إهداء
دمعة وابتسامة
حياة الحب
حكاية
في مدينة الأموات
موت الشاعر حياته
بنات البحر
النفس
ابتسامة ودمعة
رؤيا
الجمال
الحروف النارية
بين الخرائب
رؤيا
الأمس واليوم
رحماك يا نفس رحماك
الأرملة وابنها
الدهر والأمة
أمام عرش الجمال
زيارة الحكمة
حكاية صديق
بين الحقيقة والخيال
يا خليلي الفقير
مناحة في الحقل
بين الكوخ والقصر
طفلان
شعراء المهجر
تحت الشمس
نظرة إلى الآتي
ملكة الجمال
يا لائمي
مناجاة
المجرم
الرفيقة
بيت السعادة
مدينة الماضي
اللقاء
مخبآت الصدور
القوة العمياء
منيتان
على ملعب الدهر
خليلي
حديث الحب
الحيوان الأبكم
السلم
الشاعر
يوم مولدي
الطفل يسوع والحب الطفل
مناجاة أرواح
أيتها الريح
رجوع الحبيب
جمال الموت
أغاني - أغنية
أغنية الموج
أغنية المطر
أغنية الجمال
أغنية السعادة
أنشودة الزهرة
نشيد الإنسان
صوت الشاعر
إهداء
دمعة وابتسامة
حياة الحب
حكاية
في مدينة الأموات
موت الشاعر حياته
بنات البحر
النفس
ابتسامة ودمعة
رؤيا
الجمال
الحروف النارية
بين الخرائب
رؤيا
الأمس واليوم
رحماك يا نفس رحماك
الأرملة وابنها
الدهر والأمة
أمام عرش الجمال
زيارة الحكمة
حكاية صديق
بين الحقيقة والخيال
يا خليلي الفقير
مناحة في الحقل
بين الكوخ والقصر
طفلان
شعراء المهجر
تحت الشمس
نظرة إلى الآتي
ملكة الجمال
يا لائمي
مناجاة
المجرم
الرفيقة
بيت السعادة
مدينة الماضي
اللقاء
مخبآت الصدور
القوة العمياء
منيتان
على ملعب الدهر
خليلي
حديث الحب
الحيوان الأبكم
السلم
الشاعر
يوم مولدي
الطفل يسوع والحب الطفل
مناجاة أرواح
أيتها الريح
رجوع الحبيب
جمال الموت
أغاني - أغنية
أغنية الموج
أغنية المطر
أغنية الجمال
أغنية السعادة
أنشودة الزهرة
نشيد الإنسان
صوت الشاعر
دمعة وابتسامة
دمعة وابتسامة
تأليف
جبران خليل جبران
إهداء
إلى
M.E.H.
أقدم هذا الكتاب، وهو أول نسخة من عاصفة حياتي، إلى الروح النبيلة التي تحب النسمات وتسير مع العواصف.
جبران
مقدمة
بقلم نسيب عريضة
نيويورك في 24 نيسان «أبريل» سنة 1914
قد انتقل جبران خليل جبران في الأعوام العشرة الأخيرة من ربيع الحياة إلى صيفها، فنمت أمياله ونضجت أفكاره، وتدرجت روحه من عالم الخيال الشعري إلى عالم أسمى وأوسع يتعانق فيه الخيال المطلق والحقيقة المجردة، وتلتقي في جنباته أشباح العواطف الدقيقة بجبابرة المبادئ الأساسية الصحيحة.
جبران اليوم ليس بجبران الأمس، فالشباب الحساس الذي كتب «دمعة وابتسامة» بقلم محبر بالدمع قد تحول إلى رجل قوي يكتب برءوس الحراب المغموسة بالدماء، والفرق بين مقالة «جمال الموت» وحكاية «حفار القبور» هو الفرق بين جبران الأمس وجبران اليوم، فالنفس اللطيفة التي كانت ترتعش لهبوب نسيمات السحر قد تشددت اليوم بالعزم فلم تعد تهتز إلا للعواصف، فالعواصف هي من حاضر جبران بمقام النسيم من ماضيه.
ولكن لو تمعنا مليا بمجموع كتابات جبران وتآليفه، وعلاقتها بالنهضة الأدبية الحديثة؛ لوجدنا أن «لدمعة وابتسامة» مقالا خاصا بها لأنها كانت أول نغمة من نوعها في العالم العربي، فقد خالفت بما فيها من التراكيب ودقة البيان كل ما جاء قبلها من الكتابات؛ لأنها أتت كتوطئة لحركة عربية جديدة يشعر بها ويتأثر لها الطالب في مدرسته والمتأدب في مكتبته والصحافي في إدارته.
عندما ظهرت «دمعة وابتسامة» كان الكتاب والشعراء في مصر وسوريا والمهجر يملأون الصحف والمجلات بمقالات ورسائل وقصائد عقيمة بليدة خالية من الشعور بعيدة عن القلب، وكان أكثر الناس يحسبون كل من وزن الكلام شاعرا وكل من رتب الفقرات كاتبا، ولكن لما ابتدأ جبران بنشر «دمعة وابتسامة» غير الناس أفكارهم وعلموا للمرة الأولي أن الشاعر الحقيقي هو الذي يضرب بأصابعه السحرية على أوتار قلوبهم، ويعيد على مسامعهم في اليقظة ما تسمعه أرواحهم في المنام، ومن ذلك الحين ابتدأ فتيان الكتاب والشعراء بتقليد «دمعة وابتسامة» والنسج على منوالها، فلم يمر عامان أو ثلاثة على ظهورها حتى كان لجبران تلاميذ وأتباع منتشرون في كل مكان من العالم العربي.
عندما طلبنا إلى جبران جمع «دمعة وابتسامة» ونشرها في كتاب، أجابنا ببيت من أحد موشحاته قائلا:
ذاك عهد من حياتي قد مضي
بين تشبيب وشكوى ونواح
فقلنا له «ذاك عهد من حياتك قد مضى، ولكنه لم يزل حاضرا في حياة محبيك ومريديك».
فأجابنا «إن الشاب الذي كتب قد ترنم بأغنية علوية قبل أن يموت».
قلنا له: «وعلينا أن نحفظ تلك الأغنية كي لا تتلاعب بها أيدي الضياع».
فأجابنا «افعلوا ما شئتم، ولكن لا تنسوا أن روح ذلك الشاب قد تقمصت في جسد رجل يحب العزم والقوة محبته للظرف والجمال، ويميل إلى الهدم ميله إلى البناء، فهو صديق الناس وعدوهم في وقت واحد».
فقلنا له «سوف لا ننسى وإن حاولنا التناسي ففي «حفار القبور» ما ينبهنا ويذكرنا».
دمعة وابتسامة
توطئة
أنا لا أبدل أحزان قلبي بأفراح الناس، ولا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي وتصير ضحكا، أتمنى أن تبقى حياتي دمعة وابتسامة، دمعة تطهر قلبي وتفهمني أسرار الحياة وغوامضها، وابتسامة تدنيني من أبناء بجدتي وتكون رمز تمجيدي الآلهة، دمعة أشارك بها منسحقي القلب، وابتسامة تكون عنوان فرحي بوجودي.
أريد أن أموت شوقا ولا أحيا مللا، أريد أن تكون في أعماق نفسي مجاعة للحب والجمال؛ لأني نظرت فرأيت المستكفئين أشقى الناس وأقربهم من المادة، وأصغيت فسمعت تنهدات المشتاق المتمني أعذب من رنات المثاني والمثالث.
يأتي المساء فتضم الزهرة أوراقها وتنام معانقة شوقها، وعندما يأتي الصباح تفتح شفتيها لاقتبال قبلة الشمس، فحياة الأزهار شوق ووصال، دمعة وابتسامة.
تتبخر مياه البحر وتتصاعد ثم تجتمع وتصير غيمة، وتسير فوق الطلول والأودية حتى إذا ما لاقت نسمات لطيفة تساقطت باكية نحو الحقول، وانضمت إلى الجداول ورجعت إلى البحر موطنها. حياة الغيوم فراق ولقاء، دمعة وابتسامة.
كذا النفس تنفصل عن الروح العام وتسير في عالم المادة، وتمر كغيمة فوق جبال الأحزان وسهول الأفراح فتلتقي بنسيمات الموت فترجع إلى حيث كانت، إلى بحر المحبة والجمال، إلى الله.
حياة الحب
الربيع:
هلمي يا محبوبتي نمشي بين الطلول، فقد ذابت الثلوج وهبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات، سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل في تموجات اخضرار السهول حولها.
ها قد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح فظهرت كالعرائس في ليلة القدر ، واستيقظت الكروم وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.
تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات.
لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج، ونتبادل قبلات المحبة.
الصيف:
هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة، تعالي قبل أن تسبقنا الطيور فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا، هلمي نجن ثمار الأرض مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر كما ملأت الحياة أهراء عواطفنا.
هلمي يا رفيقتي نفترش الأعشاب ونلتحف السماء ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار ونسمع مسامرة غدير الوادي.
الخريف:
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي ونعصر العنب ونوعيه في الأجران مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة ونستقطر الأزهار ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار ونثرها الهواء كأنه يريد أن يكفن بها أزهارا قضت لوعة عندما ودعها الصيف، تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع! فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع فرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي، فالطبيعة قد راودها النعاس فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء:
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا، اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية، حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي، والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي، اسقي السراج زيتا يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك لأرى ما كتبته الليالي على وجهك، إيتي بجرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
اقتربي ! اقتربي مني يا حبيبة نفسي فقد خمدت النار وكاد الرماد يخفيها، ضميني فقد انطفأ السراج وتغلبت عليه الظلمة، ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين، ارمقيني بعين كحلها النعاس، عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى، قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك، آه يا حبيبتي ما أعمق بحر النوم! آه ما أبعد الصباح في هذا العالم!
حكاية
على ضفة ذلك النهر، في ظل أشجار الجوز والصفصاف جلس ابن زراع يتأمل في المياه الجارية بسكينة وهدوء، فتى ربي بين الحقول حيث يتكلم كل شيء عن الحب، حيث الأغصان تتعانق والأزهار تتمايل والطيور تتشبب، حيث الطبيعة بأسرها تكرز بالروح، ابن عشرين رأى بالأمس على الينبوع صبية جالسة بين الصبايا فأحبها، ثم علم أنها ابنة الأمير فلام قلبه وشكا نفسه إلى نفسه، ولكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحب، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والإنسان بين قلبه ونفسه كغصن لين في مهب ريح الجنوب وريح الشمال.
نظر الفتى فرأى زهرة البنفسج قد نبتت بقرب زهرة الأقحوان، ثم سمع الهزاز يناجي الشحرور فبكى لوحدته وانفراده، ثم مرت ساعات حبه أمام عينيه مرور الأشباح، فقال وعواطفه تسيل مع كلماته ودموعه: «هو ذا الحب يستهزئ بي، ها قد جعلني سخرية وقادني إلى حيث الآمال تعد عيوبا والأماني مذلة، الحب الذي عبدته قد رفع قلبي إلى قصر الأمير وخفض منزلتي إلى كوخ الزراع، وسار بنفسي إلى جمال حورية تحيط بها الرجال ويحميها الشرف الرفيع، أنا طائع أيها الحب فماذا تريد؟ قد اتبعتك على سبل نارية فلذعني اللهيب، قد فتحت عيني فلم أر غير الظلمة، وأطلقت لساني فلم أتكلم بغير الأسى، قد عانقني الشوق أيها الحب بمجاعة روحية لن تزول بغير قبل الحبيب، أنا ضعيف أيها الحب فلم تخاصمني وأنت القوي؟ لماذا تظلمني وأنت العادل وأنا البريء؟ لماذا تذلني ولم يكن غيرك ناصري؟ لماذا تتخلى عني وأنت موجدي؟ إن جرى دمي بغير مشيئتك فأهرقه، وإن تحركت قدماي على غير طرقك فشلها. افعل مشيئتك بهذا الجسد وخل نفسي تفرح بهذه الحقول المستأمنة بظل جناحيك، الجداول تسير إلى حبيبها البحر، والأزهار تتنسم لعشيقها النور، والغيوم تهبط نحو مريدها الوادي، وأنا - وبي ما لا تعرفه الجداول ولا تسمع به الأزهار ولا تدركه الغيوم - قد رأيتني وحيدا في محنتي، منفردا في غرامي، بعيدا عن التي لا تريدني جنديا في كتائب أبيها ولا ترضاني خادما في قصرها».
وسكت الفتى هنيهة كأنه يريد أن يتعلم الكلام من خرير النهر وحفيف أوراق الغصون، ثم عاد فقال: «وأنت يا من أخاف من أمها أن أدعوها باسمها، أيتها المحبوبة عني بستائر العظمة وجدران الجلال، أيتها الحورية التي لا أطمع بلقائها إلا في الأبدية حيث المساواة، يا من تطيعها الصوارم وتنحني أمامها الرقاب وتتفتح لها الخزائم والمساجد! قد ملكت قلبا قدسه الحب، واستعبدت نفسا شرفها الله، وخلبت عقلا كان بالأمس حرا بحرية هذه الحقول، فصار اليوم أسيرا بقيود هذا الغرام، رأيتك أيتها الجميلة فعرفت سبب مجيئي إلى هذا العالم، ولما عرفت رفعة منزلتك ونظرت إلى حقارتي علمت أن للآلهة أسرارا لا يعرفها الإنسان، وسبلا تذهب بالأرواح إلى حيث المحبة تقضي بغير الشرائع البشرية، أيقنت لما نظرت إلى عينيك أن هذه الحياة فردوس بابه القلب البشري، ولما رأيت شرفك وذلي يتصارعان صراح مارد ورئبال، علمت أن هذه الأرض لم تعد وطنا لي، ظننت لما وجدتك جالسة بين نسائك كالوردة بين الرياحين، أن عروس أحلامي قد تجسدت وصارت بشرا مثلي، ولما تخبرت مجد أبيك وجدت أن دون اجتناء الورد أشواكا تدمي الأصابع، وأن ما تجمعه الأحلام تفرقه اليقظة ...».
وقام إذ ذاك ومشى نحو الينبوع منخفض الجناح، كسير القلب، مجسما الأسي والقنوت بهذه الكلمات: «تعال يا موت وأنقذني، فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن، هلم وخلصني من أيام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالي مكانه، خلصني يا موت فالأبدية أجدر ببقاء المحبين من هذا العالم، هناك أنتظر حبيبتي، وهناك أجتمع بها».
بلغ الينبوع وقد جاء المساء وأخذت الشمس تلم وشاحها الذهبي عن الحقل، فجلس يذرف الدموع على حضيض وطئته أقدام ابنة الأمير وقد حنى رأسه على صدره كأنه يمنع قلبه عن الخروج.
في تلك الدقيقة ظهرت من وراء أشجار الصفصاف صبية تجر أذيالها على الأعشاب، ووقفت بجانب الفتى ووضعت يدها الحريرية على رأسه، فنظر إليها نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى ابنة الأمير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيه مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة أمامه، ولما أراد الكلام أرتج عليه فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.
ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيه، وقبلت عينيه راشقة المدامع السخينة، وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي: «قد رأيتك يا حبيبي في أحلامي، ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي، فأنت رفيق نفسي الذي فقدته، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حكم علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئت سرا يا حبيبي لألتقي بك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع! قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت، قم يا حبيبي فنذهب إلى البرية البعيدة عن الإنسان».
ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل ولا يخيفهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.
هناك في أطراف البلاد عثر رواد الأمير على هيكلين بشريين في عنق أحدهما قلادة ذهبية، وبقربهما حجر كتبت عليه هذه الكلمات: «قد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يرجعنا؟».
في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكل ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل، كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدوء المستقر في تلك، من الجهة الواحدة آمال وقنوط ، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب تقلب الطبيعة بطنه ظاهرا وتبدع منه نباتا ثم حيوانا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.
بينا أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء تتقدمه الموسيقى وتملأ الجو ألحانا محزنة، موكب جمع بين الفخامة والعظمة وآلف بين أشكال الناس، جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء وهم يبكون ويولولون ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبانة فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق، وبعد قليل انبرى الخطباء فأبنوا الراحل بمنتقيات الكلام، ثم الشعراء فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل، وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتقنين.
رجع الموكب نحو المدينة وأنا أنظر من بعيد وأفتكر، ومالت الشمس نحو الغروب، واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلان تابوتا خشبيا، وراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى، جنازة فقير حقير وراءها زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير وفي مسيره حزن وكآبة.
وصل هؤلاء إلى المقبرة وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يلتفت نحو محط رحال رفيقه حتى اختفوا عن بصري وراء الاشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء. ثم نحو مدينة الأموات وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبدة المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول: هناك.
موت الشاعر حياته
خيم الليل بجنحه فوق المدينة وألبسها الثلج ثوبا، وهزم البرد ابن آدم من الأسواق فاختبأ في أوكاره، وقامت الأرياح تتأوه بين المساكن كمؤبن وقف بين القبور الرخامية يرثي فريسة الموت.
وكان في أطراف الأحياء بيت حقير تداعت أركانه وأثقلته الثلوج حتى أوشك أن يسقط، وفي إحدى زوايا ذلك البيت فراش بال عليه محتضر ينظر إلى سراج ضعيف يغالب الظلمة فتغلبه، فتى في ربيع العمر قد علم بقرب أجل انعتاقه من قيود الحياة فصار ينتظر المنية وعلى وجهه المصفر نور الأمل، وعلى شفتيه ابتسامة محزنة، شاعر جاء ليفرح قلب الإنسان بأقواله الجميلة يموت جوعا في مدينة الأحياء الأغنياء، نفس شريفة هبطت مع نعم الآلهة لتجعل الحياة عذبة، تودع دنيانا قبل أن تبتسم لها الإنسانية، منازع يلفظ أنفاسه الأخيرة وليس بقربه سوى سراج كان رفيق وحدته، وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة.
جمع ذلك الفتى المنازع بقايا قوة قاربت الفناء، ورفع يديه نحو العلاء وحرك أجفانه الذابلة كأنه يريد أن يخرق بنظراته الأخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم من وراء الغيوم ثم قال:
تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبت من جرها، تعالي إلي يا أيتها المنية الحارة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبا عنهم لأني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشر، أسرعي نحوي فقد تخلى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان لأني لم أكن طامعا بالمال نظيره، ولا باستخدام من هو أضعف مني، تعالي إلي أيتها المنية العذبة وخذيني فأولاد بجدتي لا يحتاجوني، ضميني إلى صدرك المملوء محبة، قبلي شفتي التي لم تذق طعم قبلة الوالدة ولا لمست وجنة الأخت ولا لثمت ثغر المحبوبة، أسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية.
انتصب إذ ذاك بجانب فراش المنازع طيف امرأة ذات جمال غير بشري، ترتدي ثوبا ناصعا كالثلج، وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبت الحقول العلوية، ثم دنت منه وعانقته وأغمضت عينيه كي يراها بعين نفسه، وقبلت شفتيه قبلة محبة، قبلة تركت على شفتيه ابتسامة اكتفاء.
في تلك الدقيقة أصبح ذلك البيت خاليا إلا من التراب وبعض أوراق منثورة في زوايا الظلمة.
مرت الأجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سبات الجحود والإهمال، ولما استفاقوا ورأت عيونهم فجر المعرفة أقاموا لذلك الشاعر تمثالا عظيما في وسط الساحة العمومية، وعيدوا له في كل عام عيدا، آه ما أجهل الإنسان!
بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين بنات المرجان ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة، ويتحدثن بأصوات موسيقية حديثا سمعته اللجة فحملته الأمواج إلى الشواطئ فجاء به النسيم إلى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا».
فقالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا ولكن الإنسان - وهو الذى يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية أهرقت فيها الدماء حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري هو قتيل الحرب».
فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب، ولكني أعلم أن الإنسان بعد أن تغلب على اليابسة طمع بالسيادة على البحر فابتدع الآلات الغربية، ومخر العباب فدرى نبتون إله البحار وغضب من هذا التعدي، فلم ير الإنسان بدا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا، فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم».
قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون ولكن ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية، تعالي لنرى جثة هذا الشاب فربما أفادتنا شيئا عن طائفة البشر».
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب وبحثن في جيوب أثوابه فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:
يا حبيبي! ها قد انتصف الليل وأنا ساهرة وليس لي مسل غير دموعي، ولا معز سوى أملي برجوعك إلي من بين مخالب الحرب، ولا أقدر أن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع بأن عند كل إنسان أمانة من الدم لا بد من ردها يوما ... لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب، بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء ويعزيها الحب الذي يجعل الألم لذة والأحزان مسرة، لما وحد الحب قلبينا وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة، نادتك الحرب فاتبعتها مدفوعا بعوامل الواجب والوطنية ، ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين ويرمل النساء وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين والذي لا يحفل به القوي وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج السكينة حياة الإنسان فسلام على الواجب والوطنية. لا لا يا حبيبي لا تحفل بكلامي بل كن شجاعا ومحبا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب وأضاع بصيرتها الفراق، إذا كان الحب لا يرجعك إلى هذه الحياة فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية».
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب وسبحن بسكينة محزنة، ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون»
النفس
وفصل إله الآلهة عن ذاته نفسا وابتدع فيها جمالا، وأعطاها رقة نسيمات السحر وعطر أزاهر الحقل ولطف نور القمر.
ووهبها كأس سرور وقال: لن تشربي منها إلا إذا نسيت الماضي وأهملت الآتي، وكأس حزن وقال: تشربين منها فتدركين كنه فرح الحياة.
وبث فيها محبة تفارقها مع أول تنهدة استكفاء، وحلاوة تخرج منها مع أول كلمة ترفع.
وأسقط عليها علما من السماء ليرشدها إلى سبل الحق.
ووضع في أعماقها بصيرة ترى ما لا يرى.
وابتدع فيها عاطفة تسيل مع الخيالات وتسير مع الأشباح، وألبسها ثوب شوق حاكته الملائكة من تموجات قوس القزح، ثم وضع فيها ظلمة الحيرة وهي خيال النور.
وأخذ الإله نارا من مصهر الغضب، وريحا تهب من صحراء الجهل، ورملا من على شاطئ بحر الأنانية، وترابا من تحت أقدام الدهور.
وجبل الإنسان، وأعطاه قوة عمياء تثور عند الجنون وتخمد أمام الشهوات، ثم وضع فيه الحياة وهي خيال الموت.
وابتسم إله الآلهة وبكى، وشعر بمحبة لا حد لها ولا مدى، وجمع بين الإنسان ونفسه.
ابتسامة ودمعة
لمت الشمس أذيالها عن تلك الحدائق الناضرة، وطلع القمر من وراء الأفق وسكب عليها نورا لطيفا، وأنا جالس هنالك تحت الأشجار أتأمل في انقلاب الجو من حالة إلى حالة، وأنظر من خلايا الأغصان إلى النجوم المنشورة كالدراهم على بساط أزرق، وأسمع من بعيد خرير جداول الوادي.
ولما استأمنت الطيور بين القضبان المورقة، وأغمضت الأزهار عيونها وسادت السكينة، سمعت وقع أقدام خفيفة على الأعشاب فحولت نظري، وإذا بفتى وفتاة يقتربان مني ثم جلسا تحت شجرة غضة وأنا أراهما ولا أرى.
وبعد أن تلفت الفتى إلى كل ناحية سمعته يقول: «اجلسي بجانبي يا حبيبتي واسمعيني، ابتسمي لأن ابتسامتك هي رمز مستقبلنا، وافرحي لأن الأيام قد فرحت من أجلنا، حدثتني نفسي بالشك الذي يخامر قلبك، والشك في الحب إثم يا حبيبتي، عن قريب تصيرين سيدة هذه الأملاك الواسعة التي ينيرها ذلك القمر الفضي، وربة هذ القصر المضاهي قصور الملوك، تجرك خيولي المطهمة في المتنزهات وتذهب بك مركباتي الجميلة إلى المراقص والملاهي، ابتسمي يا حبيبتي كما يبتسم الذهب في خزائني، وارمقيني كما ترمقني جواهر والدي، اسمعي يا حبيبتي فقد أبى قلبي ألا يسكب أمامك مخبآته، أمامنا سنة العسل، سنة نصرفها مع الذهب الكثير على شواطئ بحيرات سويسرا، وفي متنزهات إيطاليا، وقرب قصور النيل، وتحت أغصان أرز لبنان، سوف تلتقين بالأميرات والسيدات فيحسدنك على حلاك وملابسك، كل ذلك لك مني، فهلا رضيت! آه ما أحلى ابتسامتك تحاكي ابتسام دهري!».
