ملحوظة عن المصادر
شكر وتقدير «الشخصيات» والأسماء الواردة حسب ترتيب الظهور
1 - سائل حيوي
2 - استكمال عمل هارفي
3 - التجارب الإنجليزية في حقن الدم
4 - المجتمع العلمي
5 - التجارب الإنجليزية في نقل الدم
6 - طريق دوني إلى القمة
7 - السبق والسجن
8 - اللحاق
9 - لغز موروا
10 - الجدل الكبير
11 - خطأ أم مكر أم قتل؟
تسلسل زمني
ملاحظات
المراجع
قراءات إضافية
ملحوظة عن المصادر
شكر وتقدير «الشخصيات» والأسماء الواردة حسب ترتيب الظهور
1 - سائل حيوي
2 - استكمال عمل هارفي
3 - التجارب الإنجليزية في حقن الدم
4 - المجتمع العلمي
5 - التجارب الإنجليزية في نقل الدم
6 - طريق دوني إلى القمة
7 - السبق والسجن
8 - اللحاق
9 - لغز موروا
10 - الجدل الكبير
11 - خطأ أم مكر أم قتل؟
تسلسل زمني
ملاحظات
المراجع
قراءات إضافية
الدم والعدالة
الدم والعدالة
قصة الطبيب الباريسي الذي سطر تاريخ نقل الدم في القرن السابع عشر
تأليف
بيت مور
ترجمة
عبد الرحمن مجدي
مراجعة
سارة عادل
ملحوظة عن المصادر
كل الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في صفحات هذا الكتاب مؤلفو أبحاث ورسائل كتبت في ستينيات القرن السابع عشر - أو ذكروا فيها. ليس الهدف من هذا الكتاب أن يكون عملا بحثيا تقليديا ينسب محتوى النص بالكامل إلى المراجع ذات الصلة، لكن كل المادة الوقائعية المرتبطة بالتجارب التي أجريت على الدم والدورة الدموية مستمدة من المصادر الرئيسية الواردة في قائمة المراجع في نهايته.
روعي في الاقتباسات من المصادر التي وردت خلال هذا الكتاب أن تكون مصوغة صياغة عصرية. والهدف من ذلك هو الحفاظ على الأسلوب العام لهذه التسجيلات، وجعلها أيسر في قراءتها.
شكر وتقدير
لا يوجد كتاب، على حد علمي، كتبه شخص واحد - دون الحصول على مساعدة من أحد - يستحق القراءة؛ لذا يسرني أن أقر بأني لم أؤلف هذا الكتاب منفردا، وأني ممتن بشدة لمن ساعدوني طوال مسيرة تأليفه. لقد أعطاني أستاذا التاريخ إيه روبرت هول وماري بواس جرعة ضرورية جدا من التشجيع في منتصف رحلة تأليف الكتاب، كما منحاني كنز معرفتهما التاريخية، وأرشدني الأستاذ ميشيل هنتر إلى بعض الخيوط القوية في بداية المهمة بجانب شرح بعض النصوص. وكذلك ساعدني استشاري الدم الدكتور جون أميس على تشذيب فهمي لعلم استجابات نقل الدم.
تضمن البحث عن مادة هذا الكتاب العمل في عدد من المكتبات الأرشيفية، وأود بصفة خاصة أن أشكر القائمين على مكتبة الجمعية الملكية؛ لمساعدتهم النابعة من الود في العثور على وثائق قديمة. وأخيرا، قارئتي الأولى أديل ووكيلي ماندي ليتل، ومحررة التكليف سالي سميث، والمراجعة كارولين إلربي، ومحررة الإنتاج إيمي جاكوفسكي تيبل، وباحث الصور بنيامين إيرل؛ فقد عملوا جميعا في سبيل منحك أيها القارئ كتابا يستحق أن تتناوله ولا تبرح حتى تنتهي من قراءته. شكرا.
«الشخصيات» والأسماء الواردة حسب ترتيب
الظهور
الفصل الأول
جون باتيست دوني (1640-1704 تقريبا):
عالم رياضيات وفلك وفيلسوف وطبيب بدوام جزئي. يذكره التاريخ باعتباره أول شخص يجري عملية نقل دم إلى إنسان.
لويس الرابع عشر (1638-1715): «ملك الشمس» الذي تولى عرش فرنسا في الخامسة من عمره، وشهد مرحلة صاخبة من الحياة الفنية والأكاديمية الفرنسية.
السيد لاموانيو:
ابن أول رئيس لبرلمان باريس، جيوم دو لاموانيو (1617-1677) ومحامي دوني.
أونري لويس هابرت دو مونتمور (1600-1679 تقريبا):
ثري فرنسي وراع لجهود البحث العلمي المبكرة.
دوك دونيو:
وجيه فرنسي.
لويس شارل دالبرت دوق لوين (1620-1690):
كاتب متميز مهتم بالفلسفة الطبيعية بجانب كونه من وجهاء فرنسا.
شارل دو شون (1625-1698):
وجيه فرنسي.
رينيه ديكارت (1596-1650):
فيلسوف وعالم رياضيات فرنسي، عادة ما ينظر إليه باعتباره أبا الفلسفة الحديثة.
جيرار دوزاركه (1591-1661):
عالم رياضيات فرنسي.
بيير جاسندي (1592-1655):
عالم رياضيات وفيزيائي وفيلسوف ديني فرنسي كان مناصرا قويا للمذهب التجريبي في العلوم. وكان من أوائل نقاد أفكار ديكارت.
بليس باسكال (1616-1662):
عالم رياضيات وفيزيائي وفيلسوف فرنسي ورائد نظرية الاحتمالات.
جان شابلا (1595-1674):
شاعر وناقد فرنسي وعضو أصيل في الأكاديمية الفرنسية، وجميع الأخبار تشير إلى رداءة شعره.
بول إميري (توفي عام 1690):
جراح عمل بصفته الاختصاصي الفني لدى دوني في وضع أساليب جديدة لإجراء عمليات نقل الدم.
أنطوان موروا (1633-1668 تقريبا):
خادم منزلي فرنسي يرجح أنه أصيب بالجنون بسبب مرض الزهري، وتوفي بعد نقل الدم إليه.
بيرين موروا:
زوجة أنطوان.
هومر (القرن الثامن قبل الميلاد):
شاعر ملحمي إغريقي يعتقد أنه من ألف الإلياذة التي تحكي قصة سقوط طروادة وكذلك الأوديسة التي تحكي جولات أوديسيوس اللاحقة.
قابيل وهابيل:
ابنا آدم وحواء المذكوران في سفر التكوين، إذ قتل قابيل هابيل بعد أن صار ناقما عليه بسبب قبول الرب قربان هابيل الذي قدمه من اللحم ورفض قربان قابيل الذي قدمه من الحبوب.
أسقليبيوس (القرن الثالث عشر قبل الميلاد):
طبيب إغريقي وصل تبجيله إلى حد اعتباره إلها. وابنته هيجيا اشتق من اسمها لفظة
hygienic
التي تعني «صحي».
فيثاغورس (560-480 تقريبا قبل الميلاد):
عالم رياضيات وفلك وزاهد ولد في جزيرة ساموس الإغريقية وأسس جماعة سرية في كروتونه جنوب شرقي إيطاليا.
إمبيدوقليس (القرن الخامس قبل الميلاد):
فيلسوف وشاعر إغريقي من صقلية عمل طبيبا وسياسيا.
أفلاطون (428-348 قبل الميلاد):
تلميذ سقراط، ويعتبر الآن أحد أهم الفلاسفة على مدار التاريخ.
