38

Jini da Adalci

الدم والعدالة: قصة الطبيب الباريسي الذي سطر تاريخ نقل الدم في القرن السابع عشر

Nau'ikan

وسط مجموعة صغيرة، وقف جون باتيست دوني أحد الأطباء ذوي العقلية العلمية الذين كانوا على صلة بالملك لويس الرابع عشر. ولد دوني لأسرة كانت على اتصال بالأوساط الملكية، لكنها لم تحظ يوما بمكانة تمنحها القبول التام بتلك الأوساط. كان والده كبير مهندسي الملك لويس الرابع عشر، وقد طبقت شهرته الآفاق في مجال تصميم مضخات المياه وبنائها. في ذلك الوقت كان دوني في السابعة والعشرين من عمره تقريبا، وكان يتمتع بعقل متألق، وكان قد حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت قبل أن يتجه لدراسة الطب في مونبيلييه. كما كان قد حصل حديثا على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وعاد إلى مسقط رأسه باريس ليتولى منصب أستاذ في الرياضيات والفلسفة الطبيعية حيث قسم وقته بين أكبر اهتمامين له: الرياضيات والفلك. واتخذ من البحث في الطب هواية له. وككثير من الهواة، تمنى دوني أن تدر هوايته الأموال عليه. لكنها - على النقيض - أتت به إلى قفص الاتهام؛ ليحاكم بتهمة القتل.

أما المحامون من حوله، فكانوا يرتدون عباءات سوداء وقبعات مربعة يتجه أحد أركانها إلى الأمام، ملقية ظلا مثلث الشكل على وجوههم مثل منقار طير جارح. وكان من بينهم محامي دوني السيد لاموانيون - الذي كان والده أول رئيس لبرلمان باريس. ارتدى دوني شعره المستعار المصفف بإتقان، والذي تنتهي خصلاته بثنية ملفوفة بإحكام تبلغ تماما أعلى ياقة معطفه الطويل ذي اللون البني الداكن وقميصه المكشكش قليلا؛ وهو الزي الذي ميز كونه رجلا متعلما. تجهم منزعجا من رؤية رذاذ من الطين على سرواله الأبيض النظيف الذي يخرج من حذاء أسود شديد اللمعان ذي كعب عال وحلي فضية مربعة. فقد كان اليوم فاصلا وأراد دوني ألا يخالج الرقيب المكلف بنظر القضية أي شك تجاه ما يحظى به من مكانة.

إلى جوار دوني، وقف مجموعة من الأصدقاء ذوي النفوذ، من بينهم هنري لويس هابرت دو مونتمور - أول مستشار لمجلس الدولة في عهد لويس الرابع عشر. كان ذوقهم في انتقاء الملابس بادي الفخامة؛ إذ كانوا يرتدون شعورا مستعارة ضخمة تتدلى منها الخصلات المجعدة على القمصان المكشكشة بعناية والمعاطف ذات الأكمام الضخمة المطرزة تطريزا منمقا.

وكان هناك رجل وامرأة يجلسان في البهو، حضر كل منهما ضمن الشهود. وكانا كلاهما من المرضى الذين تلقوا العلاج الذي ابتكره دوني وكانا مصرين على أنه نجح في شفائهما. زعمت السيدة أنها كانت تعاني من شلل جزئي قبل العلاج لكنها شفيت الآن؛ كان الدليل - البرهان الحي - ضروريا. وكذلك كان حضور أصحاب المقامات الرفيعة مثل دوق دونيو ودوق لوين ودوق دو شون ودائرتهم من الأصدقاء ورجال الحاشية . فحتى وإن بدت القضية ميئوسا منها، فإن ذلك الحشد الباهر من الداعمين الذين اكتظت بهم القاعة كانوا يبثون أملا أكبر في الفوز بالقضية.

دق الحاجب مجددا، لكنه هذه المرة كان يضرب سطح الطاولة، محدثا فيها شرخا عميقا. خفتت جلبة الحضور متحولة إلى همسات، رغم سخرية بعضهم من محاولة الرجل فرض النظام. لكن عقل دوني ارتج حين عاودته ذكرى الدقات الملحة على بابه في المساء قبل بضعة أشهر - تلك الدقات التي أعلنت بداية هذه الأحداث المأسوية.