وبعد قليل رأيتهما يمشيان على مهل ويدوسان الأزهار بأقدامهما كما تدوس قدم الغني قلب الفقير.
غابا عن بصري وأنا أفكر بمنزلة المال عند الحب، أفكر بالمال مصدر شرور الإنسان وبالحب منبع السعادة والنور.
ظللت تائها في مسارح هذه الأفكار حتى لمحت شبحين مرا من أمامي وجلسا على الأعشاب، فتى وفتاة أتيا من جهة الحقول حيث أكواخ الفلاحين في المزارع، وبعد هنية من سكينة مؤثرة سمعت هذا الكلام صادرا مع تنهدات عميقة من فم مصدور: «كفكفي الدمع يا حبيبتي، إن المحبة التي شاءت ففتحت أعيننا وجعلتنا من عبادها تهبنا نعمة الصبر والتجلد، كفكفي الدمع وتعزي لأننا تحالفنا على دين الحب، ومن أجل الحب العذب نحتمل عذاب الفقر ومرارة الشقاء وتباريح الفراق، ولا بد لي من مصارعة الأيام حتى أظفر بغنيمة تليق بأن أضعها بين يديك تساعدنا على قطع مراحل العمر، إن المحبة يا حبيبتي - وهي الله - تقتبل منا هذه التنهدات وهذه الدموع كبخور عاطر، وهي تكافئنا عليها بقدر ما نستحق، أودعك يا حبيبتي فأنا راحل قبل أن يغيب القمر».
ثم سمعت صوتا رقيقا تقاطعه زفرات أنفاس ملتهبة، صوت عذراء لطيفة أودعته كل ما في جوارحها من حرارة الحب ومرارة التفرق وحلاوة التجلد تقول: «الوادع يا حبيبي».
ثم افترقا وأنا جالس تحت أغصان تلك الشجرة تتجاذبني أيدي الشفقة وتتساهمني أسرار هذا الكون الغريب.
ونظرت تلك الساعة نحو الطبية الراقدة، وتأملت مليا فوجدت فيها شيئا لا حد له ولا نهاية، شيئا لا يشترى بالمال، وجدت شيئا لا تمحوه دموع الخريف ولا يميته حزن الشتاء، شيئا لا توجده بحيرات سويسرا ولا متنزهات إيطاليا، وجدت شيئا يتجلد فيحيا في الربيع ويثمر في الصيف، وجدت فيها المحبة.
رؤيا
هناك في وسط الحقل على ضفة جدول بلوري رأيت قفصا حبكت ضلوعه يد ماهرة، وفي إحدى زوايا القفص عصفور ميت، وفي زاوية أخرى جرن جف ماؤه وجرن نفدت بذوره.
فوقفت وقد امتلكتني السكينة، وأصغيت صاغرا كأن في الطائر الميت وصوت الجدول عظة تستنطق الضمير وتستفسر القلب، وتأملت فعلمت أن ذلك العصفور الحقير قد صارع الموت عطشا وهو بجانب مجاري المياه وغالبه جوعا وهو في وسط الحقول التي هي مهد الحياة، كغني أقفلت عليه أبواب خزائنه فمات جوعا بين الذهب.
وبعد هنيهة رأيت القفص قد انقلب فجأة وصار هيكل إنسان شفافا، وتحول الطائر الميت إلى قلب بشري فيه جرح عميق يقطر دما قرمزيا، وقد حاكت جوانب الجرح شفتي امرأة حزينة.
ثم سمعت صوتا خارجا من الجرح مع قطرات الدماء قائلا: «أنا هو القلب البشري أسير المادة، وقتيل شرائع الإنسان الترابي في وسط حقل الجمال، على ضفة ينابيع الحياة أسرت في قفص الشرائع التي سنها الإنسان للشواعر، على مهد محاسن المخلوقات بين أيدي المحبة مت مهملا؛ لأن ثمار تلك المحاسن ونتاج هذه المحبة قد حرما علي كل ما يشوقني، صار كل ما يشوقني بعرف الإنسان عارا، وجميع ما أشتهيه أصبح في قضائه مذلة.
أنا القلب البشري قد حبست في ظلمة سنن الجامعة فضعفت، وقيدت بسلاسل الأوهام فاحتضرت، وأهملت في زوايا غي المدينة فقضيت، ولسان الإنسانية منعقد وعيونها ناشفة وهي تبتسم.
سمعت هذه الكلمات ورأيتها خارجة مع قطرات الدم من ذلك القلب الجريح، وبعد ذلك لم أعد أرى شيئا ولم أسمع صوتا فرجعت لحقيقتي.
الجمال
«إن الجمال دين الحكماء»
شاكر هنري
يا أيها الذين حاروا في سبيل الأديان المتشعبة، وهاموا في أودية الاعتقادات المتباينة، فرأوا حرية الجحود أوفى من قيود التسليم، ومسارج النكران أسلم من معاقل الأتباع، اتخذوا الجمال دينا واتقوه ربا، فهو الظاهر في كمال المخلوقات، البادي في نتائج المعقولات، انبذوا الألى مثلوا التدين لهوا وآلفوا بين طمعهم بالمال وشغفهم بحسن المآل، وآمنوا بألوهية جمال كان بدء استحسانكم الحياة، ومنبع محبتكم والسعادة، ثم توبوا إليه فهو المقرب قلوبكم من عرش المرأة مرآة شعائركم، والمدرب أنفسكم في مجال الطبيعة موطن حياتكم.
ويا أيها الذين ضاعوا في ليل التقولات، وغرقوا في لجج الأوهام، إن في الجمال حقيقة نافية الريب، مانعة الشك، ونورا باهرا يقيكم ظلمة البطل، تأملوا في يقظة الربيع ومجيء الصبح، إن الجمال نصيب المتأملين.
أصغوا لأنغام الطيور، وحفيف الأغصان، وخرير الجدول، إن الجمال قسمة السامعين، انظروا وداعة الطفل، وظرف الشاب، وقوة الكهل، وحكمة الشيخ، إن الجمال فتنة الناظرين.
تشببوا بنرجس العيون، وورد الخدود، وشقيق الفم؛ إن الجمال يتمجد بالمتشببين، سبحوا لغصن القد، وليل الشعر، وعاج العنق؛ إن الجمال يسر بالمسبحين. كرسوا الجسد هيكلا للحسن، وقدسوا القلب مذبحا للحب؛ إن الجمال يجازي المتعبدين.
تهللوا يا أيها الذين أنزلت عليهم آيات الجمال، وافرحوا إذ لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
الحروف النارية
احفروا على لوح قبري «هنا رفات من كتب اسمه بماء»
جان كيتس
أهكذا تمر بنا الليالي؟ أهكذا نندثر تحت أقدام الدهر؟ أهكذا تطوينا الأجيال ولا تحفظ لنا سوي اسم نخطه على صفحها بماء بدلا من المداد؟ أينطفئ هذا النور وتزول هذه المحبة وتضمحل هذه الأماني؟
أيهدم الموت كل ما نبنيه ويذري الهواء كل ما نقوله ويخفي الظل كل ما نفعله؟ أهذه هي الحياة؟ هل هي ماض قد زال واختفت آثاره، وحاضر يركض لاحقا بالماضي، ومستقبل لا معنى له إلا إذا ما مر وصار حاضرا أو ماضيا؟ أتزول جميع مسرات قلوبنا وأحزان أنفسنا بدون أن نعلم نتائجها؟
أهكذا يكون الإنسان مثل زبد البحر يطفو دقيقة على وجه الماء ثم تمر نسيمات الهواء فتطفئه ويصبح كأنه لم يكن!
لا لعمري فحقيقة الحياة حياة، حياة لم يكن ابتداؤها في الرحم ولن يكون منتهاها في اللحد، وما هذه السنوات إلا لحظة من حياة أزلية أبدية، هذا العمر الدنيوي مع كل ما فيه هو حلم بجانب اليقظة التي ندعوها الموت المخيف، حلم ولكن ما رأيناه وفعلناه فيه يبقى ببقاء الله.
فالأثير يجعل كل ابتسامة وكل تنهدة تصعد من قلوبنا ويحفظ صدى كل قبلة مصدرها المحبة، والملائكة تحصي كل دمعة يقطرها الحزن من مآقينا وتعيد على مسمع الأرواح السابحة في فضاء اللانهاية كل أنشودة ابتدعها الفرح من شواعرنا.
هناك في العالم الآتي سنرى جميع تموجات شواعرنا واهتزازات قلوبنا، وهناك ندرك كنه ألوهيتنا التي نحتقرها الآن مدفوعين بعوامل القنوط، الضلال الذي ندعوه اليوم ضعفا سيظهر في الغد كحلقة كيانها واجب لتكملة سلسلة حياة ابن آدم.
الأتعاب لا نكافأ عليها الآن ستحيا معنا وتذيع مجدنا.
الأرزاء التي نحتملها ستكون إكليلا لفخرنا.
هذا ولو علم «كيتس» ذلك البلبل الصداح أناشيده لم تزل تبث روح محبة الجمال في قلوب البشر لقال: «احفروا على لوح قبري: هنا بقايا من كتب اسمه على أديم السماء بأحرف من نار».
بين الخرائب
وشح القمر تلك الخمائل المحاطة بمدينة الشمس برقعا لطيفا، وظفر الهدوء بأعنة الكائنات، وبانت تلك الخرائب الهائلة كأنها جبار يهزأ بعاديات الليالي.
في تلك الساعة انبثق من لا شيء خيالان يشبهان أبخرة متصاعدة من بحيرة زرقاء، وجلسا على عمود رخامي استأصله الدهر من ذاك البناء الغريب يتأملان بمحيط يحاكي مسارح السحر، وبعد هنيهة رفع أحدهما رأسه وبصوت يشبه الصدى الذي تردده خلايا الأودية البعيدة قال: «هذه بقايا هياكل بنيتها من أجلك يا محبوبتي، وتلك رمم قصر رفعته لاستحسانك، وقد دكت ولم يبق منها سوى أثر يحدث الأمم بمجد صرفت الحياة لتعميمه، وعز استخدمت الضعفاء لتعظيمه. تأملي يا محبوبتي فقد تغلبت العناصر على مدينة شيدتها، واستصغرت الأجيال حكمة رأيتها، وأضاع النسيان ملكا رفعته، ولم يبق لي سوى دقائق المحبة التي أولدها جمالك، ونتائج الجمال الذي أحياه حبك، بنيت هيكلا بين أضلعي للمحبة فقدسه الله ولن تقوى عليه القوات، صرفت العمر مستفسرا ظواهر الأشياء مستنطقا أعمال المادة، فقال الإنسان: «ما أحكمه ملكا!» وقالت الملائكة: «ما أصغره حكيما!» ثم رأيتك يا محبوبتي وغنيت فيك نشيد محبة وشوق، ففرحت الملائكة أما الإنسان فلم ينتبه. كانت أيام ملكي كالحواجز بين نفسي الظمآنة والروح الجميل المستقر في الكائنات، ولما رأيتك استيقظت المحبة وهدمت تلك الحواجز فأسفت على عمر صرفته مستسلما لتيارات القنوط، حاسبا كل شيء تحت الشمس باطلا، حبكت الدروع وطرقت التروس، فخافتني القبائل، ولما أنارتني المحبة احتقرت حتى من شعبي، ولكن عندما جاء الموت أودع تلك الدروع والتروس التراب وحمل محبتي إلى الله».
وبعد سكينة قال الخيال الثاني: «مثلما تكتسب الزهرة عطرها وحياتها من التراب، كذلك تستخلص النفس من ضعف المادة وخطاها قوة وحكمة».
عندئذ تمازج الخيالان وصارا خيالا واحدا وسارا، وبعد هنية أذاع الهواء هذه الكلمات في تلك الأنحاء: «لا تحفظ الأبدية إلا المحبة لأنها مثلها».
رؤيا
أرفع هذه الرسالة إلى الفيكونتس (س.ل)
جوابا على رسالة أكرمتني بها
مشى الشاب أمامي فاتبعت مسيره، حتى إذا بلغنا حقلا بعيدا وقفت متأملا الغيوم الجارية فوق خط الشفق كأنها قطيع نعاج بيضاء، والأشجار المشيرة بأغصانها العارية إلى العلاء كأنها تطلب من السماء استرجاء أوراقها الغضة، فقلت: أين نحن أيها الشاب؟ قال: في حقول الحيرة فانتبه. قلت: لنرجع! لأن وحشة المكان تخيفني ومرأى النجوم والأشجار العارية يحزن نفسي. قال: اصبر، فالحيرة بدء المعرفة. ثم نظرت فإذا بحورية تقترب منا كالخيال فصرخت مستغربا: من هذه؟ قال: هي مليومين ابنة جوبيتر وربة الروايات المحزنة.
1
قلت: وماذا تبتغي الأحزان مني وأنت بجانبي أيها الشاب المفرح؟ قال: جاءت لتريك الأرض وأحزانها، من لا يرى الأحزان لا يرى الفرح. ووضعت الحورية يدها على عيني، ولما رفعتها رأيتني منفصلا عن شبابي مجردا من ثوب المادة، فقلت: أين الشباب يا ابنة الآلهة؟ فلم تجبني بل ضمتني بجناحيها وطارت بي إلى قمة جبل عال، فرأيت الأرض وما فيها منبسطة أمامي كالصفحة، وأسرار سكانها ظاهرة لعيني كالخطوط، فوقفت متهيبا بجانب الحورية متأملا خفايا الإنسان، مستفسرا رموز الحياة، رأيت وليتني لم أر، رأيت ملائكة السعادة تحارب أبالسة الشقاء، والإنسان بينهما في حيرة تميل به نحو الآمال تارة والقنوط أخرى، رأيت الحب والبغض يلعبان بالقلب البشري، هذا يستر ذنوبه ويسكره بخمرة الاستسلام ويطلق لسانه بالمدح والإطراء، وذاك يهيج خصوماته ويعميه عن الحقيقة ويغلق سامعته عن القول الصحيح، رأيت المدينة جالسة كابنة الأزقة متشبثة بأذيال ابن آدم، ثم رأيت البرية الجميلة واقفة عن بعد تبكي من أجله.
رأيت الكهان يروغون كالثعالب، والمسحاء الكذبة يحتالون على ميول النفس، والإنسان يصرخ مستنجدا بالحكمة وهي نافرة عنه غضبى عليه لأنه لم يسمعها عندما نادته في الشوارع على رءوس الأشهاد.
رأيت القسوس يكثرون رفع عيونهم إلى السماء وقلوبهم مطمورة في قبور المطامع، رأيت الفتيان يتحببون بألسنتهم ويقتربون بآمال نزقهم، وألوهيتهم بعيدة وعواطفهم نائمة.
رأيت المتشرعين يتاجرون بثرثرة الكلام بسوق الخداع والرياء، والأطباء يلعبون بأرواح البسطاء الواثقين.
رأيت الجاهل يجالس العاقل فيرفع ماضيه على عرش المجد، ويوسد حاضره بساط السعة، ويمد لمستقبله فراش الفخامة.
رأيت الفقراء والمساكين يزرعون، والأغنياء الأقوياء يحصدون ويأكلون، والظلم واقف هناك والناس يدعونه الشريعة.
رأيت لصوص الظلمة يسرقون كنوز العقل، وحراس النور غرقى في كرى التواني.
رأيت المرأة كالقيثارة في يد رجل لا يحسن الضرب عليها فتسمعه أنغاما لا ترضيه.
رأيت تلك الكتائب المعروفة تحاصر مدينة الشرف الموروث، لكني رأيت كتائب قد انحدرت لأنها قليلة غير متحدة.
رأيت الحرية الحقيقية تسير وحدها في الشوارع وأمام الأبواب تطلب مأوى والقوم يمنعونها، ثم رأيت الابتذال يسير بموكب عظيم والناس يدعونه الحرية.
رأيت الدين مدفونا طي الكتاب والوهم قائما مقامه.
رأيت الناس تلبس الصبر ثوب الجبانة، وتعطر التجلد لقب التواني، ويدعو اللطف باسم الخوف.
رأيت المتطفل على موائد الآداب يدعى والمدعو إليه صامتا.
رأيت المال بين أيدي المبذر شبكة شروره، وبين أيدي البخيل مجلبة لمقت الناس، وبين أيدي الحكيم لم أر مالا.
عندما رأيت كل هذه الأشياء صرخت متألما من هذا المنظر: «أهذه هي الأرض يا ابنة الآلهة؟ أهذا هو الإنسان؟» فأجابت بسكينة جارحة: «هذه طريق النفس المفروشة شوكا وقطربا، هذا ظل الإنسان، هذا هو الليل وسيجيء الصباح. ثم وضعت يدها على عيني، ولما رفعتها وجدتني وشبابي سائرا على مهل، والأمل يركض أمامي.
الأمس واليوم
مشى الموسر في حديقة صرحه ومشى الهم متبعا خطواته، وحام القلق فوق رأسه مثلما تحوم النسور على جثة صفعها الموت حتى بلغ بحيرة تسابقت في صنعها أيدي الإنسان، وجمعت جوانبها منطقة من الخام المنحوت، فجلس هناك ينظر آنا إلى المياه المتدفقة من أفواه التماثيل تدفق الأفكار من مخيلة العاشق، وآونة إلى قصره الجميل الجالس على تلك الرابية جلوس الخال على وجنة الفتاة.
جلس فجالسته الذكرى ونشرت أمام عينيه صفحات كتبها الماضي في رواية حياته، فأخذ يتلوها والدموع تحجب عنه محيطا صنعه الإنسان، واللهفة تعيد إلى قلبه رسوم أيام نسجتها الآلهة حتى أبت لوعته إلا الكلام، فقال: «كنت بالأمس أرعى الغنم بين تلك الروابي المخضرة، وأفرح بالحياة وأنفخ في شبابتي معلنا غبطتي، وها أنا اليوم أسير المطامع يقودني المال إلى المال، والمال إلى الانهماك، والانهماك إلى الشقاء، كنت كالعصفور مغردا وكالفراش متنقلا، ولم يكن النسيم أخف وطأة على رءوس الأعشاب من خطوات أقدامي في تلك الحقول، وها أنا الآن سجين عادات الاجتماع أتصنع بملابس وعلى مائدتي وبكل أعمالي من أجل إرضاء البشر وشرائعهم، كنت أود لو أني خلقت لأتمتع بمسرات الوجود، ولكني أراني اليوم متعبا بحكم المال سبل الغم، قصرت كالناقة المثقلة بحمل من الذهب والذهب يميتها، أين السهول الواسعة؟ أين السواقي المترنمة؟ أين الهواء النقي؟ أين مجد الطبيعة؟ أين ألوهيتي؟ قد ضيعت كل ذلك ولم يبق لي غير ذهب أحبه فيستهزئ بي، وعبيد كثرتهم فقل سروري، وصرح رفعته ليهدم غبطتي. كنت وابنة البدو نسير والعفاف ثالثنا، والحب نديمنا، والقمر رقيبنا، واليوم أصبحت بين اللواتي يمشين ممدودات الأعناق غامزات العيون، الشاريات الحسن بالسلاسل والمناطق، البائعات الوصل بالأساور والخواتم. كنت والفتيان نخطر بين الأشجار كسرب الغزلان نشترك بإنشاد الأغاني، نقتسم ملذات الحقول، واليوم صرت بين القوم كالنعجة بين الكواسر، أمشي في الشوارع فتنفتح على عيون البغض ويشار إلي بأصابع الحسد، وإن ذهبت إلى المتنزهات لا أرى غير وجوه كالحة ورءوس شامخة.
بالأمس أعطيت الحياة وجمال الطبيعة واليوم سلبتهما، بالأمس كنت غنيا بسعادتي واليوم أصبحت فقيرا بمالي، وبالأمس كنت ونعاجي مثل ملك رءوف ورعية، واليوم صرت لدى الذهب كالعبد المتصاغر أمام السيد المظلوم، ما كنت أحسب أن المال يطمس عين نفسي ويقودها إلى مغائر الجهل، ولم أدر ما يحسبه الناس مجدا كان وا حر قلباه جحيما».
وقام الموسر من مكانه ومشى ببطء نحو قصره متأوها مرددا: «أهذا هو المال؟ أهذا الإله الذي صرت كاهنه؟ أهذا ما نبتاع بالحياة؟ من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من الذهب؟ من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟ من يعطني عينا ترى الجمال ويأخذ خزائني؟».
ولما وصل إلى باب القصر نظر نحو المدينة نظرة أرميا إلى أورشليم، وأومأ بيده نحوها كأنه يرثيها وقال بصوت عال: «أيها الشعب السالك في الظلمة، الجالس في ظل الموت، الراكض وراء التعاسة، القاضي بالباطل، المتكلم بالحماقة، إلى متى تأكل الشوك والحسك وترمي الثمار والزهر إلى الهاوية؟ حتى متى تسكن الوعر والخرائب تاركا بستان الحياة؟ لماذا ترتدي الأطمار البالية تاركا ثوب الدمقس؟ قد انطفأ سراج الحكمة فاسقه زيتا، وخرب ابن السبيل كرم السعادة فاحرسه، وسرق اللص خزائن راحتك فانتبه!» في تلك الدقيقة وقف أمام الغني فقير ومد يده متسولا، فنظر إليه وقد انضمت شفتاه المرتجفتان، وانبسطت سحنته المنقبضة، وانبعث من عينيه نور لطيف، كان بالأمس الذي رثاه بقرب البحيرة قد مر مسلما فاقترب من المستعطي وقبله قبلة المحبة والمساواة، وملأ يده ذهبا، وقال والرأفة تسيل من كلماته: «خذ يا أخي الآن، وعد غدا مع أترابك واسترجعوا أموالكم». فابتسم الفقير ابتسامة الزهرة الذابلة بعيد المطر وراح مسرعا، حينئذ دخل الموسر إلى قصره قائلا: كل شيء حسن في الحياة حتى المال لأنه يعلم الإنسان أمثولة، إنما المال كالأرغن يسمع من لا يحسن الضرب عليه أنغاما لا ترضيه. المال كالحب يميت من يضن به ويحيي واهبه.
رحماك يا نفس رحماك
حتى م تنوحين يا نفسي وأنت عالمة بضعفي؟ إلى متى تضجين وليس لدي سوى كلام بشري أصور به أحلامك؟
انظري يا نفسي، فقد أنفقت عمري مصغيا لتعاليمك، تأملي يا معذبتي فقد أتلفت جسمي متبعا خطواتك.
كان قلبي مليكي فصار الآن عبدك، وكان صبري مؤنسي فغدا بك عذولي، كان الشاب نديمي فأصبح اليوم لائمي، وهذا كل ما أوتيته من الآلهة فمم تستزيدين وبم تطمعين؟
قد أنكرت ذاتي، وتركت ملاذ حياتي، وغادرت مجد عمري ولم يبق لي سواك، فاقضي علي بالعدل فالعدل مجدك، أو استدعي الموت واعتقي من الأسر معناك.
رحماك يا نفس فقد حملتني من الحب ما لا أطيقه، أنت والحب قوة متحدة، وأنا والمادة ضعف متفرق، وهل يطول عراك بين قوي وضعيف؟ رحماك يا نفس فقد أريتني السعادة عن بعد شاسع ... أنت والسعادة على جبل عال، وأنا والشقاء في أعماق الوادي، وهل يتم لقاء علو ووطوءة؟
رحماك يا نفس، فقد أبنت لي الجمال وأخفيته، أنت والجمال في النور وأنا والجهل في ظلمة، وهل يمتزج النور بالظلمة؟
أنت يا نفس تفرحين بالآخرة قبل مجيء الآخرة، وهذا الجسد يشقى بالحياة وهو في الحياة.
