون» تحت النوافذ التي يعلم أن السيد ميكوبر موجود عندها.
كان هذا يجرح مشاعر السيد ميكوبر إلى أبعد حد. وقد يتظاهر في بعض الأحيان بأنه سيقطع رقبته بشفرة الحلاقة؛ لكنه يعدل عن ذلك بعد قليل، وبعدما يلمع حذاءه بصعوبة بالغة، يخرج من المنزل وهو يدندن بأغنية.
كانت السيدة ميكوبر، هي الأخرى، تصاب بنوبة إغماء في تلك الأوقات؛ لكنها تبتهج بعد ساعة، وترسل ملعقتين من ملاعق الشاي إلى مكتب الرهن، وتشتري بمال الرهن وجبة من شرائح لحم الحمل المكسوة بقطع الخبز، وكوبا من الشاي الدافئ.
ذات مرة، بعد زيارة دائن شرس، سقطت مغشيا عليها تحت شبكة المدفأة وهي تحمل أحد الرضيعين بين ذراعيها؛ لكنها استطاعت في تلك الليلة نفسها أن تتناول شريحة من لحم العجل المشوي بجوار مدفأة المطبخ، وراحت تسلي ديفيد بقصص عن أبيها وأمها، وعن الشركة التي كانوا يمتلكونها.
قضى ديفيد وقت فراغه كله مع أسرة السيد ميكوبر، وبدأ يحبهم جدا. وقد أعطوه غرفة نوم فقط؛ حيث يتوجب عليه أن يشتري طعامه كله بنفسه؛ واعتاد أن يضع الخبز والجبن على رفوف خزانة صغيرة هناك لإعداد عشائه عندما يعود إلى البيت في المساء.
وقد كان طوال اليوم يغسل زجاجات الخمر مع ميلي بوتيتوز ومك ووكر؛ لكن معاناة روحه الخفية كانت تكبر عندما يتذكر ترادلز وستيرفورث، ويتصورهما وهما يكبران ليصيرا رجلين مهذبين متعلمين، بينما رفيقاه الآن في كل يوم غلامان جلفان جاهلان، وهو نفسه لا أمل لديه في أن يصبح أفضل حالا منهما البتة.
وشعر بانحطاط القدر بسبب عمله الوضيع، وأحس أيضا أنه لم يفعل شيئا يستحق عليه هذه الإهانة؛ ورغم أنه يراسل بيجوتي كثيرا، فلم يجرؤ على إخبارها كم كان تعيسا، من ناحية لأنه يحبها، وهذا من شأنه أن يحزنها، ومن ناحية أخرى لأنه كان يشعر بخزي شديد.
لم يتعرف ديفيد على أي أحد سوى أسرة ميكوبر؛ كما لم يتكلم مع أي أحد من الأولاد الكثيرين الذين كان يراهم يوميا لدى ذهابه إلى المستودع أو رجوعه منه، أو عندما يتجول خلسة في الشوارع أثناء أوقات تناول الطعام. لقد كان يزداد تكتما، واعتمادا على النفس، وفقرا في المظهر كل يوم.
لم يخبر ديفيد الولدين اللذين يعمل معهما قط كيف صار به الأمر إلى العمل هناك في مثل هذه المهنة الوضيعة، كما لم يخبرهما كم يكرهها. لقد كان يؤدي عمله ويحتفظ برأيه لنفسه؛ لكن التفكير في بيجوتي ووالدته وأيام الماضي السعيد كان يكاد يكسر قلبه.
وكان الأولاد والرجال الذين في المستودع يشعرون أنه مختلف عنهم. وقد بدءوا يسمونه «الفتى المهذب»، وأحيانا «الفتى القادم من مقاطعة سافك.» وذات يوم اعترض ميلي بوتيتوز على هذا؛ لكن مك ووكر أسكته في الحال.
وقد كان كبير عمال التعبئة في المستودع، وهو رجل يدعى جريجوري، وسائق العربة، ويدعى تب، يناديانه «ديفيد» أحيانا؛ لكن هذا حدث غالبا بعد أن أمتعهم بأجزاء من «مغامرات رودريك راندوم» وبقية الكتب القديمة الحبيبة.
وكان غرا وصبيانيا جدا لدرجة أنه أحيانا لا يستطيع مقاومة المعجنات البائتة المعروضة للبيع بنصف الثمن على أبواب طهاة المعجنات، وينفق ماله على شراء قطع التورتة الصغيرة، ومن ثم يضطر للاستغناء عن اللحم في غدائه.
وذات مرة أخذ ديفيد خبزه معه وكان ملفوفا في قطعة من الورق - حيث أحضره من المنزل في الصباح - وذهب إلى محل جميل أنيق بقرب مسرح دروري لين، وطلب طبقا صغيرا من لحم البقر ليأكله بالخبز الذي معه.
فحدق النادل بقوة في الفتى الصغير، لكنه أحضر له اللحم، ثم بعد ذلك نادى نادلا آخر ليأتي وينظر إليه.
يا إلهي! آه لو كان لأمه أن تراه الآن! أو بيجوتي! حيث أصبح طفلا بالي الثياب، يعمل من الصباح حتى المساء مع العامة من الرجال والأولاد! ويتسكع في الشوارع في أوقات الوجبات، ولا يكاد يأكل ما يكفيه!
ما من أحد قط نصح الصبي أي نصيحة؛ وما كان هناك من يعينه أو يشجعه. ولولا رحمة الله لربما كان من اليسير أن يصبح سارقا صغيرا أو متشردا.
الفصل الثالث عشر
العسر المالي لأسرة ميكوبر
ربما كان من الممكن أن تعتني السيدة ميكوبر بديفيد أفضل من ذلك، لأنها طيبة القلب حقا؛ لكنها مثقلة للغاية بهمومها وعسرها المالي كي توازن بين دخلها ونفقاتها، كما كانت مهمومة جدا بتخوفاتها من دائني السيد ميكوبر، الذين يزدادون شراسة كل يوم، لدرجة أن الوقت لم يسمح لها برؤية ديفيد على أنه ابن صغير عديم الأصدقاء، وأنه ربما يحتاج إلى قليل من النصائح الحانية بين الحين والآخر.
وعلى العكس من هذا، فإن ذهابه إلى المستودع وعودته منه كل يوم، على مسئوليته الخاصة، ليجني قوت يومه وكأنه كان رجلا، جعلها تنظر إليه باعتباره شابا له شيء من التجربة، بدلا من أن تنظر إليه على أنه ولد صغير للغاية في العاشرة من عمره؛ واعتادت أن تفضي إليه بمشاكلها، بدلا من أن تسعى لتخفيف مشاكله هو.
وقد كان ديفيد عطوفا بطبعه، وكثيرا ما يتكدر بمشاكل أسرة ميكوبر أكثر مما يتكدرون هم بها؛ حيث يسير بطريقته شبه اليائسة، ويتأمل وسائل السيدة ميكوبر في تدبير مواردها المالية المعدة لتحمل نفقاتها، وهو مهموم بثقل ديون السيد ميكوبر.
وكثيرا ما كان السيد ميكوبر يعود إلى البيت في ليالي السبت غارقا في دموعه، معلنا أنه لم يعد ينتظره سوى السجن؛ لكنه بعد تناول العشاء يصبح مبتهجا، ويبدأ في حساب كم قد يكلفه تركيب نوافذ قوسية للمنزل «في حال حدث أي شيء على غير توقع»؛ وهي جملته المفضلة. وكثيرا ما كان السيد والسيدة ميكوبر، وبدافع من رقة قلبيهما، يدعوان الصبي للعشاء معهما، لكن ديفيد دائما يعتذر بأمر ما، ولم يكن يقبل الدعوة - رغم أنه كان سيستمتع بها كثيرا - وذلك لعلمه أنهما في الغالب لم يكونا يملكان الكثير لنفسيهما.
وبعد ذلك جاء موعد عيد ميلاده من جديد. لقد قضى عيد ميلاده الفائت في مدرسة سيلم هاوس؛ وهو عيد ميلاد لا ينسى، فهو يوم أن استدعته السيدة كريكل لتخبره أن والدته قد توفيت. يا لكثرة ما أصابه منذ ذلك الحين! لقد كان بالكاد يشعر أنه لا يزال ديفيد كوبرفيلد نفسه - «الصغير كوبرفيلد»، كما كان ستيرفورث يناديه - الذي يغزل خيوط الحكايات في حجرة النوم في المساء، بينما تومي ترادلز يضحك في الظلام، وستيرفورث ينعشه برشفات من العصير عندما يصبح صوته «أجش» قليلا.
بالطبع لم يخبر ديفيد أي أحد أن اليوم عيد ميلاده؛ فهو أكثر تحفظا من أن يقول هذا؛ لكنه ذهب إلى حانة عامة وسأل صاحبها - حيث كانت تلك مناسبة مميزة - قائلا: «ما ثمن كأس أفضل أنواع العصير عندك؛ أفضلها على الإطلاق؟»
قال صاحب الحانة وهو يحدق فيه: «بنسان ونصف ثمن العصير من نوع جينيوين ستانينج.»
قال ديفيد، وهو يقدم له المال: «إذن، صب لي كأسا من عصير جينيوين ستانينج، من فضلك، ولتكن له رغوة عالية.»
راح الرجل ينظر إليه من فوق المشرب، من رأسه إلى قدميه، وعلى وجهه ابتسامة غريبة؛ وبدلا من صب العصير، نظر وراء الستار وقال شيئا ما لزوجته.
خرجت زوجته من وراء الستار وفي يدها شغل التطريز الذي تصنعه، ووقفت إلى جوار زوجها، وراحت تنظر إلى الصبي الصغير الغريب، ووجهه وأسلوبه المحافظين.
حيث سألاه عن اسمه، وسنه، وأين يسكن، وما مهنته، وكيف أتى إلى هناك. فاخترع ديفيد بطريقته الرجولية الصغيرة إجابات مناسبة. وبعد ذلك أعطاه صاحب الحانة كوب العصير؛ لكن زوجته فتحت الباب النصفي الصغير الذي في المشرب، ثم انحنت وأعادت نقوده في يده، وقبلته قبلة امتزج فيها الإعجاب بالشفقة، لكنها كانت قبلة جيدة ونسائية للغاية.
وهكذا مرت الأسابيع والشهور. بينما ديفيد يتساءل إن كان سينجو أبدا من هذه الحياة البائسة؛ وراح يتخيل في يأس أنه قد لا يصير إلى شيء - عندما يكبر - أكثر من أن يصبح سائق عربة مثل تب، أو كبير عمال تعبئة مثل جريجوري. لقد بدأ ينسى ما تعلمه كذلك؛ وقد أصابه هذا بالحزن، لأنه في الأيام الماضية كان ديفيد ولدا طموحا، ويعد من الأذكياء البارعين.
وذات يوم قالت السيدة ميكوبر، التي قابلت ديفيد وعيناها محتقنتان للغاية: «يا سيد كوبرفيلد، أنا لا أعدك غريبا، لذا لا أتردد في القول إن عسر السيد ميكوبر المالي يوشك أن يتحول إلى أزمة.»
فأصيب ديفيد بالتعاسة لسماع هذا - وكان قد بدأ يحب أسرة ميكوبر للغاية - ونظر إلى وجهها الملطخ بالدموع بأقصى درجات التأثر.
