Darb Iskandariyya
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Nau'ikan
ففي الوقت الذي رصد فيه الحاسبون والخبراء كل مورد في مصر لسداد كل مليم من الديون الأجنبية، عمدوا بجرة قلم واحدة إلى إلغاء دين المقابلة وقيمته سبعة عشر مليون جنيه؛ لأنه دين وطني يستحقه المصريون ولم يساهم فيه الأوروبيون، وألغوا كذلك أسهم المصريين في الدين الوطني وقيمتها خمسة ملايين.
وخلاصة دين المقابلة هذا أن الحكومة المصرية أعلنت في عهد الخديو إسماعيل أنها تعفي من نصف الضريبة كل من يسدد الضرائب دفعة واحدة عن ست سنوات، فلما أشرف الأجانب على الميزانية وحسبوا حسبتهم لتوفير أقساط الديون الأوروبية، أسقطوا هذا الدين كله وقرروا تحصيل الضرائب كاملة على جميع أصحاب الأطيان، فوجب على نحو مليون مصري أن ينهضوا بخسارة اثنين وعشرين مليونا بغير عوض وأن يغرموا ضرائبهم في كل سنة بالعصا والكرباج، وهناك إحدى النكبات المتراكمة التي جمعت كلمة الأمة بأسرها على ضرورة الإشراف على ميزانية الدولة صونا لأقوات المصريين في زمن عزت فيه الأقوات وكسدت فيه الأسواق وأحاطت فيه الآفات بمحصولات الزراعة، فلم يكن هذا الإجماع بدعا في رأي أحد لم يسقط المصريين عنده من كل حساب.
بدأت الحركة التي سميت بعد ذلك «بالعرابية» منذ رفع الضباط المصريون عريضتهم يلتمسون العدول عن أوامر وزير «الجهادية» التي قضت بمنع الترقية من تحت السلاح، وتفريق الضباط الذين حصلت ترقيتهم قبل ذلك في جهات الأقاليم. وقد طلبوا فيها عزل وزير الجهادية وتقرير مبدأ الترقية بالامتحان والاختبار، فعولت الوزارة على محاكمتهم وفوضت إلى وزير الجهادية «المطلوب عزله» أن يتولى عقابهم بنفسه. فدعا الضباط الثلاثة الذين وقعوا العريضة - وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي - إلى ثكنات قصر النيل كأنهم يدعون إلى كمين، وقيل لهم: إنهم مدعوون للاحتفال بزفاف الأميرة «جميلة هانم» شقيقة الخديو. فلما ذهبوا إلى الثكنات أحاط بهم الضباط الشراكسة الذين اجتمعوا هناك من رتبة الملازم إلى رتبة الفريق، وجردوهم من سيوفهم وساقوهم إلى حجرات الاعتقال ريثما ينعقد المجلس العسكري للمحاكمة. ولكنهم كانوا قد أوجسوا خيفة مما وراء هذه الدعوة واتفقوا مع زملائهم على المبادرة إلى إنقاذهم إن أحسوا الخطر على حياتهم، فأسرعت فرقتان من رجال الحرس الخديو إلى الثكنات وكادت تكون مذبحة لولا أن «عرابيا» وقف بين الجند والضباط الشراكسة ونهاهم أن يمسوهم بسوء. وانضمت فرق أخرى إلى الفرقتين وتوجهوا جميعا إلى قصر عابدين؛ حيث عرضوا مطالبهم من جديد، فصدر الأمر بعزل وزير «الجهادية» وتعيين «محمود سامي البارودي» لهذه الوزارة، وتأليف لجنة للنظر في أحوال الضباط والجنود، وكان مرتب الجندي لا يزيد في الشهر الواحد على ريال.
ثم عزل «محمود سامي باشا» ولما يمض على تعيينه ستة شهور وعين «داود يكن باشا» في مكانه. وظل كل فريق يتربص بالفريق الآخر ويرتاب في مقاصده وأعماله، واتسعت الهاوية بينهما حين فوجئ غلام شركسي يدس السم في طعام «عبد العال حلمي» وقد كان وصيا عليه؛ لأنه ابن زوج حرمه المتوفى. وانكشفت مؤامرات شتى للإيقاع بالضباط المصريين، وأحيطت منازلهم بالحراس والجواسيس، وصدر الأمر من وزير الجهادية الجديد بمنع التزاور في البيوت ومعاقبة كل ضابطين يسيران معا في الطريق. وتتابعت المواعيد بتنفيذ قوانين الإصلاح وإجراء الانتخاب لمجلس النواب. وشاع أن مندوب إنجلترا مستر «ماليت» يتردد على الديوان العالي وعلى الوزارة لإرجاء الانتخاب والاعتراض على إنشاء مجلس النواب.