أنت تسيرين نحو الأبدية مسرعة وهذا الجسد يخطو نحو الفتاة ببطء، فلا أنت تتمهلين ولا هو يسرع، وهذا يا نفس منتهى التعاسة.
أنت ترتفعين نحو العلو بجاذب السماء، وهذا الجسد يسقط إلى تحت بجاذبية الأرض، فلا أنت تعزينه ولا هو يهنئك، وهذه هي البغضاء.
أنت يا نفس غنية بحكمتك وهذا الجسد فقير بسليقته، فلا أنت تتساهلين ولا هو يتبع، وهذا أقصى الشقاء.
أنت تذهبين في سكينة الليل نحو الحبيب وتتمتعين منه بضمة وعناق، وهذا الجسد يبقى أبدا قتيل الشوق والتفريق.
رحماك يا نفس رحماك.
الأرملة وابنها
هجم الليل مسرعا على شمال، مستظهرا على نهار تساقطت فيه الثلوج على تلك القرى المحيطة بوادي قاديشا،
1
جاعلة تلك الحقول والهضاب صفحة بيضاء ترسم عليها الأرياح خطوطا تمحوها الأرياح وتتلاعب بها العواصف، مازجة الجو الغضوب بالطبيعة الهائلة.
اختبأ الإنسان في منازله، والحيوان في مرابضه، وسكنت حركة كل ذي نسمة حية، ولم يبق غير برد قارس، وزمهرير هائج، وليل أسود مخيف، وموت قوي مريع.
وكان في منزل منفرد بين تلك القرى امرأة جالسة أمام موقد تنسج الصوف رداء، وبقربها وحيدها ينظر تارة إلى أشعة النار وطورا إلى وجه أمه الهادئ، في تلك الساعة عصفت الأرياح بشدة وهزت أركان ذلك البيت، فذعر الصبي وأقترب من أمه محتميا بحنونها من غضب العناصر، فضمته إلى صدرها وقبعته، ثم أجلسته على ركبتيها وقالت: «لا تجزع يا ابني، فالطبيعة تريد أن تعظ الإنسان مظهرة عظمتها تجاه صغره، وقوتها بجانب ضعفه، لا تخف يا ولدي فمن وراء الثلوج المتساقطة والغيوم المتلبدة والأرياح العاصفة روح قدوس كلي عالم بما تحتاجه الحقول والآكام، من وراء كل شيء كوة ناظرة إلى حقارة الإنسان بعين الشفقة والرحمة، لا تجزع يا فلذة كبدي فالطبيعة التي ابتسمت في الربيع وضحكت في الصيف وتأوهت في الخريف تريد أن تبكيني الآن، ومن دموعها الباردة تستقي الحياة الرابضة تحت أطباق الثرى.
نم يا ولدي ففي الغد تستيقظ وترى السماء صافية الأديم، والحقول لابسة رداء الثلج الناصع مثلما ترتدي النفس ثوب الطهر بعد مصارعة الموت. نم يا وحيدي فوالدك ناظر الآن إلينا من مسارح الأبدية، وحبذا عاصفة وثلوج تقربنا من ذكر النفوس الخالدة. نم يا حبيبي فمن هذه العناصر المتحاربة بعنف سوف نجني الأزهار الجميلة عندما يجيء نيسان، كذا يا ابني لا يستثمر المحبة إلا بعد بعاد أليم، وصبر مر وقنوط متلف. نم يا صغيري فسوف تأتي الأحلام العذبة إلى نفسك غير خائفة من هيبة الليل وبطش البرد».
ونظر الصبي إلى أمه وقد كحل النعاس عينيه وقال: «لقد أثقل أجفاني الكرى يا أماه وأخاف أن أنام قبل تلاوة الصلاة، فعانقته الأم الحنونة ونظرت من وراء الدموع إلى وجهه الملائكي ثم قالت: «قل معي يا ولدي: أشفق يا رب على الفقراء وارحمهم من قساوة البرد القارس واستر جسومهم العارية بأيديك، انظر إلى اليتامى النائمين في الأكواخ وأنفاس الثلج تكلم أجسامهم، اسمع يا رب نداء الأرامل القائمات في الشوارع بين مخالب الموت وأظفار البرد، امدد يدك يا رب إلى قلب الغني وافتح بصيرته ليرى فاقة الضعفاء المظلومين. ارفق يا رب بالجائعين الواقفين أمام الأبواب في هذا الليل الظلوم، واهد الغرباء إلى المآوي الدافئة وارحم غربتهم، انظر يا رب إلى العصافير الصغيرة، واحفظ بيمينك الأشجار الخائفة من قساوة الرياح، ليكن هذا يا رب».
ولما عانق الكرى نفس الصبي مددته والدته على فراشه وقبلت جبهته بشفتين مرتجفتين، ثم رجعت وجلست أمام الموقد تنسج له الصوف رداء.
الدهر والأمة
على سفح لبنان بقرب جدول ينسل بين الصخور كأسلاك فضية، جلست راعية يحيط بها قطيع غنم مهزول يرتعي الأعشاب اليابسة بين الأشواك الغضة، صبية تنظر نحو الشفق البعيد كأنها تقرأ مآتي الآتي على صفحات الجو، وقد نمق الدمع عينيها مثلما ينمق الندى أزهار النرجس، وفتح الأسى شفتيها كأنه يريد سلب قلبها تنهدا.
ولما جاء المساء وأخذت تلك الروابي تلتف برداء الظل، وقف أمام الصبية فجأة شيخ يتدلى شعره الأبيض على صدره وكتفيه، حاملا بيمينه منجلا سنينا وقال بصوت يحاكي هدير الأمواج: «سلام على سوريا».
فوقفت الفتاة مذعورة، وأجابته بصوت يقطعه الوجل ويصله الحزن قائلة: «ماذا تبتغي الآن مني أيها الدهر!».
ثم أومأت نحو أغنامها وزادت: «هذا بقايا قطيع كان يملأ الأودية.
هذه فضلة مطامعك فهل جئت لتستزيد منها؟
هذه هي المسارح التي أجد بها دوس قدميك وقد كانت منبت الخصب والرزق، كانت نعاجي ترتعي رءوس الأزهار لبنا ذكيا، فها هي الآن خمص البطون تقضم الأشواك وأصول الأشجار مخافة الفناء.
اتق الله يا دهر وانصرف عني، فقد كرهتني الحياة ذكرى مظالمك، وحببت إلي الموت قساوة منجلك.
اتركني ووحدتي أرشف الدمع شرابا، وأتنشق الحزن نسيما، واذهب يا دهر إلى الغرب حيث القوم في عرس الحياة وعيدها، ودعني أنتحب في مآتم أنت عاقدتها».
فنظر الشيخ إليها نظرة الأب وقد أخفى منجله على أثوابه، وقال: «ما أخذت منك يا سوريا إلا بعض عطاياي، وما كنت ناهبا قط بل مستعيرا أرد، ووفيا أرجع، واعلمي أن لأخواتك الأمم نصيبا باستخدام مجد كان عبدك، وحقا بلبس رداء كان لك، أنا والعدل أقنومان لذات واحدة، فلا يجمل بي سوى إعطاء أخواتك ما أعطيتك، ولست قادرا على تسويتكن في محبتي لأن المحبة لا تنقسم إلا على السواء، لك يا سوريا أسوة بجاراتك مصر وفارس واليونان إذ لكل منهن قطيع يشابه قطيعك، ومرعى نظير مرعاك. إن ما تدعينه انحطاطا يا سوريا أدعوه نوما واجبا يعقبه النشاط والعمل، فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت، والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق».
واقترب الشيخ من الفتاة ومد يده قائلا: «هذي يدي يا ابنة الأنبياء». فأخذت يده وهي تنظر إليه من وراء الدمع وقالت: «الوداع أيها الدهر الوداع» فأجابها: «إلى اللقاء يا سوريا إلى اللقاء».
حينئذ اختفى الشيخ كما يختفي البرق، فنادت الصبية أغنامها ومشت مرددة: «هل من لقاء يا ترى هل من لقاء؟»
أمام عرش الجمال
هربت من الاجتماع وهمت في ذاك الوادي الوسيع متبعا مجاري الجدول تارة ومصغيا إلى محاورات العصافير طورا، حتى بلغت مكانا حمته الأغصان من نظرات الشمس فجلست أسامر وحدتي وأناجي نفسي، نفس ظامئة رأت كل ما يرى سرابا، وكل ما لا يرى شرابا.
ولما انطلقت عاقلتي من محبس المادة إلى فضاء، التفت فإذا بفتاة واقفة على مقربة مني، حورية لم تتخذ من الحلي والحلل سوى غصن من الكرمة تستر به بعض قامتها، وإكليل من الشقيق يجمع شعرها الذهبي؛ إذ علمت من نظراتي أنني صرت مسلوب الفجأة والحيرة، قالت: «أنا ابنة الأحراج فلا تجزع»، قلت وقد ردت حلاوة صوتها بعض رمقي: «وهل يقطن من كان مثلك برية سكنتها الوحشة والوحوش؟ قولي لي بعيشك من أنت ومن أين أتيت؟» فقالت وقد جلست على الأعشاب: «أنا رمز الطبيعة، أنا العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجبيل، قلت: «تلك الهياكل قد انهدمت وعظام أجدادي ساوت أديم الأرض ولم يبق من آثار ألهتهم وأديانهم سوى صفحات قليلة في بطون الكتب» قالت: «بعض الآلهة يحيون بحياة عبادهم ويموتون بموتهم، وبعضهم يحيون بألوهية أزلية أبدية، أما ألوهيتي فهي مستمدة من جمال تراه كيفما حولت عينيك، جمال هو الطبية بأسرها، جمال كان بدء سعادة الراعي بين الربى والقروي بين الحقول والعشائر الرحل بين الجبل والساحل، جمال كان للحكيم مرقاة إلى عرش حقيقة لا تجرح».
قلت ودقات قلبي تقول ما لا يعرفه اللسان: «إن الجمال قوة مخيفة رهيبة». فقالت وعلى شفتيها ابتسامة الأزهار وفي نظرها أسرار الحياة: «أنتم البشر تخافون كل شيء حتى ذواتكم، تخافون السماء وهي منبع الأمن، تخافون الطبيعة وهي مرقد الراحة، وتخافون إله الآلهة وتعزون إليه الحقد والغضب وهو إن لم يكن محبة ورحمة لم يكن شيئا».
وبعد سكينة مازجتها الأحلام اللطيفة سألتها: «ما هذا الجمال؟ فقد تباين الناس بتعريفه ومعرفته مثلما اختلفوا بتمجيده ومحبته». قالت: «هو ما كان بنفسك جاذب إليه، هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ، هو ما شعرت عند ملقاه بأياد ممدودة من أعماقك لضمه إلى أعماقك، هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة، هو ألفة بين الحزن والفرح، هو ما تراه محجوبا وتعرفه مجهولا وتسمعه صامتا، هو قوة تبتدئ في قدس أقداس ذاتك وتنتهي في ما وراء تخيلاتك».
واقتربت ابنة الأحراج مني ووضعت يدها المعطرة على عيني، ولما رفعتها رأيتني وحيدا في ذلك الوادي، فرجعت ونفسي مرددة: «إن الجمال هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ».
زيارة الحكمة
في هدوء الليل جاءت الحكمة ووقفت بقرب مضجعي، ونظرت إلي نظرة الأم الحنون ومسحت دموعي وقالت: «سمعت صراخ نفسك فأتيت لأعزيها، ابسط قلبك أمامي فأملأه نورا، سلني فأريك سبيل الحق» فقلت: «من أنا أيتها الحكمة، وكيف سرت إلى هذا المكان المخيف؟ ما هذه الأماني العظيمة والكتب الكثيرة والرسوم الغريبة؟ ما هذه الأفكار التي تمر كسرب الحمام؟ ما هذا الكلام المنظوم بالميل، المنثور باللذة؟ ما هذه النتائج المحزنة المفرحة، المعانقة روحي، المساورة قلبي؟ ما هذه العيون المحدقة بي، الناظرة أعماقي المنصرفة عن آلامي؟ ما هذه الأصوات النائحة على أيامي، المترنمة بصغري؟ ما هذا الشباب المتلاعب بأميالي، المستهزئ بعواطفي، الناسي أعمال الأمس، الفارح بتفاهة الحال، المستنكف من بطء الغد؟ ما هذا العالم السائر بي إلى حيث لا أدري، الواقف معي موقف الهوان؟ ما هذه الأرض الفاغرة فاها لابتلاع الأجسام المقرحة صدرها لسكنى المطامع؟ ما هذا الإنسان الراضي بمحبة السعادة ودون وصالها الهاوية، الطالب قبلة الحياة والموت يصفعه، الشاري دقيقة اللذة بعام الندامة، المستسلم للكرى والأحلام تناديه، السائر مع سواقي الجهالة إلى خليج الظلمة؟ ما هذه الأشياء أيتها الحكمة؟!
فقالت: «أنت تريد أيها البشري أن ترى هذا العالم بعين إله، وتريد أن تفقه مكنونات العالم الآتي بفكرة بشرية وهذا منتهى الحماقة، اذهب إلى البرية تجد النحلة حائمة حول الزهور، والنسر ينقض على الفريسة، ادخل إلى بيت جارك ترى الطفل مدهوشا بأشعة النار، والوالدة مشغولة بأعمال منزلها، كن أنت كالنحلة، ولا تصرف أيام الربيع ناظرا أعمال النسر، كن كالطفل وافرح بأشعة النار ودع والدتك وشأنها، كل ما تراه كان ويكون من أجلك، الكتب الكثيرة والرسوم الغربية والأفكار الجميلة هي أشباح نفوس الذين تقدموك، الكلام الذي تحوكه هو الواصل بينك وبين إخوانك البشر، النتائج المحزنة المفرحة هي البذور التي ألقاها الماضي في حقل النفس وسوف يستغلها المستقبل.
إن هذا الشباب المتلاعب بأميالك هو هو الفاتح باب قلبك لدخول النور، إن هذه الأرض الفاغرة فاها هي التي تخلص نفسك من عبودية جسدك، إن هذا العالم السائر بك هو قلبك، فقلبك هو كل ما تظنه عالما، إن هذا الإنسان الذي تراه جاهلا وصغيرا هو الذي جاء من لدن الله ليتعلم الفرح بالحزن، والمعرفة من الظلمة».
ووضعت الحكمة يدها على جبهتي الملتهبة وقالت: «سر إلى الأمام ولا تقف قط فالأمام هو الكمال، سر ولا تخش أشواك السبيل فهي لا تستطيع إلا الدماء الفاسدة».
حكاية صديق
1
عرفته فتى ضائعا في مسالك حياته، محكوما بمفاعيل شبيبته، مستميتا في إدراك غرض أمياله، عرفته زهرة لينه حملتها رياح النزق إلى لجة الشهوات، عرفته في تلك القرية صبيا شرسا يمزق بيديه أعشاش العصافير ويميت أفراخها، ويسحق برجليه تيجان الأزهار ويبيد محاسنها، وعرفته في المدرسة يافعا بعيدا عن الاقتباس، قربيا من الغطرسة، عدوا للسكينة، وعرفته في المدينة شابا يتاجر بشرف أبيه في سوق الخسائر، ويبذل أمواله في نوادي التهتك، ويعطي عاقلته إلى ابنة الكرمة.
ولكني كنت أحبه، أحبه محبة يساورها الأسف ويمازجها الإشفاق، أحبه لأن منكراته لم تكن نتائج نفس صغيرة بل كانت مآتي نفس ضعيفة قانطة، النفس أيها الناس تميل عن سبل الحكمة مكرهة وتعود إليها مريدة، وللشبيبة أعاصير تهب حاملة غبارا ورمالا تملأ الأجفان فتغمضها وتعميها، تعميها إلى أمد بعيد في أكثر المواطن.
أحببت هذا الفتى وكنت مخلصا له؛ لأنني رأيت حمامة ضميره تغالب نشر سيئاته، فتغلب تلك الحمامة بقوة عدوها لا بخيانتها، الضمير قاض عادل ضعيف والضعف واقف في سبيل تنفيذ أحكامه.
قلت أحببته والمحبة تأتي بأشكال مختلفة، ففي الحكمة آنا والعدل آونة، والأمل أحرى فمحبتي له كانت أملي باستظهار نور شمسه الوضعي على ظلمة متاعبها العرضية، على أنني كنت جاهلا أنى وأين تتبدل الأدران بنقاوة والشراسة بوداعة، والطيش بحكمة، والإنسان لا يدري كيفية انعتاق النفس من عبودية المادة إلا بعد الانعتاق، ولا يعرف كيف تبتسم الأزهار إلا بعد مجيء الصباح.
2
مرت الآيات آخذة بأعناق الليالي، وأنا أذكر ذلك الفتى بغصات مؤلمة، وأردف لفظ اسمه بتنهدات تجرح القلب وتدمي، حتى وافاني بالأمس كتاب منه قال فيه:
تعال إلي يا صديقي فأنا أريد أن أجمع بينك وبين فتى يسر قلبك لقاؤه، وتطيب نفسك بمعرفته.
قلت: ويحي! أيريد أن يشفع صداقته المحزنة بصداقة آخر على شاكلته، أولم يكن وحده أمثولة كافية لتعريف آيات الضلال؟ وهل يروم الآن تذليل تلك الأمثولة بآيات رفاقه كي لا يفوتني حرف من كتاب المادة؟ ثم قلت: «أذهب فالنفس تجني من العوسج تينا بحكمتها، والقلب يستمد من الظلمة نورا بمحبته».
ولما جاء الليل ذهبت فوجدت ذلك الفتى منفردا في غرفته يقرأ كتابا شعريا، فحييته مستغربا وجود الكتاب بين يديه وقلت: «أين الصديق الجديد؟ قال هو أنا يا خليل هو أنا»، ثم جلس بهدوء ما عهدته فيه، ونظر إلي وفي عينيه نور غريب يخرق الصدر ويحيط بالجوارح، تلك العيون التي طالما تأملتها ولم أر فيها غير العنف والقساوة أصبحت تبعث نورا يملأ القلب انعطافا، ثم قال بصوت حسبته صادرا من غيره: «إن ذاك الذي عرفته في الحداثة ورافقته أيام المدرسة وماشيته في الشبيبة قد مات، وبموته ولدت أنا، أنا صديقك الجديد فخذ بيدي». أخذت يده فشعرت عند الملامسة أن في تلك اليد روحا لطيفا يسري مع دماء، تلك اليد العنيفة قد صارت لينة، تلك الأصابع التي شابهت بالأمس مخالب النمر بأعمالها أصبحت تلامس القلب برقتها.
ثم قلت، وليتني أذكر غرابة ما قلت: «من أنت وكيف سرت وأين صرت؟ هل اتخذك الروح هيكلا فقدسك، أم أنت تمثل أمامي دورا شعريا؟» قال: «أي يا صديقي إن الروح قد حل علي وقدسني، الحب العظيم قد جعل قلبي مذبحا طاهرا، هي المرأة يا خليلي، المرأة التي ظننتها بالأمس ألعوبة الرجل، قد أنقذتني من ظلمة الجحيم وفتحت أمامي أبواب الفردوس فدخلت، المرأة الحقيقية قد ذهبت بي إلى أردن محبتها وعمدتني، تلك التي احتقرت أختها بغباوتي قد رفعتني إلى عرش المجد، تلك التي دنست رفيقتها بجهلي قد طهرتني بعواطفها، تلك التي استبعدت بنات جنسها بالذهب قد حررتني بجمالها، تلك التي أخرجت آدم الأول من الجنة بقوة إرادتها وضعفه قد أعادتني إلى تلك الجنة بحنوها وانقيادي».
في تلك الدقيقة نظرت إليه فوجدت المدامع تتلألأ في عينيه، والابتسام يراود شفتيه، وشعاع الحب يكلل رأسه، فاقتربت منه وقبلت جبهته متبركا مثلما يقبل الكاهن المذبح، ثم ودعته ورجعت مرددا قوله: «تلك التي أخرجت آدم من الجنة بقوة إرادتها وضعفه، قد أعادتني إلى تلك الجنة بحنوها وانقيادي».
بين الحقيقة والخيال
تحملنا الحياة من مكان إلى مكان وتنتقل بنا التقادير من محيط إلى آخر، ونحن لا نرى إلا ما وقف عثرة في سبيل سيرنا ولا نسمع سوى صوت يخيفنا، يتجلى لنا الجمال على كرسي مجده فنقترب منه، وباسم الشوق ندنس أذياله ونخلع عنه تاج طهره، يمر بنا الحب مكتسيا ثوب الوداعة فنخافه ونختبئ في مغائر الظلمة، أو نتبعه ونفعل باسمه الشرور، والحكيم بيننا يحمله نيرا ثقيلا وهو ألطف من أنفاس الأزهار وأرق من نسيمات لبنان، تقف الحكمة في منعطفات الشوارع وتنادينا على رءوس الأشهاد فنحسبها بطلا ونحتقر متبعيها، تدعونا الحرية إلى مائدتها لنلتذ بخمرها وأطعمتها فنذهب ونشره فتصير تلك المائدة مرسحا للابتذال ومجالا لاحتقار الذات، تمد الطبيعة نحونا يد الولاء وتطلب منا أن نتمتع بجمالها فنخشى سكينتها ونلتجئ إلى المدينة، وهناك نتكاثر على بعضنا بعضا كقطيع رأى ذئبا خاطفا، تزورنا الحقيقة منقادة بابتسامة طفل أو قبلة محبوبة فنوصد دونها أبواب عواطفنا ونغادرها كمجرم دنس، القلب البشري يستنجد بنا والنفس تنادينا ونحن أشد صمما من الجهاد لا نعي ولا نفهم، وإذا ما سمع أحد صراخ قلبه ونداء نفسه قلنا هذا ذو جنة وتبرأنا منه.
هكذا تمر الليالي ونحن غافلون، وتصافحنا الأيام ونحن خائفون من الليالي والأيام، نقترب من التراب والآلهة تنتمي إلينا، ونمر على خبز الحياة والمجاعة تتغذى من قوانا، فما أحب الحياة إلينا وما أبعدنا عن الحياة.
يا خليلي الفقير
يا من ولدت على مهد الشقاء، وربيت في أحضان الذل، وشببت في منازل الاستبداد، أنت الذي تأكل خبزك اليابس بالتنهد، وتشرب ماءك العكر ممزوجا بالدموع والعبرات.
يا أيها الجندي المحكوم عليه من شرائع البشر الظالمة بأن يترك رفيقته وصغاره ومحبيه، ويذهب إلى ساحة الموت من أجل طمع يدعونه الواجب.
ويا أيها الشاعر الذي يعيش غريبا في وطنه ومجهولا بين معارفه، ويرضى من العيش بمضغة ومن الحطام بالحبر والورق.
ويا أيها السجين المطروح في الظلمة من أجل ذنب صغير جسمه غي الذين يقابلون الشر بالشر، واستغربته عاقلة الألى يرومون الإصلاح بواسطة الفساد.
وأنت أيتها المسكينة التي وهبها الله جمالا رآه فتى العصر فاتبعك وغرك وتغلب على فقرك بالذهب، فاستسلمت له وغادرك فريسة ترتعد بين مخالب الذل والتعاسة.
أنتم يا أحبابي الضعفاء شهداء شرائع الإنسان، أنتم تعساء وتعاستكم نتيجة بغي القوي وجور الحاكم وظلم الغني وأنانية عبد الشهوات.
لا تقنطوا، فمن مظالم هذا العالم، من وراء المادة من وراء الغيوم، من وراء الأثير، من وراء كل شيء، قوة هي كل عدل وكل شفقة وكل حنو وكل محبة.
أنتم مثل أزهار نبتت في الظل، سوف تمر نسيمات لطيفة وتحمل بذوركم إلى نور الشمس فتحيون هناك حياة جميلة.
أنتم نظير أشجار عارية مثقلة بثلوج الشتاء، سوف يأتي الربيع ويكسوكم أوراقا خضراء غضة.
سوف تمزق الحقيقة غشاء الدمع الحاجب ابتساماتكم.
أنا أقبلكم يا إخوتي وأحتقر مضطهديكم.