قالت السيدة ميكوبر: «باستثناء قطعة من قالب جبن هولندي، والتي لا تفي باحتياجات أسرة صغيرة، فإنه لا يوجد حقا فتاتة واحدة من أي شيء في غرفة المئونة. لقد كنت معتادة على الحديث عن غرفة المئونة عندما كنت أعيش مع أبي وأمي، وأنا أستخدم الكلمة من دون قصد تقريبا. ما أقصده هو أنه ليس هناك طعام في المنزل.»
اهتم ديفيد غاية الاهتمام. وكان معه شلنان أو ثلاثة في جيبه، حيث إنهم في منتصف الأسبوع، فأخرجها من جيبه مباشرة، وراح يرجو السيدة ميكوبر أن تأخذها منه قرضا، والدموع تترقرق في عينيه.
لكن السيدة ميكوبر جعلته يردها في جيبه مرة أخرى، وقبلته، وهزت رأسها علامة على الرفض.
وقالت: «لا يا عزيزي السيد كوبرفيلد، لم تقترب هذه الفكرة من رأسي مطلقا. لكن لك إدراكا يتجاوز سنك، وتستطيع أن تقدم لي خدمة من نوع آخر إذا أردت؛ وهي خدمة سأقبلها منك شاكرة.»
رجاها ديفيد أن تخبره ما هي.
قالت السيدة ميكوبر: «لقد تخليت بنفسي عن أدوات المائدة الفضية، وستة من أوعية الشاي، واثنين من أوعية الملح، وزوجين من أوعية السكر، لقد اقترضت المال بضمانها في أوقات متفرقة، فعلت ذلك سرا، بنفسي. لكن احتياجات التوءمين قيد كبير، وبالنسبة لي، وبسبب ذكرياتي مع أبي وأمي، فإن هذه الصفقات مؤلمة للغاية. ولا يزال هناك قليل من الأغراض التافهة التي نستطيع التخلي عنها. لكن مشاعر السيد ميكوبر لن تسمح له أبدا ببيعها؛ كما أن كليكيت» - كان هذا اسم الخادمة القادمة من الملجأ - «وبسبب جلافة تفكيرها، سوف تتجاوز حدودها بطريقة مؤلمة إذا عهد إليها بشيء بالغ الخصوصية كهذا. سيد كوبرفيلد، إذا أمكنني أن أطلب منك ...»
حزر ديفيد أنها تريد منه أن يبيع لها بعض هذه الأغراض التافهة التي تكلمت عنها، ورجاها أن تسمح له بمساعدتها فيما تريد. وفي صباح اليوم التالي، وقبل ذهابه إلى المستودع ، أخذ القليل من الكتب إلى أحد أكشاك الكتب في طريق سيتي روود، وباعها في مقابل أي ثمن قد تساويه.
ثم بدأ بعد ذلك، في صباح كل يوم، وقبل ذهابه إلى العمل، يأخذ شيئا ما ليبيعه أو ليرهنه في مكتب الرهن.
وقد كان صاحب كشك الكتب يترنح سكرا كل ليلة؛ لذا يرافق ديفيد شخص ما إلى غرفة الرجل، ليجده مستلقيا على سرير قابل للثني، بجرح في جبهته أو كدمة حول عينه، ليساوم على ثمن الكتب؛ بينما تقف زوجته إلى جواره، بحذائها بالي الكعبين، تعنفه بشدة طوال الوقت.
وكان الرجل أحيانا لا يتمكن من العثور على ماله، فيطلب من ديفيد أن يمر عليه مرة أخرى؛ لكن زوجته عادة ما تحتفظ ببعض المال في جيبها، وكانت تدفع المال لديفيد سرا أثناء نزولهما معا إلى الطابق السفلي.
بدأ ديفيد يصبح معروفا في مكتب الرهن أيضا؛ وقد رآه الرجل الجالس خلف طاولة المحاسبة مرات عديدة، وكثيرا ما طلب منه أن يصرف له اسما أو فعلا لاتينيا ريثما يقوم بعمله. ودائما ما كانت السيدة ميكوبر تنفق جزءا من المال الذي يحضره إلى المنزل على شيء لذيذ للغاية من أجل العشاء.
وفي النهاية آل عسر السيد ميكوبر المالي إلى أزمة، وقبض عليه في وقت مبكر من صباح أحد الأيام، وأخذ إلى سجن كينجز بينش. وقد قال لديفيد عندما أخذوه إن شمس أمله قد غربت الآن؛ فتذكر ديفيد أنه عندما دخل رودريك راندوم أحد سجون المدينين، كان هناك رجل لا يغطيه شيء سوى دثار غليظ بال، وعندئذ توقع أن يكون قلب السيد ميكوبر قد انسحق حزنا وغما مثلما انسحق قلبه هو حزنا وغما.
وبينما قضى ديفيد يوما كئيبا في المستودع؛ ابتهج السيد ميكوبر داخل السجن، ولعب مباراة بولينج مثيرة في عصر ذلك اليوم.
شكل 13-1: تناول ديفيد الغداء مع السيد ميكوبر في السجن.
وفي يوم الأحد التالي، ذهب ديفيد لتناول الغداء معه (حيث كان مسموحا لأصدقاء المدينين بزيارتهم). وقد قابله السيد ميكوبر عند البوابة، وصحبه إلى غرفته الصغيرة، وناشده في جدية أن يعتبر من مصيره؛ وقال له: «لو أن دخل رجل ما عشرون جنيها في السنة، وأنفق منها تسعة عشر جنيها وتسعة عشر شلنا وستة بنسات، فسيكون سعيدا، لكنه إذا أنفق واحدا وعشرين جنيها، فسيقع في التعاسة.»
ثم طلب من ديفيد أن يقرضه شلنا، اشترى به إبريقا من مشروب البرتر الثقيل، وأعطى ديفيد أمرا كتابيا يسلمه للسيدة ميكوبر كي تسدد له المبلغ، ثم جفف دموعه، وأعاد منديله إلى مكانه.
وجلس ديفيد والسيد ميكوبر يتحدثان أمام مدفأة صغيرة داخل شبكة صغيرة صدئة، إلى أن عاد مدين آخر، كان مسجونا مع السيد ميكوبر في حجرته، من الفرن ومعه خاصرة من لحم الضأن تناولها الثلاثة على الغداء؛ وفي بداية فترة بعد الظهر، عاد ديفيد إلى البيت ليخبر السيدة ميكوبر عن أخبار زوجها.
أغمي على السيدة ميكوبر في غمرة قلقها عندما رأت ديفيد قادما؛ وما إن أفاقت من إغمائها حتى صنعت ملء إبريق صغير من العصير ليلطف عنهما أثناء مناقشتهما أحوال السيد ميكوبر.
ثم بيع الأثاث كله تدريجيا؛ إلى أن قررت السيدة ميكوبر في النهاية أن تنتقل، هي وأولادها، إلى السجن، حيث كان السيد ميكوبر قد حصل على حجرة لنفسه الآن؛ وأخذ ديفيد مفتاح البيت إلى صاحب البيت الذي سعد غاية السعادة بالحصول عليه.
لقد اعتاد ديفيد على أسرة ميكوبر بدرجة كبيرة حتى إنه لم يحب أن يبتعد عنهم؛ لذا استؤجرت له غرفة صغيرة خارج أسوار السجن، وكان يتناول إفطاره معهم كل صباح، ويدخل إلى السجن كل ليلة، ويسير في الفناء مع السيد ميكوبر.
وقد عاشت أسرة ميكوبر داخل السجن في راحة أكبر من التي كانت تعيشها خارجه؛ حيث جاء بعض أقاربهم من أجل مساعدتهم في هذا الوقت، وقد ساعدوهم كثيرا؛ بحيث ارتاح ديفيد الآن هو الآخر من قدر كبير من ثقل هموم الأسرة.
لم يسأل السيد ميردستون قط كيف كان ديفيد يقضي وقته، ولم يخبر الصبي قط أي أحد في المستودع. حيث ظل يعيش نفس الحياة في سرية وتعاسة، بينما ثيابه تزداد فقرا في المظهر كل يوم.
ولم يرسل السيد ميردستون له أي رسالة. أما الآنسة ميردستون فأرسلت له مرة أو مرتين، عن طريق السيد كوينين، طردا به ملابس قديمة، وكانت تضع معها قصاصة ورق مكتوب فيها بخط يدها ما معناه: «ترجو ج. م. أن يكون د. ك. مهتما ببذل جهده في العمل، والعناية التامة بمسئولياته.» لا شيء سوى هذا! ولا كلمة واحدة عن أي شيء آخر! ربما لو أصبح الولد مفقودا لما اهتما مطلقا.
الفصل الرابع عشر
ديفيد يتخذ قرارا
وهكذا انقضت الأسابيع والشهور على الوتيرة الكئيبة نفسها، إلى أن أثمرت مساعدة ومشورة أقرباء السيدة ميكوبر عن إطلاق سراح السيد ميكوبر من السجن؛ وأصبح هناك إمكانية أخيرا لحدوث شيء ما على غير توقع للسيد ميكوبر؛ ولكن ليس في لندن - بل بعيد عن لندن، وبينما ديفيد عائد إلى غرفته المستأجرة تلك الليلة، هبط ثقل على قلبه عندما فكر في ابتعاد أصدقائه الوحيدين عنه.
ولم يستطع ديفيد النوم في تلك الليلة؛ فقد اعتاد على أسرة ميكوبر للغاية، وكان ودودا جدا معهم في محنتهم، كما أنه ليس لديه أصدقاء سواهم، إلى جانب أن إمكانية أن يعيش مرة أخرى وسط أناس مجهولين كانت تمثل تعاسة بالنسبة له.
وراح يتأمل كل الخزي والإهانة اللذين عاناهما في العام المنصرم، وصاح بينه وبين نفسه قائلا إن حياته لا تطاق. ألا يوجد أي أمل في الفرار منها؟ لا أمل. لا أمل على الإطلاق؛ ما لم يفر هو بنفسه منها!
الفرار! خطرت الفكرة بباله وهو مستلق يعاني الأرق في فراشه، ويتساءل ماذا عساه يفعل بعد رحيل أسرة ميكوبر؛ وتدريجيا شكلت الفكرة نفسها في صورة قرار نهائي.
كانت أسرة ميكوبر ذاهبة إلى مدينة بليمث في غضون أسبوع، وطوال تلك المدة استأجروا شقة مع ديفيد في المنزل نفسه، وذهب السيد ميكوبر إلى مكتب المحاسبة ليخبر السيد كوينين أنه مضطر لأن يتخلى عن عنايته بديفيد في اليوم الذي سيرحل فيه.
فاستدعى السيد كوينين سائق العربة تب، الذي كان متزوجا، وعنده غرفة للإيجار، وسأله إن كان يستطيع أن يسكن ديفيد فيها. فلم يزد تب على أن سر للغاية، وتركهم ديفيد يقررون الأمر هكذا، ولم يقل شيئا. فقد عقد العزم على الهروب فور رحيل أسرة ميكوبر.