وكانت الحركة في هذه الأثناء قد شملت المدنيين والعسكريين، فأبلغ كبار الضباط الديوان العالي أنهم حاضرون مع فرقهم - في اليوم التاسع من سبتمبر سنة 1881 - للشكوى من تأخير تنفيذ القوانين وإعلان الدستور. فأشار مستر «كوكسن» قنصل إنجلترا في الإسكندرية على الخديو بالخروج لمقابلتهم واستدعاء عرابي إلى مقربة منه ثم إطلاق النار عليه، ولكن الخديو تردد في العمل بمشورته. ولم يصغ إليه حين استعجله وهو واقف إلى جانبه في ميدان القصر، واكتفى بأن أمر عرابيا بالترجل، ثم سأله: لماذا حضرت إلى هنا؟ فأعاد عرابي بيان المطالب؛ وهي: إقامة وزارة دستورية وافتتاح مجلس نواب وإبلاغ الجيش إلى العدد المنصوص عليه في الفرمانات. وجاءت كلمة العبيد على لسان الخديو، فقال عرابي: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا.»
عهد الخديو إلى «محمد شريف باشا» بتأليف الوزارة والاستعداد للانتخاب، ونمى الخبر إلى الآستانة، فتخوف السلطان من سريان العدوى إلى بلاده وقيام الأمة هناك بحركة كهذه الحركة للمطالبة بالحكومة الدستورية، فقدمت إلى مصر بعثة «علي نظامي باشا». واتفق الرأي على إقصاء عرابي عن القاهرة، ولكنه أرجأ سفره إلى أن يصدر الإعلان عن موعد الانتخاب. ولم يلبث أن أعيد إلى القاهرة؛ لأن الأقاليم التي مر بها جميعا أسرعت إلى موكبه تهتف له وتنادي بحياته، وهرع إليه طائفة من الأعيان والشبان يتبعونه حيثما سار.
وغضبت إنجلترا وفرنسا لاستجابة الخديو إلى مطالب الأمة ، وأصر النواب على مراجعة الميزانية، وأراد «شريف باشا» أن يتوسط في الأمر بعرض جزء منها على المجلس وإبقاء جزء منها في رقابة المندوبين الأوروبيين؛ فاستقالت الوزارة حين تعذر التوفيق بين موقفها وموقف النواب والأمة، وقامت وزارة غيرها برئاسة «محمود سامي باشا»؛ إذ اشترك فيها عرابي وزيرا للجهادية - فبراير 1882 - فأرسلت الدولتان «لائحة» أو مذكرة تطلبان فيها إقصاء عرابي من القطر وإقالة الوزارة - 25 مايو 1882 - وعلم رئيس الوزارة أن الخديو قبل المذكرة، فاستقال محتجا على تعرض الدول لشئون الحكومة الداخلية، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي يعززان هذا التصرف بالإنذار والتهديد.
حدث هذا في السادس والعشرين من شهر مايو، ولم ينقض أسبوعان حتى وقعت مذبحة الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يونيو، وكانت منتظرة - أو كأنها منتظرة - لأنها تمام التدبير الذي بدأ بذلك النذير.
كان في الإسكندرية يومئذ محافظ يسمى «عمر لطفي باشا» لم يحرك ساكنا لاتقاء هذه المذبحة أو وقفها قبل تفاقمها واستشرائها، وسئل في ذلك، فقال أنه تلقى أمرا من «عرابي» بالكف عن كل عمل في ذلك اليوم ... ولكن كذب الرجل ينجلي من أمرين لا يقبلان اللبس والمكابرة: أحدهما أنه دخل الوزارة على أثر ذلك توا وزيرا للجهادية، والآخر أن «أحمد عرابي» لم تكن له مصلحة في الفتنة، بل كانت الفتنة حربا عليه وحجة لمن أرادوا أن يسجلوا عليه القصور في حماية الأرواح والأموال وحفظ الأمن والنظام.
وغني عن القول أن الأسطول الإنجليزي لم يأت إلى الإسكندرية ليرجع أدراجه كما أتى، فقد طلب قائد الأسطول الإنجليزي وقف الترميم والتسليح في قلاع الميناء، ثم طلب تسليم تلك القلاع ليحول بين الحامية المصرية ومعاودة الترميم بعد وقفه، وزعم أنه يدفع الخطر عليه من تلك القلاع، وهو الخطر الذي لم يشعر به الأسطول الفرنسي الواقف إلى جانبه. فانقسم الساسة وذوو الرأي إلى فريقين: فريق يرى التسليم وفريق يعارضه، ومنه «درويش باشا» مندوب الباب العالي الذي حضر من الآستانة في تلك الأيام وحجته أن تسليم الحصون المصرية أمر لا يملكه الخديو بموجب الفرمانات، وكان «عرابي» من المعارضين ؛ لأن نية الافتيات ظاهرة من الطلب المتعسف فلا فائدة تجنيها البلاد من إجابة القائد إليه.
Shafi da ba'a sani ba