أبقراط (460-377 تقريبا قبل الميلاد):
طبيب إغريقي عمل في جزيرة كوس، ويعد أبا الطب. وضع قواعد لمزاولة المهنة ليتمكن المشتغلون بالطب من العمل بنحو أخلاقي - ويطلق عليها قسم أبقراط.
أرسطو (384-322 قبل الميلاد):
فيلسوف إغريقي أصبح أحد أهم الأسماء المؤثرة في الفكر الغربي.
بوليبوس (205 -123 تقريبا قبل الميلاد):
يرجح أنه زوج ابنة أبقراط ومؤلف «طبيعة الإنسان»، وهو كتاب قديم في الطب.
أنطوني فان ليفينهوك (1632-1723):
تاجر أقمشة هولندي كان شغوفا بصنع المجاهر البدائية واستخدامها. وصنع 550 عدسة تقريبا، كان كثير منها بجودة عالية. وانتخب زميلا للجمعية الملكية عام 1680.
كلوديوس جالينوس (130-201 تقريبا):
فيلسوف وعالم تشريح إغريقي وضع في أثناء عمله في روما نموذجا يوضح ماهية الدم وآلية عمله.
ماركوس أوريليوس (121-180):
إمبراطور روماني.
الفصل الثاني
ويليام هارفي (1578-1657):
ابن مزارع تزوج بابنة طبيب الملك واكتشف أن الدم يمر في دورة عبر الجسم.
أندرياس فيزاليوس (1514-1564):
عالم تشريح فلمنكي وابن لصيدلاني، أصبح بعد دراسته في لوفين وباريس وبادوفا مؤسس علم التشريح الحديث.
جوهان ستيفان فون كالكار (1499-1546):
فنان ورسام عمل مع أندرياس فيزاليوس.
ميجيل سيرفيت (الاسم المستعار ميجيل فيلينوف) (1511-1553):
عالم لاهوت وفيزيائي إسباني، ولد في تطيلة لكن عمل معظم حياته في فرنسا وسويسرا. وقع في مشكلات بسبب إنكاره الثالوث وألوهية المسيح وأحرق على يد كالفن.
جون كالفن (1509-1564):
ولد في فرنسا وأصبح المصلح الأول لجنيف، ويشتهر بتعاليمه عن السلطة المطلقة للرب.
ماتيو ريالدو كولومبو (1516-1559):
طبيب إيطالي وصف تشريح القلب والأوعية الدموية الكبيرة التي تتصل به. وكان أول من أشار إلى أن صمامات القلب كانت تسمح بالعبور في اتجاه واحد.
الملك جيمس الأول، ملك إنجلترا (1566-1625):
ابن ماري ملكة اسكتلندا وأصبح الملك جيمس السادس ملك اسكتلندا في عام 1567، لكنه أصبح الملك جيمس الأول ملك إنجلترا ابتداء من عام 1603.
الملك تشارلز الأول (1600-1649):
ابن الملك جيمس الأول ملك إنجلترا، وأعدم بضرب عنقه بعد الحرب الأهلية الإنجليزية.
توماس هاورد، إيرل أروندل (1586-1646):
سياسي إنجليزي، يعرف بأعماله الفنية، بما في ذلك مرمر أروندل الذي أهداه حفيده لجامعة أكسفورد.
فيرديناند الثاني (1578-1637):
ولد في جراتس بالنمسا، وصل إلى عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام 1619.
جون أوبري (1626-1697):
قصاص وناقل أخبار سجل آراء شخصية جدا عن المشاهير في كتابه «أعمار قصيرة». وأصبح زميلا للجمعية الملكية في عام 1663.
يرونيموس فابريشيوس (1533-1619 تقريبا):
عالم تشريح إيطالي مولود في أكوابندنتي، وأصبح أستاذا للتشريح في بادوفا. بني عمله بدرجة كبيرة على التصورات الجالينوسية والأرسطية لآلية عمل الجسم.
روبرت بويل (1627-1691):
مهتم بصفة كبيرة بما يعرف الآن بالكيمياء، وكان هذا الأيرلندي أحد الآباء المؤسسين للعلم الحديث. وانتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1663.
جاليليو جاليلي (1564-1642):
عالم فلك وفيزيائي إيطالي وضع عمله الدقيق في دراسة الكواكب والنجوم باستخدام منظاره معايير جديدة لدراسة الكون وملاحظته، لكنه أدى أيضا إلى صراعه مع سلطات الكنيسة.
يوهانس فاليوس:
عالم تشريح هولندي ومؤسس علم الفسيولوجيا التجريبي في أوروبا القارية. اتبع تجارب هارفي ووصفه للدورة الدموية وأضاف إليه. كان فاليوس أكثر اهتماما بالجوانب الكيميائية للدم من هارفي.
كاسبر هوفمان (1572-1648):
طبيب ألماني عاش في نورمبرج. اعتقد أن أرسطو قدم تفسيرا لطريقة عمل الجسم بصورة أفضل من جالينوس، وتبنى آراء مشابهة لهارفي فيما يخص نظرته لطريقة عمل القلب.
مارتشيلو مالبيجي (1628-1694):
ولد بالقرب من بولونيا، ودرس الطب وصار أستاذا في الطب النظري في بيزا. وكان محاضرا متميزا في الطب النظري في بولونيا، وأول أستاذ للطب في ميسينا. وفي عام 1691، صار الطبيب الأول للبابا إنوسنت الثاني عشر. وكان رائدا في استخدام المجهر، وأصبح زميلا للجمعية الملكية في عام 1669.
هنري أولدنبرج (1619-1677):
مهاجر ألماني إلى إنجلترا وأصبح أول أمين سر للجمعية الملكية.
الفصل الثالث
فرانسيس بوتر (1594-1674):
قس الكنيسة الإنجليزية المتنسك والمبتكر الذي صار زميلا للجمعية الملكية في عام 1663.
بابليوس أوفيديوس ناسو (أوفيد) (43 قبل الميلاد-17 ميلاديا):
بعد دراسته للقانون في روما، صب كل جهده على الشعر وكتب أشعارا أكثر من أي شاعر لاتيني آخر.
رالف باتهورست (1620-1704):
رئيس كلية الثالوث في أكسفورد ابتداء من عام 1664، وكان طبيبا للأسطول وكاهنا ملحقا بالبلاط. انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1663.
كريستوفر رين (1632-1723):
مهندس معماري مشهور بدأ عمله في الفلك والتشريح، وهو عضو مؤسس في الجمعية الملكية. دفن في أكبر المباني التي أنشأها: كاتدرائية القديس بولس في لندن.
جون ويلكنز (1614-1672):
أحد الأعضاء الأوائل في الجمعية الملكية، وكان هذا القس مولعا بالرياضيات.
أوليفر كرومويل (1599-1658):
السيد حامي إنجلترا من عام 1653 حتى وفاته عام 1658.
ريتشارد كرومويل (1626-1712):
خلف أباه لمدة قصيرة في منصب السيد حامي إنجلترا لكنه أجبر على التنحي عام 1659.
جون كروس (حوالي 1620، وذاعت شهرته 1693):
مالك منزل بويل في أكسفورد.
ويليام بيتي (1623-1687):
فيلسوف وفيزيائي إنجليزي وعضو مؤسس في الجمعية الملكية، وأكثر ما يشتهر به إسهامه في علم الإحصاء.
روبرت وود (1621-1685 تقريبا):
طبيب أجرى أبحاثا في بعض مجالات الرياضيات وانتخب زميلا للجمعية الملكية عام 1681.
هنري بييربوينت (1606-1680):
أول نبيل لدورشستر.