مناحة في الحقل
عند الفجر قبيل بزوغ الشمس من وراء الشفق، جلست في وسط الحقل أناجى الطبيعة، في تلك الساعة المملوءة طهرا وجمالا بينما كان الإنسان مستترا طي لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة واليقظة أخرى، كنت متوسدا الأعشاب أستفسر كل ما أرى عن حقيقة الجمال، وأستحكي ما يرى عن جمال الحقيقة.
ولما فصلت تصوراتي بيني وبين البشريات، وأراحت تخيلاتي برقع المادة عن ذاتي المعنوية، شعرت بنور روحي يقربني من الطبيعة ويبين لي غوامض أسرارها ويفهمني لغة مبتدعاتها.
وبينما كنت على هذه الحالة مر النسيم بين الأغصان متنهدا تنهد يتيم يائس، فسألت مستفهما: «لماذا تتنهد يا أيها النسيم اللطيف؟» فأجاب: «لأنني ذاهب نحو المدينة مدحورا من حرارة الشمس، إلى المدينة حيث تتعلق بأذيالي النقية مكروبات الأرض، وتتشبت بي أنفاس البشر السامة، من أجل ذلك تراني حزينا».
ثم التفت نحو الأزهار فرأيتها تذرف من عيونها قطرات الندى دمعا، فسألت: «لماذا البكاء يا أيتها الأزهار الجميلة؟» فرفعت واحدة منهن رأسها اللطيف وقالت: «نبكي لأن الإنسان سوف يأتي ويقطع أعناقنا ويذهب بنا نحو المدينة ويبيعنا كالعبيد ونحن حرائر، وإذا ما جاء المساء وذبلنا رمى بنا إلى الأقذار، كيف لا نبكي ويد الأنسان القاسية سوف تفصلنا عن وطننا الحقل؟!».
وبعد هنيهة سمعت الجدول ينوح كالثكلى فسألت: «لماذا تنوح يا أيها الجدول العذب؟» فأجابني: «لأنني سائر كرها إلى المدينة، حيث الإنسان يحتقرني ويستعيض عني بعصير الكرمة ويستخدمني لحمل أدرانه، كيف لا أنوح وعن قريب تصبح نقاوتي وزرا، وطهارتي قذرا؟!».
ثم أصغيت فسمعت الطيور تغني نشيدا محزنا يحاكي الندب، فسألتها: «لماذا تندبين يا أيتها الطيور الجميلة؟» فاقترب مني عصفور ووقف على طرف الغصن وقال: «سوف يأتي ابن آدم حاملا آلة جهنمية تفتك بنا فتك المنجل بالزرع، فنحن نودع بعضنا بعضا لأننا لا ندري من منا يتملص من القدر المحتوم، كيف لا نندب والموت يتبعنا أينما سرنا؟!».
طلعت الشمس من وراء الجبل وتوجت رءوس الأشجار بأكاليل ذهبية، وأنا أسأل ذاتي لماذا يهدم الإنسان ما تبنيه الطبيعة؟!
بين الكوخ والقصر
1
جاء المساء وشعشعت أنوار الكهربائية في صرح الغني، فوقف الخدام على الأبواب بملابس مخملية وعلى صدورهم الأزرار اللامعة ينتظرون مجيء المدعوين، صدحت الموسيقى بأنغامها المطربة، وتقاطر الأشراف والشريفات تجرهم الخيول المطهمة نحو ذلك القصر فدخلوا يرفلون بالملابس المزركشة، ويجرون أذيال العزة والفخر.
قام الرجال ودعوا النساء للرقص فوقفن واخترن الأعزاء.
وأصبحت تلك المقصورة روضة تمر بها نسيمات الموسيقى فتتمايل أزاهرها تيها وإعجابا.
انتصف الليل فمدت سفرة عليها كل ما عز من الفاكهة وطاب من الألوان، ودارت الكئوس على الجميع فلعبت بنت الكرمة في عقولهم حتى ألعبتهم.
جاء الصباح وفرق شمل أولئك الأشراف الأغنياء بعد أن أضناهم السهر، وسرقت عاقلتهم الخمرة، وأتعبهم الرقص، وأذبلهم القصف، وذهب كل إلى فراشه الناعم.
2
بعد أن غابت الشمس وقف رجل يرتدي أثواب الشغل أمام باب كوخ حقير ، وقرع ففتح له ودخل وحيى مبتسما، ثم جلس بين صبية يصطلون بقرب النار، وبعد ردهة هيأت زوجته العشاء فجلسوا جميعا حول مائدة خشبية يلتهمون الطعام، ثم قاموا وجلسوا بقرب مسرجة ترسل سهام أشعتها الصفراء الضعيفة إلى كبد الظلمة.
وبعد مرور الهزيع الأول من الليل قاموا بسكينة كلية، واستسلموا لملك الرقاد.
جاء الفجر فهب ذلك الفقير من نومه وأكل مع صغاره وزوجته قليلا من الخبز والحليب، ثم قبلهم وحمل على كتفه معولا ضخما وذهب إلى الحقل ليسقيه من عرق جبينه ويستثمر ويطعم قواه أولئك الأغنياء الأقوياء الذين صرفوا ليلة أمس بالقصف والخلاعة.
طلعت الشمس من وراء الجبل، وثقلت وطأة الحر على رأس ذلك الحارث، وأولئك الأغنياء ما برحوا خاضعين لسنة الكرى الثقيل في صروحهم الشاهقة.
هذه مأساة الإنسان المستتبة على مرسح الدهر، وقد كثر المتفرجون المستحسنون وقل من تأمل وعقل.
طفلان
وقف الأمير على شرفة القصر ونادى الجموع المزدحمة في تلك الحديقة، وقال: «أبشركم وأهنئ البلاد، فالأميرة قد وضعت غلاما يحيي شرف عائلتي المجيدة، ويكون لكم فخرا وملاذا ووريثا لما أبقته أجدادي العظام،، افرحوا وتهللوا فمستقبلكم صار مناطا بسليل المعالي».
فصاحت تلك الجموع وملأت الفضاء بأهازيج الفرح، متأهلة بمن سوف يربى على مهد الترف، ويشب على منصة الإعزاز، ويصير بعد ذلك حاكما مطلقا برقاب العباد، ضابطا بقوته أعنة الضعفاء، حريا باستخدام أجسادهم وإتلاف أرواحهم، من أجل ذلك كانوا يفرحون ويغنون الأناشيد ويعاقرون كاسات السرور.
وبينما سكان تلك المدينة يمجدون القوي ويحتقرون ذواتهم ويتغنون باسم المستبد، والملائكة تبكي على صغرهم، كان في بيت حقير مهجور امرأة مطروحة على سرير السقام تضم إلى صدرها الملتهب طفلا ملتفا بأقمطة بالية.
صبية كتبت لها الأيام فقرا، والفقر شقاء فأهملت من بني الإنسان، زوجة أمات رفيقها الضعيف ظلم الأمير القوي، وحيدة بعثت إليها الآلهة في تلك الليلة رفيقا صغيرا يكبل يديها دون العمل والارتزاق.
ولما سكنت جلبة الناس في الشوارع، وضعت تلك المسكينة طفلها على حضنها، ونظرت في عينيه اللامعتين وبكت بكاء مرا كأنها تريد أن تعمده بالدموع السخينة، وقالت بصوت تتصدع له الصخور: «لماذا جئت يا فلذة كبدي من عالم الأرواح؟ أطمعا بمشاطرتي الحياة المرة؟ أرحمة بضعفي؟ لماذا تركت الملائكة والفضاء الوسيع وأتيت إلى هذه الحياة الضيقة المملوءة شقاء ومذلة؟ ليس عندي يا وحيدي إلا الدموع، فهل تتغذى بها بدلا من الحليب؟ وهل تلبس ذراعي العاريتين عوضا عن النسيج؟ صغار الحيوان ترعى الأعشاب وتبيت في أوكارها آمنة، وصغار الطير تلتقط البذور وتنام بين الأغصان مغبوطة، وأنت يا ولدي ليس لك إلا تنهداتي وضعفي».
حينئذ ضمت الطفل إلى صدرها بشدة كأنها تريد أن تجعل الجسدين جسدا واحدا، ورفعت عينيها نحو العلاء وصرخت: «ارفق بنا يا رب».
ولما انقشعت الغيوم عن وجه القمر، دخلت أشعته اللطيفة من نافذة ذلك البيت الحقير، وانسكبت على جسدين هامدين.
شعراء المهجر
لو تخيل الخليل أن الأوزان التي نظم عقودها وأحكم أوصالها ستصير مقياسا لفضلات القرائح، وخيوطا تعلق عليها أصداف الأفكار، لنثر تلك العقود وفصم عرى تلك الأوصال.
ولو تنبأ المتنبي وافترض الفارض أن ما كتبناه سيصبح موردا لأفكار عميقة، ومقودا لرءوس مشاعير يومنا؛ لهراقا المحابر في محاجر النسيان، وحطما الأقلام بأيدي الإهمال.
ولو درت أرواح هوميروس وفرجيل وأعمى المعرة وملتون أن الشعر المتجسم من النفس المشابهة الله، سيحط رحاله في منازل الأغنياء؛ لبعدت تلك الأرواح عن أرضنا واختفت وراء السيارات.
ما أنا من المتعنتين، لكن يعز علي أن أرى لغة الأرواح تتناقلها ألسنة الأغبياء، وكوثر الآلهة يسيل على أقلام المدعين، ولست منفردا في وهدة الاستياء بل رأيتني واحدا من كثيرين نظروا الضفدع ينتفخ تمثلا بالجاموس.
الشعر يا قوم روح مقدسة متجسمة من ابتسامة تحيي القلب أو تنهدة تسرق من العين مدامعها، أشباح مسكنها النفس وغذاؤها القلب ومشربها العواطف، وإن جاء الشعر على غير هذه الصور فهو كمسيح كذاب نبذه أوقى.
فيا إلهة الشعر - يا إدانو - اغتفري ذنوب الألى يقتربون منك بثرثرة كلامهم، ولا يعبدونك بشرف أنفسهم وتخيلات أفكارهم.
ويا أرواح الشعراء الناظرة إلينا من أعالي عالم الخلود، ليس لنا عذر لتقدمنا من مذابح زينتموها بلآلئ أفكاركم وجواهر أنفسكم، سوى أن عصرنا هذا قد كثرت فيه قلقلة الحديد وضجيج المعامل، فجاء شعرنا ثقيلا ضخما كالقطارات، ومزعجا كصفير البخار.
وأنتم أيها الشعراء الحقيقيون سامحونا، فنحن من العالم الجديد نركض وراء الماديات، فالشعر عندنا صار مادة تتناقلها الأيدي ولا تدري بها النفوس.
تحت الشمس
«رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح» (الجامعة)
يا روح سليمان السابحة في فضاء عالم الأرواح، يا من خلعت ثوب المادة الذي نحن نرتديه الآن، لقد تركت وراءك هذا الكلام المنبثق من الضعف والقنوط، فولد ضعفا وقنوطا في سرى الأجسام.
أنت تعلمين الآن أن في هذه الحياة معنى لا يخفيه الموت، ولكن أنى للبشر تلك المعرفة التي لا تدرك إلا بعد انعتاق النفس من ربقة التراب؟
أنت تعلمين الآن أن الحياة ليست كقبض الريح، وأن ليس تحت الشمس شيء باطل، بل كل شيء كان وسيبقى سائرا نحو الحقيقة، ولكن نحن المساكين قد تشبثنا بأقوالك وتدبرناها، وما برحنا نظنها حكمة باهرة وهي - أنت تعلمين - ظلمة تضيع العاقلة وتخفي الأمل.
أنت تعلمين الآن أن للحماقة والشر والظلم أسبابا جميلة، ونحن لا نرى جمالا إلا بظواهر الحكمة ونتاج الفضيلة وثمار العدل.
أنت تعلمين أن الحزن والفقر يطهران القلب البشري، وعاقلتنا القاصرة لا ترى شيئا حريا بالوجود إلا اليسر والفرج.
أنت تعلمين الآن أن النفس سائرة نحو النور قهرا من عقبات العمر، ونحن ما برحنا نردد كلامك الذي يدل على أن الإنسان ليس إلا ألعوبة في يد القوة غير المعروفة.
أنت ندمت على بث روح يضعف محبة الحياة الحاضرة، ويميت الشغف بالحياة الآتية، ونحن لم نزل مصرين على حفظ أقوالك.
يا روح سليمان الساكنة في عالم الخلود، أوحي إلى محبي الحكمة ألا يسلكوا سبل القنوط والجحود، فقد يكون ذلك كفارة عن خطا غير مقصود.
نظرة إلى الآتي
من وراء جدران الحاضر سمعت تسابيح الإنسانية؟ سمعت أصوات الأجراس تهز دقائق الأثير معلنة بدء الصلاة في معبد الجمال، أجراس سبكتها القوة من معدن الشواعر ورفعتها فوق هيكلها المقدس: القلب البشري.
من وراء المستقبل رأيت الجموع ساجدة على صدر الطبيعة متجهة نحو المشرق، منتظرة فيض نور الصباح: صباح الحقيقة.
رأيت المدينة قد اندثرت ولم يبق من آثارها غير طلل بال، تخبر الرجال باندحار الظلمة أمام النور.
رأيت الشيوخ جالسين بظل أشجار الحور والصفصاف، وقد جلس الصبيان حولهم يسمعون أخبار اليوم.
رأيت الفتيان يوقعون على القيثارة وينفخون في الناي، والصبايا مسدولات الشعر يرقصن حولهم تحت أغصان الياسمين والفل.
رأيت الكهول يحصدون الزرع، والنساء يحملن الأغمار ويترنمن بأناشيد أوحتها الغبطة والمسرة.
رأيت المرأة مستعيضة عن الملابس المشوهة بإكليل من الزنبق، ومنطقة من أوراق الأشجار الغضة.
رأيت الألفة مستحكمة بين الإنسان والمخلوقات، فجماعات الطير والفراش تقترب منه آمنة، وسرب الغزلان تنثني نحو الغدير واثقة، نظرت فلم أر فقيرا ولا ما يزيد عن الكفاف، بل ألفيت الإخاء والمساواة، ولم أر طبيبا إذ كل غدا طبيب ذاته بحكم المعرفة والاختبار، ولم أر كاهنا لأن الضمير أصبح الكاهن الأعظم، ولم أر محاميا لأن الطبيعة قامت بينهم مقام محكمة تسجل معاهدات الألفة والوئام.
رأيت الإنسان قد علم أنه حجر زاوية المخلوقات، فترفع عن الصغائر، وتعالى عن الدنايا، وكشف عن بصيرة النفس مناديل الالتباس، فأصبحت تقرأ ما تكتبه الغيوم على وجه السماء، وما ينمقه النسيم على صفحات الماء، وتفقه كنه أنفاس الأزهار، وتعرف معنى أغاني الشحارير والبلابل.
من وراء جدران الحاضر، على مرسح الأجيال الآتية رأيت الجمال عروسا والنفس عروسة، والحياة كلها ليلة القدر.
ملكة الجمال
بلغت خرائب تدمر وقد أنهكني المسير، فاستقبلت على أعشاب نبتت بين أعمدة سلها الدهر وأناخها إلى الحضيض فبانت كأنها أشلاء حرب هائلة، وصرت أتأمل بعظائم أجلها وهي مهدومة منقوضة عن صغائر قائمة عامرة.
لما جاء الليل وتشاركت المخلوقات المتنابذة بارتداء ثوب السكينة، شعرت بأن الأثير المحيط بي سيالا يضارع البخور عطرا ويعادل الخمر فعلا، فصرت أجرعه محكوما وأحس بأياد خفيفة تتساهم عاقلتي وتثقف جسمي وتحل نفسي من سلاسلها، ثم مادت الأرض واهتز الفضاء فوثبت مدفوعا بقوة سحرية، فوجدتني في رياض لم يتخيلها بشر قط، مصحوبا بجوق من العذارى لم يرتدين بغير الجمال، يمشين حولي ولا تلمس أرجلهن الأعشاب، وينشدن تسبيحة منسوجة من أحلام الحب، ويضربن على قيثارات من العاج ذات أوتار ذهبية، لما وصلت إلى منفرج قام في وسطه عرش مرصع بالجواهر بين مسارح تنسكب منها أنوار بلون قوس القزح، وقفت العذارى على اليمين واليسار ورفعن أصواتهن عن ذي قبل، ونظرن إلى جهة تنبعث منها رائحة المر واللبان، فإذا بمليكة ظهرت من بين الأغصان الزاهرة ومشت ببطء نحو العرش واستوت عليه، فهبط إذ ذاك سرب حمام كالثلج بياضا واستقر حول أقدامها بشكل هلال.
صار هذا والعذارى يغنين مجد المليكة سورا، والبخور يتصاعد لتكريمها أعمدة، وأنا واقف أرى ما لم تره عين إنسان، وأسمع ما لم تعه أذن بشري.
حينئذ أشارت المليكة بيدها فسكنت كل حركة، ثم قالت وصوتها يهز نفسي مثلما تفعل يد الموقع بأوتار عود، ويؤثر بمجموع ذاك المحيط السحري كأن للأشياء آذانا وأفئدة: «دعوتك أيها الإنسي وأنا ربة مسارح الخيال، وحبوتك المثول أمامي وأنا مليكة غابة الأحلام، فاسمع وصاياي وناد بها أمام البشر، قل إن مدينة الخيال عرس يخفر بابه مارد جبار فلن يدخله إلا من لبس ثياب العرس، قل هي جنة يحرسها أملاك المحبة فلا ينظرها سوى من كان على جبهته وسم الحب، هي حقل تصورات أنهاره طبيعية كالخمر، وأطياره تسبح كالملائكة، وأزاهره فائحة العبير فلا يدوسه غير ابن الأحلام، خبر الإنس بأني وهبتهم كأسا يفعمه السرور فهرقوه بجهلهم، فجاء ملاك الظلمة فملأه من عصير الحزن فجرعوه صرفا وسكروا، قل لمن يحسن الضرب على قيثارة الحياة غير الذين لمست أناملهم وشاحي، ونظرت أعينهم عرسي، فأشعيا نظم الحكمة عقودا بأسلاك محبتي، ويوحنا روى رؤياه بلساني، ولم يسلك دانتي مراتع الأرواح بغير أدلتي، فأنا مجاز يعانق الحقيقة، وحقيقة تبين وحدانية النفس، وشاهد يزكي أعمال الآلهة، قل إن للفكرة وطنا أسمى من عالم المرئيات لا تكدر سماءه غيوم السرور، وإن للتخيلات رسوما كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس ليعم رجاؤها بما سيكون بعد انعتاقها من الحياة الدنيا».
وجذبتني مليكة الخيال نحوها بنظرة سحرية، وقبلت شفتي الملتهبتين وقالت: «قل: ومن لا يصرف الأيام على مرسح الأحلام كان عبد الأيام».
عندئذ تصاعدت أصوات العذارى وارتفعت أعمدة البخور وحجبت الرؤيا، ثم مادت الأرض واهتز الفضاء فوجدتني بين تلك الخرائب المحزنة وقد ابتسم الفجر وبين لساني وشفتي هذه الكلمات: «من لا يصرف الأيام على مرسح الأحلام كان عبد الأيام».
يا لائمي
دعني يا لائمي ووحدتي، أستحلفك بحب يضم نفسك بجمال الرفيقة، ويوثق قلبك بحنو الأم، ويربط فؤادك بعواطف الابن، أن تتركني وحالي.
خلني وشأني وأحلامي واصبر إلى الغد، فالغد يقضي علي بما يشاء.
محضتني النصح والنصح طيف يسير بالنفس إلى مرتع الحيرة، ويقودها إلى حيث الحياة جامدة كالتراب.
لي قلب صغير أريد أن أخرجه من ظلمة صدري وأحمله على كتفي متفحصا أعماقه، ومستحكيا أسراره، فلا تترصده يا لائمي بنبال مذاهبك مسببا خوفه واختفاءه ضمن قفص الضلوع، قبل أن يسكب دماء خفاياه ويقوم بفرض عقدته الآلهة عندما ابتدعته من الجمال والحب.
هنا قد طلعت الشمس وغرد الهزار والبلبل، وتصاعدت أرواح الآس والمنثور، وأنا أريد الانعتاق من لحف الكرى لأسير مع الحملان البيضاء، فلا تعتقني يا لائمي ولا تخفني بأسد الغاب، وصل الوادي لأن نفسي لا تعرف الجزع، ولا تنذر بالسوء قبل مجيئه.
دعني يا لائمي ولا تعظني؛ لأن المصائب فتحت بصيرتي، والدموع جلت بصري، والحزن علمني لغة القلوب.
اعتزل ذكر المحرمات، فلي من ضميري محكمة تقضي بالعدل علي، وتقيني العقاب إن كنت ذا برارة، وتحرمني الثواب إن كنت من المجرمين.
ها قد سار موكب الحب فمشى الجمال رافعا أعلامه، وسارت الشبيبة نافخة أبواق الفرح، فلا تردعني يا لائمي، بل دعني أسير، فالطريق مفروشة بالورد والرياحين، والهواء قد عطرته مجامر المسك.
أعتقني من حكاية المال وقصص المجد؛ لأن نفسي غنية باكتفائها ومشغولة بمجد الآلهة.
أعتقني من مآتي السياسة وأخبار السلطة؛ لأن الأرض كلها وطني، وجميع البشر مواطني.
مناجاة
اين أنت الآن يا جميلتي؟ أفي تلك الجنة الصغيرة تسقين الأزهار التي تحبك محبة الأطفال ثدي أمها، أم في خدرك حيث أقمت للطهر مذبحا وقفت عليه روحي وحشاشتي، أم بين كتبك تستزيدين من حكمة البشر وأنت غنية بحكمة الآلهة؟
أين أنت يا رفيقة نفسي؟ أفي الهيكل تصلين من أجلي، أم في الحقل تناجين الطبيعة مرتع إعجابك وأحلامك، أم بين أكواخ المساكين تعزين منكسرات القلوب بحلاوة نفسك، وتملأين أياديهم بإحسانك؟
أنت في كل مكان لأنك من روح الله، وفي كل زمان لأنك أقوى من الدهر، هل تذكرين ليالي جمعتنا وشعاع نفسك يحيط بنا كالهالة، وملائكة الحب تطوف حولنا مترنمة بأعمال الروح، وتذكرين أيام جلسنا بظل الأغصان وهي مخيمة علينا كأنها تريد أن تحجبنا عن البشر مثلما تحجب الضلوع أسرار القلب المقدسة، هل تذكرين ممرات ومنحدرات مشينا عليها وأصابعك محبوكة بأصابعي احتباك ضفائرك، وقد أسندنا رأسينا برأسينا كأننا نحتمي منا بنا؟ وهل تذكرين ساعة جئتك مودعا فعانقتني ثم قبلتني قبلة مريمية، علمت منها بأن الشفاه إذا انضمت جاءت بأسرار علوية لا يعرفها اللسان، قبلة كانت توطئة لتنهيدة مزدوجة حاكت نفسا نفخه «الله» في الطين فصار إنسانا، تلك تنهيدة سبقتنا إلى عالم الأرواح معلنة مجد نفسينا، وهناك ستبقى حتى نجتمع بها إلى الأبد، ثم قبلتني وقبلتني وقبلتني، وقلت والدمع يساعدك: «إن للأجسام أغراضا مجهولة فهي تفترق لشئون عالمية وتتباعد لمآرب دنيوية، أما الأرواح فتظل في قبضة الحب مستأمنة حتى يجيء الموت ويسير بها إلى الله، اذهب يا حبيبي، لقد انتدبتك الحياة فأطعها، فهي حسناء تسقي مطيعيها من كوثر اللذة كئوسا مفعمة، أما أنا فلي من حبك عريس ملازم، ومن ذكراك عرس طويل مبارك».
أين أنت الآن يا رفيقتي؟ هل أنت ساهرة في سكينة الليل نسيما أحمله دقات قلبي وخفايا جوارحي كلما هب نحوك؟ وأنت ناظرة رسم فتاك؟ ذاك رسم لم يعد ينطبق على مرسومه، فالحزن قد ألقى خياله على جبهة كانت بالأمس متفرحة بقربك، والنواح أذبل أجفانا كانت مكحولة بجمالك، والوجد جفف ثغرا كان مرطبا بقبلاتك.