وبالطبع لم يتفوه ديفيد مطلقا بكلمة واحدة عن الموضوع لأي أحد؛ وجعله تكتمه يفكر في الأمر أكثر. إلى أين عساه يذهب؟ لقد سأل نفسه هذا السؤال مائة مرة، وهو يتقلب متأرقا في فراشه؛ وظل مائة مرة يكرر تلك القصة القديمة التي قصتها عليه أمه عن يوم مولده (وهي قصة كانت أمه تحب أن ترويها له، وكان هو يحب أن يسمعها) قصة الآنسة بيتسي تروتوود - عمة والده - التي دخلت المنزل في ذلك اليوم من شهر مارس، الذي اشتدت فيه الرياح، ثم وثبت خارجة منه مرة أخرى، وذلك عندما سمعت أن المولود كان صبيا. «اخلعي قبعتك يا ابنتي، ودعيني أراك ...» لقد سمع القصة مرات عديدة؛ وكيف عندما أطاعتها أمه على الفور، ولكن بيدين متوترتين للغاية، انسدل شعرها الجميل كله على وجهها؛ وكيف صاحت الآنسة بيتسي قائلة بصوت يمتلئ بالإعجاب: «يا إلهي، يا للروعة! إنك صغيرة للغاية!»
لم يستطع ديفيد أن ينسى كيف تخيلت أمه أنها أحست بالآنسة بيتسي تلمس شعرها بيد لا توصف بعدم الرقة، ورغم أن هذا ربما يكون فقط من مخيلة والدته، فقد خرج ديفيد بتصور صغير عن الفكرة؛ إذ رقت العمة البغيضة للجمال الطفولي الذي تذكره هو جيدا، وسامحتها تماما على كونها «دمية شمعية.»
لو أن الآنسة بيتسي علمت بأحزانه، أليس من المحتمل أن تسامحه على أنه ولد صبيا؟
إنه لم يعلم حتى أين تعيش الآنسة بيتسي؛ لذا كتب رسالة طويلة لبيجوتي، وسألها فيها سؤالا ثانويا، إن كانت تتذكر أين مكان بيتها؛ وسألها أيضا إن كانت تستطيع أن تقرضه نصف جنيه، وأخبرها أنه يريده بدرجة كبيرة.
جاء رد بيجوتي في الحال، وجاء معه نصف الجنيه، وكثير من عبارات الود، كما جاء معه أن الآنسة بيتسي تعيش في مدينة دوفر، لكنها لم تكن تدري أفي دوفر نفسها أم في هايث ، أم ساندجيت، أم في فوكستون.
بعد ذلك سأل أحد الرجال في المستودع إن كان يستطيع أن يخبره أين تقع هذه الأماكن الثلاثة الأخيرة، وعندما أخبره الرجل أنها جميعا قريبة من بعضها البعض قرر ديفيد أن يغادر إلى دوفر في نهاية ذلك الأسبوع نفسه.
كان ديفيد يقضي لياليه مع السيد والسيدة ميكوبر، ومع اقتراب موعد رحيلهم ازدادت محبة كل منهم للآخر. في يوم الأحد الأخير استضافوه على العشاء؛ وتناولوا خاصرة من لحم البقر، وصلصة التفاح، وحلوى البودينج؛ وأعطى ديفيد هدايا الوداع للأطفال - حصانا منقطا اشتراه للصغير ويلكينز ميكوبر، ودمية للصغيرة إيما.
وقد أمضوا يوما ممتعا للغاية؛ لكنهم شعروا بالحزن بسبب الفراق القادم.
قالت السيدة ميكوبر: «لن أسترجع، يا سيد كوبرفيلد، تلك الفترة التي عانى فيها السيد ميكوبر من عسر مالي، دون أن أتذكرك. لقد كان تصرفك من أرق وألطف ما يكون. إنك لم تكن مستأجرا؛ بل كنت صديقا.»
رد السيد ميكوبر: «إن عزيزي كوبرفيلد يمتلك قلبا يرق لآلام أمثاله من الناس عندما تغشاهم سحب الأزمات، وعقلا يدبر، ويدا ... باختصار، إن لديه موهبة شاملة في بيع الأشياء المتاحة وغير الضرورية.»
كما رجا السيد ميكوبر أن يتذكر ديفيد هذه النصيحة دائما: «الدخل السنوي عشرون جنيها، الإنفاق السنوي تسعة عشر جنيها وتسعة عشر شلنا وستة بنسات، النتيجة سعادة. الدخل السنوي عشرون جنيها، الإنفاق السنوي عشرون جنيها ووستة بنسات، النتيجة تعاسة.»
تأثر ديفيد كثيرا، ووعده بتذكر هذه الوصايا؛ وفي صباح اليوم التالي التقى بالأسرة كلها في مكتب حجز عربة السفر، ثم راح ينظر إليهم خارج المكتب، بقلب حزين، وهم يأخذون أماكنهم في الجزء الخلفي من العربة.
قالت السيدة ميكوبر: «سيد كوبرفيلد، ليباركك الله! لن أستطيع أبدا أن أنسى كل ما تعرفه، ولو استطعت فلم أكن لأفعل أبدا.»
قال السيد ميكوبر: «الوداع يا كوبرفيلد! أتمنى لك كل سعادة ونجاح! وفي حال حدث أي شيء على غير توقع (وأنا واثق تمام الثقة من هذا)، فسيسعدني غاية السعادة - إذا أصبح ذلك في استطاعتي - أن أحسن من إمكانياتك .»
وأثناء جلوس السيدة ميكوبر مع الأطفال في الجزء الخلفي من العربة، ورؤيتها ديفيد في الطريق وهو ينظر بحزن إلى الأعلى، بدا فجأة أنها أفاقت على حقيقة أنه لم يكن سوى صبي صغير للغاية؛ وذلك لأنها أشارت له كي يعتلي العربة، وبتعبير جديد وحنون على وجهها، طوقت عنقه بذراعها، وقبلته بالطريقة نفسها التي كان من الممكن أن تقبل بها أحد أبنائها.
وتمكن ديفيد بصعوبة من النزول مرة أخرى قبل انطلاق العربة، واستطاع بصعوبة أيضا أن يرى الأسرة من وراء المناديل التي كانوا يلوحون بها.
لقد اختفت العربة في لحظة؛ وانصرف ديفيد ليبدأ يومه المرهق في مستودع ميردستون وجرينبي.
ولأنه كان صبيا أمينا للغاية، ولأنه لم يرغب في جعل الذكرى التي سيخلفها وراءه مشوبة بما يشينه، فقد رأى نفسه ملزما أدبيا بالبقاء حتى مساء السبت؛ ولأنه تقاضى أجرة أسبوع مقدما في بداية مجيئه إلى هناك، لم يكن ينوي أن يظهر في مكتب المحاسبة لأخذ راتبه. لهذا السبب الخاص اقترض نصف الجنيه، كي يكون معه بعض المال من أجل نفقات سفره.
وهكذا عندما أقبل مساء يوم السبت، وكانوا جميعا ينتظرون في المستودع لقبض رواتبهم، وعندما دخل تب، سائق العربة، أولا لسحب ماله، صافح ديفيد مك ووكر، وطلب منه أن يخبر السيد كوينين أنه ذهب لنقل حقيبته إلى منزل السيد تب؛ ثم ودع ميلي بوتيتوز وداعا أخيرا، وبعد ذلك هرب.
وأثناء فراره إلى حجرته، أخذ يبحث عن شخص ما كي يساعده في حمل حقيبته إلى مكتب حجز عربة مدينة دوفر، وراح يدقق النظر في شاب طويل الرجلين يركب عربة يجرها حمار وليس عليها حمولة في طريق بلاكفرايرز.
قال الشاب: «حسن، يا عديم الفائدة، لقد حفظت شكلي جيدا، وتستطيع تأكيد هويتي أمام القضاة.»
قال ديفيد إنه إنما نظر إليه لأنه يظنه ربما يحب أن يؤدي عملا.
قال الشاب الطويل الرجلين: «أي عمل هذا؟»
قال ديفيد: «تنقل حقيبة.» «أي حقيبة؟»
أخبره ديفيد عنها، وأخبره أنها في الشارع المقبل، وأنه سيعطيه ستة بنسات لينقلها له إلى مكتب حجز عربة مدينة دوفر.
قال الشاب الطويل الرجلين: «اتفقنا على ستة بنسات.» وركب عربته مباشرة وانطلق، محدثا خشخشة، بسرعة كبيرة بذل ديفيد معها وسعه كي يواكب سرعة الحمار.
صعد الاثنان إلى حجرته الصغيرة وأنزلا الحقيبة معا، وطلب منه ديفيد أن يتوقف لحظة عندما وصل إلى الحائط المسدود لسجن كينجز بينش، حيث أراد أن يضع بطاقة عنوان على الحقيبة؛ لأنه لم يرد أن يضعها وهو في المنزل، مخافة أن يرى أي من أفراد أسرة صاحب المنزل العنوان، ويخمنوا ما الذي كان ينوي فعله.
انطلق الشاب مرة أخرى، وعانى ديفيد كثيرا كي يلحق به في المكان المحدد.
من شدة ما كان فيه ديفيد من الإثارة والحماس أسقط نصف الجنيه من جيبه وهو يخرج البطاقة؛ لكنه وضعه في فمه ليؤمنه، وما إن ربط البطاقة بيدين مرتعشتين على حقيبته حتى أحس بضربة عنيفة تحت ذقنه يسددها له الشاب ذو الرجلين الطويلتين، ورأى نصف الجنيه يطير من فمه إلى يد الشاب.
صاح الشاب، وهو يمسك ديفيد من ياقة سترته، وعلى وجهه تكشيرة مرعبة: «ماذا! هذه قضية يجب رفعها للشرطة، أليس كذلك؟ سوف تهرب، أليس كذلك؟ هيا إلى الشرطة، أنت أيها المؤذي الصغير، هيا إلى الشرطة!»
قال ديفيد، وهو يشعر بذعر شديد: «أعد إلي مالي، أرجوك، ودعني وشأني.»
أعاد الشاب كلامه قائلا: «هيا إلى الشرطة! يجب أن تثبت للشرطة أنه مالك.»
صاح ديفيد وهو ينفجر في البكاء: «أعطني حقيبتي ومالي، من فضلك.»
رد عليه الشاب بالكلام نفسه: «هيا إلى الشرطة!» ويده قابضة على ياقة ديفيد، لكنه غير رأيه، فقفز إلى العربة، وجلس فوق الحقيبة، وصرخ قائلا إنه سيذهب إلى الشرطة مباشرة، وانطلق بالعربة أسرع من ذي قبل.
جرى ديفيد وراءه بأسرع ما يمكنه، لكن نفسه لم يساعده على النداء. لقد كاد يدهس عشرين مرة على الأقل في مسافة نصف ميل. وظل مرة يفقده، ومرة يراه، ومرة يفقده من جديد، ومرة يسقط في الطين، ومرة يصطدم بذراعي شخص ما، ومرة يصطدم برأسه في أحد الأعمدة.
أخيرا، وبسبب ما أصابه من ارتباك من الرعب والحر، لم يعد يستطيع أن يجري؛ وظل يلهث ويبكي، لكنه لم يتوقف مطلقا عن الجري، وأثناء ذلك انعطف إلى منطقة جرينيتش، والتي علم أنها كانت في طريق مدينة دوفر، وفي رأسه فكرة جامحة تدعوه لمواصلة الجري حتى يجد عمته.
