وكان جلالته يتحدث بصوت يتهدج، ووجهه ناحل مصفر كوجوه الأموات، فأشفق عليه شيكو وعلم أن الأمر ذو بال، فانصرف إلى جد الحديث وقال: قل يا مولاي ما تشاء؛ لأني مصغ إليك ... وعسى أن أتمكن من تسكين ثائرك. - كنت أود أن تسمع ما سمعت، وأن ترى ما رأيت قبل أن أقص أمري، ولكني أخشى أن تصاب بما أصابني من الرعب؛ ولذا فقد ارتأيت أن أقص بعض ما لقيت مما حملني على هذا الخوف فيهون عليك الأمر، فأنت سترى أمرا جللا، فإذا قصصته عليك قبل أن تراه، يهون عليك ... فأنت متوقعه. - لقد أحسنت وها أنا مصغ، فقل ما تريد.
فأمر الملك يده على جبينه ثم نظر إلى شيكو وبدأ في الحديث فقال: لقد نمت ليلة أمس ...
فقاطعه شيكو وقد نسي موقفه وغلب عليه الميل إلى المزح، فقال: وأنا كذلك!
فعبس الملك كي لا يدع مجالا لنديمه لمثل هذا الهزل وقال: ولما غفوت شعرت بهبة هواء باردة مرت على وجهي، فصحوت بعض الصحو، ثم عادت تلك الهبة أيضا، فنهضت في الحال وجلست في فراشي، وأخذت أجيل نظرا مضطربا إلى ما حولي عساي أرى مصدر هذا الهواء، ولكن المصابيح كانت منطفئة والظلام حالكا فلم أر شيئا ... وفيما أنا جالس والقلق أخذ مني إذ سمعت صوتا يقول: أيها الخاطئ الشقي ... ثم تلا الملك بصوت ضعيف وقال: ثم سمعت ذاك الصوت نفسه يقول: أيها الشقي التعيس، أصغ إلي، فأنا صوت الرب الإله ...
فتظاهر شيكو بالاضطراب وقال: أكان صوت الرب الذي سمعته؟ - نعم، ألم تقرأ في الكتب المقدسة أن الرب يكلم الملوك؟ - نعم، وقد قرأت فيها أيضا أن صوت الله كصوت الرعود القاصفة، فهل كان كذلك؟ - كلا، ولكن صوته كان يصل إلي كالهمس في الآذان، ومع ذاك فلم يفتني حرف من كلامه، فأصغيت إليه وقد كدت أفقد حواسي لما خامرني من الهلع، فسمعته يقول: أين أنت أيها الشقي؟ ... أتصغي إلي؟ ... ألا تزال غوايتك منغمسا في الشهوات، منصرفا إلى الملذات، معرضا عن النظر في شئون رعاياك؟
ثم جعل يذكر لي جميع خطاياي ويؤنبني عليها التأنيب الشديد، حتى خلت أن ساعتي قد دنت. - لا بأس يا مولاي، ولكن قل لي ما ذكره من أمر الذنوب لأرى إذا كان الله يعرفها كمن يحيط بك؟
فاحتدم الملك غيظا وقال: احذر من أن تعود إلى مثل هذا الارتياب، فإذا بدر منك بعدها أقل ريبة فإني آمر بقتلك لا محالة. - أنت مخطئ يا مولاي فيما توهمته من ريبتي؛ لأني شديد الاعتقاد بالله، وأعيذ نفسي من الشك بعزته الإلهية، غير أني عجبت لصبر الله عن تقريعك إلى الآن، وهذا ما تدعوه بالشك، فقل لي ما كان بعدها؛ لأني أكاد أن أشاركك في هذه المخاوف. - لم يكن شيء سوى أني استغثت وسقطت على الأرض واهي القوى، فأحاط بي الحرس ودعت لي امرأتي برئيس دير الجزويت، فأتى وخلوت معه طول الليل. - وماذا كان بينكما؟ - إني اعترفت له بجميع آثامي، وأخبرته بما سمعته من صوت الله، فقال: إن هذه عجيبة من السماء، وإن صوت الله يأمرني أن أكفر عن ذنوبي، وذاك لا يكون إلا بالزهد والتقشف والإحسان إلى الجزويت، فما أذنت له بالانصراف إلا بعد أن أعطيته خمسمائة ألف فرنك. - حسنا فعلت، فأنت لن تنال الغفران إلا بمثل هذا الإحسان.
فتأثر هنري من كلام شيكو، وقال: ألا تزال تتكلم وتمزج الجد بالهزل، وأنت ترى ما أنا عليه من الخوف، لست الملوم بل أنا اللوم علي لأني وضعتك بمنزلة الصديق، وأنزلت آمالي بك.
فتصنع شيكو هيئة الجد وقال: ما حملني على المزاح يا مولاي غير ما أعلمه علم اليقين بأن الذي سمعته لم يكن صوت الله، بل هو حلم هائل يدعونه بالكابوس، يكون المصاب به بين النائم واليقظان فيحسب ما رآه حقيقة واضحة لا ريب فيها، وما هو إلا حلم يعتريه لانزعاجه في النوم أو لتلبك في المعدة، وغيرها من الأسباب. - ألا تزال على ريبك أيها الكافر؟ - لست بكافر، ولكن كل ما ذكرته لي يدل على أنك كنت حالما لا مناجيا. - إني لا أجيب بشيء الآن، وستسمع بأذنيك نفس ما سمعته، فأنت ستنام هذه الليلة في غرفتي فتنجلي الحقيقة وتعلم غرورك. - هذا ما أتمناه، ولست بنائم بل إني سأجلس على كرسي أمام سريرك وأسهر إلى أن يقرع سمعي صوت الله فأوقظك. فاصعد الآن إلى سريرك ونم قرير البال.
فصعد الملك إلى السرير وأطبق عينيه، ولكنه لم يستطع الإغفاء لخوفه.
Shafi da ba'a sani ba