أين أنت يا حبيبتي؟ هل أنت سامعة من وراء البحار ندائي وانتحابي، وناظرة ضعفي ومذلتي، وعالمة بصبري وتجلدي؟ أوليست في الهواء أرواح تنقل أنفاس محتضر متوجع؟ أولم تكن بين النفوس أسلاك خفية تحمل شكوى محب دنف؟
أين أنت يا حياتي ولقد احتضنتني الظلمة وغلبني الأسى، ابتسمي في الهواء فأنتعش، تنفسي في الأثير فأحيى.
أين أنت يا حبيبتي، أين أنت؟
آه ما أعظم الحب، وما أصغرني!
المجرم
على قارعة الطريق قعد شاب مستعطيا، فتى قوي الجسم أضعفه الجوع فجلس في منتصف الشارع مادا يده نحو العابرين متسولا مستغيثا بالمحسنين، مرددا آيات انكساره شاكيا آلام جوعه.
خيم الليل وقد يبست شفتاه وكل لسانه ولم تزل يده فارغة مثل جوفه، فقام إذ ذاك وذهب إلى خارج المدينة وجلس بين الأشجار وبكى بكاء مرا، ثم رفع نحو السماء عينيه يغشاهما الدمع وقال والجوع يلقنه: «يا رب قد ذهبت إلى الموسر أطلب عملا فطردت لرثاثة أثوابي، وطرقت باب المدرسة فمنعت لفراغ يدي، ورمت الاستخدام ولو بكفاف يومي فأبعدت لسوء طالعي، وأخيرا سعيت متسولا فرآني عبادك يا رب وقالوا هذا قوي نشيط والإحسان لا يجوز على ابن التواني والكسل. قد ولدتني أمي بإرادتك يا رب وأنا كائن الآن بكيانك، فلماذا يمنع الناس الخبز عني وأنا طالب باسمك؟ في تلك الدقيقة تغيرت سحنة الرجل اليائس، فانتصب وقد لمعت عيناه كالشهب، ثم اقتضب من الأغصان اليابسة نبوتا ضخما وأشار به نحو المدينة وصرخ قائلا: «طلبت الحياة بعرق الجبين فلم أجدها، فسوف أحصل عليها بقوة ساعدي، وسألت الخبز باسم المحبة فلم يسمعني الإنسان، فسأطلبه باسم الشر وأستزيد منه».
مرت الأعوام والشاب يقطع الأعناق من أجل الحصول على النقود، ويهدم هياكل الأرواح إن تصدت لمطامعه، فنمت ثروته وعم بطشه وصار محبوبا من لصوص القوم ومخيفا لعقلائهم، ثم انتدبه الأمير وكيلا عنه في تلك المدينة شأن الأمراء بانتقاء ممثليهم.
كذا يبتدع الإنسان من المسكين سفاحا باستمساكه، ومن ابن السلام قاتلا بقساوته.
الرفيقة
أول نظرة
هي الدقيقة الفاصلة بين نشوة الحياة ويقظتها، هي الشعلة الأولى التي تنير خلايا النفس، هي أول رنة سحرية على أول وتر من قيثارة القلب البشري، هي آونة قصيرة تعيد على مسمع النفس أخبار الأيام الغابرة، وتكشف لبصرها أعمال الليالي، وتبين لبصيرتها أعمال الوجدان في هذا العالم، وتتيح سر الخلود في العالم الآتي، هي نواه تطرحها عشتروت
1
من العلاء، فتلقيها العيون في حقل القلب فتستنبتها العواطف ثم تستثمرها النفس، أول نظرة من الرفيقة تشابه الروح الذي يرف على وجه القمر ومنه انبثقت السماء والأرض، أول نظرة من شريكة الحياة تحاكي قول الله «كن».
أول قبلة
هي الرشفة الأولى من كأس ملأتها الآلهة من كوثر الحب، هي الحد بين شك يراود القلب فيحزنه ويقين فيغبطه، هي مطلع قصيدة الحياة الروحية والفصل الأول من رواية الإنسان المعنوي، هي عروة توثق غرابة الماضي ببهاء الآتي وتجمع بين سكينة الشواعر وأغانيها، هي كلمة تقولها الشفاه الأربع معلنة صيرورة القلب عرشا، والحب مليكا، والوفاء تاجا، هي ملامسة لطيفة تحاكي مرور أنامل النسيم على ثغر زهرة الورد حاملة معها تنهدا مستطيلا لذيذا وأنة خفية عذبة، هي بدء اهتزازات سحرية تفصل المحبين عن عالم المقاييس والكمية إلى عالم الوحي والأحلام، هي ضم زهرة الشقيق إلى زهرة الجلنار ومزج أنفاسهما لتوليد نفس ثالث، وإذا كانت النظرة الأولى تشابه نواة ألقتها إلهة الحب في حقل القلب البشري فالقبلة الأولى تحاكي أول زهرة في أطراف أول غصن في شجرة الحياة.
القران
ها هنا يبتدئ الحب أن ينظم نثر الحياة وينشئ من معانى العمر سورا ترتلها الأيام وتنغمها الليالي، ها هنا يزيح الشوق ستائر الأشكال عن معميات السنين الماضية، ويؤلف من نتف اللذات سعادة لا يفوقها غير سعادة النفس عندما تعانق ربها، القران هو اتحاد ألوهيتين على إيجاد ألوهية ثالثة على الأرض، هو تكاتف اثنين قويين بحبهما لمقاومة دهر ضعيف ببغضه، هو تمازج خمرة صفراء برحيق قرمزي لتوليد شراب برتقالي
2
يحاكي لون الشفق عند مجيء الفجر، هو تنافر روحين من التنافر، واتحاد نفسين مع الاتحاد، هو حلقة ذهبية من سلسلة أولها نظرة وآخرها اللانهاية، هو انهمال غيث نقي من سماء طاهرة نحو طبيعة مقدسة لاستخراج قوي حقول مباركة، فإذا كانت النظرة الأولى من وجه المحبوبة مثل نواة ألقتها المحبة في حقل القلب، والقبلة الأولى من شفتيها تشابه أول زهرة في غصن الحياة، فالقران بها يحاكي أول ثمرة من أول زهرة من أول نواة.
بيت السعادة
تعب قلبي في داخلي فودعني وذهب إلى بيت السعادة، ولما بلغ ذلك الحرم الذي قدسته النفس وقف حائرا لأنه لم ير هناك ما طالما توهمه، لم ير قوة ولا مالا لا ولا سلطة، لم ير غير فتى الجمال ورفيقته ابنة المحبة وطفلتهما الحكمة.
وخاطب قلبي ابنة المحبة قائلا: «أين القناعة أيتها المحبة، فقد سمعت أنها تشاطركم سكنى هذا المكان؟» قالت: «ذهبت القناعة تكرز في المدينة حيث المطامع، فنحن لا نحتاجها، السعادة لا تبتغي قناعة، إنما السعادة شوق يعانقه الوصال، والقناعة سلو يساوره النسيان، النفس الخالدة لا تقنع لأنها تروم الكمال، والكمال هو اللانهاية».
وخاطب قلبي فتى الجمال قائلا: «أرني سر المرأة أيها الجمال، وأنرني لأنك معرفة». فقال: «هي أنت أيها القلب البشري، وكيفما كنت وكانت، هي أنا وأينما حللت حلت، هي كالدين إذا لم يحرفه الجاهلون، وكالبدر إذا لم تحجبه الغيوم، وكالنسيم إذا لم تتعلق بأذياله أنفاس الفساد».
واقترب قلبي من الحكمة ابنة المحبة والجمال وقال: «أعطني حكمة أحملها إلى البشر» فأجابت: «قل هي السعاة تبتدئ في قدس أقداس النفس ولا تأتي من الخارج».
مدينة الماضي
وقفت بي الحياة على سفح جبل الشباب وأومأت إلى الوراء، فنظرت فإذا بمدينة غربية الشكل والرسوم متربعة في صدر سهول تتموج فيها الخيالات والأبخرة المتلونة متوشحة بقناع ضباب لطيف يكاد يحجبها.
قلت: «ما هذه أيتها الحياة؟» قالت: «هي مدينة الماضي فتأمل؟» فتأملت ورأيت، معاهد أعمال جالسة كالجبابرة تحت أجنحة النوم، مساجد أقوال تحوم حولها صارخة صراخ القنوط، مترنمة ترنيمة الأمل. هياكل أديان أقامها اليقين ثم هدمها الشك، مآذن أفكار مرتفعة نحو العلو كأنها أيدي المتسولين ، شوارع أميال منبسطة انبساط النهر بين الربى، مخازن أسرار حرسها الكتمان فسرقتها لصوص الاستعلام، أبراج أقدام بنتها الشجاعة فثلتها المخاوف، صروح أحلام زينتها الليالي وخربتها اليقظة، أكواخ صغار سكنها الضعف، وجوامع وحدة قام فيها نكران الذات، نوادي معارف أنارها العقل فأظلمها الجهل، حانات محبة سكر بها العشاق فاستهزأ بهم الخلو، مراسح أعمار مثلت عليها الحياة روايتها ثم جاء الموت وختم مأساته.
تلك مدينة الماضي في بعيدة قريبة، منظورة محجوبة.
ومشت أمامي الحياة وقالت: «اتبعني فقد طال بنا الوقوف» قلت: «إلى أين أيتها الحياة؟» قالت: «إلى مدينة المستقبل». قلت: «رفقا فقد أنهكني المسير وكلمت أقدامي الصخور وهدت قواي العقبات» قالت: «سر! الوقوف جبانة، والنظر إلى مدينة الماضي جهالة».
اللقاء
عندما أكمل الليل تنميق ثوب السماء بجواهر النجوم، تصاعدت من وادي النيل حورية محفوفة بأجنحة غير منظورة وجلست على عرش من الغيوم مرتفع فوق بحر الروم مفضض من أشعة القمر، فمر من أمامها جوق أرواح سابحة في الفضاء صارخة: «قدوس قدوس قدوس! ابنة مصر مجدها ملء كل الأرض».
وتصاعد من أعالي فم ميزاب المحيط بغابة الأرز طيف فتى مكتنفا بأيادي الساروفيم، وجلس على العرش بقرب الحورية فعادت الأرواح ومرت من أمامها هاتفة: «قدوس قدوس قدوس! فتى لبنان مجده ملء كل الدهور».
لما أخذ المحب يد حبيبته ونظر إلى عينيها، حملت الأرواح والأمواج هذه المناجاة إلى جميع الأقطار: «ما أكمل بهاءك يا ابنة إيزيس، وما أعظم حبي لك!». «ما أجملك بين الفتيان يا ابن عشتروت، وما أكثر شوقي إليك!». «محبتي نظير أهرامك، فلا تهدمها الأجيال يا حبيبتي». «محبتي تحاكي أرزك، فلن تغلبها العناصر يا حبيبتي». «حكماء الأمم يأتون من المشرق والمغرب ليستحكموا حكمتك، ويستفسروا رموزك يا حبيبتي». «عظماء الأرض يجيئون من الممالك ليسكروا من رحيق جمالك وسحر معانيك يا حبيبتي». «إن راحتك منبت خيرات غزيرة، تملأ الأهراء يا حبيبتي». «إن ذراعيك منبع المياه العذبة، وأنفاسك نسيمات منعشة يا حبيبتي». «قصور النيل وهياكله تذيع مجدك، وأبو الهول يحدث بعظمتك يا حبيبتي». «الأرز على صدرك وسام شرف أثيل، والأبراج حولك تروي بطشك واقتدارك يا حبيبتي». «آه ما أميلح محبتك، وما أحيلى الأمل المناط بارتقائك يا حبيبتي!». «آه ما أكرمك خليلا، وأوفاك حليلا، وما أجمل هداياك وأنفس عطاياك، بعثت إلي بالفتيان فكانوا يقظة بعد نوم عميق، أتحفتني بالفارس فغلب ضعف قومي وحبوتني (بالأدب) فأنهضهم وبالنجيب فأثملهم ...». «بعثت إليك بالبذور فصيرتها أزهارا، وبالأنصاب فجعلتها أشجارا. فأنت حقل بكر يحيي الورد والسوسن، ويرفع السرو والأرز ...».
أرى بعينيك حزنا يا حبيبتي، أتحزني وأنت بقربي؟!». «لي أبناء رحلوا إلى ما وراء البحار، وخلفوني حليف بكاء وأليف شوق». «ليت لي ما يشابه حزنك، وتنصرف عني مخاوفي يا حبيبتي».
أتخافين يا ابنة النيل وأنت عزيزة الأمم؟». «أخاف من طاغية تقترب مني بحلاوة روغها، وتمتلك أعنتي بقوة ساعديها». «إن حياة الأمم يا حبيبتي مثل حياة الأفراد، حياة يؤاخيها الأمل، ويقارنها الخوف، وتحف بها الأماني، ويرمقها القنوط».
وتعانق الحبيبان وشربا من كئوس القبل رحيقا عطرا، فمرت أجواق الأرواح منشدة: قدوس قدوس قدوس! المحبة مجدها ملء السماء والأرض.
مخبآت الصدور
في صرح فخيم واقف تحت جنح الليل وقوف الحياة بين ستائر الموت، جلست صبية بقرب منضدة عاجية تسند رأسها الجميل بيدها، مثلما تتكئ زنبقة ذابلة على أوراقها، وتنظر إلى ما حولها نظرات سجين يائس يريد أن يخرق بعينيه جدران حبسه ليرى الحياة السائرة في موكب الحرية.
مرت الساعات مرور أشباح الظلمة، وتلك الصبية مستأنسة بدموعها، مستأمنة بانفرادها ولوعتها، حتى إذا ما اشتدت على قلبها وطأة عواطفها وامتلكت شواعرها خزائن أسرارها، تناولت قلما وأخذت تمزج على صفحات الورق قطرات الحبر بدموعها، وتجمع بين الكلام ومكنونات نفسها، وهاك ما كتبت:
أيتها الأخت المحبوبة
عندما يضيق القلب بأسراره وتتقرح الأجفان من حرارة دموعها، وتكاد الضلوع تتمزق من نمو مخبآت الصدور، لا يجد المرء غير الكلام والشكوى. فالحزين يا صديقتي يستعذب الشكوى يجد المحب تعزية بالتشبب، والمظلوم لذة بالاسترحام، فأنا أكتب إليك الآن لأنني أصبحت كشاعر يرى جمال الأشياء فينظم تأثيرات ذلك الجمال محكوما بقوة ألوهيته، أو كطفل الفقير الجائع يستغيث مدفوعا بمرارة جوعه غير راحم فاقة أمه وانكسارها.
اسمعي قصتي الموجعة يا أختي وابكي من أجلي؛ لأن البكاء كالصلاة، ودموع الشفقة كالإحسان لا تذهب سدى لأنها متصاعدة من أعماق نفس حية شاعرة، شاء والدي وجمع بالقران بيني وبين رجل شريف غني شأن كل والد غني شريف يروم تعزيز المال بالمال مخافة الفقر، وضم الشرف إلى الشرف هربا من ذل الأيام، فكنت مع عواطفي وأحلامي ضحية على مذبح ذهب أحتقره، وشرف موروث أكرهه، وفريسة ترتعد بين أظافر المادة التي إذا لم تكن خادمة مطيعة للروح كانت أقسى من الموت وأمر من الهاوية، أنا أعتبر بعلي؛ لأنه كريم الخلق شريف القلب، يجهد النفس في سبيل سعادتي ويبذل المال لرضاي، لكنني وجدت تأثير هذه الأشياء كلها لا يساوي دقيقة محبة حقيقية مقدسة، تلك المحبة التي تستصغر كل شيء وتبقى عظيمة، لا تسخري بي يا رفيقتي فأنا الآن أعلم الناس بحاجات قلب المرأة، هذا القلب الخفوق، هذا الطائر السابح في فضاء المحبة، هذا الإناء الطافح من خمرة الدهور المعدة لمراشف الأرواح، هذا الكتاب المطبوعة فيه فصول السعادة والشقاء، واللذة والألم، والمسرة والأحزان، فلا يقرأه إلا الرفيق الحقيقي، نصف المرأة المخلوق لها منذ الأزل وإلى الأبد، نعم صرت أدرى النساء بأغراض النفس وأميال القلب عندما وجدت أن خيول بعلي المطهمة ومركباته البديعة وخزائنه الطافحة وشرفه الرفيع لا تساوي نظرة واحدة من عيون ذلك الفتى الفقير الذي جاء هذه الحياة من أجلي وجئت من أجله، ذلك الصابر على مضض البلوى وذل التفريق، ذلك المظلوم عفوا بإرادة والدي، والمسجون بلا إثم في ظلمة العمر، إياك يا صديقتي محاولة تعزيتي؛ لأن لي في مصائبي معزيا هو إدراكي قوة حبي، ومعرفتي شرف شوقي وحنيني، فأنا أنظر الآن من وراء الدموع فأرى المنية تقترب مني يوما فيوما لتقودني إلى حيث أنتظر رفيق نفسي وألتقي به وأعانقه عناقا طويلا مقدسا. ولا تلوميني فأنا قائمة بواجبات الزوجة الأمينة، خاضعة لأحكام الشرائع البشرية بتجلد وهدوء، أكرم بعلي بعاقلتي، وأعتبره بقلبي، وأجله بنفسي، ولا يمكنني أن أهبه كليتي لأن الله أعطاها إلى حبيبي قبل معرفتي حبيبي.
شاءت السماء لحكمة خفية أن أصرف العمر مع رجل خلقت لغيره، فأنا أنفق هذا العمر حسب مشيئة السماء بسكينة، ولكن إذا ما انفتحت أبواب الأبدية التحمت بنصف نفسي الجميل ونظرت إلى الماضي - وذاك الماضي هو هذا الآن - نظرة الربيع إلى الشتاء، وتأملت في حياتي هذه مثلما يتأمل في العقبات من بلغ قمة الجبل».
هنا وقفت تلك الصبية عن الكتابة، وحجبت وجها بيديها، وبكت بكاء مرا كأن نفسها الكبيرة أبت أن تسلم أقدس أسرارها إلى الورق، فأعطتها إلى دموع سخينة تجف بسرعة وتمتزج بأثير الطيف وموطن أنفاس المحبين وأرواح الأزهار، وبعد هنيهة أخذت القلم وكتبت: «هل تذكرين يا صديقتي ذلك الفتى؟ هل تذكرين تلك الأشعة المنبعثة من عينيه، وتلك الأحزان المرسومة على جبينه؟ هل تذكرين ابتسامه المشابه دموع الثكلى؟ هل تذكرين صوته المحاكي صدى الوادي البعيد؟ هل تذكرينه إذ كان يتأمل في الأشياء بنظرات طويلة هادئة، ثم يتكلم عنها بغرابة، ثم يحني رأسه ويتنهد كأنه يخاف أن يشف حديثه عن خفايا قلبه الكبير؟ وهل تذكرين أحلامه وعقائده؟ هل تذكرين كل هذا الأشياء في فتى يحسبه البشر من البشر، ويحتقره والدي لأنه أسمي من المطامع الترابية وأشرف من أن يرث الشرف عن الجدود؟ إي يا أختي أنت تعلمين أنني شهيدة صغائر هذا العالم وضحية الغباوة وترحمين أختا ساهرة في سكينة الليل المخيف لتكشف لك ستائر صدرها عن أسرار قلبها، أنت ترحمين لأن الحب قد زار قلبك».
جاء الصباح فقامت تلك الصبية واستسملت للكرى، علها تجد فيه أحلاما ألطف من أحلام اليقظة.
القوة العمياء
جاء الربيع وتكلمت الطبيعة بألسنة السواقي ففرحت القلب، وابتسمت بشفاه الأزهار فأسعدت النفس، ثم غضبت ودكت المدينة الجميلة فأنست الإنسان عذوبة كليماتها ورقة ابتساماتها، قوة عمياء مخيفة نقضت بساعة ما أقامته الأجيال، موت ظلوم بأظافره المحدودة على الأعناق فسحقها بقساوة، نار آكلة التهمت الأرزاق والأعمار، ليل قاتم أخفى جمال الحياة تحت لحف الرماد، عناصر هائلة هبت من مرابضها وقاتلت الإنسان الضعيف وخربت مساكنه وذرت بسرعة ما جمعه بالتأني، زلزال عنيف حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة ولم تلد غير الخراب والشقاء.
جرى كل ذلك والنفس الحزينة ناظرة من بعيد تتأمل وتتألم، تتأمل بمقدرة الإنسان المحدودة تجاه القوى غير العاقلة وتتألم مع المصابين الهاربين من النار والدمار، تتأمل بأعداء ابن آدم الكامنة له تحت أطباق الثرى وبين دقائق الأثير، وتتألم مع الوالدات النائحات والأطفال الجائعين، تتأمل بقساوة المادة واستصغارها الحياة العزيزة، وتتألم مع الذين رقدوا بالأمس مستأمنين في منازلهم فأصبحوا اليوم واقفين عن بعد يرثون المدينة الجميلة بغصات مؤلمة وعبرات مرة، تتأمل بكيفية انقلاب الأمل يأسا، والفرح حزنا، والراحة عذابا، وتتألم مع قلوب ترتعد بين مخالب اليأس والحزن والعذاب.
كذا وقفت النفس بين التأمل والتألم تنقاد تارة إلى الشك بعدالة النواميس الرابطة القوات بعضها دون الآخر، وتعود طورا فتهمس في آذان السكينة قائلة: إن وراء الكائنات حكمة سرمدية تبتدع من كوارث ونوازل نراها محاسن نتائج لا نراها، فالنار والزلازل والعواصف من جسم الأرض بمكان البغض والحقد والشر في القلب البشري تثور وتضج ثم تخمد، ومن ثورتها وضجيجها وخمودها تبتدع الآلهة معرفة جميلة يبتاعها الإنسان بدمعه ودمه وأرزاقه.
أوقفتني الذكرى ونكبة هذه الأمة تملأ الأسماع أنة وعويلا، وصورت أمام عيني كل ما مر على مرسح الأيام الغابرة من العبر والخطوب، فرأيت الإنسان في كل أدواره يقيم على صدر الأرض البروج والقصور والهياكل، والأرض ترجعها إلى قلبها، رأيت الأشداء يشيدون المباني القوية، والنحاتين يختلقون من الصخور صورا وأشباحا، والرسامين يزينون الجدران والمداخل بالنقوش والنسيج، ثم رأيت هذه اليابسة تفغر فاها وتبتلع بخشونة ما ألفته الأيادي المتفننة والعقول الراجحة، ماحية بقساوتها ظواهر الصور والأشباح، مدمرة بسخطها خطوط الرسوم والنقوش، دافئة بعنفها فخامة الدعائم والجدران، ممثلة دور حسناء مستغنية عن الحلي التي يصيغها ابن آدم، مستكفية بحلل المروج الخضراء المزركشة بذهب الرمال وجواهر الحصى.
على أنني وجدت بين هذه النكبات المخيفة والرزايا الهائلة، ألوهية الإنسان واقفة كالجبار تسخر بحماقة الأرض وغضب العناصر، ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرنسيسكو، ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي.
منيتان
في سكينة الليل هبط الموت من لدن الله نحو المدينة النائمة، واستقر على أعلى مئذنة فيها، وخرق بعينيه النيرتين جدران المساكن، ورأى الأرواح المحمولة على أجنحة الأحلام، والأجساد المحكومة بمفاعيل الكرى.
ولما توارى القمر وراء الشفق، وتوشحت المدينة بنقاب الخيال، سار الموت بقدم هادئة بين المساكن حتى بلغ صرح القوي الغني فدخل ولم تصده الحواجز، ووقف جنب سريره ثم لمس جبينه فانذعر من غفلته، ولما رأى خيال الموت أمامه صرخ بصوت تجسمت فيه عوامل الحنق والخوف وقال: «ابعد عني أيها الحلم المخيف، اذهب أيها الخيال الشرير، كيف دخلت أيها السارق؟ وماذا تروم أيها الخاطف؟ أذهب فأنا رب البيت، اذهب وإلا ناديت العبيد والحراس فيمزقونك إربا».
