Darb Iskandariyya
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Nau'ikan
وليس من النادر في هذه الأحوال أن تصبح العادة تقليدا متبعا، وأن يصبح التقليد «مصلحة محتكرة» يغار عليها المنتفعون بها ويعملون ما في وسعهم لاستبقائها ويشفقون من زوالها مع الزمن كلما لاح لهم أنها في خطر من المزاحمين والمتطلعين. ومن هنا تنجم العداوة بين الغرباء وأبناء البلد لعصبية المنفعة مع عصبية الجنس واللسان. وقد تمكن هذا «التقليد» في دواوين مصر حتى أصبح من المضحكات التي لا تعقل لولا أنها مكتوبة محفوظة في سجلات الدواوين، فمن الأوامر التي أصدرها «كتخدا باشا» في سنة 1265 هجرية (1849م) أن يرسل المستخدمون بالممالك المحروسة لحاهم كما هو جار في دار السعادة، وعليهم - كما جاء في الأمر - «أن يرسلوا لحاهم حينما تظهر ولا يحلقوها وأن ينفذوا هذا الأمر حالا على أثر تبليغهم إياه!»
وفي عهد «محمد علي الكبير» بدأ تعليم المصريين في المدارس العصرية، وصدرت الأوامر المشددة باختيار النوابغ من طلاب الجامع الأزهر لإتمام الدراسة في مصر والبلاد الأوروبية، فكان لهم نصيب من الوظائف العلمية وبقيت وظائف «التنفيذ» في أيدي العسكريين وحكام الإدارة من الغرباء. وقد سار التطور الحديث بطيئا على الخصوص في الوظائف العسكرية، فكان «أحمد عرابي» زعيم الثورة أول ضابط مصري ترقى إلى رتبة «قائم مقام»، وظل في هذه الرتبة تسع عشرة سنة بغير ترقية؛ لأن رؤساءه نظروا إليه نظرتهم إلى المقتحم الدخيل في هذه الرتب التي كانت مقصورة قبله على الغرباء. ومن مفارقات الزمن أن الأمر الذي صدر بإنصافه بعد تكرار شكواه كتب إليه باللغة التركية، بما معناه أن قد عفي عنه من عقوبة التأخير، وتلقاه «ديوان جهادية ناظري» بالعبارة الآتية:
6 جي بيادة سابق قائمقام أحمد عرابي بك أشبوعر ضحال منظورم أولدي خطا سني عفوا يتمشى أولد يغمدن حاله مناسب خدمة ظهورنك استخدام ايتدير لمسي حقنده إيجابتي أجرا إيتمكز أيجون أشبو أمرم إصدار قلندي ...
وقد عرف عن «محمد سعيد باشا» والي مصر بعد «إبراهيم باشا الكبير» أنه كان شديد الميل إلى توظيف المصريين وتقديمهم في المراكز العليا بالقاهرة والأقاليم، ومن أوامره الأولى بهذا الصدد يتبين أن هذا التطور جرى على سبيل التجربة التي يتوقف المضي فيها على نتائجها، لأنها أول تجربة من قبيلها، وهذه صورة أمر منها صدر في سنة 1273 هجرية (1856) على سبيل الاختبار والإعذار؛ حيث يقول بعد الديباجة: ... قد سنح لخاطرنا أن أجعل الحكام ممن يوثق باعتمادهم في الأمور الدينية والمدنية من عمد أبناء العرب بنواحي المديريات مع أبناء الترك على سبيل التجربة وإبراز ما انطووا عليه من الثمرات المقصودة بالذات أو ضدها، هنالك يكون الإقدام على تقدمهم أو تعيين تأخرهم عن برهان واضح، فابتدأنا بتنصيب اثنين من عمد نواحي مديرية المنيا وبني مزار نظار أقسام وجعلناهما موقعا للتجربة، وأمرنا مدير الجهة المذكورة بتنصيب جانب من العمد حكام أخطاط، والآن قد تعلقت إرادتنا أن يكون حصول ذلك عموما بسائر الأقاليم، فأصدرنا أوامرنا إلى المديرين عموما، وهذا إليكم لتنتخبوا من عمد أبناء العرب المجربين الأطوار المتصفين بحسن الاستقامة والسياسة من يليق للتقدم لمناصب الحكومة وترتبوا نظار أقسام مديريتكم على الثلث منهم بأن يكون اثنان منهم نظار أقسام.
ولم يأت عهد إسماعيل حتى كان الفريقان قد انساقوا إلى موقف التناحر السافر والاصطدام العنيف: تزايد المصريون الصالحون للمناصب فطالبوا بحقهم واعتزوا بكرامتهم، واقترب الخطر من مراكز الغرباء فأصابهم مثل الجنون من رعونة الغيظ والخوف وحماقة الغطرسة والعصبية، وبلغ سوء الظن غايته من نفوس الفريقين، فأوشكت حوادث الإساءة ورد الإساءة أن تكون حوادث كل يوم وكل ديوان.