تيموثي كلارك (1620-1672 تقريبا):
درس في كلية بوليول في أكسفورد، وعمل طبيبا في لندن، وكان يقيم في سانت مارتين إن ذا فيلدز. وكان زميلا أصيلا للجمعية الملكية.
ريتشارد لور (1631-1691):
انتخب لزمالة الجمعية الملكية في عام 1667 بعد أن ساعد توماس ويليس في عمله وابتكاره لأساليب رائدة لنقل الدم بين الحيوانات.
توماس ويليس (1621-1675):
طبيب، انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1663.
بيتر شتايل (...-1675):
كيميائي ألماني وصديق لروبرت بويل.
صامويل بيبيس (1633-1703):
كاتب يوميات مشهور، عمل في الخدمة المدنية وأصبح عضوا في الجمعية الملكية في عام 1665.
تشارلز الثاني (1630-1685):
بعد عودته من المنفى في فرنسا، أصبح ملك اسكتلندا وإنجلترا في عام 1660.
أنطوني وود (1632-1695):
جامع تحف إنجليزي درس في كلية ميرتون في أكسفورد من 1647 إلى 1652.
يوهان سيجيسموند إلشولتس (1623-1688):
طبيب ألماني ألف كتابا يوضح كيفية حقن المحاليل في الدم.
الفصل الرابع
فرانسيس بيكون (1561-1626):
فيلسوف ورجل دولة، ولد في لندن، ودرس في كلية الثالوث بكامبريدج قبل أن يدرس القانون في جراي إن في لندن. أصر على ضرورة دعم القضايا بالحقائق الملموسة بدلا من الاستناد إلى موثوقية المفكرين القدماء.
إسماعيل بوليالدوس (1605-1694):
عالم رياضيات وفلك فرنسي.
بيريسك وبيير دوبوي:
مؤرخان أكاديميان فرنسيان في القرن السابع عشر.
صامويل سوربيير (1615-1670):
قس وفيزيائي فرنسي، تتلمذ على يد عمه صامويل بيتي في باريس، وأصبح موضع نقمة عندما انتخب زميلا للجمعية الملكية الإنجليزية في عام 1663.
فرانسوا بيرنييه (1620-1688):
فيزيائي فرنسي، ترجمت رسائله إلى الإنجليزية ونشرت في «أسفار عبر إمبراطورية المغول 1658-1668م». ويقدم الكتاب نظرة للحياة الهندية في عهد المغول.
أورنكزيب (1658-1707):
إمبراطور هندي مغولي، أقصى أفراد إمبراطوريته من الهندوس، وانتهى به المطاف في المنفى.
روبرت هوك (1635-1703):
ولد في جزيرة وايت، عمل مهندسا معماريا وأجرى تجارب في الفيزياء. وهو أحد أوائل الأعضاء في الجمعية الملكية.
توما الأكويني (1225-1274):
طالب وفيلسوف وعالم لاهوت إيطالي وفق بين علوم أرسطو والعقيدة المسيحية.
جون واليس (1616-1703):
قس وعالم رياضيات كان من الزملاء الأوائل للجمعية الملكية.
جوناثان جودارد (1617-1675 تقريبا):
طبيب كان على صلة قوية بكرومويل وكان زميلا مؤسسا للجمعية الملكية.
روبرت موراي (1608-1673):
كان مجندا في الجيش خلال فترة الحرب، وعمل وسيطا ودبلوماسيا. وفي الوقت نفسه أجرى بحوثا في الكيمياء ودرس الفلزات والمعادن والتاريخ الطبيعي. وهو زميل مؤسس للجمعية الملكية.
جيل بيرسون روبرفال (1602-1675):
عالم رياضيات فرنسي بدأ دراسته في الرابعة عشرة من عمره، وهو عضو مؤسس بالأكاديمية الملكية للعلوم.
فولتير (1694-1778):
كاتب ساخر، أصبح عضوا في الجمعية الملكية عام 1743.
الفصل الخامس
يوهان دانييل مايور (1634-1693):
طبيب ألماني تضمن كتابه في الطب إرشادات لكيفية حقن المحاليل في أجسام المرضى.
دانييل كوكس (1640-1730):
مغامر بحكم عمله، لكنه أجرى أيضا تجارب في الكيمياء والطب. انتخب زميلا للجمعية الملكية عام 1665 وحصل على الزمالة الفخرية من كلية الأطباء الملكية عام 1680.
توماس كوكس (1615-1685):
بعد أن كان طبيبا في قوات البرلمان، تحول ولاؤه، وفي عام 1665 صار طبيب الملك. من أوائل زملاء الجمعية الملكية.
ويليام كرون (1633-1684):
ولد في لندن وعمل طبيبا بالمدينة وكان من أوائل الزملاء بالجمعية الملكية.
توماس ميلنجتون (1628-1704):
عالم رياضيات في أكسفورد وصديق لروبرت بويل.
جون بيل (1608-1683):
قس وكاهن يوفيل في سومرست بين عامي 1660 و1682، وانتخب لزمالة الجمعية الملكية في عام 1663.
والتر تشارلتون (1620-1707):
ولد في شيبتون ماليت في سومرست، وهو طبيب أجرى بحوثا في مجالي الطب والفلسفة الطبيعية. وهو عضو أصيل بالجمعية الملكية.
ريتشارد زوش (1590-1662):
أكاديمي في أكسفورد.
ليدي رانيلا (1614-1691):
أخت روبرت بويل.
جلبرت شيلدون (1598-1677):
انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1665 وعندها كان كبير أساقفة كانتربيري، وهو المنصب الذي شغله بين عامي 1663 و1677.
إليزابيث بيلنجز (1640-1669):
زوجة صامويل بيبيس.
توماس شادويل (1642-1692):
كاتب مسرحي ساخر ألف 13 مسرحية كوميدية، وثلاث مسرحيات تراجيدية. وخلف جون درايدن كشاعر للبلاط في عام 1689.
إدموند كينج (1629-1709):
جراح لندني درس الكيمياء وكان له اهتمام عابر بنقل الدم.
الفصل السادس
كلود بيرو (1613-1688):
طبيب باريسي مؤثر، وأحد الأعضاء المؤسسين للأكاديمية الملكية للعلوم. في عام 1667 ترأس فريقا من الباحثين وجهت لهم الدعوة لفحص سمكة قرش وأسد بحديقة الحيوانات الملكية.
لويس جايانت (توفي عام 1673):
جراح باريسي.
إسحاق نيوتن (1642-1727):
عالم رياضيات وأحد فلاسفة الطبيعة، وأصبح مرة أو مرتين عضوا في البرلمان عن جامعة كامبريدج، كما شغل منصب رئيس دار سك العملة الملكية من عام 1699 وحتى وفاته، وانتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1672.
دوني دو سالو (1626-1669):
المحرر المؤسس للمجلة الفرنسية: «جورنال دي سافونز».
ماتيوس جودفريد بورمان (1648-1711):
جراح، وكان أول من أجرى عملية نقل دم إلى إنسان في ألمانيا، آخذا الدم من حمل.
يوهان سكلتيتوس (ذاعت شهرته عام 1682):
جراح وعالم تشريح هولندي.
ليونارد لاندويس (1837-1902):
عالم فسيولوجيا ألماني، بدأ يبحث عن تفسير علمي للاستجابات التي تحدث عندما يختلط الدم من حيوانات مختلفة.
كارل لاندشتاينر (1868-1943):
عالم فائز بجائزة نوبل لاكتشافه فكرة فصائل الدم. انتخب زميلا للجمعية الملكية عام 1941.