الفصل الخامس عشر
رحلته الزاخرة بالأحداث
لكن وعيه الذاهل عاد إليه بعدما وصل إلى طريق كينت روود؛ فجلس ديفيد على عتبة باب منزل من مجموعة منازل متلاصقة هناك، وكان مرهقا ومنهكا للغاية، وراح يتساءل ماذا عساه يصنع.
كان الظلام قد حل في هذا الوقت، ودقت الساعات معلنة تمام العاشرة عندما جلس يستريح على العتبة؛ لكن من حسن الحظ أنها كانت ليلة صيفية، والجو جميل.
ورغم كل ما كان فيه من الأسى لم ينو الرجوع؛ ولم يخطر بباله قط أن يرجع؛ وحالما التقط أنفاسه نهض وواصل السير.
ولم يكن في جيبه سوى ثلاث قطع نقدية من فئة نصف البنس، تبقت من الأجرة التي تقاضاها في الأسبوع الفائت؛ لكنه ظل يمشي مجهدا على نحو بائس، إلى أن مر مصادفة على محل صغير مكتوب فوق بابه أنه يشتري الملابس الرجالية والنسائية المستعملة. فأوحت لديفيد تجربته الصغيرة مع السيد والسيدة ميكوبر أن هذا المكان ربما يكون وسيلة لزيادة نقوده الضئيلة؛ لذا توجه إلى الشارع الجانبي المجاور، وخلع الصديري الذي يرتديه، وطواه بشكل أنيق تحت ذراعه، وعاد إلى باب المحل، حيث كان صاحب المحل جالسا يدخن وهو يرتدي قميصا بلا سترة فوقه.
قال ديفيد: «من فضلك، أريد بيع هذا بسعر مقبول.»
تناول السيد دولوبي - كان دولوبي هو الاسم المكتوب فوق باب المحل - الصديري، وأوقف غليونه على قاعدته مقابل حافة الباب، ودخل إلى المحل، وتبعه ديفيد، حيث أزال السيد دولوبي الجزأين المحترقين من فتيلي شمعتين بأصابعه، وبسط الصديري على المنضدة، وراح ينظر إليه، ثم رفعه في الضوء، وراح ينظر إليه، ثم قال: «ما السعر الذي تطلبه في هذا الصديري الصغير؟»
رد ديفيد بتواضع: «أوه! أنت أعلم مني يا سيدي.»
قال السيد دولوبي : «لا يمكنني أن أكون مشتريا وبائعا أيضا، حدد سعرا لهذا الصديري الصغير.»
لمح ديفيد بعد شيء من التردد: «هل ثمانية عشر بنسا ...»
طواه السيد دولوبي ثانية، وأعاده له. وقال: «لو دفعت فيه تسعة بنسات حتى فسأكون قد سرقت من قوت أسرتي.»
خاب رجاء ديفيد، لكن لم يكن من الأمر بد؛ وقال إنه سيأخذ تسعة بنسات ثمنا للصديري. فأخرج السيد دولوبي تسعة بنسات، دون أن يمنع نفسه من بعض التذمر. وتمنى له ديفيد ليلة سعيدة، وخرج من المحل والمال في يده، وأغلق أزرار سترته على قميصه.
ظل ديفيد يمشي دون انقطاع وهو مجهد إلى أن وصل إلى مقاطعة بلاكهييث - بلاكهييث، حيث توجد مدرسته القديمة؛ سيلم هاوس - وأحس أنه يريد أن ينام هذه الليلة وراء السور عند الجزء الخلفي من المدرسة، في ركن كانت توضع فيه كومة تبن كبيرة. حيث تصور ديفيد أن قربه الشديد من الأولاد، ومن غرفة النوم التي كان يحكي فيها القصص سيؤنسه نوعا ما.
كان ديفيد قد قضى يوما شاقا في العمل، وأصبح مرهقا للغاية، لكنه أخيرا وجد مدرسة سيلم هاوس. فراح يدور بحذر حول السور القديم، وينظر إلى النوافذ ليرى إن كانت جميع الأضواء مطفأة. وبعد ذلك وجد الركن الذي فيه التبن هناك، واستلقى على الأرض إلى جواره، لأول مرة في حياته، دونما سقف فوق رأسه.
وقد نام ديفيد نوما عميقا؛ إذ كان منهك القوى، ورأى نفسه في الحلم ينام على سرير مدرسته القديم، ويتحدث مع الأولاد في الغرفة؛ واستيقظ فزعا يصيح «ستيرفورث! ستيرفورث!» ووجد نفسه جالسا ممدد الرجلين على الأرض، يحدق في النجوم المضيئة المتلألئة فوقه.
وأحس ديفيد بخوف لا يعرف مصدره؛ إذ إن الليل موحش وساكن للغاية، فنهض وراح يتجول؛ لكنه كان متعبا جدا، وبعد قليل رقد مرة أخرى، ونام حتى أيقظه رنين جرس الاستيقاظ في مدرسة سيلم هاوس.
كان يود لو أن هناك أملا في رؤية ستيرفورث يخرج من المدرسة، أو حتى ترادلز؛ لكن هذا كان محفوفا بمخاطر كبيرة، فانسل بعيدا بينما طلاب السيد كريكل يستيقظون من نومهم، وانطلق يسير على الطريق الطويل المغبر الذي علم أنه طريق مدينة دوفر عندما كان واحدا منهم.
إنه صباح يوم الأحد، وقد سمع ديفيد أجراس الكنيسة تدق بينما هو يمشي متثاقلا، وقابل في طريقه الناس الذاهبين إلى الكنيسة. فاشترى ديفيد بعض الخبز، وظل يواصل السير، حيث قطع في ذلك اليوم ثلاثة وعشرين ميلا، مر خلالها على كثير من المسافرين سيرا بالأقدام.
وقد أغراه بيت أو بيتان صغيران تتدلى خارجهما لافتة مكتوب عليها «غرف للمسافرين» بالمبيت هناك؛ لكنه كان يخشى أن ينفق البنسات القليلة التي معه، وواصل التقدم بمشقة حتى وصل إلى بلدة تشاتم، وزحف في النهاية فوق شيء يشبه منصة المدفع مكسو بالعشب وبارز من بين أحد الأزقة، حيث كان هناك خفير يسير ذهابا وإيابا. فرقد بقرب أحد المدافع، وهو مسرور برفقة خطى الخفير، ونام نوما عميقا حتى الصباح.
لكن قدمه كانت متيبسة ومتقرحة، وأصيب بدوار شديد من قرع الطبول ومسيرات الجند، وأحس أنه لن يستطيع أن يتقدم كثيرا في رحلته ذلك اليوم.
ولم يتبق معه سوى قليل من البنسات، ورأى أن أفضل شيء يمكنه فعله، قبل ارتحاله عن تشاتم، أن يبيع سترته. لذا خلعها وحملها تحت ذراعه - وهو سعيد أنه كان في الصيف وأن الجو دافئ - وبدأ يبحث عن محل مناسب.
كان يوجد الكثير من محلات الملابس المستعملة في كل مكان؛ لكنه أراد أن يعثر على مكان صغير مثل محل السيد دولوبي؛ وفي النهاية تجرأ ودخل محلا صغيرا متواضعا عند ناصية زقاق قذر. تعين عليه أن ينزل درجتين أو ثلاثة ليدخل إلى هناك، فنزل وقلبه يخفق.
حيث صاح رجل عجوز قبيح: «أوه، ماذا تريد؟» وأمسك ديفيد من شعره.
كان رجلا عجوزا شكله مخيف، ويرتدي صديريا قذرا من الصوف، وتفوح منه رائحة كريهة جدا بسبب شراب الرم. «آه يا عيناي، آه يا أطرافي، ماذا تريد؟ آه يا رئتاي آه يا كبدي، ماذا تريد؟ أوه، كح، كح!»
كانت الكلمة الأخيرة كالحشرجة في حلقه.
قال ديفيد وهو يرتعد : «كنت أريد أن أعرف إن كنت ترغب في شراء سترة؟»
صاح الرجل العجوز: «حسنا، هات السترة! آه لقلبي الذي تأكله النار، أرني السترة! آه يا عيناي، آه يا أطرافي، أخرج السترة!»
وهنا أخرج يديه المرتعشتين، اللتين كانتا كمخلبي طائر ضخم، من شعر ديفيد، ووضع نظارة على عينيه.
صاح الرجل العجوز، بعدما فحصها: «حسنا، كم ثمن السترة؟ أوه، كح! كم ثمن السترة؟»
رد ديفيد مستجمعا شجاعته: «نصف كراون.»
صاح الرجل العجوز: «آه يا رئتاي آه يا كبدي! آه يا عيناي، لا! آه يا أطرافي، لا! بل ثمانية عشر بنسا. كح!»
كان يتكلم بطريقة رتيبة نوعا ما تنتهي بطبقة صوت ذات درجة عالية، وفي كل مرة يقول «كح» كانت عيناه تبدوان وكأنهما تقفزان خارج رأسه.
قال ديفيد متلعثما، وقد سره أن أنهى الصفقة: «سآخذ الثمانية عشر بنسا.»
صاح الرجل العجوز، وهو يلقي بالسترة على أحد الأرفف: «آه يا كبدي! اخرج من المحل! آه يا رئتاي، اخرج من المحل! آه يا عيناي، آه يا أطرافي - كح - لا تطلب مالا؛ فلنتقايض.»
كان ديفيد مذعورا للغاية؛ لكنه قال له بتواضع إنه يريد مالا، وإنه ما من شيء آخر سيفيده، ولكنه سينتظره، كما أراد، خارج المحل، وإنه لا يرغب في استعجاله. وهكذا خرج من المحل، وجلس في الظل عند الزاوية.
بعد قليل جاء الأولاد الذين في الشوارع يناوشون البائع عند المحل، وراحوا يصيحون قائلين إن الرجل العجوز قد باع روحه للشيطان، ويزعقون قائلين: «إنك لست فقيرا، يا تشارلي، كما تدعي. أخرج ذهبك. هيا! إنه في بطانة الفراش، يا تشارلي. هيا مزقه ودعنا نأخذ بعض الذهب.»
ثم أرادوا أن يعطوه سكينا ليفعل ما طلبوه منه، لكن هذا أسخطه كثيرا لدرجة أنه خرج من المحل مسرعا يجري خلفهم، وجعلهم يهربون بعيدا.
ظل الأولاد طوال اليوم يضايقونه حينا بعد حين، وظل هو طوال اليوم يهجم عليهم هجمات مفاجئة مسعورة.
حاول الرجل العجوز مرارا أن يقنع ديفيد بالموافقة على المقايضة، وخرج ذات مرة بقصبة صيد، لكن ديفيد رفضها، وتوسل إليه والدموع في عينيه أن يعطيه المال أو السترة؛ بعد ذلك خرج بآلة كمان، ثم بقبعة مرفوعة الحافة، ثم بمزمار؛ لكن ديفيد رفضها جميعا، وجلس في يأس.
في النهاية، وكي يتخلص منه الرجل العجوز، بدأ يدفع له نصف بنس بنصف بنس، حتى وصل المبلغ إلى شلن كامل خلال ساعتين.