حينئذ اقترب الموت وبصوت يحاكي الرعد قال: «أنا هو الموت فانتبه واعتبر!» فأجاب القوي الموسر: «ماذا تريد مني الآن وماذا تطلب؟ لماذا جئت وأنا لم أنه أعمالي بعد! ماذا تطلب من الأقوياء نظيري؟ اذهب إلى السقماء، اغرب عني ولا ترني أظافرك الجارحة وشعرك المسدول كالأفاعي، رح فقد سئمت النظر إلى جناحيك الهائلين وجسدك البالي» وبعد سكيبة مزعجة زاد: «لا لا أيها الموت الرءوف، لا تحفل بما قلته فالخوف يوحي ما يحرمه القلب، خذ مكيالا من ذهبي أو قبضة من أرواح عبيدي واتركني وشأني ... لي يا موت مع الحياة حساب لم أنهه، ومع الناس مال لم أستوفه، لي بين أمواج البحر مراكب لم تصل إلى الساحل، وفي قلب الأرض غلة لم تنبت، خذ ما شئت من هذه الأشياء واتركني، لي جوار كالصباح جمالا فاختر منهن ما تريد، اسمع أيها الموت لي وحيد أحبه وهو عقدة آمالي، خذه واتركني، خذ ما تشاء، خذ كل شيء واتركني».
حينئذ وضع الموت يده على فم عبد الحياة الترابية، وأخذ حقيقته وأعطاها للهواء.
سار الموت بين أحياء الفقراء الضعفاء حتى بلغ بيتا حقيرا فدخله واقترب من سرير عليه فتى في ربيع العمر، وبعد أن تأمل في وجهه الهادئ لمس عينيه فاستيقظ، ولما رأى الموت واقفا بجانبه جثا على ركبتيه ورفع ذراعيه نحوه وقال بصوت أودعه كل ما في نفسه من المحبة والشوق: «هأنذا أيها الموت الجميل، اقتبل نفسي يا حقيقية أحلامي وموضوع آمالي، ضمني يا حبيب نفسي، فأنت رحوم لا تتركني ها هنا، أنت رسول الآلهة، أنت يمين الحق فلا تتخل عني، كم طلبتك ولم أجدك، وكم ناديتك ولم تسمع! قد سمعتني الآن فلا تقابل شغفي بالصدود، عانق نفسي يا حبيبي الموت».
وضع الموت إذ ذاك أنامله اللطيفة على شفتي الفتى وأخذ حقيقته ووضعها تحت جنحيه.
ولما حلق الموت في الجو نظر نحو العالم ونفخ في الهواء هذه الكلمات: «ولن يرجع إلى الأبدية إلا من جاء من الأبدية».
على ملعب الدهر
ودقيقة تتراوح بين تأثيرات الجمال وأحلام الحب لهي أسمى وأثمن من جبل ملأه المجد الذي يمنحه الضعيف المسكين للقوي الطامع.
من تلك الدقيقة تنبثق ألوهية الإنسان، وفي ذاك الجبل تنام نوما عميقا مكتنفة ببراقع أحلام مزعجة، في تلك الدقيقة تتحرر النفس من أعباء شرائع الإنسان المتباينة، وفي ذاك الجبل تحبس وراء جدران الإهمال مثقلة بقيود الظلم، تلك الدقيقة كانت مهد نشيد سليمان وموعظة الجبل وتائية ابن الفارض، وذاك الجبل كان القوة العمياء التي هدمت هياكل بعلبك ودكت مباني تدمر وسحقت بروج بابل.
ويوم صرفته النفس آسفة على موت حقوق الفقير، متأوهة على فقدان العدل لهو أجل وأفضل من عمر يضيعه الإنسان مسرورا على مائدة الشهوات، مستسلما لقضاء الأنانية، ذاك يوم يطهر القلب بناره ويفعمه بنوره، وذا عمر يخيم عليه بجنحة القتم ويلحده طي طبقات التراب، ذاك يوم كان يوم العبر، ويوم الجلجلة، ويوم الهجرة، وذا عمر أنفقه نيرون في سوق المظالم، ووقفه قارون على مذبح المطامع، وطمره دون جوان في قبر الجسديات.
وهذه هي الحياة، تمثلها الليالي على ملعب الدهر نظير مأساة، وتنشدها الأيام كأغنية، وفي النهاية تحفظها الأبدية كجوهرة.
خليلي
لو علمت يا خليلي الفقير أن الفاقة التي تقضي عليك بالشقاء هي هي التي توحي إليك معرفة العدل وتبثك إدراك كنه الحياة، لرضيت بقسمة الله، قلت معرفة العدل لأن الغني مشغول عن تلك المعرفة بخزائنه، وقلت كنه الحياة لأن القوي منصرف عنها إلى المجد. فافرح إذن بالعدل لأنك لسانه، وبالحياة لأنك كتابها، وابتهج فأنت مصدر فضيلة عاضديك، وعاضد فضيلة الآخرين بيدك.
ولو دريت يا حبيبي الحزين أن الأرزاء التي أصبحت مغلوبها، هي تلك القوة التي تنير القلب وترفع النفس من دركات الاستهزاء إلى درجات الاعتبار لقنعت بها إرثا، وبتأثيراتها مهذبا، وعلمت أن الحياة سلسلة ذات حلقات آخذة بعضها برقاب البعض، وأن الحزن حلقة ذهبية تفصل بين الاستسلام لمآتي الحاضر والتعلل ببهجة الآتي، كما يفصل الصبح بين النوم واليقظة.
خليلي، إن الفقر يطهر شرف النفس والغني يبين لؤمها، والحزن يلطف العواطف والسرور يدملها؛ لأن الإنسان ما برح يستخدم المال والسرور توصلا للازدياد مثلما يفعل باسم الكتاب شرا ينزه عنه الكتاب، وباسم الإنسانية ما تأباه الإنسانية.
لو باد الفقر ونأى الحزن لأصبحت النفس صحيفة خالية إلا من أرقام تدل على الأنانية ومحبة الإكثار، وألفاظ مفادها الشهوات الترابية؛ لأني نظرت فوجدت الألوهية، وهي الذات المعنوية في الإنسان، لا تباع بالمال ولا تنمو بمسرات فتيان العصر، وتأملت فرأيت الغني ينبذ ألوهيته ويحرص على أمواله، وفتى العصر يغادرها ويتبع ملذاته.
إن الساعة التي تصرفها أيها الفقير، مع رفيقتك وصغارك بعد مجيئك من الحقل، لهي رمز العائلة البشرية المستقبلة، هي عنوان سعادة الأجيال الآتية، والحياة التي يصرفها المثري بين الخزائن لهي حياة دنية تحاكي حياة الدود في القبور، هي رمز الخوف.
والدموع التي تذريها أيها الحزين، هي أعذب من ضحك المتناسي، وأحلى من قهقهة المستهزئ، تلك دموع تغسل القلب من أدران البغض، وتعلم ذارفها كيف يشارك منكسري القلب بشواعرة، هي دموع الناصري.
إن القوة التي زرعتها أيها الفقير، واستغلها الغني القوي سوف تعود إليك؛ لأن الأشياء ترجع إلى مصادرها بحكم الطبيعة، والأسي الذي عانيته أيها الحزين، ينقلب فرحا بحكم السماء .
سوف تتعلم الأجيال الآتية المساواة من الفقر، والمحبة من الأحزان.
حديث الحب
في بيت منفرد جلس فتى في صبح الحياة ينظر آنا من النافذة إلى السماء المزدانة بالكواكب، وآونة إلى رسم صبية بين يديه، رسم تنعكس خطوطه وألوانه على وجهه فتظهر علته أسرار هذا العالم وخفايا الأبدية، صورة ملامح امرأة تناجيه جاعلة عينيه آذانا تفقه لغة الأرواح السابحة في فضاء تلك الغرفة، ومبتدعة من مجموعة قلوبا أنارها الحب وأفعمها الشوق.
كذا مرت ساعة، كأنها دقيقة أحلام مستحبة أو عام من حياة البقاء، ثم وضع الفتى الرسم أمامه وأخذ قلما وورقة وكتب:
يا حبيبة نفسي!
إن الحقائق العظيمة الفائقة الطبيعة لا تنتقل من بشري إلى آخر بواسطة الكلام البشري المتعارف، لكنها تختار السكينة سبيلا بين النفوس. وأنا أشعر بأن سكينة هذا الليل تسعى بين نفسينا حاملة رسائل أرق من تلك التي يكتبها النسيم على وجه الماء تالية كتاب قلبينا على قلبينا، ولكن مثلما شاء الله وجعل النفوس في أسر الأجسام شاء الحب وجعلني أسير الكلام.
يقولون يا حبيبتي إن الحب ينقلب بالعباد نارا آكلة، وأنا وجدت أن ساعة الفراق لم تقو على فصل ذاتينا المعنويتين، مثلما علمت عند أول لقاء أن نفسي تعرفك منذ دهور، وأن أول نظرة إليك لم تكن بالحقيقة أول نظرة.
يا حبيبتي إن تلك الساعة التي جمعت قلبينا المنفيين عن العالم العلوي، هي ساعات قليلة تدعم اعتقادي بأزلية النفس وخلودها، في مثل تلك الساعة تكشف الطبيعة القناع عن وجه عدلها المتناهي والمظنون به ظلما.
هل تذكرين يا حبيبتي ذاك الروض، حيث وقفنا وكلانا ناظر وجه حبيبه؟ وهل تعلمين أن نظراتك كانت تقول لي إن محبتك لي لم تنبثق من الشفقة علي؟ تلك النظرات التي علمتني أن أقول لذاتي وللعالمين: إن العطاء الذي يكون مصدره العدل لهو أعظم من الذي يبتدئ من الحسنة، وإن المحبة التي تبتدعها الظروف تشابه مياه المستنقعات.
أمامي يا حبيبتي حياة أريدها أن تكون عظيمة وجميلة، حياة تؤاخي ذكرى الإنسان الآتي وتستدعي اعتباره ومحبته ، حياة قد ابتدأت عندما لقيتك وأنا واثق بخلودها؛ لأني مؤمن بكونك قادرة على إظهار القوة التي أودعني الله إياها، متجسمة بأقوال وأعمال كبيرة، مثلما تستنبت الشمس أزهار الحقل ذات العرف الطيب، وكذا تظل محبتي لي وللأجيال، وتبقى منزهة عن الأنانية لتعميمها، ومتعالية عن الابتذال لتخصيصها بك».
وقام الفتى ومشى بتمهل في تلك الغرفة، ثم نظر من النافذة ورأى القمر قد طلع من وراء الأفق وملأ الفضاء أشعة لطيفة، فرجع وكتب في تلك الرسالة: «سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب، وأنت نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في أن واحد، سامحيني يا حبيبتي».
الحيوان الأبكم
«وفي نظرات الحيوان الأبكم كلام تفهمه نفس الحكيم» (شاعر هندي)
في عشية يوم تغلبت فيه تخيلاتي على عاقلتي مررت بأطراف أحياء المدينة، ووقفت أمام منزل مهجور تداعت أركانه وحطمت دعائمه ولم يبق منه سوى أثر يخبر عن هجر طويل، ويدل على زوال محزن، فرأيت كلبا يتوسد الرماد وقد ملأت القروح جسمه الضعيف، واستحكمت العلل بهيكله المهزول، فصار يرمق الشمس الجانحة نحو الغروب بعين وسمت عليها أشباح الذل، وبدت فيها مظاهر القنوط واليأس، فكأنه درى أن الشمس قد أخذت تسترجع حرارة أنفاسها عن تلك البقعة المهجورة، البعيدة عن الأولاد مضطهدي الحيوان الضعيف، فصار يرمقها بعين آسفة مودعة، فاقتربت منه على مهل، وادا لو عرفت النطق بلسانه فأعزيه في شدائده، وأبدي له شفقة في بؤسه، ولما دنوت منه خافني وتحرك ببقايا حياة قاربت الانحلال، مستنجدا بقوائم شلتها العلة وراقبها الفناء، وإذ لم يقو على النهوض نظر إلي نظرة فيها مرارة استرحام وحلاوة استعطاف، نظرة فيها انعطاف وملامة، نظرة قامت مقام النطق فكانت أفصح من لسان الإنسان، وأبلغ من دموع المرأة.
ولما تلاقت عيناي بعينيه الحزينتين تحركت عواطفي وتمايلت تأثيراتي، فجسمت تلك النظرات وابتدعت لها أجسادا من كلام متعارف بين البشر، نظرات مفادها: «كفى ما بي يا هذا، وكفى ما عانيت من اضطهاد الناس، وما قاسيت من ألم الأمراض، امض واتركني وسكينتي أستمد من حرارة الشمس دقائق الحياة، فقد هربت من مظالم ابن آدم وقسوته، والتجأت إلى رماد أكثر نعومة من قلبه، واختبأت بين خرائب أقل وحشة من نفسه، اذهب عني فما أنت إلا من سكان أرض ما برحت ناقصة الأحكام، خالية من العدل، أنا حيوان حقير لكنني خدمت ابن آدم وكنت في منزله مخلصا ووفيا، وفي رفقته متربصا وجاسوسا، كنت شريكا في أحزانه، ومغبوطا في أفراحه، متذكرا أيام بعده، مترحبا عنده مجيئه، وكنت أكتفي بفتات مائدته، وأسعد بعظم حرده بأضراسه، ولكن لما شخت وهرمت وأنشبت الأمراض في جسمي أظافرها، نبذني، وأبعدني عن داره، وصيرني ملعبة لصبيان الأزقة القساة، وهدفا لنبال العلل، ومحطا لرحال الأقدار، أنا يا ابن آدم حيوان ضعيف، ولكني وجدت نسبة كائنة بيني وبين الكثيرين من إخوانك البشر، الذين إذا ما ضعفت قواهم قل رزقهم وساء حالهم، أنا مثل جنود يحاربون عن الوطن في شبيبتهم، ويستثمرون الأرض في كهولتهم، حتى إذا ما جاء شتاء الحياة وقل نفعهم، أبعدوهم ونسوهم. أنا مثل امرأة تجملت صبية لتفريج قلب الشبيبة، وسهرت زوجة في الليالي لتربية الأطفال، وتعبت امرأة لإيجاد رجال المستقبل، ولكن لما شاخت وعجزت أصبحت نسيا منسيا، وأمرا مكروها، آه ما أظلمك يا ابن آدم وما أقساك!».
كانت نظرات ذلك الحيوان تتكلم، وقلبي يفهم، ونفسي تتراوح بين شفقتي عليه وتصوراتي بأبناء جلدتي، ولما أغمض عينيه لم أشأ إزعاجه فذهبت.
السلم
سكنت العاصفة بعد أن لوت الأغصان وأحنت الزروع، وبانت النجوم كأنها بقايا البرق المتكسرة على أديم السماء، وسكنت تلك الحقول كأن حرب العناصر لم تكن.
في تلك الساعة دخلت الصبية مرقدها، وجثت على سريرها وبكت بكاء مرا، ثم تصاعدت زفراتها وتجسمت أنفاسها الحارة بهذه الكلمات: «رده إلي يا رب، فقد جفت دموعي وذابت حشاشتي، أرجعه أيها الروح القاضي بحكمة تسمو عن نهى الإنسان، فقد جفاني التجلد وتحكم بي الأسى، خلصه من بين مخالب الحرب المحددة، أنقذه من الموت القاسي، وارحمه فتى ضعيفا جنت عليه قوة القوي فسلبني إياه، تغلبي أيتها المحبة على عدوتك الحرب ، أو خلصي حبيبي فهو من أبنائك، ابتعد عنه أيها الموت ودعه يرني أو تعال وخذني إليه».
في تلك الدقيقة دخل فتى تضم رأسه عصائب بيضاء كتبت عليها الهيجاء أحرفا قرمزية، واقترب من الصبية وحياها بدمعة وابتسامة، ثم أخذ يدها ووضعها على شفتيه الملتهبتين، وبصوت تألفت فيه عوامل الحب الخارج ومفاعيل اللقاء المفرح قال: «لا تجفلي فقد أتى من تبكين من أجله، افرحي فقد أعاد إليك السلم من سرقه الحرب، وأرجع إليك فتى الإنسانية ما سلبه ابن المطامع، كفكفي الدمع يا حبيبتي وابتسمي؛ لأن للشعوب أيمة ترحم متى عمت قساوة أيمة الشعوب، لا تعجبي من إيابي حيا، فللحب وسم يراه الموت فينصرف، ويتوسمه العدو فيقهقر. أنا هو، فلا تحسبيني خيالا جاء من مرتع المنايا ليزور مربعا يسكنه جمالك والسكون: لا تخافي فأنا حقيقة سلمت من بين الأسنة والنار لتخبر الناس بلغة الحب على الحرب، أنا كلمة لفظها رجل السلم لتكون توطئة لرواية سعادتك».
انعقد اللسان إذ ذاك وناب الدمع عن الكلام، وحامت ملائكة السرور حول ذلك الكوخ الحقير واسترجع القلبان ما فقداه عند الوداع.
ولما جاء الصباح وقف الاثنان في وسط الحقل يتأملان في جمال الطبيعة، وبعد سكينة فيها من الأحاديث ما فيها، نظر الجندي نحو المشرق الأقصى وقال لحبيبته: «انظري الشمس طالعة من الظلمة».
الشاعر
حلقة توصل بين هذا العالم والآتي، منهل عذب تستقي منه النفوس العاطشة، شجرة مغروسة على ضفة نهر الجمال ذات ثمار يانعة تطلبها القلوب الجائعة، بلبل يتنقل على أغصان الكلام وينشد أنغاما تملأ خلايا الجوارح لطفا ورقة، غيمة بيضاء تظهر خط الشفق ثم تتعاظم وتتصاعد وتملأ وجه السماء وتنسكب لتروي أزهار حقل الحياة، ملك بعثته الآلهة ليعلم الناس الإلهيات، نور ساطع لا تغلبه ظلمة ولا يخفيه مكيال ملأته زيتا عشتروت إلهة الحب، وأشعله أبولون إله الموسيقى.
وحيد يرتدي البساط ويتغذى اللطف، ويجلس على أحضان الطبيعة ليتعلم الإبداع، ويسهر في سكينة الليل منتظرا هبوط الروح، زراع يبذر حبات قلبه في رياض الشواعر فتنبت زرعا خصيبا، تستغله الإنسانية وتتغذى به.
هذا هو الشاعر الذي تجهله الناس في حياته، وتعرفه عندما يودع هذا العالم ويعود إلى موطنه العلوي، هذا الذي لا يطلب من البشر إلا ابتسامة صغيرة، والذي تتصاعد أنفاسه وتملأ الفضاء أشباحا حية جميلة، والناس تبخل بالخبز والمأوى.
فإلى متى أيها الإنسان، إلى متى أيها الكون تقيم من الفخر بيوتا للألى جبلوا أديم التراب بالدماء وتعرض بتهامل عن الذين يهبونك من محاسن أنفسهم سلاما ووداعة؟ وحتى م تعظم القتلة والذين أحنوا الرقاب بنير الاستعباد، وتتناسى رجالا يسكبون نور الأحداق في ظلمة الليل ليعلموك أن ترى بهاء النهار، ويصرفون العمر بين مخالب الشقاء كي لا تفوتك لذة السعادة.
وأنتم يا أيها الشعراء يا حياة هذه الحياة، قد تغلبتم على الأجيال قسرا عن قساوة الأجيال، وفزتم بإكليل الغار غصبا عن أشواق الغرور، وملكتم في القلوب وليس لملككم نهاية وانقضاء، يا أيها الشعراء.
يوم مولدي
كنت في باريس في 6 كانون الأول «ديسمبر» سنة 1908، في مثل هذا اليوم ولدتني أمي.
في مثل هذا اليوم، منذ خمس وعشرين سنة، وضعتني السكينة بين أيدي هذا الوجود المملوء بالصراخ والنزاع والعراك.
ها قد سرت خمسا وعشرين مرة حول الشمس، ولا أدري كم مرة سار القمر حولي، لكنني لم أدرك بعد أسرار النور، ولا عرفت خفايا الظلام، قد سرت خمسا وعشرين مرة مع الأرض والقمر والشمس والكواكب حول الناموس الكلي الأعلى، ولكن هو ذا نفسي تهمس الآن أسماء ذلك الناموس مثلما ترجع الكهوف صدى أمواج البحر، فهي كائنة بكيانه، ولا تعلم ماهيته، وتترنم بأغاني مده وجزره، ولا تستطيع إدراكه.
منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل، وهأنذا كلمة مبهمة، ملتبسة المعاني، ترمز تارة إلى لا شيء، وطورا إلى أشياء كثيرة.
إن التأملات والأفكار والتذكارات تتزاحم على نفسي في مثل هذا اليوم من كل سنة، وتتوقف أمامي مواكب الأيام الغابرة، وتريني أشباح الليالي الماضية، ثم تبددها كما تبدد الرياح بقايا الغيوم فوق خط الشفق، فتضمحل في زوايا غرفتي اضمحلال أناشيد السواقي في الأودية البعيدة الخالية.
في مثل هذا اليوم من كل سنة، تجيء الأرواح التي رسمت روحي متراكضة نحوي من جميع أطراف العالم، وتحيط بي مرتلة أغاني الذكرى المحزنة، ثم تتراجع على مهل وتختفي وراء المرئيات كأنها أسراب من الطير هبطت على بيدر مهجور فلم تجد بذورا تلتقطها، فرفرفت هنيهة ثم طارت سابحة إلى مكان آخر.
في هذا اليوم تنتصب أمامي معاني حياتي العابرة كأنها مرآة ضئيلة، أنظر فيها طويلا فلا أرى سوى أوجه السنين الشاحبة كأوجه الأموات، وملامح الآمال والأحلام والأماني المتجعدة كملامح الشيوخ، ثم أغمض عيني وأنظر ثانية في تلك المرآة فلا أرى غير وجهي، ثم أحدق بوجهي فلا أرى فيه غير الكآبة، ثم أستنطق الكآبة فأجدها خرساء لا تتكلم، ولو تكلمت الكآبة لكانت أكثر حلاوة من الغبطة.
في الخمس والعشرين سنة الغابرة قد أحببت كثيرا، وكثيرا ما أحببت ما يكرهه الناس وكرهت ما يستحسنونه، والذي أحببته عندما كنت صبيا ما زلت أحبه الآن، والذي أحبه الآن سأحبه إلى نهاية الحياة، فالمحبة هي كل ما أستطيع أن أحصل عليه، ولا يقدر أحد أن يفقدني إياها.
قد أحببت الموت مرات عديدة، فدعوته بأسماء عذبة أتشبب به سرا وعلنا، ولئن لم أرسل الموت ولا نقضت له عهدا فإنني صرت أحب الحياة أيضا، فالموت والحياة قد تساويا عندي بالجمال، وتضارعا باللذة، وتشاركا بإنماء شوقي وحنيني، وتساهما محبتي وانعطافي.
وقد أحببت الحرية فكانت محبتي تنمو بنمو معرفتي عبودية الناس للجور والهوان، وتتسع باتساع إدراكي خضوعهم للأصنام المخيفة التي نحتتها الأجيال المظلمة، ونصبتها الجهالة المستمرة، ونعمت جوانبها ملامس شفاه العبيد، لكنني كنت أحب هؤلاء العبيد بمحبتي الحرية، وأشفق عليهم لأنهم عميان يقبلون أحناك الضواري الدامية ولا يبصرون، ويمتصون لهاث الأفاعي الخبيثة ولا يشعرون، ويحفرون قبورهم بأظافرهم ولا يعلمون، قد أحببت الحرية أكثر من كل شيء لأنني وجدتها فتاة قد أضناها الانفراد، وأنحلها الاعتزال، حتى صارت خيالا شفافا يمر بين المنازل، ويقف في منعطفات الشوارع، وينادي عابري الطريق، فلا يسمعون ولا يلتفتون.
وفي الخمس والعشرين سنة قد أحببت السعادة مثل جميع البشر، فكنت أستيقظ كل يوم وأطلبها كما يطلبونها، لكنني لم أجدها قط في سبيلهم، ولا رأيت أثر أقدامها على الرمال المحيط بقصورهم، ولا سمعت صدى صوتها خارجا من نوافذ هياكلهم، ولما انفردت بطلبها سمعت نفسي تهمس في أذني قائلة: «السعادة صبية تولد وتحيا في أعماق القلب، ولن تجيء إليه من محيطه»، ولما فتحت قلبي لكي أرى السعادة وجدت هناك مرآتها وسريرها وملابسها، لكنني لم أجدها.