الفصل السابع
دوم روبرت دو جابتس (ذاعت شهرته عام 1667):
راهب بندكتي زعم دوني أنه من أوحى له بفكرة نقل الدم.
هنري بينيت (1618-1685):
أول إيرل لأرلنجتون، درس في مدرسة وستمنستر وكنيسة المسيح بأكسفورد. تقاعد في سافوك بعد توليه منصب كبير الياوران.
أوزوالد موزلي (1896-1980):
سياسي إنجليزي استقال من الحكومة العمالية ليصبح قائد اتحاد الفاشيين البريطاني. كان لديه رؤية فيما يتعلق بوحدة أوروبا سياسيا واقتصاديا.
جون ميلتون (1608-1674):
شاعر إنجليزي درس في كامبريدج.
ريتشارد جونز (1641-1712):
ابن أخت روبرت بويل الذي أصبح أول إيرل لرانيلا.
دوروثي ويست (توفيت عام 1665):
زوجة أولدنبرج الأولى.
دورا كاترينا (1652تقريبا-...):
زوجة أولدنبرج الثانية.
جوزيف ويليامسون (1633-1701):
محام بالمحاكم العليا ورجل دولة ومساعد لورد أرلنجتون، ومن أوائل زملاء الجمعية الملكية.
أونري جوستيل (1620-1693):
فرنسي بدل جنسيته وأصبح إنجليزيا في عام 1687. وكان يراسل أولدنبرج وروبرت بويل باستمرار. انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1681.
سيث وارد (1617-1689):
أسقف ساليسبري، أجرى بحوثا في الفلك، وهو من الزملاء الأوائل في الجمعية الملكية.
جون مارتن (ذاع اسمه عام 1680):
ناشر أولدنبرج.
بارون بوند (...-1667):
نبيل سويدي مرض خلال زيارته لباريس.
كريستينا واسا (1626-1689):
ملكة السويد من عام 1640 حتى تخليها عن العرش عام 1654.
بيير ميشو بوردولو (1610-1685):
طبيب فرنسي عمل لمدة طبيبا للملكة كريستينا ملكة السويد.
الفصل الثامن
آرثر كوجا (حوالي 1645-غير معروف):
أول من أجري له نقل دم في إنجلترا.
دانييل ويسلر (1619-1684):
طبيب درس في كلية الثالوث بأكسفورد، وعمل في أكسفورد ولندن والسويد. من الزملاء الأوائل للجمعية الملكية وتوفي جراء إصابته بالتهاب رئوي.
فيليب سكيبون (1641-1691):
انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1667، وهو مبدع ارتحل كثيرا برفقة جون راي.
جون راي (1627-1705):
قس وعالم نباتات وعالم حيوانات وعالم حشرات إنجليزي، انتخب زميلا للجمعية الملكية في عام 1667.
البابا إنوسنت الثامن (1432-1492):
ولد في جيوفاني باتسيتا تشيبو، مر خلال فترة شبابه بتقلبات، لكنه كان محبوبا بصفة عامة عندما تولى منصب البابا.
أبراهام ماير من بالمز:
طبيب مغمور يبدو أنه قدم مشورة طبية للبابا إنوسنت الثامن.
مارسيليو فيتشينو (1422-1499):
فيلسوف إيطالي وكان رئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا.
الكونت فيرينسز ناداسدي:
زوج إليزابيث كونتيسة باثروي .
إليزابيث كونتيسة باثروي (1575-1613):
امرأة شريرة رأت أن التحمم في دماء العذارى سيحافظ على جمالها.
دوروتيا سينتيز ودارفولا:
اثنتان من خادمات إليزابيث كونتيسة باثروي.
ليلونا جو:
ممرضة إليزابيث كونتيسة باثروي.
ماتياس الثاني:
ملك المجر فيما بين 1609-1619، حرم كنسيا من كنيسة روما عام 1609.
أندرياس ليبافيوس (1546-1616):
كيميائي ألماني.
باولي (باولو) مانفريدي (ذاعت شهرته عام 1668):
باحث إيطالي.
يوهانس كول (1558-1631):
أستاذ الطب في بادوفا بإيطاليا.
فرانشيسكو فولي (1624-1685):
طبيب إيطالي.
جيورج أبراهام ميركلينو:
طبيب ألماني في القرن السابع عشر أيد نقل الدم.
بالتاسار كاوفمان:
زميل جوتفريد بورمان.
لورنس هايستر (1683-1758):
جراح ألماني، عمل في ساحات المعارك قبل أن يصبح أستاذا في التشريح والجراحة في جامعة ألتدورف في عام 1709، وصار لاحقا أستاذا في الطب والنباتات. ترجم كتابه في الجراحة إلى لغات عدة بما فيها اليابانية.
رينييه دي جراف (1641-1673):
عالم تشريح هولندي، سميت باسمه جريبات جراف - وهي التجاويف الممتلئة بالسوائل التي تبقى في المبايض بعد إطلاق البويضات.
يوهانس فان هورن (1621-1670):
طبيب هولندي عمل مع جراف. كان والده أحد أوائل مديري شركة الهند الشرقية الهولندية، وبهذا تأثر بشدة بالحروب مع إنجلترا.
فابريتيوس:
طبيب عمل في دانتسيج، إسبانيا.
كارلو فراكاساتي:
عالم تشريح إيطالي عمل في بيزا.
جان دومينيك كاسيني (1625-1712):
محقق إيطالي، جرب نقل الدم، وانتخب زميلا للجمعية الملكية عام 1672.
الفصل التاسع
دوني دودار (1634-1707):
طبيب باريسي من عائلة ثرية. كان عمله الأساسي بعنوان «مذكرات في خدمة تاريخ النباتات» وطرح أفكارا عن كيفية خروج الكلام من الفم.
بيير دي بورجيه (1698-1758):
فيزيائي فرنسي.
جيوم أويو فايو (1619-1678):
رجل كنيسة باريسي.
السيد دو فو:
قس باريسي.
شتين فيلادسين (1944-...):
عالم دنماركي هو أول من نجح في استنساخ حيوان ثديي.
السيد بونيه:
قس باريسي طالب بتقييم قدرات موروا العقلية.
الفصل العاشر
هنري سامسون (1629-1700):
قس منشق اضطر لمغادرة أبرشيته في فراملنهام بسان ميشيل بسبب رفضه إعادة ترسيمه بعد عودة الملكية. أرسل خطابا إلى إدموند كينج في يناير 1668 ردا على أسئلة الأخير بخصوص نقل الدم.
لويس دو باسريل (القرن السادس عشر-القرن السابع عشر):
طبيب باريسي.
كلود تاردي (ذاع اسمه عام 1667):
طبيب باريسي.
لويس جادروا (1642-1678):
طبيب باريسي.
بيير مارتن دي لا مارتينيير (1634-1676):
معارض صريح لنقل الدم قاد الهجوم على طريقة دوني، وألف كتيبات عديدة تهاجم دوني وأعماله.
جورج (جيوم) لامي (1644-1683):
طبيب باريسي ومعارض لدوني.
يان باتيست فان إلمو (1579-1644):
طبيب أثار جدلا واسعا، بدأ يشكك في أنماط الفكر القديمة بخصوص ممارسة الطب.
باراسيلسوس (1493-1541):
عالم خيمياء ألماني مارق وطبيب تحدى المعتقدات الراسخة، ويعتقد أنه لم يلق محاضرة إلا وكان شبه ثمل. كان اسمه الحقيقي تيوفراشتوس بومباستوس فون هوهنهايم، لكنه غيره ليرمز ضمنا إلى أن عمله تجاوز الطبيب الروماني سيلسوس.