شكل 15-1: كان يندفع خارج المحل ويجري خلفهم ويجعلهم يفرون.
وبعد فترة صمت طويلة، راح يختلس النظر خارج المحل وقد بدا منظره بشعا، وصاح قائلا: «آه يا عيناي، آه يا أطرافي! هل ستقبل ببنسين إضافيين؟»
قال ديفيد: «لا أستطيع، لو فعلت هذا فسأتضور جوعا.» «آه يا رئتاي آه يا كبدي! هل ستقبل بثلاثة بنسات؟»
قال ديفيد: «لو كان أستطيع لرضيت من دون أي شيء، لكنني في أشد الحاجة إلى المال.» «يا إلهي، كه ... كح! هل ستقبل بأربعة عشر بنسا؟»
كان ديفيد خائر القوى ومنهكا للغاية؛ فقد جلس هناك طيلة اليوم، لذا قبل بهذا العرض؛ وأخذ المال من مخلبه بيد لم تخل من ارتجاف، وانصرف وهو يشعر بجوع وعطش لم يشعر بمثلهما قبل ذلك قط، وأنفق ثلاثة بنسات على الشاي؛ وعندما أحس بتحسن مزاجه بعد ذلك، راح يسير وهو يعرج حتى قطع سبعة أميال من طريقه، إلى أن وصل إلى جدول ماء صغير غسل فيه قدميه اللتين تؤلمانه، ثم رقد تحت كومة تبن كبيرة ليقضي تلك الليلة.
امتد طريقه في صباح اليوم التالي بين سلسلة متوالية من حقول الجنجل والبساتين. حيث كانت ثمار التفاح الناضجة تتدلى من الأشجار، بينما عمال جني نبات الجنجل منهمكون في العمل. وقد رأى ديفيد المكان جميلا، فقرر أن ينام بين نباتات الجنجل تلك الليلة. لكن المسافرين سيرا على أقدامهم الذين قابلهم في الطريق أخافوه، لأن بعضهم راح ينظر إليه بشراسة شديدة.
إذ التفت رجل شرس المنظر - يعمل سمكريا - ترافقه امرأة، وحدق في الصبي، ثم صرخ بصوت هائل طالبا منه أن يعود، مما جعل ديفيد يتوقف وينظر وراءه.
قال السمكري: «تعال إلى هنا عندما أناديك، وإلا شققت بدنك الصغير.»
أحس ديفيد أن من الأفضل أن يعود، وبينما يسير لاحظ أن عين المرأة كانت سوداء.
قال السمكري وهو يمسك قميص ديفيد بيده المسودة: «إلى أين أنت ذاهب؟» «أنا ذاهب إلى دوفر.»
سأله السمكري وهو يحكم قبضته على القميص: «ومن أين أنت؟»
قال ديفيد: «من لندن.» «ماذا تعمل؟ هل أنت لص؟»
قال ديفيد: «ل... لا.»
قال السمكري: «لو تباهيت علي بأمانتك سأكسر رأسك. هل معك ثمن كوب من الجعة؟ لو كان معك فأخرجه قبل أن آخذه أنا.»
كان ديفيد سيخرجه على الفور، لولا أن هزت المرأة رأسها له هزا رفيقا وحركت شفتيها دون صوت بكلمة «لا.»
قال ديفيد: «أنا فقير جدا، وليس معي مال.»
قال السمكري، وهو ينظر له بتجهم شديد، لدرجة أن ديفيد كاد يخشى أن يكون قد رأى المال في جيبه: «ماذا! ماذا تقصد؟»
قال الصبي متلعثما: «سيدي.»
قال السمكري: «ماذا تقصد بارتداء منديل أخي الحريري؟ هاته الآن!» وخلعه من على رقبة ديفيد في الحال، ورمى به إلى المرأة.
أخذت المرأة نوبة من الضحك، وكأنها حسبت أن هذه مزحة، وقذفت المنديل مرة أخرى إلى ديفيد، وأومأت برأسها إيماءة خفيفة، مثلما فعلت من قبل، وحركت شفتيها من دون صوت بكلمة «اذهب.»
لكن السمكري جذب المنديل من يد الصبي، وأرخاه على رقبته هو، والتفت إلى المرأة وسبها، وضربها.
أرعبت هذه المغامرة ديفيد كثيرا، لدرجة أنه عندما كان يرى أيا من هؤلاء الناس قادما فيما بعد، كان يرتد راجعا إلى أن يجد مخبأ، فيختبئ فيه حتى يغيبوا عن نظره.
ظل ديفيد يواصل السفر سيرا على قدميه، لكن، رغم كل الصعوبات التي واجهها في رحلته، فقد كان يريحه ويحدوه إلى المواصلة الصورة التي تخيلها لعمته الصارمة وهي تلين تحت تأثير جمال والدته الشابة الفاتنة، وتضع يدها برفق على شعرها الجميل.
كانت تلك الصورة ترافقه عندما استلقى لينام بين نباتات الجنجل؛ وحتى عندما استيقظ في الصباح؛ وظلت أمامه طوال اليوم.
الفصل السادس عشر
كيف استقبلته الآنسة بيتسي
أخيرا، وفي اليوم السادس بعد هروبه، وصل إلى مدينة دوفر؛ حيث وقف بحذائه البالي، وجسمه المكسو بنصف الملابس، الذي لفحته الشمس وعلاه التراب، وبدا أن الصورة الخيالية قد تلاشت كما يتلاشى الحلم، وشعر بخوف وتشاؤم.
قابل ديفيد بعض الصيادين وسألهم إن كان بإمكانهم أن يخبروه أين تعيش الآنسة تروتوود. قال أحدهم إنها تعيش في منارة ساوث فورلاند لايت، وإن هذا قد تسبب في حرق سالفيها حرقا سطحيا؛ وقال آخر إنها قد ربطت بإحكام في الشمندورة الكبيرة خارج الميناء، ولا يمكن زيارتها إلا عند المد النصفي؛ وقال آخر إن بعض الناس قد رأوها راكبة على مكنسة عندما هبت الرياح الشديدة الأخيرة، وإنها توجهت مباشرة إلى مدينة كاليه الفرنسية.
بعد ذلك سأل سائقي عربات الأجرة، فسخروا منه أيضا؛ ثم سأل أصحاب المتاجر، لكنهم، ودون أن يسمعوه، قالوا إنه ليس لديهم ما يقولونه له.
لقد نفدت نقوده كلها، ولم يكن يستطيع أن يستغني عن أي ملابس أخرى ليبيعها. وهو يشعر بالجوع والعطش والإرهاق، وكان أكثر تعاسة وحرمانا من أي وقت مضى.
جلس ديفيد ليستريح على عتبة محل خال قرب ساحة السوق، وبينما هو كذلك مر سائق عربة أجرة من أمامه وسقط منه غطاء حصانه. فناوله ديفيد إياه، وكان في وجه الرجل شيء من الود شجع ديفيد على أن يسأله إن كان يعرف مكان سكن الآنسة تروتوود.
قال الرجل: «تروتوود، دعني أتذكر، أنا أعرف هذا الاسم. إنها سيدة كبيرة، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «بلى، كبيرة نوعا ما.» «ظهرها متيبس نوعا ما، أليس كذلك؟»
من جديد قال ديفيد بلى. «وتحمل حقيبة، وهي سيدة فظة، وتعنف الناس بقسوة؟»
وقع قلب ديفيد داخل صدره؛ حيث كانت هذه هي أوصافها التي حدثته عنها بيجوتي ووالدته.
قال الرجل: «اسمع، إذا صعدت بهذا الاتجاه،» وأشار بسوطه إلى المرتفعات، «وظللت تسير حتى تصل إلى بعض المنازل التي تواجه البحر، فأظن أنك ستعرف مكانها. وبرأيي أنها لن تقبل استضافتك، لذا خذ هذا البنس.»
قبل ديفيد البنس شاكرا، واشترى به رغيفا صغيرا، وبدأ يأكله وهو متوجه إلى حيث أرشده الرجل، حتى وصل إلى المنازل التي تواجه البحر. وهناك دخل محلا صغيرا قريبا منه، وسأل الرجل الواقف خلف طاولة البيع، والذي كان يزن بعض الأرز لإحدى الفتيات، إن كان يعرف أين تسكن الآنسة تروتوود.
أسرعت الفتاة تقول: «سيدتي؟ ماذا تريد منها أيها الصبي؟» «أريد التحدث معها، إذا سمحت.» «لتشحذ منها، هذا ما تقصده.»
قال ديفيد: «لا، في الواقع.» وحينئذ احمر وجهه للغاية من شدة الحياء، ولم يقل شيئا آخر.
وضعت الفتاة الأرز في سلة صغيرة وخرجت من المحل، وقالت لديفيد إنه بإمكانه أن يتبعها إذا كان يريد أن يعرف أين تعيش الآنسة تروتوود.
لم يحتج ديفيد لإذن آخر، وتبعها إلى أن وصلا بعد قليل إلى بيت صيفي صغير جميل جدا له نوافذ قوسية مبهجة؛ وأمامه فناء أو حديقة صغيرة مربعة الشكل مكسوة بالحصى ومليئة بالأزهار، والتي تحظى بعناية دقيقة وتفوح منها روائح مبهجة.
قالت الفتاة: «هذا هو منزل الآنسة تروتوود، الآن قد عرفته، وهذا كل ما أستطيع قوله.» وأسرعت بالدخول إلى المنزل، تاركة ديفيد أمام البوابة ينظر بحزن من فوقها ناحية نافذة الردهة؛ حيث رأى كرسيا كبيرا جعله يتخيل أن عمته ربما تكون جالسة في تلك اللحظة في حالة مروعة.
كانت رجلاه ترتجفان من تحته. وحذاؤه في حالة مثيرة للشفقة. وقبعته متغضنة منحنية. أما قميصه وبنطاله الملطخان بسبب الحر والعرق والعشب - فضلا عن أنهما كانا ممزقين - كانا من الممكن أن يفزعا الطيور فلا تقترب من حديقة الآنسة تروتوود، وقد وقف كأنه فزاعة عند بوابة الحديقة. كما لم يكن شعره قد صفف أو مشط منذ غادر لندن. وتحولت بشرته إلى اللون البني من لفح الشمس. وهو مغطى من رأسه إلى قدميه بغبار أبيض. فأخذت ديفيد رجفة عندما فكر في تقديم نفسه بهذه الحال لعمته المرعبة.
وفي واحدة من النوافذ العليا رأى ديفيد فجأة رجلا متورد الوجه، حسن المنظر، أشيب الشعر؛ وقد غمز له بعينه، وأومأ برأسه، وضحك، ثم انصرف.
أقلقه هذا التصرف الغريب للغاية لدرجة أنه فكر في أن ينسل بعيدا؛ وفي تلك اللحظة خرجت من المنزل سيدة تعقد وشاحها فوق قبعتها، وفي يديها قفازان من قفازات الحدائق، وقد ربطت حول خاصرتها جرابا يشبه مريلة محصل الضرائب، وهي تحمل في يدها سكينا كبيرة. فأدرك ديفيد على الفور أنها الآنسة بيتسي، لأنها خرجت من المنزل تمشي ببطء واختيال تماما كما وصفتها أمه مرارا بأنها جاءت تمشي ببطء واختيال في حديقة منزل روكاري في قرية بلاندستن.