وقد أحببت الناس - أحببتهم كثيرا - والناس في شرعي ثلاثة: واحد يلعن الحياة، وواحد يباركها، وواحد يتأمل بها، فقد أحببت الأول لتعاسته، والثاني لسماحته، والثالث لمداركه.
هكذا انقضت الخمس والعشرون سنة، وهكذا ذهبت أيامي وليالي متسارعة، متتابعة، متساقطة من حياتي، مثلما تتناثر أوراق الشجر أمام رياح الخريف.
واليوم، وقد وقفت متذكرا وقوف سائر متعب بلغ منتصف العقبة، أنظر إلى كل ناحية فلا أرى لماضي حياتي أثرا أستطيع أن أومئ إليه أمام وجه الشمس قائلا: هذا لي. ولا أجد لفصول أعوامي غلة سوى أوراق مخضبة بقطرات الحبر السوداء، ورسوم غريبة مبعثرة مملوءة خطوطا وألوانا متباينة متناسقة، في هذه الأوراق المنثورة، والرسوم المبعثرة، قد كفنت ودفنت عواطفي وأفكاري وأحلامي، مثلما يدفن الزراع البذور في بطن الأرض، ولكن الزارع الذي يخرج إلى الحقل ويلقي البذور بين ثنايا التراب، يعود إلى بيته في المساء آملا راجيا منتظرا أيام الحصاد والاستغلال، أما أنا فقد طرحت حبات قلبي بلا أمل، ولا رجاء، ولا انتظار.
والآن وقد بلغت هذه المرحلة من العمر، فتراءى لي الماضي من وراء ضباب التنهيد والأسى، وبان لناظري المستقبل من وراء نقاب الماضي، أقف وأنظر إلى الوجود من خلال بلور نافذتي، وأرى وجوه الناس وأسمع أصواتهم متصاعدة إلى الفضاء، وأعي وقع أقدامهم بين المنازل، وأشعر بملامس أرواحهم وتموجات أميالهم ونبضات قلوبهم، أنظر فأرى الأطفال يلعبون ويذرون التراب بعضهم في وجوه بعض ضاحكين مقهقهين، وأرى الفتيان يسيرون بعزم رافعين رءوسهم، كأنهم يقرأون قصيدة الشباب مكتوبة بين حواشي الغيوم المبطنة بأشعة الشمس، وأرى الصبايا يخطرن وينثنين كالأغصان، ويبتسمن كالأزهار، وينظرن إلى الفتيان من وراء جفون ترتعش بالميل والانعطاف، وأرى الشيوخ يمشون على مهل محدودبي الظهور، متوكئين على العصي، محدقين بالأرض، كأنهم يبحثون بين دقائق التراب عن جواهر أضاعوها، أقف بجانب نافذتي وأنظر متأملا بجميع هذه الصور والأشباح الساكنة بمسيرها، المتطايرة بدبيبها في شوارع المدينة وأزقتها، ثم أنظر متأملا بما وراء المدينة فأرى البرية بكل ما فيها من الجمال الرهيب، والسكينة المتكلمة، والتلول الباسقة، والأودية المنخفضة، والأشجار النامية، والأعشاب المتمايلة، والأزهار المعطرة، والأنهار المترنمة، والأطيار المغردة، ثم أنظر إلى ما وراء البرية فأرى البحر بكل ما في أعماقه من الغرائب والعجائب، والمدافن والأسرار، وما على سطحه من الأمواج المزبدة، الغضوبة المتسارعة المتهاونة، والأبخرة المتصاعدة، المتبددة، المتساقطة، ثم أنظر متأملا بما وراء البحر، فأرى الفضاء غير المتناهي بكل ما فيه من العوالم السابحة، والكواكب اللامعة، والشموس والأقمار، والسيارات والثوابت، وما بينهما من الدوافع والجواذب المتسالمة، المتنازعة المتولدة، المتحولة المتماسكة بناموس لا حد له ولا مدى، الخاضعة لشروع كلي ليس لبدئه ابتداء ولا لنهايته نهاية. أنظر وأتأمل بجميع هذه الأشياء من خلال بلور نافذتي، فأنسى الخمس والعشرين وما جاء قبلها من الأجيال وما سيأتي بعدها من القرون، ويظهر لي كياني ومحيطي بكل ما أخفاه وأعلنه ذرة من تنهدة طفل ترتجف في خلاء أزلي الأعماق، سرمدي العلو، أبدي الحدود.
لكنني أشعر بكيان هذه الذرة، هذه النفس، هذه الذات التي أدعوها «أنا»، أشعر بحراكها وأسمع ضجيجها، فهي ترفع الآن أجنحتها نحو العلاء، وتمتد يداها إلى كل ناحية، وتتمايل مرتعشة في مثل اليوم الذي أبانها للوجود، وبصوت متصاعد من قدس أقداسها تصرخ قائلة: «سلام أيتها الحياة! سلام أيتها اليقظة! سلام أيتها الرؤيا! سلام أيها النهار الغامر بنورك ظلمة الأرض! وسلام أيها الليل المظهر بظلمك أنوار السماء! سلام أيتها الفصول! سلام أيها الربيع المعيد شبيبة الأرض! سلام أيها الصيف المذيع مجد الشمس! سلام أيها الخريف الواهب ثمار الأتعاب وغلة الأعمال! سلام أيها الشتاء المرجع بثوراتك عزم الطبيعة! سلام أيتها الأعوام الناشرة ما أخفته الأعوام! سلام أيتها الأجيال المصلحة ما أفسدته الأجيال! سلام أيها الزمن السائر بنا نحو الكمال! سلام أيها الروح الضابط أعنة الحياة، المحجوب عنا بنقاب الشمس! وسلام لك أيها القلب لأنك تستطيع أن تهزأ بالسلام وأنت مغمور بالدموع! وسلام لك أيتها الشفاه لأنك تتلفظين بالسلام وأنت تذوقين طعم المرارة!».
الطفل يسوع والحب الطفل
كنت بالأمس وحيدا في هذا العالم يا حبيبتي، وكانت الوحدة قاسية كالموت، وكنت منفردا كالزهرة النابتة في ظل الصخور المتعالية فلا تشعر الحياة بوجودي، ولا أنا أشعر بكيان الحياة، واليوم قد استيقظت نفسي ورأتك منتصبة بقربها، فتهيبت وتهللت، ثم سجدت أمامك مثلما فعل ذلك الراعي عندما رأى العليقة مشتعلة.
كانت بالأمس ملامس الهواء خشنة يا حبيبتي، وأشعة الشمس ضعيفة، وكان الضباب يستر وجه الأرض، وضجيج أمواج البحر يشابه الرعود القاصفة، وكنت أتلفت إلى كل ناحية فلا أرى غير ذاتي المتوجعة واقفة بجانبي، وخيالات الظلمة تهبط وتتصاعد حولي كالغربان الجائعة، واليوم قد خف الهواء، وغمر النور الطبيعة وسكنت الأمواج، وانقشعت الغيوم، فكيفما نظرت أراك وأرى أسرار الحياة محيطة بك كالهالات التي يحدثها جسم العصفور على وجه البحيرة الهادئة، عندما يتحمم بمائها الهادئ.
كنت بالأمس كلمة صامتة في خاطر الليالي، فأصبحت أغنية مفرحة على ألسن الأيام، وقد تم هذا كله في دقيقة واحدة مؤلفة من نظرة وكلمة، وتنهدة وقبلة، تلك الدقيقة يا حبيبتي قد جمعت بين استعدادات نفسي الغابرة وأمانيها الآتية، فكانت كالوردة البيضاء الخارجة من قلب الأرض المظلم إلى نور النهار، تلك الدقيقة هي من كل حياتي بمنزلة ميلاد يسوع من كل الأجيال؛ لأنها كانت مملوءة روحا وطهرا ومحبة، لأنها جعلت الظلمة في أعماقي شعاعا، والكآبة مرحا، والشقاء سعادة.
إن شعلات المحبة يا حبيبتي تهبط من السماء متموجة بصور متباينة، وأشكال متنوعة، لكن فعلها وتأثيرها في هذا العالم هو واحد! فالشعلة الصغيرة تنير خلايا قلب الإنسان الفرد، هي كالشعلة العظيمة المشعشعة التي تنحدر من الأعالي وتنير ظلمات الأمم جميعها؛ لأن في النفس الواحدة عناصر وأميال وعواطف لا تختلف قط عن العناصر والأميال والعواطف الكائنة في نفس العائلة البشرية.
كان اليهود يا حبيبتي يترقبون مجيء عظيم موعود به منذ ابتداء الدهر ليخلصهم من عبودية الأمم، وكانت النفس الكبيرة في اليونان ترى أن عبادة المشترى ومينرفا قد ضعفت فلم تعد تشبع الأرواح من الروحيات، وكان الفكر السامي في روما يتأمل فيجد أن ألوهية أبولون أصبحت تتباعد عن العواطف، وجمال فينوس الأبدي قد أخذ يقترب من الشيخوخة، وكانت الأمم كلها تشعر على غير معرفة منها بمجاعة نفسية إلى تعاليم مترفعة عن المادة، وبميل عميق إلى الحرية الروحية التي تعلم الإنسان أن يفرح مع قريبه بنور الشمس وجمال الحياة، تلك هي الحرية الجميلة التي تخول الإنسان أن يقترب من القوة غير المنظورة بلا خوف ولا وجل، بعد أن يقنع الناس طرا بأنه يقترب منهم من أجل سعادتهم.
كان ذلك كله من ألفي سنة يا حبيبتي، عندما كانت عواطف القلب البشري تحوم مرفرفة حول المرئيات وتخشى الدنو من الروح الكلي الخالد، عندما كان «بان» إله الأرواح يملأ نفوس الرعاة جزعا، وبعل إله الشمس يضغط بأيدي كهانه على قلوب المساكين والضعفاء.
ففي ليلة واحدة، بل في ساعة واحدة، بل في لمحة واحدة تنفرد عن الأجيال لأنها أقوى من الأجيال، انفتحت شفاه الروح ولفظت «كلمة الحياة» التي كانت في البدء عند الروح، فنزلت مع نور الكواكب وأشعة القمر، وتجسدت وصارت طفلا بين ذراعي ابنة من البشر في مكان حقير، حيث يحمي الرعاة مواشيهم من كواسر الليل، ذلك الطفل النائم على القش اليابس في مذود البقر، ذلك الملك الجالس فوق عرش مصنوع من القلوب المثقلة بنير العبودية، والنفوس الجائعة إلى الروح، والأفكار التائقة إلى الحكمة، ذلك الرضيع الملتف بأثواب أمه الفقيرة، قد انتزع بلطفه صولجان القوة من المشترى وأسلمه للراعي المسكين المتكئ على الأعشاب بين أغنامه، وأخذ الحكمة من مينرفا برقته ووضعها على لسان الصياد الفقير الجالس في زورقه على شاطئ البحيرة، واستخلص الغبطة بحزن نفسه من أبولون ووهبها لكسير القلب الواقف مستعصيا أمام الأبواب ، وسكب الجمال بجماله من فينوس وبثه في روح المرأة الساقطة الخائفة من قساوة المضطهدين، وأنزل البعل عن جبروته وأقام مكانه الفلاح البائس الذي ينثر في الحقل البذور مع عرق الجبين. •••
أولم تكن عواطفي بالأمس كأسباط إسرائيل يا حبيبتي؟ أما ترقبت في سكينة الليل مجيء مخلص ينقذني من عبودية الأيام ومتاعبها؟ أما شعرت كالأمم الغابرة بالمجاعة الروحية العميقة؟ أما سرت على طريق الحياة مثل صبي ضائع بين الأحياء المهجورة؟ أولم تكن نفسي كالنواة المطروحة على الصخر لا الطير يلتقطها فيميتها، ولا العناصر تشقها فتحييها.
قد كان ذلك كله بالأمس يا حبيبتي، عندما كانت أحلامي تدب في جوانب الظلمة وتخاف الاقتراب من النور، عندما كان اليأس يلوي أضلعي والضجر يقومها.
ففي ليلة واحدة، بل في ساعة واحدة، بل في لمحة واحدة تتنحى عن سني حياتي لأنها أجمل من سني حياتي، هبط الروح من وسط دائرة النور الأعلى، ونظر إلي من وراء عينيك، وتكلم معي بلسانك، ومن تلك النظرة وهاتيك الكلمة انبثق الحب وحل في أعشار قلبي، هذا الحب العظيم في هذا المذود المنزوي في صدري، هذا الحب الجميل الملتف بأقمطة العواطف، هذا الرضيع اللطيف المتكئ على صدر النفس قد جعل الأحزان في باطني مسرة، واليأس مجدا، والوحدة نعيما، هذا الملك المتعالي فوق عرش الذات المعنوية، قد أعاد بصوته الحياة لأيامي الميتة، وأرجع بملامسه النور إلى أجفاني المقرحة بالدموع، وانتشل بيمينه آمالي من لجة القنوط. •••
كان كل الزمن ليلا يا حبيبتي فصار فجرا، وسيصير نهارا لأن أنفاس الطفل يسوع قد تخللت دقائق الفضاء ومازجت ثانويات الأثير، وكانت حياتي حزنا فصارت فرحا وستصير غبطة؛ لأن ذراعي الطفل قد ضمتا قلبي وعانقتا نفسي.
مناجاة أرواح
استيقظي يا حبيبتي، استيقظي لأن روحي تناديك من وراء البحار الهائلة، ونفسي تمد جنحيها نحوك فوق الأمواج المزبدة الغضوبة، استيقظي فقد سكنت الحرية، وأوقف الهدوء ضجة سنابك الخيل ووقع أقدام العابرين، وعانق النوم أرواح البشر فبقيت وحدي مستيقظا لأن الشوق ينتشلني كلما أغرقني النعاس، والمحبة تدنيني إليك عندما تقصيني الهواجس ، قد تركت مضجعي يا حبيبتي خوفا من خيالات السلو المختبئة بين طيات اللحف، ورميت بالكتاب لأن تأوهي قد أباد السطور من صفحاته فأصبحت خالية بيضاء أمام عيني، استيقظي! استيقظي يا حبيبتي واسمعيني!
هأنذا يا حبيبتي قد سمعت نداءك من وراء البحار، وشعرت بملامس جناحيك فانتبهت وتركت مخدعي وسرت على الأعشاب فتبللت قدماي وأطراف ثوبي من ندى الليل، ها أنا واقفة تحت أغصان اللوز المزهرة أسمع نداء نفسك يا حبيبتي!
تكلمي يا حبيبتي، ودعي أنفاسك تسيل مع الهواء القادم نحوي من أودية لبنان، تكلمي فلا سامع غيري؛ لأن الظلمة قد دحرت جميع المخلوقات إلى أوكارها، والنعاس أسكر سكان المدينة، وبقيت وحدي صاحيا. •••
قد نسجت السماء نقابا من أشعة القمر وألقته على جسد لبنان يا حبيبتي!
قد حاكت السماء من ظلمة الليل رداء كثيفا مبطنا بدخان المعامل وأنفاس الموت، وسترت به أضلع المدينة يا حبيبتي!
قد رقد سكان القرى في أكواخهم القائمة بين أشجار الجوز والصفصاف، وتسابقت نفوسهم نحو مراسح الأحلام يا حبيبتي.
قد أناخت أحمال الذهب قامات البشر، وأوهنت عقبات المطامع ركبهم، وأثقلت المتاعب أجفانهم فارتموا على الفرش، وأشباح الخوف والقنوط تعذب قلوبهم يا حبيبتي! •••
قد سرت في الأودية خيالات الأجيال الغابرة، وحامت على الروابي أرواح الملوك والأنبياء، فانثنت فكرتي نحو مسارح الذكرى وأرتني عظائم الكلدانيين وفخامة الآشوريين ونبالة العرب.
قد سرت في الأزقة أرواح اللصوص القاتمة، وظهرت من بين شقوق النوافذ رءوس أفاعي الشهوات، وجرت في منعطفات الشوارع أنفاس الأمراض ممزوجة بلهاث المنايا، فأزاحت الذكرى ستائر النسيان، وأرتني مكاره صادوم وآثام عامورة. •••
قد تمايلت الأغصان يا حبيبي، وتحالف حفيفها مع خرير ساقية الوادي، ورددت على مسامعي نشيد سليمان ورنات قيثارة داود وأغاني الموصلي.
قد ارتعشت نفوس أطفال الحي وأقلقهم الجوع، وتسارعت تنهدات الأمهات المضطجعات على أسرة الهم واليأس، وأراعت أحلام العوز قلوب الرجال المقعدين، فسمعت نواحا مرا وزفيرا متقطعا يملأ الضلوع ندبا ورثاء.
قد فاحت روائح النرجس والزنبق، وعانقت عطر الياسمين والبيلسان، ثم تمازجت بأنفاس الأرز الطيبة، وسرت مع تموجات النسيم فوق الطلول المتشعبة والممرات الملتوية، فملأت النفس انعطافا ومنحتها حنينا إلى الطيران، قد تصاعدت روائح الأزقة الكريهة واختمرت بجراثيم العلل، ومثل أسهم دقيقة خافية قد خدشت الحس وسممت الهواء.
ها قد جاء الصباح يا حبيبي، وداعبت أصابع اليقظة أجفان النيام، وفاضت الأشعة البنفسجية من وراء الجبل، وأزالت غشاء الليل من عزم الحياة ومجدها، فاستفاقت القرى المتكئة بهدوء وسكينة على كتفي الوادي، وترنمت أجراس الكنائس وملأت الأثير نداء مستحبا معانة بدء صلاة الصباح، فأرجعت الكهوف صدى رنينها كأن الطبيعة بأسرها قامت مصلية، وقد غادرت العجول مرابضها، وتركت قطعان الغنم والماعز حظائرها، وانثنت نحو الحقول ترتعي رءوس الأعشاب المتلمعة بقطر الندى، ومشى أمامها الرعاة ينفخون الشبابات، ووراءها الصبايا المتأهلات مع العصافير بقدوم الصباح.
قد جاء الصباح يا حبيبي وانبسطت فوق المنازل المكردسة أكف النهار الثقيلة، فأزيحت الستائر عن النوافذ وانفتحت مصاريع الأبواب، فبانت الوجوه الكالحة والعيون المعروكة، وذهب التعساء إلى المعامل وداخل أجسادهم يقطن الموت في جوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان القنوط والخوف كأنهم منقادون قهرا إلى عراك مهلك، ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين، وامتلأ الفضاء من قلقلة الحديد ودوي الدواليب وعويل البخار، وأصبحت المدينة ساحة قتال يصرع فيها القوي الضعيف، ويستأثر الغني المظلوم بأتعاب الفقير المسكين. •••
ما أجمل الحياة ها هنا يا حبيبي، فهي مثل قلب الشاعر المملوء نورا ورقة.
ما أقسى الحياة ها هنا يا حبيبي، فهي مثل قلب المجرم المفعم بالإثم والمخاوف.
أيتها الريح
تمرين آنا فرحة مترنحة، وآونة متأوهة نادبة، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك، فإنك بحر من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتها وهي ساكنة.
تتصاعدين مع الروابي وتنخفضين مع الأودية وتنبسطين مع السهول والمروج، ففي تصاعدك عزم، وفي انخفاضك رقة، وفي انبساطك رشاقة، فكأنك مليك رءوف يتساهل مع الضعفاء الساقطين، ويترفع مع الأقوياء المتشامخين.
في الخريف تنوحين في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثورين بشدة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتلين وتضعفين ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارين وراء نقاب السكون فنخالك ميتا قتلته سهام الشمس ثم كفنته بحرارتها.
لكن، أنادبة كنت أيام الخريف، أم ضاحكة من خجل الأشجار بعد عريتها من ملابسها؟ أغاضبة كنت أيام الشتاء، أم راقصة حول قبور الليالي المكلسة بالثلوج؟ أعليلة كنت أيام الربيع، أم حبيبة أضناها البعاد فجاءت تسعد بالتنهد أنفاسها على وجه حبيبها شاب الفصول لتنبهه من رقاده؟ أميتة كنت أيام الصيف أم هاجعة في قلوب الأثمار، وبين جفنات الكروم، وعلى بيادر القش؟ •••
أنت تحملين من أزفة المدينة أنفاس العلل، ومن الروابي أرواح الأزهار، وهكذا تفعل النفوس الكبيرة التي تحمل أوجاع الحياة بسكينة، وبسكينة تلتقي بأفراحها.
أنت تهمسين في أذن الوردة أسرارا غريبة تفهم مفادها، فتضطرب تارة، وطورا تبتسم، وهكذا تفعل الآلهة بأرواح البشر.
أنت تبطئين هنا وتسارعين هناك وتراكضين هنالك، ولكنك لا تقفين قط، وهكذا تفعل فكرة الإنسان التي تحيا بالحركة وتموت بالسبات.
أنت تكتبين على وجه البحيرة أشعارا ثم تمحينها، وهكذا يفعل الشعراء المترددون، من الجنوب تجيئين حارة كالمحبة، ومن الشمال تأتين باردة كالموت، ومن المشرق لطيفة كملامس الأرواح، ومن المغرب تتدفقين شديدة كالبغضاء، أمتقلبة أنت كالدهر، أم أنت رسول الجهات تبلغين إلينا ما تأتمنك عليه؟
تمرين غاضبة في الصحاري فتدوسين القوافل بقساوة، ثم تلحدينها بلحف الرمال، فهل أنت أنت ذاك السيال الخفي المتموج مع أشعة الفجر بين أوراق الغصون، المنسل كالأحلام في منعطفات الأودية، حيث تتمايل الأزهار شغفا بك، وتتخاصر الأعشاب سكرا من أنفاسك؟
تثورين ظلما في البحار فتحركين ساكن أعماقها، حتى إذا أزبدت حنقا عليك فتحت فاها لجة ولقمتها من السفن والأرواح لقما مرة، فهل أنت أنت ذلك المحب المتلاعب حنوا بغدائر الأطفال المتراكضين حول المنازل؟ إلى أين تتسارعين بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا؟ إلى أين تحملين رسوم ابتساماتنا؟ وماذا تفعلين بشعلات قلوبنا المتطايرة؟ هل تذهبين بها إلى ما وراء الشفق، إلى ما وراء هذه الحياة؟ أم تجرينها فريسة إلى المغاور البعيدة والكهوف المخيفة، وهناك تقذفينها يمينا وشمالا حتى تضمحل وتختفي؟
في سكينة الليل تبيح لك القلوب أسرارها، وعند الفجر تحلك العيون اهتزازات أجفانها، فهل أنت ذاكرة ما شعرت به القلوب وما رأته العيون؟
بين جنحيك يستودع الفقير صدى انسحاقه، واليتيم حرقته، والحزينة تأوهاتها، وطي أثوابك يضع الغريب حنينه، والمتروك لهفته، والساقطة عويل نفسها، فهل أنت حافظة لهؤلاء الصغار ودائعهم؟ أم أنت كهذه الأرض لا نودعها شيئا إلا وتحوله إلى جسمها؟
أسامعة أنت هذا النداء، وهذا العويل وهذا الضجيج وهذا البكاء، أم أنت كالأقوياء من البشر تمتد إليهم الأكف فلا يلتفتون، وتتصاعد نحوهم الأصوات فلا يسمعون؟
أسامعة أنت يا حياة للسامع؟
رجوع الحبيب
ما جاء الليل حتى انهزم الأعداء، وفي ظهورهم تخديش السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون حاملين ألوية الفخر، منشدين أهازيج النصر، على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي.
أشرفوا على الجبهة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلاء، وباتت غابة الأرز بين تلك البطاح كأنها وسام مجد أثيل علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان.
ظلوا سائرين وأشعة القمر تتلمع على أسلحتهم، والكهوف البعيدة تتقلد تهاليلهم، حتى إذا ما بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية كأنه قد منها، فاقتربوا منه مستطلعين، وإذا بجثة هامدة مرتمية على أديم التراب المجبول بنجيع الدماء، فصرخ زعيم القوم قائلا: «أروني سيف الرجل فأعرف صاحبه»، فترجل بعض الفرسان فأحاطوا بالمصروع مستفسرين، وبعد هنيهة التفت أحدهم نحو الزعيم وقال بصوت أجش: «وقد عانقت أصابعه الباردة قبضة السيف بشدة، فمن العار أن ننزعه».