جورج إنت (1604-1689):
عالم تشريح وطبيب من بين الزملاء الأوائل للجمعية الملكية، وأصبح رئيس الكلية الملكية للأطباء في عام 1663.
الفصل الحادي عشر
أندريه دورميسو:
قاض باريسي.
الفصل الأول
سائل حيوي
ضربت العصا الأرض ثلاث مرات للفت انتباه الحضور. فخفتت الأصوات لوهلة قصيرة، لكن الجلبة عادت من جديد. مرة أخرى ضربت العصا على الأرضية الرخامية ثلاث ضربات كل ضربة أشد من سابقتها. ونادى الحاجب بالفرنسية: «من فضلكم!» مستخدما تلك اللكنة ذات الأصوات القصيرة السريعة التي تشف عن أنه من سكان باريس. نادى الحاجب من جديد: «من فضلكم!» فاصلا الكلمتين ليتأكد من أن نداءه قد سمع. كانت القضية المنظورة خطيرة إذ ينبغي عدم الاستهانة باتهامات القتل على أي حال، خاصة في ظل مثل تلك الظروف الاستثنائية؛ الزمان هو السبت 17 أبريل 1668؛ والمكان هو مبنى لوجراند شاتيليه الذي يضم المحكمة المركزية في باريس، وهو مبنى عظيم في قلب المدينة على ضفاف نهر السين.
وسط مجموعة صغيرة، وقف جون باتيست دوني أحد الأطباء ذوي العقلية العلمية الذين كانوا على صلة بالملك لويس الرابع عشر. ولد دوني لأسرة كانت على اتصال بالأوساط الملكية، لكنها لم تحظ يوما بمكانة تمنحها القبول التام بتلك الأوساط. كان والده كبير مهندسي الملك لويس الرابع عشر، وقد طبقت شهرته الآفاق في مجال تصميم مضخات المياه وبنائها. في ذلك الوقت كان دوني في السابعة والعشرين من عمره تقريبا، وكان يتمتع بعقل متألق، وكان قد حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت قبل أن يتجه لدراسة الطب في مونبيلييه. كما كان قد حصل حديثا على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وعاد إلى مسقط رأسه باريس ليتولى منصب أستاذ في الرياضيات والفلسفة الطبيعية حيث قسم وقته بين أكبر اهتمامين له: الرياضيات والفلك. واتخذ من البحث في الطب هواية له. وككثير من الهواة، تمنى دوني أن تدر هوايته الأموال عليه. لكنها - على النقيض - أتت به إلى قفص الاتهام؛ ليحاكم بتهمة القتل.
أما المحامون من حوله، فكانوا يرتدون عباءات سوداء وقبعات مربعة يتجه أحد أركانها إلى الأمام، ملقية ظلا مثلث الشكل على وجوههم مثل منقار طير جارح. وكان من بينهم محامي دوني السيد لاموانيون - الذي كان والده أول رئيس لبرلمان باريس. ارتدى دوني شعره المستعار المصفف بإتقان، والذي تنتهي خصلاته بثنية ملفوفة بإحكام تبلغ تماما أعلى ياقة معطفه الطويل ذي اللون البني الداكن وقميصه المكشكش قليلا؛ وهو الزي الذي ميز كونه رجلا متعلما. تجهم منزعجا من رؤية رذاذ من الطين على سرواله الأبيض النظيف الذي يخرج من حذاء أسود شديد اللمعان ذي كعب عال وحلي فضية مربعة. فقد كان اليوم فاصلا وأراد دوني ألا يخالج الرقيب المكلف بنظر القضية أي شك تجاه ما يحظى به من مكانة.
إلى جوار دوني، وقف مجموعة من الأصدقاء ذوي النفوذ، من بينهم هنري لويس هابرت دو مونتمور - أول مستشار لمجلس الدولة في عهد لويس الرابع عشر. كان ذوقهم في انتقاء الملابس بادي الفخامة؛ إذ كانوا يرتدون شعورا مستعارة ضخمة تتدلى منها الخصلات المجعدة على القمصان المكشكشة بعناية والمعاطف ذات الأكمام الضخمة المطرزة تطريزا منمقا.
وكان هناك رجل وامرأة يجلسان في البهو، حضر كل منهما ضمن الشهود. وكانا كلاهما من المرضى الذين تلقوا العلاج الذي ابتكره دوني وكانا مصرين على أنه نجح في شفائهما. زعمت السيدة أنها كانت تعاني من شلل جزئي قبل العلاج لكنها شفيت الآن؛ كان الدليل - البرهان الحي - ضروريا. وكذلك كان حضور أصحاب المقامات الرفيعة مثل دوق دونيو ودوق لوين ودوق دو شون ودائرتهم من الأصدقاء ورجال الحاشية . فحتى وإن بدت القضية ميئوسا منها، فإن ذلك الحشد الباهر من الداعمين الذين اكتظت بهم القاعة كانوا يبثون أملا أكبر في الفوز بالقضية.
دق الحاجب مجددا، لكنه هذه المرة كان يضرب سطح الطاولة، محدثا فيها شرخا عميقا. خفتت جلبة الحضور متحولة إلى همسات، رغم سخرية بعضهم من محاولة الرجل فرض النظام. لكن عقل دوني ارتج حين عاودته ذكرى الدقات الملحة على بابه في المساء قبل بضعة أشهر - تلك الدقات التي أعلنت بداية هذه الأحداث المأسوية.
مقابلة موروا
كان الوقت متأخرا، وولى يوم الأحد أمام الساعات الأولى من الإثنين 19 ديسمبر 1667. كان دوني - كعادته - جالسا في مكتبته ينظر في بعض من آخر ملاحظاته وحساباته حول حركة الكواكب المختلفة عندما سمع صوت عربة تتوقف ببابه. كان دوني رجلا كئيب المظهر ينتمي إلى طبقة النبلاء، وكانت وجباته الدسمة قد راحت تترك أثرها على خصره، ورغم أنه كان في مرحلة الشباب، كان منتصف العمر يظهر على ملامحه في صورة شحم وفير حول فكه السفلي وفي الثنيات الهلالية العميقة المحيطة بفمه. استمر دوني في العمل، وحك أنفه الأقنى، مستغرقا في تركيزه حتى إنه نسي أمر زائره. وبعد دقائق معدودة، جاء خادمه مخبرا إياه أن السيد دو مونتمور قد أرسل في طلبه في ذلك الوقت من الليل. ضيق دوني عينيه وقد امتلأ بمزيج من الخوف والإثارة، محاولا تحديد السبب الذي يتطلب استدعاءه في هذا الوقت من الليل. ففي النهاية، لم تكن شوارع باريس عام 1667 مكانا آمنا للتسكع بعد حلول الظلام. إلا أن دو مونتمور لم يكن الشخص الذي يطلب طلبا إلا إذا كان ضروريا.
كان الأرستقراطي الفرنسي هنري دو مونتمور البالغ من العمر 67 عاما يتمتع بالاستقلال المادي الشخصي، بدخل سنوي كان يبلغ 100 ألف جنيه فرنسي، وفائض كاف لممارسة الهوايات المكلفة، التي كان أهمها بالنسبة إليه العلوم الجديدة. لقد أسس من ثروته أكاديمية مونتمور عام 1657، التي أصبحت ملتقى للمواهب الفكرية بما في ذلك صديقه عالم الرياضيات رينيه ديكارت؛ وجيرار دوزاركه أستاذ الرياضيات في الكلية الملكية في باريس؛ وبيير جاسندي - عالم الرياضيات والفيزياء والفلسفة الدينية؛ وبليز باسكال، بالإضافة إلى آخرين مثل الشاعر والناقد الفرنسي جون شابلان. كان هؤلاء الأعلام يجتمعون أسبوعيا في فندق دو مونتمور الفخم الذي أصبح الآن رقم 79 طريق رو دو تيمبل الذي يبعد نصف ميل شمالي نقطة التقاء النهر بكاتدرائية نوتردام التي تقع في الدائرة الإدارية الثالثة حاليا.