قالت الآنسة بيتسي، وهي تهز رأسها، وتشق الهواء شقا طويلا بسكينها: «انصرف! ارحل! لا أولاد يأتون هنا!»
فنظر إليها ديفيد وقلبه يكاد يخرج من فمه من شدة الخوف، وذلك عندما سارت إلى أحد أركان حديقتها، وتوقفت لتقتلع جذرا صغيرا لأحد النباتات هناك. حينئذ، دفع اليأس ديفيد إلى التهور، وتقدم برفق حتى وقف إلى جوارها، ولمسها بأصبعه.
وبدأ يقول: «من فضلك يا سيدتي.»
قفزت الآنسة بيتسي من مكانها ورفعت عينيها. «من فضلك يا عمتي.»
صرخت الآنسة بيتسي بنبرة ملأها الدهشة: «ماذا؟» «من فضلك يا عمتي، أنا ابن أخيك.»
قالت الآنسة بيتسي: «يا إلهي، يا رحمن!» وافترشت أرض ممر الحديقة. «أنا ديفيد كوبرفيلد، من قرية بلاندستن، من مقاطعة سافك؛ حيث أتيت، ليلة مولدي، ورأيت والدتي الغالية. إنني في غاية الحزن منذ ماتت. لقد تجاهلونني، ولم يعلموني شيئا، وتركوني أواجه الحياة بنفسي، ووضعوني في عمل لا يناسبني. لقد جعلني هذا أفر إليك. حيث تعرضت للسرقة في بداية رحلتي، ومشيت الطريق كله على قدمي، ولم أنم على سرير قط مذ بدأت الرحلة.» وهنا أخذته نوبة بكاء، وظل يبكي وكأنما قلبه سينفطر.
ظلت الآنسة بيتسي تحدق فيه في ذهول حتى بدأ يبكي، وهنا نهضت مسرعة، وأمسكت به، وأدخلته إلى الردهة، وفتحت خزانة طويلة، وأخرجت منها عدة زجاجات وأخذت تصب من كل واحدة منها في فمه. وبعد ذلك أرقدته، وهو لا يزال يبكي، على الأريكة، ووضعت شالا تحت رأسه، والمنديل الذي في رأسها تحت قدميه، خشية أن يوسخ الغطاء؛ ثم جلست، وظلت تهتف مرة بعد مرة: «ارحمنا يا الله!» وراحت تطلق تلك الهتافات مثلما تطلق البنادق طلقاتها في الجنازات العسكرية.
وبعد مدة دقت الجرس؛ وقالت للفتاة التي قابلته في المحل: «جانيت، اصعدي إلى الطابق العلوي، واحملي تحياتي للسيد دك، وأخبريه أني أود التحدث معه.»
راحت جانيت تحدق في دهشة إلى ديفيد الممدد على الأريكة متيبس الجسد، لكنها ذهبت تبلغ الرسالة، بينما راحت الآنسة بيتسي تذرع الغرفة ذهابا وإيابا إلى أن جاء الرجل الذي كان قد غمز له من النافذة العلوية ودخل الردهة وهو يضحك.
فقالت الآنسة بيتسي: «سيد دك، لا تتحامق، لأنه ما من أحد يستطيع أن يكون أكثر حكمة منك، عندما تريد هذا. لذا لا تتحامق، مهما حدث.»
أصبح الرجل جادا فجأة.
وقالت الآنسة بيتسي: «سيد دك، لقد سمعتني وأنا أذكر ديفيد كوبرفيلد، أليس كذلك؟ والآن لا تدعي أنه ليست لديك ذاكرة، لأنني أعرف أنك تتذكر كل شيء.»
قال السيد دك: «ديفيد كوبرفيلد؟ ديفيد كوبرفيلد؟ يا إلهي، بلى، بالتأكيد، ديفيد بلا شك.»
قالت الآنسة بيتسي: «حسنا، هذا ولده؛ ابنه. كان سيشبه أباه أشد ما يمكن أن يكون الشبه، إذا لم يكن شبيها جدا بأمه كذلك.»
قال السيد دك: «ابنه؟ ابن ديفيد؟ حقا.»
تابعت الآنسة تروتوود كلامها قائلة: «نعم، وقد تصرف تصرفا رائعا. لقد هرب. والسؤال الذي أطرحه عليك هو، ماذا أفعل معه؟»
قال السيد دك متأملا: «يا للعجب، لو كنت مكانك، لكنت» - ونظر إلى بدن ديفيد المتسخ - «لكنت نظفته.»
قالت الآنسة بيتسي: «جانيت، لقد أرشدنا السيد دك للتصرف السليم. سخني الحمام.»
ذهبت جانيت لتجهز الحمام، وفجأة تجهمت الآنسة بيتسي وبدا عليها السخط، وصاحت: «جانيت! أبعدي الحمير!»
وهنا أسرعت جانيت على السلم وكأنما كان المنزل يحترق، واندفعت كالسهم إلى أرض خضراء صغيرة أمام المنزل، وأخذت تبعد حمارين مسرجين، تمتطيهما سيدتان، وقد تجرأتا على جعل حماريهما يطآن الأرض بحوافرهما؛ بينما اندفعت الآنسة بيتسي خارج المنزل، وأمسكت لجام حمار ثالث، يركبه طفل، وأخرجته من الأرض، ولطمت أذني الولد صاحب الحمير الذي تجرأ على إحضارها إلى هنا.
لم يعلم ديفيد قط إن كان لعمته أي حق قانوني في المرور دون الآخرين في تلك الأرض؛ لكنها قررت أنها تمتلك ذلك الحق، وكانت تنفق ساعات من وقتها في إبعاد الحمير. وقد تكرر هجوم الحمير المباغت ثلاث مرات قبل أن يجهز الحمام، وتكرر إسراع الآنسة بيتسي وجانيت بالخروج من المنزل لإبعاد الحمير.
وقد أراح الاغتسال ديفيد للغاية، لأن عظامه كانت تؤلمه بسبب النوم في عراء الحقول؛ وبعدما اغتسل، ألبسته الآنسة بيتسي وجانيت قميصا وبنطالا من ملابس السيد دك، ووضعتا حول جسده شالين كبيرين أو ثلاثة؛ وقدمتا له بعض الحساء ليشربه، وأجلستاه على الأريكة، حيث غرق في النوم سريعا. وبينما هو نائم رأى في حلمه فيما يبدو أن الآنسة بيتسي جاءت وانحنت فوقه، وأبعدت شعره عن وجهه، ووضعت رأسه في وضع مريح أكثر، وهمست تقول: «الفتى الجميل!» و«الفتى المسكين!» وهي تنظر إليه.
استيقظ ديفيد أخيرا، وعندئذ جلسوا يتناولون ديكا مشويا وحلوى البودينج على الغداء، حيث جلس ديفيد على المائدة وقد بدا هو نفسه وكأنه ديك مكتف، وهو ملفوف في بنطال وقميص السيد دك، وشيلان الآنسة بيتسي.
كان ديفيد متلهفا جدا لمعرفة ما ستفعله معه الآنسة تروتوود؛ لكنها تناولت غداءها في صمت، ولم تزد على أن ظلت تهتف بقولها «ارحمنا يا الله!» كلما وقعت عيناها عليه.
كانت الآنسة بيتسي امرأة طويلة القامة قاسية الملامح، لكنها جميلة أيضا، رغم ما كانت تبدو عليه من تجهم شديد. ولها عينان متألقتان للغاية وشعرها أشيب اللون، وهي ترتدي فستانا بلون نبتة اللافندر شديد الأناقة، مثل كل شيء آخر في المنزل.
وكان رأس السيد دك الأشيب منحنيا بطريقة لافتة للنظر، وعيناه الواسعتان تنظران نظرات بلهاء حولهما، بينما هو يخشخش بنقوده في جيبيه، وكأنما يفتخر جدا بذلك. فاعتقد ديفيد أنه يبدو مخبولا بعض الشيء.
وفي النهاية أزيل غطاء المائدة، ووضع عليها بعض عصير الكريز، الذي شرب منه ديفيد كأسا؛ ثم بعد ذلك جعلته الآنسة بيتسي يقص عليها كل ما حدث له، وراحت تسأله أسئلة كثيرة، وتأمر السيد دك بالإنصات لردوده جيدا.
فقالت الآنسة بيتسي، بعدما انتهى ديفيد من سرد قصته: «ما الذي دفع تلك الطفلة المسكينة التعيسة كي تتزوج من جديد! لست أدري.»
قال السيد دك: «ربما وقعت في غرام زوجها الثاني.»
كررت الآنسة بيتسي العبارة: «وقعت في غرامه! ماذا تقصد؟ بأي حق فعلت هذا؟»
قال السيد دك وعلى وجهه ابتسامة متكلفة، بعد قليل من التفكير: «ربما فعلتها من أجل المتعة.»
قالت الآنسة بيتسي: «المتعة، حقا! لقد تزوجت من قبل. لقد رزقت طفلا؛ أوه، كان هناك طفلان عندما ولدت هذا الصبي الجالس هنا! فماذا أرادت أكثر من هذا؟ وها هي ذي تلك المرأة ذات الاسم الوثني، بيجوتي هذه؛ لقد تزوجت بعد ذلك. لأنها لم تر ما فيه الكفاية من الشرور التي تلازم هذه الأمور، لقد تزوجت بعد ذلك هي الأخرى، كما يروي هذا الصبي.» ثم هزت الآنسة بيتسي رأسها، وقالت: «أرجو فقط أن يكون زوجها من أولئك الأزواج الذين تعج بهم الجرائد، الذين يضربون زوجاتهم بقضبان إحماء النار، وأن يبرحها ضربا بقضيب من تلك القضبان.»
لم يطق ديفيد سماع عمته تتمنى مثل هذه الأمنية لعزيزته بيجوتي، وأخبر الآنسة بيتسي كم كانت بيجوتي طيبة، وصادقة، ووفية، ومخلصة؛ وأنها تحبه كثيرا، وأنها أحبت والدته كثيرا؛ وأنه كان سيلجأ إليها لحمايته لولا منزلتها الاجتماعية المتواضعة، والتي جعلته يخشى أنه ربما يسبب لها بعض المتاعب؛ وعندما تذكر ديفيد طيبة بيجوتي، انهار، ووضع وجهه بين كفيه على المائدة وانخرط في البكاء.
قالت الآنسة بيتسي: «حسنا، حسنا، إن الصبي محق في الوقوف بجانب من وقفوا بجانبه.» كانت تضع يدها على كتفه، وقد تشجع ديفيد، وأوشك أن يطوقها بذراعيه ويتوسل إليها أن تحميه، لكنها صاحت فجأة: «جانيت! حمير!» وأسرعت بالذهاب وجانيت في عقبها، وفاتته الفرصة في تلك اللحظة، لأنها لم تتكلم عن شيء، إلى أن حان موعد تناول الشاي، سوى عن عزمها على إقامة دعاوى تعد على أملاك الغير على جميع أصحاب الحمير في دوفر.
بعد احتساء الشاي جلسوا بجوار النافذة إلى أن أحضرت جانيت الشموع وأنزلت الستائر.