وقال آخر: «قد لبس السيف غمدا من الدماء، فاختفى فولاذه»
وقال آخر: «قد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند وصيرتهما واحدا».
فترجل الزعيم واقترب من القتيل قائلا: «أسندوا رأسه ودعوا أشعة الشمس ترينا وجهه» ففعلوا مسرعين، وبان وجه القتيل من وراء نقاب الموت ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجولته، وجه متأسف فارح، وجه من لاقى العدو عابسا وقابل الموت مبتسما، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، لكنه لم يبق لينشد مع رفقائه أهازيج النصر.
ولما أزاحوا كوفيته ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرخ متوجها: «هذا ابن الصعبي! فيا للخسارة!» فردد القوم هذا الاسم متأوهين، ثم سكتوا كأن قلوبهم السكرى بخمر النصر قد فاجأها الصحو، فرأت خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار، ومثل تماثيل الرخام أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال، فالبكاء والنحيب حريان بالنساء، والعويل والصراخ خليقان بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت المملوء هيبة ووقارا، ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع والعويل، فيزيد بترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجج، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وإن لم تجئ كان هو أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الشفار في صدره كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال، فاقترب الزعيم وجثا مستفحصا فوجد دون سواه منديلا مطرزا بخيوط الذهب مربوطا حول زنده، فتأمله سرا وعرف اليد التي غزلت حريره، والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلا إلى الوراء حاجبا وجهه المنقبض بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتي جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته، فصرع وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه، وبينما كانت نفس الزعيم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة فتشرب أصولها من دمه، وتتغذى فروعها من بقاياه فتزداد قوة، وتصير خالدة وتكون له رمزا يمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه».
فقال آخر: «لنحمله إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة، فتظل عظامه محفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر ».
وقال آخر: «هنا اقبروه هنا حيث جبل التراب بدمائه، واتركوا سيفه بيمينه، واغرسوا رمحه بجانبه، وانحروا حصانه على قبره، ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة»، وقال آخر: لا تلحدوا سيفا مضرجا بدم الأعداء، ولا تنحروا مهرا يخوض المنايا، ولا تتركوا في الوعر سلاحا تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث». وقال آخر: «تعالوا نجثو مصلين حواليه صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا»، وقال: «لنرفعه على الأكتاف جاعلين له الرماح والتروس نعشا، فنطوف به في هذا الوادي منشدين أهازيج النصر فيشاهد أشلاء الأعداء، وتبتسم شفاه جراحة قبل أن يخرسها تراب القبر»، وقال آخر: «تعالوا نعليه سرج جواده، ونسنده بجماجم القتلى، ونقلده رمحه، وندخله الأحياء ظافرا فهو لم يستسلم للمنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملا ثقيلا»، وقال آخر: «تعالوا نودعه لحف هذا الجبل فيكون له صدى الكهوف نديما، وخرير السواقي مؤنسا، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وقع أقدام الليالي خفيف الوطأة»، وقال آخر: «لا تغادروه ها هنا ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية، بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية فيكون له من أرواح جدودنا رفاق تناجيه في سكينة الليل، وتقص عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم»، فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة، ثم قال متنهدا: «لا تزعجوه بذكرى الحروب، ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رءوسنا أخبار السيوف والرماح، بل تعالوا نحمله بسكينة وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس صبية تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعده إليها كي لا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه».
حملوه على المناكب مطأطئي الرءوس خاشعي العيون، مشوا بسكينة محزنة يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر، فتجيبه الكهوف بصداها، كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشي أمامهما طيف الحب ساحبا أجنحته المكسورة .
جمال الموت
مرفوعة إلى
M.E.H
دعوني أنم فقد سكرت نفسي بالمحبة، دعوني أرقد فقد شبعت روحي من الأيام والليالي، أشعلوا الشموع وأوقدوا المباخر حول مضجعي، وانثروا أوراق الورد والنرجس على جسدي، وعفروا بالمسك المسحوق شعري، وأهرقوا الطيوب على قدمي، ثم انظروا واقرأوا ما تخطه يد الموت على جبهتي، خلوني غارقا بين ذراعي الكرى فقد تعبت أجفاني من هذه اليقظة، اضربوا على القيثارات ودعوا رنات أوتارها الفضية تتمايل في مسامعي، انفخوا الشبابات والنايات وحيكوا من أنغامها العذبة نقابا حول قلبي المتسارع نحو الوقوف، ترنموا بالأغاني الرهاوية وابسطوا من معانيها السحرية فراشا لعواطفي، تأملوا وانظروا شعاع الأمل في عيني.
امسحوا الدموع يا رفاقي، ثم ارفعوا رءوسكم مثلما ترفع الأزهار تيجانها عند قدوم الفجر، وانظروا عروسة الموت منتصبة كعمود النور بين مضجعي والفضاء، أمسكوا أنفاسكم وأصغوا هنيهة واسمعوا معي حفيف أجنحتها البيضاء، تعالوا ودعوني يا بني أمي! قبلوا جبهتي بشفاه مبتسمة، قبلوا شفتي بأجفانكم وقبلوا أجفاني بشفاهكم، قربوا الأطفال إلى فراشي ودعوهم يلامسوا عنقي بأصابعهم الوردية الناعمة، قربوا الشيوخ ليباركوا جبهتي بأيديهم الذابلة المتجمدة، دعوا بنات الحي يقتربن وينظرن خيال الله في عيني، ويسمعن صدى الأبدية متسارعة مع أنفاسي.
الانفصال:
ها قد بلغت قمة الجبل فسبحت روحي في فضاء الحرية والانعتاق، قد صرت بعيدا بعيدا يا بني أمي فانحجبت عن بصيرتي جبهات الطلول وراء الضباب، وغمرت خلايا الأودية ببحر السكون، وامحت السبل والممرات بأكف النسيان، وتوارت المروج والغابات والعقبات وراء أشباح بيضاء كغيوم الربيع، وصفراء كشعاع الشمس، وحمراء كوشاح المساء، قد تضعضعت أغاني أمواج البحر، واضمحلت ترنيمة السواقي في الحقول، وسكنت الأصوات المتصاعدة من جوانب الاجتماع، فلم أعد أسمع سوى أنشودة الخلود متألفة مع أميال الروح.
الراحة:
اخلعوا نسيج الكتان عن جسدي وكفنوني بأوراق الفل والزنبق، انتشلوا بقاياي من تابوتي العاج ومددوها على وسائد من زهر البرتقال والليمون، لا تندبوني يا بني أمي بل أنشدوا أغنية الشباب والغبطة، لا تذرفي الدموع يا ابنة الحقول بل ترنمي بموشحات أيام الحصاد والعصير، لا تغمروا صدري بالتأوه والتنهيد بل ارسموا عليه بأصابعكم رمز المحبة ووسم الفرح، لا تزعجوا راحة الأثير بالتعزيم والتكهين بل دعوا قلوبهم تتهلل معي بتسبيحة البقاء والخلود، لا تلبسوا السواد حزنا علي بل تردوا بالبياض فرحا معي، ولا تتكلموا عن ذهابي بالغصات بل أغمضوا عيونكم تروني بينكم الآن وغدا وبعده، مددوني على أغصان مورقة، وارفعوني على الأكتاف وسيروا بي ببطء إلى البرية الخالية، لا تحملوني إلى الجبانة لأن الزحام يزعج راحتي، وقضقضة العظام والجماجم تسلب سكينة رقادي، احملوني إلى غابة السرو واحفروا لي قبرا في تلك البقعة حيث ينبت البنفسج بجوار الشقيق، احفروا قبرا عميقا كي لا تجرف السيول عظامي إلى الوادي، احفروا قبرا وسيعا لكي تجيء أشباح الليل وتجلس بجانبي، اخلعوا هذه الثواب ودلوني عاريا إلى قلب الأرض. مددوني ببطء وهدوء على صدر أمي. اغمروني بالتراب الناعم وألقوا مع كل حفنة قبضة من بذور السوسان والياسمين والنسرين فتنبت على قبري ممتصة عناصر جسدي، وتنمو ناشرة في الهواء رائحة قلبي، وتتعالى رافعة في وجه الشمس سرائر راحتي، وتتمايل مع النسيم مذكرة عابر الطريق بماضي أميالي وأحلامي، اتركوني الآن يا بني أمي، اتركوني وحدي أسير بأقدام خرساء مثلما تسير السكينة في الأودية الخالية، دعوني وحدي وتفرقوا عني بهدوء مثلما تتفرق أزاهر اللوز والتفاح عندما تنثرها أنفاس نيسان، ارجعوا إلى منازلكم فتجدوا هناك ما لم يستطيع الموت أن يأخذه مني ومنكم، اتركوا هذا المكان، فالذي تطلبونه صار بعيدا بعيدا عن هذا العالم.
أغاني - أغنية
في أعماق نفسي أغنية لا ترتدي الألفاظ ثوبا، أغنية تقطن حبة قلبي، فلا تريد أن تسيل مع الحبر على الورق، وتحيط بعواطفي كغلاف شفاف، فلن تنسكب على لساني كالرضاب، كيف أتنهدها وأنا أخاف عليها من دقائق الأثير؟ ولمن أنشدها وقد تعودت سكنى بيت نفسي فأخشى عليها من خشونة الآذان؟ إن نظرت إلى عيني رأيت خيال خيالها، وإن لمست أطراف أصابعي شعرت باهتزازاتها، أعمال يدي تبينها مثلما تعكس البحيرة لمعان النجم ودموعي تبيحها كما تبيح قطرات الندى سر زهرة الورد عندما تبعثرها الحرارة السكينة ويطويها الضجيج، وترددها الحلام وتخفيها اليقظة، هي أغنية الحب أيها الناس، فأي إسحاق ينشدها بل أي داود يرتلها؟ هي أعبق من أنفاس زهرة الياسمين، فأية حنجرة تستعيدها، وأصون من سر العذارى فأية أوتار تستبيحها؟
من يجمع بين قواصف البحر وتغريدة البلبل، ويقرن العواصف بتنهدة الطفل، أي بشري ينشد أغنية الآلهة؟
أغنية الموج
أنا والشاطئ عاشقان، يرقبهما الهوى ويفصلهما الهواء، أجيء من وراء الشفق الأزرق كيما أمزج فضة زبدي بذهب ماله، وأبرد حرارة قلبه برضابي، عند الفجر أتلو شرع الغرام على مسامع حبيبي فيضمني إلى صدره، وفي المساء أترنم بصلاة الشوق فيقبلني، أنا لجوج جزوع وحبيبي حليف صبر وأليف تجلد، يأتي المد فأعانق حبيبي، ويعقبه الجزر فأترامى على أقدامه، كم رقصت حولي بنات البحر عندما كن يطلعن من الأعماق ويجلسن على الصخور ليتفرجن على النجوم، وكم سمعت المحب يشكو الغرام لذات حسن فساعدته على التأوه والتنهد، وكم نادمت الصخور وهي جامدة وداعبتها ضاحكا ولم تبتسم، وكم خلصت من اللجة أجسادا وجئت بها إلى الأحياء، وكم سرقت من الأعماق درا أهديته إلى ربات الجمال!
في سكينة الليل عندما تعانق المخلوقات طيف الكرى، أسهر مترنما تارة متنهدا أخرى، ويحي لقد أتلفني السهر، ولكن أنا محب وحقيقة الحب يقظة، هذه حياتي وذا ما عشت أصنعه.
أغنية المطر
أنا خيوط فضية تطرحني الآلهة من الأعالي فتأخذني الطبيعة وتنمق بي الأودية، أنا لآلئ جميلة نثرت من تاج عشتروت فسرقتني ابنة الصباح ورصعت بي الحقول، أنا أبكي فتبتسم الطلول، وأتضع فترتفع الأزهار، الغيمة والحقل عاشقان وأنا بينهما رسول مسعف أنهمل فأبرد غليل هذا وأشفي علة تلك، صوت الرعد وأسياف البرق تبشر بقدومي، وقوس القزح يعلن نهاية سفرتي، كذا الحياة الدنيا تبتدئ بين أقدام المادة الغضبى وتنتهي على أكف الموت الهادئ، أصعد من قلب البحيرة وأسير على أجنحة الأثير، حتى إذا ما رأيت روضة جميلة سقطت وقلبت ثغور أزاهرها وعانقت أغصانها، في السكينة أطرق بأناملي اللطيفة بلور النوافذ فتؤلف تلك الطرقات نغمة تفقهها النفوس الحساسة، حرارة الهواء تلدني وأنا أقتل حرارة الهواء، كذا المرأة التي تتغلب على الرجل بقوة استمدتها من الرجل، أنا تنهدة البحر، أنا دمعة السماء، أنا ابتسامة الحقل، كذا الحب تنهدة من بحر العواطف، ودمعة من سماء التفكر، وابتسامة من حقل النفس.
أغنية الجمال
أنا دليل الحب، أنا خمرة النفس، أنا مأكل القلب، أنا وردة أفتح قلبي عند فتوة النهار، فتأخذني الصبية وتقلبني وتضعني على صدرها، أنا بيت السعادة، أنا مصدر الفرح، أنا مبدأ الراحة، أنا ابتسامة لطيفة على شفتي غادة، يراني الشاب فينسى أتعابه، وتصير حياته مسرح أحلام لذيذة، أنا موحي الشعراء وهادي المصورين ومعلم الموسيقيين، أنا نظرة في عين طفل تراها الأم الحنونة فتسجد وتصلي وتمجد الله، تجليت لآدم بجسم حواء فاستعبدته، وظهرت لسليمان في قد حبيبته فصيرته حكيما وشاعرا، ابتسمت لهيلانة فخربت تروادة، وتوجت كليوباترا فعم الأنس في وادي النيل، أنا كالدهر أبني اليوم وأهدم غدا، أنا الله أحيي وأميت، أنا أرق من تنهدة زهرة البنفسج، أنا أشد من العاصفة، أنا حقيقة يا أيها الناس، أنا حقيقة وهذا خير ما تعلمونه.
أغنية السعادة
الإنسان حبيبي وأنا حبيبته، أشتاق إليه ويهيم بي، ولكن أواه! لي في محبته شريكة تشقيني وتعذبه، وضرة طاغية تدعى المادة تتبعنا حيث نذهب، وتفرقنا كالرقيب، أطلب حبيبي في البرية تحت الأشجار وبقرب البحيرات فلا أجده؛ لأن المادة قد غرته وذهبت به إلى المدينة إلى الاجتماع والفساد والشقاء، أطلبه في معاهد المعرفة وفي هياكل الحكمة فلا أجده؛ لأن المادة ... تلك التي ترتدي التراب قد قادته إلى معاقل الأنانية حيث يقطن الانهماك، أطلبه في حقل القناعة فلا أجده؛ لأن عودتي قد قيدته في مغائر الطمع والشراهة، أناديه عند الفجر عندما يبتسم المشرق فلا يسمعني؛ لأن كرى الاستمساك قد أثقل عينيه، أداعبه في المساء إذ تسود السكينة وتنام الأزهار فلا يحفل بي؛ لأن انشغافه بمآتي الغد يشغل ضميره، حبيبي يحبني، يطلبني في أعماله، وهو لن يجدني إلا في أعمال الله، يروم وصالي في صرح المجد الذي بناه على جماجم الضعفاء وبين الذهب والفضة، وأنا لا أوافيه إلا في بيت البساطة الذي بنته الآلهة على ضفة جدول العواطف، يريد تقبيلي أمام الطغاة والقتلة، وأنا لا أدعه يلثم ثغري إلا في الوحدة بين أزهار الطهر، يبتغي الحيلة وسيطا بيننا ولا أطلب وسيطا إلى العمل المنزه، العمل الجميل، قد تعلم حبيبي الصراخ والضجيج من عدوتي المادة، وأنا سوف أعلمه أن يذرف دمعة استعطاف من عين نفسه، ويتنهد تنهدة استكفاء، حبيبي لي وأنا له.
أنشودة الزهرة
أنا كلمة تقولها الطبيعة ثم تستردها وتخفيها طي قلبها ثم تقولها، أنا نجم هبط من الخيمة الزرقاء على بساط أخضر، أنا ابنة العناصر التي حبل بها الشتاء وتمخض بها الربيع ورباها الصيف ونومها الخريف، أنا هدية المحبين، أنا إكليل العرس، أنا آخر عطية من حي إلى ميت، عند الصباح أتعاون والنسيم على إعلان مجيء النور، وفي المساء أشترك مع الطيور بوادعة، أتمايل في السهول فأزينها، وأتنفس في الهواء فأعطره، أضم الكرى فترمقني عيون الليل العديدة، وأطلب اليقظة لأحدق بعين النهار الوحيدة، أنا أشرب خمرة الندى، وأسمع أغاني الشحارير، وأرقص على تصفيق الأعشاب، أنا أنظر إلى العلو دائما كي أرى النور ولا أرى خيالي، وهذه حكمة لم يتعلمها الإنسان بعد.
نشيد الإنسان
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (القرآن الشريف)
أنا كنت منذ الأزل، وهأنذا، وسأكون إلى آخر الدهر وليس لكياني انقضاء، سبحت في فضاء اللانهاية وطرت في عالم الخيال واقتربت من دائرة النور الأعلى، وها أنا الآن سجين المادة، سمعت تعاليم كنفوشيوس وأصغيت لحكمة برهما وجلست بقرب بوذا تحت شجرة المعرفة، وها أنا الآن أغالب الجهل والجحود، كنت على الطور إذ تجلى «يهوه» لموسى، وفي عبر الأردن فرأيت معجزات الناصري، وفي المدينة فسمعت أقوال رسول العرب، وها أنا الآن أسير الحيرة، شاهدت قوات بابل ومجد مصر وعظمة اليونان، ولم أزل أرى الضعف والذل والصغر بادية في جميع تلك الأعمال، جالست سحرة عين دور وكهنة أشور وأنبياء فلسطين وما برحت أنشد الحقيقة، حفظت الحكمة التي نزلت على الهند، واستظهرت الشعر المنبثق من قلوب سكان جزيرة العرب، ووعيت الموسيقى المتجسمة من عواطف أهل المغرب، وما زلت أعمى لا أرى، وأصم لا أسمع، احتملت قساوة الفاتحين الطامعين، وقاسيت ظلم الحكام المستبدين، وعبودية الأقوياء الباغين، وما برحت ذا قوة أكافح بها الأيام، شاهدت وسمعت كل ذلك وأنا طفل، ولسوف أشاهد وأسمع أعمال الشبيبة ومآتيها، ولسوف أشيخ وأبلغ الكمال وأرجع إلى الله، أنا كنت منذ الأزل، وهأنذا، وسأكون إلى آخر الدهر وليس لكياني انقضاء.
صوت الشاعر
1
القوة تزرع في أعماق قلبي، وأنا أحصد وأجمع السنابل وأعطيها أغمارا للجائعين، الروح يحيي هذه الجفنة وأنا أعصر عناقيدها وأسقيها للظامئين، السماء تملأ هذا السراج زيتا وأنا أنيره وأضعه في نافذة بيتي من أجل العابرين في ظلمة الليل، أنا فاعل هذه الأشياء لأنني أحيا بها، وإذا منعتني الأيام وغلت يدي الليالي طلبت الموت، فالموت أخلق بنبي منبوذ في أمته، وشاعر غريب بين أهله، البشر يضجون كالعاصفة، وأنا أتنهد بسكينة لأني وجدت عنف العاصفة يزول وتبتلعه لجة الدهر، أما التنهدة فتبقى ببقاء الله، البشر يلتصقون بالمادة الباردة كالثلج، وأنا أطلب شعلة المحبة لأضمها إلى صدري فتأكل ضلوعي وتبري أحشائي؛ لأني ألفيت المادة تميت الإنسان بلا ألم، والمحبة تحييه بالأوجاع، البشر ينقسمون إلى طوائف وعشائر وينتمون إلى بلاد وأصقاع، وأنا أرى ذاتي غريبا في بلد واحد وخارجا عن أمة واحدة، فالأرض كلها وطني، والعائلة البشرية عشيرتي؛ لأني وجدت الإنسان ضعيفا ومن الصغر أن ينقسم على ذاته، والأرض ضيقة ومن الجهل أن تتجزأ إلى ممالك وإمارات، البشر يتكاتفون على هدم هياكل الروح ويتعاونون على بناء معاهد الجسد، وأنا وحدي واقف في موقف الرثاء، على أنني أصغي فأسمع من داخلي صوت الأمل قائلا: «مثلما تحيي المحبة القلب البشري بالأوجاع، كذا تعلمه الغباوة سبل المعرفة، فالأوجاع والغباوة تؤول إلى لذة عظيمة ومعرفة كاملة؛ لأن الحكمة السرمدية لم تخلق شيئا باطلا تحت الشمس».
2
أحن إلى بلادي لجمالها، وأحب سكان بلادي لتعاستهم، ولكن إذا ما هب قومي مدفوعين بما يدعونه وطنية ، وزحفوا على وطن قريبي وسلبوا أمواله وقتلوا رجاله ويتموا أطفاله ورملوا نساءه، وسقوا أرضه دماء بنيه وأشبعوا ضواريه لحوم فتيانه، كرهت إذ ذاك بلادي وسكان بلادي.
أتشبب بذكر مسقط رأسي، وأشتاق إلى بيت ربيت فيه، ولكن إذا مر عابر طريق وطلب مأوى في ذلك البيت وقوتا من سكانه ومنع مطرودا، استبدلت تشبيبي بالرثاء وشوقي بالسلو وقلت بذاتي: إن البيت الذي يضن بالخبز على محتاجه وبالفراش على طالبه، لهو أحق البيوت بالهدم والخراب، أحب مسقط رأسي ببعض محبتي لبلادي، وأحب بلادي بقسم من محبتي لأرض وطني، وأحب الأرض بكليتي لأنها مرتع الإنسانية روح الألوهية على الأرض، تلك الإنسانية واقفة بين الخرائب، الساترة قامتها العارية بالأطمار البالية الذارفة الدموع السخينة على وجنتيها الذابلتين، المنادية أبناءها بصوت يملأ الأثير أنة وعويلا، وأبناؤها المشغولين عن ندائها بأغاني العصبية، منصرفون عن دموعها بصقل السيوف، تلك الإنسانية الجالسة وحدها تستغيث بالقوم وهم لا يسمعون، وإن سمعها فرد واقترب منها ومسح دموعها وعزاها في شدائدها قال القوم: اتركوه فالدموع لا تؤثر بغير الضعيف. الإنسانية روح الألوهية على الأرض، تلك الألوهية السائرة بين الأمم، المتكلمة بالمحبة، المشيرة إلى سبل الحياة والناس يضحكون مستهزئين بأقوالها، تلك التي سمعها بالأمس الناصري فصلبوه، وسقراط فسموه، والتي سمعها اليوم القائلون بالناصري وسقراط وجاهروا باسمها أمام الناس، والناس لا يقدرون على قتلهم، لكنهم يسخرون بهم قائلين: السخرية أقسى من القتل وأمر، ولم تقو أورشليم على قتل الناصري فهو حي إلى الأبد، ولا أثينا على إعدام سقراط فهو حي إلى الأبد، ولن تقوى السخرية على مسامعي الإنسانية وتابعي أقدام الألوهية، فسيحيون إلى الأبد ... إلى الأبد.
3
أنت أخي وكلانا ابن روح واحد قدوس كلي، وأنت مماثلي لأننا سجينا جسدين جبلا من طينة واحدة، وأنت رفيقي على طريق الحياة ومسعفي في إدراك كنه الحقيقة المستترة وراء الغيوم، أنت إنسان وقد أحببتك يا أخي، قل عني ما شئت فالغد يقضي عليك، ويكون قولك قرينة ظاهرة أمام حكمه، وبينة صائبة لدى عدله، خذ مني ما شئت فلست بسالب غير مال لك الحق بقسم منه، وعقار استأثرت به لمطامعي، فأنت خليق ببعضه إن كان يرضيك بعضه.
Shafi da ba'a sani ba