في بداية عام 1667، بدأ عقد هذه المجموعة ينفرط، وقد دعي بعض أعضائها للانضمام إلى أكاديمية العلوم المنشأة حديثا، إلا أن مونتمور ظل يتمتع بنفوذ كبير في الأوساط العلمية. ترك دوني عمله واستغرق بضع دقائق في إعادة ضبط هندامه، وارتدى شعره المستعار فوق شعره القصير المقصوص بمساعدة خادمه. وبعد أن تفحص نفسه أمام المرآة جذب ياقة قميصه وأعاد ضبط شعره المستعار، وبعد أن تأكد من أن كل شيء على ما يرام، خرج. شعر بالارتياح عندما وجد أن رسول مونتمور جاء بعربة مغلقة؛ وما إن صعد إلى العربة، فوجئ بوجود بول إميري، ذلك الجراح وأخصائي التشريح الموهوب الذي كان قد انضم للمجموعة أيضا. وكان إميري مشهورا بأنه أحد أكفأ من علموا الجراحة والتشريح، وحيث إنه قد ولد في سان كوينتين في باريس فقد أصبح رئيس جمعية الجراحين الباريسيين. بعد أن اكتشف الرجلان أنهما لا يعلمان سبب استدعائهما، لاذ كلاهما بالصمت وسط ضجيج سير العربة على أرضية الشوارع المرصوفة بالحجارة، مارة بفندق دو فيل قبل أن تتوجه شرقا عبر طريق رو دو تيمبل.
انحرفت العربة إلى اليسار بحدة مجتازة البوابات، لتتوقف في ساحة مفتوحة، ونزل راكباها متجهين إلى الباب. فور وصولهما، أرشدا إلى مكتبة مرتفعة السقف، حيث استقبلا ببعض صيحات الترحيب. وكانت الغرفة المزخرفة مليئة بالفعل بالنبلاء ذوي الأزياء الأنيقة الذين راحوا يتبخترون في أرجاء الغرفة ويجولون في أرجائها للفت الانتباه إلى ثيابهم المبهرجة لإحداث أفضل أثر ممكن. وفي نهاية المكتبة، كان هناك رجل مقيد إلى كرسي، شعره أشعث ومبتل، وفي وجهه خدوش، وعلى النقيض تماما ممن حوله في الغرفة، لم يكن يرتدي أي ملابس. أحيطت كتفاه بعباءة، إلا أنها كانت تسقط على الأرض عندما كان يجاهد لتخليص نفسه من القيود بين الحين والآخر.
كان الأسير هو أنطوان موروا ذا الأربعة والثلاثين عاما، وكان خادما يعيش في قرية تبعد نحو 10 أميال عن قلب باريس. وطوال سبعة أعوام أو ثمانية، كان يعاني نوبات جنون، كانت كل منها تستمر لعشرة أشهر أو يزيد. وفي أثناء تلك النوبات، كان يصير عنيفا، وكان ينزع إلى الركض في الشوارع عاريا، وكان يشعل النار في البنايات إن استطاع. ولا عجب أنه سرعان ما لحقت به السمعة السيئة في الحي الذي يقطن فيه.
وقبل نحو عام، بينما كان في إحدى فترات اتزانه العقلي، تزوج بيرين - وكانت شابة صغيرة استطاع إقناعها بأن نوبات الجنون التي تعرض لها لم تكن سوى مرض عابر وانتهى وأنه شفي الآن. بدا أن الزواج بدأ جيدا، لكن للأسف بعد بضعة أشهر تدهور سلوكه من جديد. في البداية، تمكنت زوجته من احتوائه، ورغم أنها تعرضت للاعتداء في غير مرة، فقد قيدته هي وبعض الأصدقاء من أجل الحفاظ على سلامته وسلامة من حوله.
كان هناك كثيرون ممن هم على استعداد لتقديم المشورة بشأن وسائل العلاج لحالة أنطوان. فقد كان من الواضح أن هناك سببا وراء ذلك السلوك العنيف، ووفقا للمبادئ التي اتبعها معظم الأطباء وقتها، فقد كان الاحتمال الأكبر هو أن دم أنطوان هو السبب. فربما كانت لديه كمية زائدة منه، أو أن كمية الدم كانت مناسبة لكنه كان ملوثا. وفي كلتا الحالتين، كان الخيار الأفضل هو التخلص من بعض دمه.
أجرى الأطباء والحلاقون المحليون عملية فصد دماء لموروا ثماني عشرة مرة مختلفة، وهي طريقة كان يعتقد أنها تتخلص من الدم الفاسد وتعيد التوازن الصحي وتمكن من التعافي. كما أعدوا له أربعين حماما أو أكثر، كانت خليطا من الأعشاب والمواد الكيميائية وغيرها من العناصر النشطة. لكن شيئا لم يتغير. وفي أسلوب مشابه، ربطوا على جبهته العديد من الوصفات العلاجية، لكن دون فائدة. وفي المقابل، كان أنطوان يتحرر من قيوده ويفر هاربا من آن لآخر.
شكل 1-1: جون باتيست دوني. أعيدت طباعتها بإذن من متحف تاريخ الطب.
في تلك الليلة الشتوية الحالكة، كانت زوجة موروا تمشط الشوارع والأزقة والحقول والترع بحثا عنه، أو حتى أملا في أن تجد أثرا يشي بمروره المخرب. لكنها لم تعرف مع ذلك أنه قد وصل إلى قلب باريس وأن عسس الليل قد اعتقلوه. ولسبب ما، جذب هذا الرجل انتباه مونتمور. لن نعرف أبدا إذا كان ذلك نابعا من الشعور بالشفقة أو الفضول، لكن مونتمور بعدما لم يجد مكانا مناسبا له في أي مستشفى، اصطحبه إلى البيت وأرسل في طلب أصدقائه.
كانت فكرة مونتمور بسيطة بقدر ما هي ثورية؛ فقد علم في الأشهر الأخيرة أن اثنين من أعضاء أكاديميته - دوني وإميري - يجريان تجارب على فكرة نقل الدم فيما بين الحيوانات المختلفة. ففي منتصف القرن السابع عشر، كانت أية أفكار تتعلق بالجسد تتمحور حول فكرة مفادها أن دم الإنسان يحوي العناصر الحيوية لروحه. وقد أثار هذا احتمالية جديدة. فهل يمكن لإفراغ دم الإنسان الفاسد وإحلال دم نقي طاهر من حيوان مستأنس محله أن يعالج سلوك شخص جامح وخطير؟ هل يمكن لدم الحمل مثلا أن يغسل خطايا الإنسان فعليا؟
ومع دخول دوني وإميري إلى الحجرة، تحولت إليهما كل الأنظار وخفتت المحادثات إلى تمتمة. تقدم الرجلان وانحنيا تحية لمونتمور وأصدقائه المجتمعين وتقديرا لإيماءاتهم وابتساماتهم المرحبة وقبعاتهم المرفوعة. اصطحبهما مونتمور إلى موروا، ووقف الثلاثة معا ريثما أطلعهما مونتمور على تاريخ الحالة كما رآها. وكانت المهمة التي كلفهما بها هي أن يقررا ما إذا كان موروا مرشحا ملائما لنقل الدم.