قالت الآنسة بيتسي، وقد بدت عليها ملامح الجد : «والآن يا سيد دك، سوف أسألك سؤالا آخر. انظر لهذا الصبي! ما الذي قد تفعله معه الآن؟»
قال السيد دك، وهو ينظر إلى ديفيد بوجه مرتبك: «ماذا أفعل مع ابن ديفيد؟»
ردت الآنسة بيتسي: «نعم! مع ابن ديفيد.»
قال السيد دك: «يا إلهي، نعم. أفعل معه؛ سوف أجعله ينام.»
قالت الآنسة بيتسي بنبرة المبتهج بالنصر: «جانيت، إن السيد دك يرشدنا للتصرف السليم مرة أخرى. إذا كان السرير جاهزا، فسنصعد به إليه.»
قالت جانيت إنه على أتم الجاهزية، وتقدمتهم الآنسة بيتسي، وتبعها ديفيد، وجانيت في الخلف.
وفي منتصف الطريق إلى الدور العلوي توقفت الآنسة بيتسي وسألت ما رائحة الحريق هذه؛ فأجابتها جانيت بأنها تحرق الملابس البالية التي جاء بها ديفيد إلى المنزل.
أراح ردها ديفيد.
وكانت الغرفة جميلة تطل على البحر الذي يتلألأ نور القمر من فوقه.
وهكذا تلا ديفيد صلواته واستكان في الملاءات الناصعة البياض التي تكسو السرير الصغير ذا الستائر البيضاء، فتذكر كل الأماكن المهجورة التي نام فيها تحت سماء الليل، وراح يدعو من جديد ألا يعود شريدا مرة أخرى أبدا، وألا ينسى المشردين أبدا.
الفصل السابع عشر
الآنسة تروتوود تقرر
لم تقل الآنسة بيتسي شيئا عندما نزل ديفيد لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي، لكنها ظلت مركزة عينيها عليه لدرجة جعلت الارتباك يستبد به.
وفي غمرة ارتباكه وقعت سكينه فوق شوكته، وشوكته فوق سكينه، وراح يقطع قطعا صغيرة من اللحم فتتطاير إلى مسافات مذهلة في الهواء، وشرق وهو يشرب شايه، الذي أصر على النزول في الطريق الخطأ بدلا من الذهاب إلى مكانه الصحيح، وجلس وقد احمر وجهه خجلا تحت نظرات الآنسة بيتسي المتفحصة.
قالت الآنسة بيتسي، بعد فترة صمت طويلة: «مرحبا!»
رفع ديفيد عينيه وتلقى نظرتها الذكية الحادة باحترام.
قالت الآنسة تروتوود: «لقد أرسلت إليه رسالة.»
قال ديفيد متلعثما: «إلى ...؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لزوج والدتك، لقد أرسلت له رسالة أخبره فيها أنني سأسبب له مشكلة إن لم يستجب لي، وقد أتشاجر معه أيضا، وأكدت عليه ذلك.»
سألها ديفيد في ذعر: «هل يعرف مكاني يا عمتي؟»
أجابت وهي تومئ برأسها: «لقد أخبرته.»
قال الصبي متلعثما: «هل س... أسلم له؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لا أعرف، سوف نرى.»
صاح ديفيد: «يا إلهي، لا أدري ماذا عساي أفعل إذا توجب علي الرجوع إلى السيد ميردستون!»
قالت الآنسة بيتسي، وهي تهز رأسها: «لا أعرف أي شيء عن الأمر، لا يمكنني أن أخبرك، صدقني. سوف نرى.»
تحطم عزم ديفيد تحت وطأة هذه الكلمات وأصابه اكتئاب شديد وانقبض صدره.
ولم تنتبه له عمته، وإنما واصلت أعمالها اليومية، وبعد قليل وضعت علبة أدوات تطريز على طاولتها، عند النافذة المفتوحة، وجلست تمارس التطريز.
قالت الآنسة بيتسي، بعدما أولجت الخيط في سم الإبرة: «أرجو أن تصعد إلى الطابق العلوي، وتبلغ تحياتي للسيد دك، وسوف يسعدني أن أعرف كيف يتقدم في كتابة المذكرة.»
فصعد ديفيد إلى الطابق العلوي، ووجد السيد دك يكتب سريعا جدا بريشة كتابة في يده، بينما رأسه يلامس الورقة تقريبا. كما توجد كمية كبيرة من الحبر في برطمانات بسعة نصف غالون فوق المنضدة، ورزم من المخطوطات، وعدد من الأقلام؛ كما رأى ديفيد أيضا طائرة ورقية كبيرة في ركن الغرفة.
قال السيد دك، وهو يضع قلمه: «ها! كيف الأحوال؟ اسمع، وأرجو ألا تذكر هذا لأحد، لكنه ...» وهنا أومأ إلى ديفيد، وقرب شفتيه من أذنه «إنه عالم مجنون. مجنون كمستشفى المجانين يا بني!» واستنشق السيد دك بعضا من مسحوق التبغ وراح يضحك من قلبه.
وأبلغه ديفيد رسالة الآنسة بيتسي.
فقال السيد دك: «حسنا، تحياتي لها، وأعتقد ... أعتقد أني قد بدأت. أظن أني بدأت.» وضع السيد دك يده في شعره الأشيب، وسأل: «هل دخلت المدرسة؟»
أجاب ديفيد: «نعم يا سيدي، مدة قصيرة.»
قال السيد دك وهو ينظر بجد إليه: «هل تذكر اليوم الذي قطع فيه رأس الملك تشارلز الأول؟»
قال ديفيد إنه يظن أن ذلك كان في سنة 1649.
قال السيد دك: «هكذا تقول الكتب، لكنني لا أدري كيف يمكن أن يحدث هذا؛ لأنه إذا كان هذا قد وقع منذ زمن بعيد جدا هكذا، فكيف استطاع الناس الذين حوله أن يرتكبوا هذا الخطأ ويضعوا بعض الاضطراب الذي كان في رأسه بعدما قطع في رأسي أنا؟»
لم يستطع ديفيد أن يجيبه، واندهش جدا من السؤال. كان ديفيد سينصرف، لكن السيد دك لفت انتباهه إلى الطائرة الورقية، وقال: «أنا صنعتها، سوف نذهب ونطيرها، أنا وأنت.»
قالت الآنسة بيتسي، عندما نزل إلى الطابق السفلي: «حسنا أيها الصبي، ما أخبار السيد دك هذا الصباح؟»
قال ديفيد إنه يرسل تحياته، وقد بدأ بداية جيدة جدا في الحقيقة.
قالت: «ما رأيك فيه؟»
بعد قليل من التلعثم، قال ديفيد إنه يظن أن عقل السيد دك غير متزن قليلا.
ردت الآنسة بيتسي: «مطلقا! إذا كان هناك شيء في الدنيا لا يمكن أن يتصف به السيد دك، فهو هذا.» وأضافت: «لقد كانوا ينعتونه بالمجنون.»
وبعد قليل أخبرته أنه أحد أقربائها البعيدين، وأن أقرباءه وثيقي الصلة به، عندما تخيلوا أنه مجنون، وضعوه في مصحة نفسية خاصة، لكنه لم يحظ بمعاملة جيدة فيها؛ وبعد كثير من المنازعات حول الأمر، استطاعت أن تخرجه من هناك، وعاش السيد دك معها منذ ذلك الحين.
قالت الآنسة بيتسي: «إذا كان يحب أن يطير طائرة ورقية في بعض الأحيان، فما الضير في هذا؟ لقد اعتاد فرانكلين أن يطير طائرة ورقية. وقد كان أحد أعضاء طائفة الفرندز المسيحية، أو شيئا ما من هذا القبيل، إذا لم أكن مخطئة. وعندما يطير أحد أعضاء هذه الطائفة طائرة ورقية فإن هذا يبعث على السخرية أكثر بكثير مما لو فعلها أي شخص آخر.»
بعث دفاعها النبيل عن المسكين السيد دك الأمل في صدر ديفيد الصغير؛ وبدأ قلبه يحب الآنسة بيتسي نفسها؛ فقد أحس أنه برغم كونها سيدة كبيرة غريبة الأطوار نوعا ما؛ فإنها تستحق الثقة والاحترام.
كان ديفيد ينتظر في قلق رد السيد ميردستون على الآنسة بيتسي، ويبذل وسعه في إرضاء عمته والسيد دك؛ وأراد أن يخرج مع هذا الأخير ليطير الطائرة الورقية الكبيرة، لولا أنه لم يكن لديه أي ملابس غير ملابس السيد دك، والتي حبسته في المنزل.
وأخيرا جاء رد السيد ميردستون، حيث أخبرتها الآنسة ميردستون، أن السيد ميردستون قادم للحديث معها بنفسه في اليوم التالي، وقد أرعبه هذا!
فجلس ديفيد في اليوم التالي، تغطيه ملابس السيد دك الدافئة، ويعتريه الغضب والقلق والانفعال، منتظرا رؤية الوجه القاسي الموحش لزوج أمه المفزع.
كما جلست الآنسة بيتسي لتحيك ثوبا بجوار النافذة، وبدت مهيبة أكثر من أي وقت مضى، وفجأة سمعها ديفيد تصرخ بالتحذير: «جانيت! حمير!»
أصاب ديفيد الرعب والدهشة عندما رأى الآنسة ميردستون فوق سرج جانبي على ظهر حمار تتعمد السير به فوق قطعة الأرض الخضراء المقدسة، وتتوقف أمام المنزل، وتنظر حولها.
صاحت الآنسة بيتسي، وهي تهز قبضتها من النافذة: «انصرفي من هنا! لا شيء يخصك هنا. كيف تجرئين على التعدي على أملاك غيرك؟ انصرفي! أوه، أنت يا صفيقة الوجه!»
صاح ديفيد قائلا: إن هذه هي الآنسة ميردستون، وإن الرجل الذي يسير خلفها هو السيد ميردستون.
صاحت الآنسة بيتسي وهي تهز رأسها: «لا يهمني من هما! لن يتعدى أحد على أملاكي؛ لن أسمح بهذا. انصرفا! جانيت، أديريه للجهة الأخرى. أبعديه من هنا!»
أمسكت جانيت اللجام وحاولت أن تدير الحمار، وحاول السيد ميردستون أن يسوقه بعيدا؛ لكن الآنسة ميردستون ضربت جانيت بمظلة خفيفة كانت معها، وراح عدد من الأولاد، الذين جاءوا لرؤية الاشتباك، يصيحون بحماس؛ وفجأة لمحت الآنسة بيتسي الصبي الحمار، الذي كان بينها وبينه عداء قديم، فأسرعت بالخروج إلى مشهد الأحداث، وانقضت عليه، وسحبته، وسترته تغطي رأسه، إلى داخل الحديقة، ونادت جانيت كي تحضر رجال الشرطة حتى يمسكوه في الحال؛ لكن الحمار أفلت من قبضة الآنسة بيتسي سريعا، ومضى بعيدا وهو يهتف، وأخذ حماره معه؛ لأن الآنسة ميردستون كانت قد ترجلت عن ظهر الحمار أثناء إمساك الآنسة بيتسي بالولد، ووقفت تنتظر الآن مع أخيها عند أسفل درجات سلم الباب، ريثما تفرغ الآنسة بيتسي لاستقبالهما.