مقابلة موروا

كان الوقت متأخرا، وولى يوم الأحد أمام الساعات الأولى من الإثنين 19 ديسمبر 1667. كان دوني - كعادته - جالسا في مكتبته ينظر في بعض من آخر ملاحظاته وحساباته حول حركة الكواكب المختلفة عندما سمع صوت عربة تتوقف ببابه. كان دوني رجلا كئيب المظهر ينتمي إلى طبقة النبلاء، وكانت وجباته الدسمة قد راحت تترك أثرها على خصره، ورغم أنه كان في مرحلة الشباب، كان منتصف العمر يظهر على ملامحه في صورة شحم وفير حول فكه السفلي وفي الثنيات الهلالية العميقة المحيطة بفمه. استمر دوني في العمل، وحك أنفه الأقنى، مستغرقا في تركيزه حتى إنه نسي أمر زائره. وبعد دقائق معدودة، جاء خادمه مخبرا إياه أن السيد دو مونتمور قد أرسل في طلبه في ذلك الوقت من الليل. ضيق دوني عينيه وقد امتلأ بمزيج من الخوف والإثارة، محاولا تحديد السبب الذي يتطلب استدعاءه في هذا الوقت من الليل. ففي النهاية، لم تكن شوارع باريس عام 1667 مكانا آمنا للتسكع بعد حلول الظلام. إلا أن دو مونتمور لم يكن الشخص الذي يطلب طلبا إلا إذا كان ضروريا.

كان الأرستقراطي الفرنسي هنري دو مونتمور البالغ من العمر 67 عاما يتمتع بالاستقلال المادي الشخصي، بدخل سنوي كان يبلغ 100 ألف جنيه فرنسي، وفائض كاف لممارسة الهوايات المكلفة، التي كان أهمها بالنسبة إليه العلوم الجديدة. لقد أسس من ثروته أكاديمية مونتمور عام 1657، التي أصبحت ملتقى للمواهب الفكرية بما في ذلك صديقه عالم الرياضيات رينيه ديكارت؛ وجيرار دوزاركه أستاذ الرياضيات في الكلية الملكية في باريس؛ وبيير جاسندي - عالم الرياضيات والفيزياء والفلسفة الدينية؛ وبليز باسكال، بالإضافة إلى آخرين مثل الشاعر والناقد الفرنسي جون شابلان. كان هؤلاء الأعلام يجتمعون أسبوعيا في فندق دو مونتمور الفخم الذي أصبح الآن رقم 79 طريق رو دو تيمبل الذي يبعد نصف ميل شمالي نقطة التقاء النهر بكاتدرائية نوتردام التي تقع في الدائرة الإدارية الثالثة حاليا.

في بداية عام 1667، بدأ عقد هذه المجموعة ينفرط، وقد دعي بعض أعضائها للانضمام إلى أكاديمية العلوم المنشأة حديثا، إلا أن مونتمور ظل يتمتع بنفوذ كبير في الأوساط العلمية. ترك دوني عمله واستغرق بضع دقائق في إعادة ضبط هندامه، وارتدى شعره المستعار فوق شعره القصير المقصوص بمساعدة خادمه. وبعد أن تفحص نفسه أمام المرآة جذب ياقة قميصه وأعاد ضبط شعره المستعار، وبعد أن تأكد من أن كل شيء على ما يرام، خرج. شعر بالارتياح عندما وجد أن رسول مونتمور جاء بعربة مغلقة؛ وما إن صعد إلى العربة، فوجئ بوجود بول إميري، ذلك الجراح وأخصائي التشريح الموهوب الذي كان قد انضم للمجموعة أيضا. وكان إميري مشهورا بأنه أحد أكفأ من علموا الجراحة والتشريح، وحيث إنه قد ولد في سان كوينتين في باريس فقد أصبح رئيس جمعية الجراحين الباريسيين. بعد أن اكتشف الرجلان أنهما لا يعلمان سبب استدعائهما، لاذ كلاهما بالصمت وسط ضجيج سير العربة على أرضية الشوارع المرصوفة بالحجارة، مارة بفندق دو فيل قبل أن تتوجه شرقا عبر طريق رو دو تيمبل.

انحرفت العربة إلى اليسار بحدة مجتازة البوابات، لتتوقف في ساحة مفتوحة، ونزل راكباها متجهين إلى الباب. فور وصولهما، أرشدا إلى مكتبة مرتفعة السقف، حيث استقبلا ببعض صيحات الترحيب. وكانت الغرفة المزخرفة مليئة بالفعل بالنبلاء ذوي الأزياء الأنيقة الذين راحوا يتبخترون في أرجاء الغرفة ويجولون في أرجائها للفت الانتباه إلى ثيابهم المبهرجة لإحداث أفضل أثر ممكن. وفي نهاية المكتبة، كان هناك رجل مقيد إلى كرسي، شعره أشعث ومبتل، وفي وجهه خدوش، وعلى النقيض تماما ممن حوله في الغرفة، لم يكن يرتدي أي ملابس. أحيطت كتفاه بعباءة، إلا أنها كانت تسقط على الأرض عندما كان يجاهد لتخليص نفسه من القيود بين الحين والآخر.

Shafi da ba'a sani ba