كانت المخاطرة كبيرة. وكان بين الحضور كثيرون بالتأكيد ممن يأملون أن تكون الحالة مناسبة لنقل الدم من أجل أن يتمكنوا من شهود التجربة ورؤية قفزة سريعة إلى الأمام في مجال الطب العلمي سريع النمو. أما الآخرون فكانوا متشككين أو ساخطين تماما. فإذا حدث أي شيء للمريض، فستعرف باريس كلها بالخبر، وستكون حياة دوني العملية - وربما حياته هو نفسه - على المحك. أما إن نجحت التجربة، فمن المؤكد أن دوني سيحفر اسمه في سجل التاريخ.
اللعب بالنار
لكن ماذا لو فشلت التجربة؟ إذ إن نقل الدم من حيوان إلى إنسان في ذلك الوقت كان فكرة شاذة من الأساس، وقد يرى كثيرون كذلك أنها غير أخلاقية من ناحية المخاطرة بالمريض، واستخدام الحيوان المتبرع بالدم، الذي ربما ينزف حتى الموت خلال تلك العملية. لكن لمعرفة أسباب هذا الخوف لدى دوني في ذلك الوقت، فإننا نحتاج لمعرفة مدى إجلاله لمكانة الدم.
لم يكن دوني - شأنه شأن أغلب من كانوا في منزل مونتمور - واحدا من الدجالين الجهلة أو المشعوذين الذين كانوا يعملون في الشوارع الخلفية القذرة في مدن أوروبا وقراها في القرن السابع عشر. فقد علمته معرفته باللاهوت وحكمة العالم الإغريقي الروماني السحرية أن الدم كان يلعب دورا أساسيا بوصفه وسيطا بين البشر والآلهة؛ فقد كان رمزا تذوب فيه كل معاني الروحانية والخرافة والتعاليم المقدسة والتقاليد الشعبية. لم يكن أحد ليستخف بالدم.
مع ذلك، لم يكن الدم مجرد رمز، بل كان هو الحياة ذاتها. فقد كان أي طبيب يتعامل مع دم إنسان يملك في يده جوهر حياته. جاء هذا الاستنتاج من ملاحظة واحدة بسيطة؛ اقطع عنق أي حيوان - أو إنسان في تلك الحالة - وراقب ما سيحدث له. فمع اندفاع الدم للخارج تخور قوى الإنسان؛ إذ تنفد منه حيويته وروحه. وما إن تنفد دماؤه تماما، فلن تتبقى أي حياة في جسده. فمن الواضح أن الحياة تخرج من الجسم مع الدم؛ لذا كان الدم يحمل في جزيئاته الحياة.
مثل هذا المنطق جوهر عديد من أول الوقائع المؤرخة التي تعلقت بالدم أو تحدثت عنه منذ القدم. وقد وردت إحدى تلك الوقائع في كتابات تنسب للشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس الذي تسرد ملحمته المؤلفة في القرن الثامن قبل الميلاد - الأوديسة - مآسي حرب طروادة. ففي إحدى مراحل الكتاب يجد أوديسيوس - بطل ملحمة هوميروس - نفسه في مأزق، فيستحضر روح الكاهنة تريسياس - عملا بنصيحة أسدتها له ساحرة. ويأمل أوديسيوس أن تتمكن تلك الكاهنة المتنبئة من حل مشكلاته. ففي خطوة جريئة، يدخل أوديسيوس إلى عالم هيدز ويعرض تقديم اللبن والعسل والنبيذ ودم أضحية - هي الحمل. ويكون الدم هو مفتاح النجاح، وبينما تشرب أرواح الموتى هذا الدم الأسود الحار يسترجعون ذكرياتهم عن الحياة على الأرض ويستعيدون أنفاسهم الحية للحظة قصيرة. فقد أعاد الدم الحياة لتريسياس على الأقل مؤقتا.
بينما تميز القرنان السادس عشر والسابع عشر بمرحلة جديدة في الفكر البشري أرادت التشكيك في المفاهيم الأسطورية، لم يزل معظم فلاسفة هذين القرنين يؤمنون بجدية بالتعاليم الإنجيلية. وقد امتلأت النصوص الإنجيلية بتحذيرات من الاستهانة بالدم؛ فيما يحتوي سفر اللاويين على تحريم مشدد لشرب الدماء «لأن حياة كل كائن تكمن في دمه.» وفي رواية سفر التكوين لمقتل هابيل، يواجه الرب أخاه قابيل قائلا: «إن دم أخيك صارخ إلي من الأرض.» لذا عززت دراسة دوني للاهوت إدراكه لضرورة الحذر.
هل كان دوني يفكر جديا في سكب دم حيوان في جسم إنسان؟ نعم لقد كان يفكر في ذلك مقتنعا أن هذا القربان ربما يتيح الشفاء والتعافي. نظر دوني إلى موروا. وفحص جلده بحثا عن أي علامات لمرض عضوي يمكن أن يجعل من العملية إجراء خطيرا. وانحنى زميله إميري ليشارك في عملية الفحص. لم ينتم أي منهما إلى المدرسة القديمة التي كان أطباؤها يجرون التشخيص عن بعد، بل أراد كلاهما أن يبنيا قراراتهما على أدلة دامغة. وتقدم الحضور أنفسهم باحثين عن أي علامات قد تمكنهم من تشخيص حالة موروا ووضع استراتيجية لعلاجه. وأفصح كثيرون منهم عن استنتاجاتهم بتبجح سافر. وربما يقول المتشائمون إنه من السهل أن تثق بفاعلية علاجك عندما لا توجد أي طريقة لاختباره!
كانت نتيجة الفحص الأولي سارة؛ فقد بدا موروا معافى بدنيا، ولم يكن هناك أي علامة ظاهرة على العلة أو المرض. وبدا أن روحه فقط هي التي كانت تعاني خللا. ومن المؤكد أن خير علاج هو معالجة مكمن الروح، أي معالجة دمه. فعلى كل حال، كان الدم هو الشيء الذي تسكنه شخصية الفرد؛ فقد كان الدم يحوي السبب الذي يحدد شخصيتك. فإن أصيبت شخصيتك بالاضطراب، فليس أفضل من التخلص من بعض الدم وإحلال روح السكينة والنظام محله.
بدت الاحتمالات واقعية جدا، لكن كذلك كانت المخاطر. مرة أخرى كانت المخاطرة كبيرة؛ فهل من المقبول أخلاقيا استخدام علاج يغير طبيعة الشخص؟ إذا كانت شخصية الإنسان وسماته قد وهبه إياها خالقه، فهل لدى أي طبيب سلطة أخلاقية للتدخل وتغيير تلك السمات؟ لقد كان هذا السؤال يطرح كثيرا منذ بدء تطبيق العلم نظرياته على الكائنات الحية، خاصة إذا كان البشر هم هذه الكائنات. بعبارة أكثر تحديدا، هل كانت التجربة المقترحة «تدخلا في خلق الله»؟
على الأرجح، كان ذلك الجدل يشبه الجدل الحالي حول المعالجة الجينية للنباتات والحيوانات، وكذلك المواجهات المحتدمة التي صاحبت مناقشات إمكانية استنساخ البشر. ففي كل هذه المواقف، يوجد ذلك التخوف من احتمال أن البشرية توظف العلم للسيطرة على جوانب تتجاوز صلاحياتها. وساد بين مجتمع القرن السابع عشر الذي يخشى الرب قلق مطرد من أن ثمة احتمالية لإرضاخ بعض القواعد القدرية أو كسرها. فمن غير الرب له سلطة تحديد شخصية الفرد؟!