جاء في كتاب «مصر المسلمة والحبشة المسيحية»، كما روى صاحب كتاب «مصر في عهد إسماعيل باشا»: «اتفق لملازم أول مصري والجيش معسكر في قرع قبل واقعة 7 مارس أن عثمان بك آلايه الشركسي ضربه ذات يوم بدون سبب وبدون ذنب، فرفع الملازم شكواه من ذلك إلى السردار راتب باشا وبينها بيانا مفصلا، فلم يلتفت السردار إليها وضرب بها عرض الحائط، فرأي الملازم أن ضربه وهو ملازم لا يتفق مع الكرامة المطلوبة له، والتي تطالبه نفسه بها ولا مع هيئته في نظر مرءوسيه فتخلى عن وظيفته ورجع إلى الصف بصفته جنديا بسيطا ... ولكن أمير آلايه الشركسي عد عمله هذا خارجا عن حدود الأدب العسكري ومستوجبا عقابا صارما يردع غيره عن الاقتداء به، وشاطره راتب باشا رأيه، فما استقر في حصن ممر قياخور إلا وأمر بذلك الرجل الأبي، فسيق أمام مجلس حربي وحوكم محاكمة أصولية على زعمهم فحكم المجلس عليه بالموت تحت الرصاص ونفذ الحكم فيه.»
وروى المصدر نفسه: «أن قائم مقام مصريا شعر بتوعك في مزاجه، والتمس من القائد إسماعيل باشا الشركسي التصريح له بالبقاء في الحصن حتى يشفى، فأبى عليه ذلك زاعما أن مرضه ليس مما يستوجب الإمهال، فألح قائم المقائم، لا سيما أن الرفض الصادر من رئيسه زاد فعلا في وطأة الداء على جسمه، فأمر إسماعيل باشا طبيب الفرقة بالكشف عليه، واستعمل في أمره ألفاظا أدرك الطبيب منها أن الباشا يرتاح إلى تقرير لا يكون موافقا للمريض، فكشف عليه وقرر أن المرض ليس ذا بال، فما كان من الباشا إلا أنه ذهب بنفسه إلى خيمة ذلك القائم مقام وأمر باقتلاعها وقلبها على رأسه، وحتم أن يسير الرجل مع أورطته مشيا على قدميه، فازداد المرض ثقلا على المسكين وحال دون تمكنه من الاستمرار على المشي، فتأخر عن أورطته، فأمر إسماعيل باشا الشركسي بتجريده من رتبته وتنزيله إلى الصف نفرا بسيطا ففعل، ولكن ذلك لم يشف غليله كأنه كان بينه وبين ذلك القائم مقام ثأر قديم، فلما استقر الجيش العائد من قرع في قياخور طلب محاكمته أمام مجلس عسكري فحوكم وحكم المجلس عليه بالإعدام فأخذوه وأجلسوه على الأرض موثق الركبتين مغلول الكوعين وراء كتفه، وأطلقوا عليه الرصاص فجرح جروحا عدة ولكنه لم يمت، فكلف باشجاويش بالإجهاز عليه، فقتله جبرا.»
هاتان حادثتان رواهما رجل أجنبي، واخترناهما من مئات الحوادث لأنهما وقعتا في أثناء حرب - هي حرب الحبشة - حيث تجري العادة دائما باصطناع الحسنى وتكلف المودة بين الرؤساء والمرؤسين، فيقاس عليها ما يجري في أوقات السلم التي لا مبالاة فيها بالمحاسنة والتودد ويتخيل القراء ألوانا من أمثال هذه المظالم تتكرر في كل يوم وتسري أخبارها إلى كل بيئة، ويقضي العمل فيها بالتعاون بين أناس ينطوي بعضهم لبعض على مثل هذا الشعور.
وقد طرأ على الموقف في أواخر عهد إسماعيل طارئ آخر من طوارئ الحرج والنزاع، وهو امتلاء الوظائف الكبرى في دواوين السكة الحديد والموانئ ووزارة المالية ووزارة الأشغال بالموظفين الأوروبيين الذين جاء بهم المراقبون الأجانب ليضمنوا سداد الديون من موارد تلك الدواوين، وفرضوهم على كل ديوان ينظمون موارده ومصارفه؛ لأنهم أعلنوا أنهم لا يضمنون حسن العمل ولا انتظام المورد والمصرف في مصلحة حكومية ما لم يكن فيها أناس يثقون بهم ويعولون على اجتهادهم وخبرتهم، فشجر بين هؤلاء الموظفين وبين الفريقين من موظفي الحكومة المصريين والشرقيين خلاف دائم يحال في كل مرة على مرجع من مراجع السلطة العليا، وهي موزعة بين المراقبين الأوروبيين وبين الشرقيين الغرباء وبين المصريين المغضوب عليهم من هؤلاء وهؤلاء.
وكأنما كانت هذه المحرجات المتراكبة بحاجة إلى مزيد من دسائس السياسة، فجاءت هذه الدسائس من كل صوب، وجعل الرؤساء يضربون كل طائفة من هذه الطوائف بغيرها، ويقربون هذه يوما ويقربون تلك يوما آخر وفقا لأهواء الساعة، فكانت السلطة التي يوكل إليها حفظ النظام هي مصدر الفوضى التي تخل بكل نظام.
Shafi da ba'a sani ba