مرت الآنسة تروتوود من أمامهما، وكانت منزعجة قليلا بسبب المعركة، ودخلت المنزل في وقار كبير، ولم تكترث لوجودهما، إلى أن أعلنت جانيت حضورهما.
قال ديفيد وهو يرتجف: «هل أنصرف يا عمتي؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لا يا سيدي، بالطبع لا.» ودفعته إلى أحد أركان الغرفة، وحبسته بكرسي؛ ودخل السيد والآنسة ميردستون إلى الغرفة.
قالت الآنسة بيتسي: «يا إلهي! لم أدرك في بداية الأمر من الذي تشرفت بالاعتراض على وجوده، لكنني لا أسمح لأي أحد بالسير بدابته فوق هذه الأرض.»
قالت الآنسة ميردستون: «إن قاعدتك مربكة بعض الشيء للغرباء.»
قالت الآنسة بيتسي: «حقا؟»
قاطعها السيد ميردستون قائلا: «الآنسة تروتوود؟»
قالت الآنسة بيتسي، وهي ترمقه بنظرة حادة: «معذرة، أنت السيد ميردستون الذي تزوج أرملة ابن أخي، ديفيد كوبرفيلد.»
قال السيد ميردستون: «نعم أنا.»
ردت الآنسة بيتسي: «سامحني، يا سيدي، عندما أقول إنني أعتقد أنه كان من الأفضل كثيرا والأنسب لو أنك تركت الطفلة المسكينة وشأنها.»
قالت الآنسة ميردستون: «أنا متفقة بقدر كبير مع ما قالته الآنسة تروتوود، فأنا أرى أن فقيدتنا كلارا لم تكن - من كل ناحية - أكثر من مجرد طفلة.»
ردت الآنسة بيتسي: «إن من العزاء لك ولي، يا سيدتي - نحن اللتين تقدم بنا العمر، ولا يتوقع أن نشقى بسبب مفاتننا الشخصية - أن أحدا لا يستطيع قول هذا الكلام نفسه عنا!»
قالت الآنسة ميردستون، دون أن يخلو كلامها من موافقة سريعة جدا: «من دون شك.» وهنا دقت الآنسة تروتوود الجرس، وطلبت من جانيت أن تبلغ تحياتها للسيد دك وأن ترجوه أن ينزل إليهم.
جلست الآنسة بيتسي بثبات كبير، وظلت تنظر بعبوس في الجدار إلى أن دخل السيد دك، وهو يقضم سبابته، وقد بدا مرتبكا بعض الشيء.
قدمته الآنسة بيتسي قائلة: «السيد دك، صديق قديم مقرب، أثق في رأيه.»
أخرج السيد دك أصبعه من فمه، ووقف بين الجمع بوجه رزين جدا.
قال السيد ميردستون: «آنسة تروتوود، عندما تلقيت رسالتك، وجدت أن من الإنصاف لنفسي أن أرد عليها شخصيا، بدلا من الرد برسالة. إن هذا الولد التعيس، الذي هرب من أصدقائه ووظيفته، كان السبب المباشر في كثير من المشاكل العائلية ، خلال حياة زوجتي الحبيبة الراحلة، وبعدها. إنه يتصف بروح مشاكسة ومتمردة، كما أن طبعه عنيف، ولديه نزعة للعناد. وقد أحسست أن من الصواب أن تستمعي لهذا البلاغ الخطير من أفواهنا.»
أضافت الآنسة ميردستون: «وأرجو أن تلاحظي، أنه من بين جميع الأولاد في الدنيا، فأنا أعتقد أن هذا هو الأسوأ.»
قالت الآنسة بيتسي باختصار: «يا للشدة!» ثم سألت السيد ميردستون: «حسنا، أيها السيد؟»
أوضح لها السيد ميردستون، ووجهه يزداد عبوسا أكثر فأكثر، أنه وضع الولد «تحت رعاية صديق، في عمل محترم.»
قاطعته الآنسة بيتسي بحدة وقالت: «بمناسبة العمل المحترم، لو كان ابنك أنت؛ كنت ستضعه في هذا العمل، بنفس الكيفية، حسبما أظن.»
تدخلت الآنسة ميردستون وقالت: «لو كان ابن أخي، لكانت شخصيته مختلفة تماما.»
بعد هذا سألت الآنسة بيتسي السيد ميردستون بحسم عن المنزل والحديقة في قرية بلاندستن، وسألته كيف لم تنتقل ملكيتهما إلى الصبي.
قال السيد ميردستون: «لقد كانت زوجتي الراحلة تحب زوجها الثاني يا سيدتي، وكانت تثق فيه ثقة كاملة.»
ردت الآنسة تروتوود، وهي تهز رأسها أمامه: «زوجتك الراحلة يا سيدي كانت طفلة ساذجة، وحزينة، وتعيسة لأبعد الحدود، هكذا كانت زوجتك. والآن ماذا تريد أن تقول أيضا؟» «ليس غير هذا يا آنسة تروتوود. أنا هنا لأستعيد ديفيد؛ لأستعيده دون شرط، كي أتصرف معه بالطريقة التي أراها مناسبة، ولأتعامل معه بالطريقة التي أظنها صحيحة.»
قالت الآنسة بيتسي: «وما رأي الولد؟ هل أنت مستعد للذهاب معه يا ديفيد؟»
صاح ديفيد: «لا» وتوسل إليها ألا تتركه يذهب، وصرخ قائلا إن السيد والآنسة ميردستون لم يحباه قط؛ وإنهما جعلا والدته، التي طالما أحبته كثيرا، غير راضية عنه؛ وإنه يعلم هذا جيدا، وبيجوتي تعرف هذا جيدا. وتوسل إلى عمته ورجاها أن تساعده وأن تحميه من أجل والده.
قالت الآنسة بيتسي: «سيد دك، ماذا أفعل مع هذا الصبي؟»
أجابها السيد دك: «اجعلي الخياط يأخذ مقاسه ويفصل له مجموعة من الملابس في الحال.»
قالت الآنسة بيتسي بنبرة المبتهج بالنصر: «ناولني يدك يا سيد دك، فإن تفكيرك السليم لا يقدر بثمن.»
بعدما صافحت يده بحرارة، جذبت ديفيد إليها، وقالت للسيد ميردستون: «يمكنك أن ترحل عندما تحب؛ سآخذ فرصتي مع الصبي. ولو اتضح أن فيه كل هذه الصفات التي تقول إنها فيه، فسيمكنني ساعتها على الأقل أن أفعل معه مثلما فعلت أنت. لكنني لا أصدق كلمة مما قلته.»
قال السيد ميردستون وهو ينهض من مكانه: «آنسة تروتوود، لو كنت رجلا ...»
قالت الآنسة بيتسي: «يا للحقارة! هذا هراء وسخافة! لا تتكلم معي! أتظن أنني لا أعرف كم كان يوما تعيسا على تلك الفتاة الصغيرة الرقيقة عندما ظهرت أنت في حياتها؛ حين كنت تتكلف الابتسام وتسبل عينيك لها لتبدو رقيقا كمن لا يستطيع أن يصيح في وجه إوزة! يا إلهي، نعم، فليرحمنا الله! من هذا الذي كان رقيقا وناعما بقدر ما كان السيد ميردستون في البداية! إن البريئة المسكينة لم تر قط رجلا مثله. لقد كان مخلوقا من اللطف. لقد أحبها لدرجة العبادة، كما أحب ولدها، وبشغف! حيث سيصبح أبا ثانيا له، وكانوا جميعا سيعيشون في حديقة زهور، أليس كذلك؟ أمر مقزز! انصرفا من هنا، هيا!»
قالت الآنسة ميردستون: «لم أسمع قط مثل هذه المرأة في حياتي.»
واصلت الآنسة بيتسي كلامها، وهي تهز أصبعها أمامه، ولا تعير أي انتباه للآنسة ميردستون: «يا سيد ميردستون، لقد كنت مستبدا مع الطفلة الساذجة، وقد كسرت قلبها ... نعم، نعم! حتى بدون تكشيرة بسيطة، وأنا أعلم أنك فعلت حتى بدونها.»
وقف السيد ميردستون عند الباب وعلى وجهه ابتسامة، رغم أن حاجبيه الأسودين كانا منعقدين للغاية، وقد هرب الدم من وجهه، وتسارعت أنفاسه وكأنه كان يجري.
قالت الآنسة تروتوود: «طاب يومك يا سيدي. ومع السلامة!» وأضافت وهي تلتفت فجأة للآنسة ميردستون: «طاب يومك أنت أيضا يا سيدتي، دعيني أراك تمتطين حمارا فوق أرضي مرة أخرى، وتأكدي أني سوف أطيح بقلنسوتك، وأدوس فوقها!»
كان هذا الكلام يخرج منها بانفعال شديد لدرجة أن الآنسة ميردستون، ودون أن تنطق بكلمة، وضعت ذراعها في ذراع أخيها، وخرجت في غطرسة من المنزل الصيفي.
بعد ذلك بدأ وجه الآنسة بيتسي الصارم يهدأ تدريجيا، وأصبحت لطيفة جدا لدرجة أن ديفيد تشجع وطوق عنقها بذراعيه وقبلها وراح يشكرها مرة بعد مرة على حمايتها له. ثم صافح السيد دك، الذي صافحه بدوره عدة مرات، وهو يضحك من قلبه.
قالت الآنسة تروتوود: «سوف تعد نفسك وصيا، بالمناصفة معي، على هذا الصبي، يا سيد دك.»
قال السيد دك: «سوف يسعدني أن أكون وصيا على ابن ديفيد.»
ردت الآنسة بيتسي: «جيد جدا، لقد تقرر هذا. أتعرف، لقد كنت أفكر يا سيد دك أن أناديه باسم تروتوود.»
قال السيد دك: «بالتأكيد، بالتأكيد. فلتناديه تروتوود، بالتأكيد، ابن ديفيد تروتوود.»
ردت الآنسة بيتسي: «تقصد تروتوود كوبرفيلد.»
قال السيد دك: «نعم، من دون شك. نعم. تروتوود كوبرفيلد.»
وقد طرأت على رأس الآنسة بيتسي فكرة أن تكتب بخط يدها، وبحبر لا يمحى، اسم «تروتوود كوبرفيلد» على كل الملابس الجاهزة التي اشترتها من أجل ديفيد في عصر ذلك اليوم. •••
وهكذا بدأ حياته الجديدة، باسم جديد، وبكل شيء حوله جديد، في منزل سعيد جديد، وهنا، في رأيي، يجب أن نتركه.
أما كيف كبر في رعاية صديقته المخلصة الآنسة بيتسي، وكيف أرسلته إلى مدرسة جيدة، وكيف ذهب لزيارة بيجوتي وباركس، وكيف قابل ستيرفورث وترادلز من جديد، وكيف كبر ليصبح رجلا مرموقا؛ فهذا ما ستكتشفونه بأنفسكم عندما تكبرون، وتستطيعون أن تفهموا بطريقة أفضل قصة «ديفيد كوبرفيلد» الجميلة، وهو يحكيها بنفسه.
Shafi da ba'a sani ba