ولم يكن ما سبق ليمر كمسألة ثانوية، بل كان معضلة خطيرة. أليس الرب هو من خلق كل شخص على حاله؟ إذا نجحت نظرية نقل الدم هذه، أفلن تغير طبيعة الشخص؟ ألن تغير الشخص الذي خلقه الله؟ أليس هذا خارجا عن النطاق المسموح العمل به من قبل أي طبيب يتمتع بالأخلاق؟ كان دوني سينتبه جيدا للمنتقدين الذين كانوا يسنون خناجرهم بالفعل. كان الاحتمال الوارد أنه في موقف لن يخرج منه فائزا. فإذا فشل العلاج، فمن الممكن أن يواجه اتهامات بالإهمال الخطير المهدد لحياة إنسان. وإن نجح فسيتهم بالاستيلاء على سلطة الرب. فقد أكلت حواء التفاحة في الجنة وهي على علم بالخير والشر. والآن رأى كثير ممن كانوا في تلك الحجرة كل الإشارات الدالة على أن الشر على وشك أن تكون له اليد العليا.
كان يزعم أن الطب يمكنه علاج الأمراض، لكنه في هذه الحالة سيعالج السلوك المنفلت من خلال تغيير طباعه. فقد كانت هذه محاولة لتغيير طبيعته ذاتها. وما كان سيسبب صدمة أكبر هو أن هؤلاء الأطباء المجربين فكروا أن يفعلوا ذلك بإدخال كميات قليلة من دم عجل في جهازه الدوري. وبعمل ذلك أرادوا أن يدخلوا روح العجل البريئة الطيعة الهادئة والمحبوبة في مجملها في جسد هذا المشرد سيئ السمعة. لكن إذا نجحوا، فهل سيظل إنسانا أم أنه سيصبح هجينا؛ نصف إنسان ونصف عجل؟
المناقشة المماثلة لذلك في القرن الحادي والعشرين تدور حول نقل الجينات من أحد الأنواع إلى نوع آخر، حيث تطرح سؤالا عن عدد الجينات التي يجب نقلها من خنزير إلى إنسان قبل أن يصبح الإنسان نصف خنزير. أو العكس: كم عدد الجينات التي يجب نقلها من إنسان إلى خنزير قبل منح الخنزير حقوق الإنسان؟ ثمة تشابه كبير بالفعل بين الحالتين؛ نقل الجينات ونقل الدم. ففي القرن السابع عشر، كان دوني وزملاؤه يعتقدون أن الدم مكون أساسي من ماهية الإنسان. أما العلم الحديث، فيعتبر التناسل عملية خلط للجينات. وفي ضوء هذه الرؤية تصبح الجينات هي المكافئ الحديث للدم.
توازن الأمزجة
كانت تسوية الأمر من الناحية الأخلاقية لضمان درجة عالية نسبيا من الأمان من خطر استنكار رجال الدين إحدى المشكلات التي واجهت دوني. لكن، كان عليه أن يعيد النظر أيضا في طرق العلاج التي تبناها الأطباء وقتها. فقد كان إخراج الدم من الجسم هو ما يتقنونه وليس إدخاله. وكان هذا عصرا ساده فن وحرفة الفصد. ومع أن كثيرا من أعضاء المجتمع العلمي كانوا سيخسرون على الأرجح أسباب رزقهم إن نجحت أفكاره، لم يكن أي شخص على يقين مما إذا كانت نظرية نقل الدم توافق - أو تعارض - نظرية الصحة والمرض والدم القائمة.
لفهم الطبيعة الثورية لفكرة دوني، علينا أن نتوقف للحظة وننظر إلى التصور السائد عن الدم. ففي منتصف القرن السابع عشر، كان الناس لا يزالون متأثرين بالعقلية الفلسفية التي نشأت في بلاد الإغريق. وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، علم الطبيب الإغريقي أسقليبيوس تلاميذه أن كل الأمراض منبعها المشكلات الروحية، وأن علاجها يكون بالصلاة وتقديم القرابين للآلهة. إلا أنه بحلول القرن السادس قبل الميلاد أخذت أفكار جديدة في الظهور.
أما المفكرون من أمثال فيثاغورس والطبيب ورجل الدولة إمبيدوقليس فكانوا مولعين بالرقم أربعة. فقد كانوا مقتنعين أن هذا الرقم يحوي قوة كبيرة لأن الكون كله كان مبنيا بأجزاء مكونة من أربعة عناصر. وقد تغلغل مفهوم الأقسام رباعية الأجزاء هذا في عمل أفلاطون. فقد اعتقد أن كل المخلوقات تنتمي إلى واحد من أربعة أنواع؛ أولا: هناك الآلهة الأصلية، ثم أبناء الآلهة الذين خلقهم الصانع الأول. وثانيا: هناك رجال ونساء بسطاء العقول لكن غير عدوانيين، وهؤلاء كانوا يتحولون إلى طيور. ثم هناك ضعاف الإدراك العاجزون عن التفكير المعقد ويتحولون إلى حيوانات. رابعا: يتحول أشد الرجال والنساء جهلا إلى سحال وثعابين، أما الأغبياء حقا فكانوا يتحولون إلى أسماك ومحار. لقد استمرت هذه العقلية في الواقع؛ إذ نتحدث عن عصور الإنسان الأربعة، ونقسم السنة إلى أربعة فصول، ونقسم الساعة إلى أرباع.
وافترض هؤلاء الفلاسفة الإغريق أنه بما أن البشر جزء من الكون أو العالم فإن جسم الإنسان (العالم الصغير) يجب أن يعمل مثل كل ما سواه (العالم الكبير). ومن ثم شعروا أن أي تفسير لكيفية عمل الجسم السليم يجب أن ينبني على نظام مادي مكون من أربعة أجزاء، وأن مناقشة أي مرض يجب أن تضع في اعتبارها فهم المواد الأولية الأربعة؛ التراب والهواء والنار والماء.
ورأى الفلاسفة من أمثال فيثاغورس وإمبيدوقليس أن هذه العناصر تمثل خصائص الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف. فالأرض مثلا تكونت بخلط البرودة والجفاف، والنار خليط من الحرارة والجفاف. علاوة على ذلك، فقد رأوا أن طبع الإنسان وذكاءه وإدراكه الحقيقة كان يخضع لنسب التراب والهواء والماء والنار في جسمه. وعليه فقد كان هناك تصور عن الصحة وممارسة الطب يقوم على فكرة معالجة اختلال التوازن المحسوس في تركيب الإنسان.
وفي القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، دمج أبقراط وأتباعه من الأطباء الأبقراطيين فكرة العناصر الأربعة الأساسية مع فكرة أخرى شائعة؛ وهي الأمزجة أو الأخلاط. فعندما يؤكل الطعام فهناك عناصر فيه لا يمكن هضمها ولا يستفيد الجسم منها. وإذا لم يتم التخلص من هذه «الأخلاط» فستتراكم وتسبب المرض. اعتقد الأبقراطيون في البداية بوجود خليطين؛ العصارة والبلغم. ثم قسمت العصارة إلى نوعين: الصفراء والسوداء؛ لتصبح الأخلاط ثلاثة. إلا أن الأخلاط إن وجدت فيجب أن تكون أربعة. وبعد كثير من التأمل والحيرة، قرر الأطباء إضافة الدم إلى القائمة. وكان الدم مختلفا عن الأخلاط الثلاثة الأصلية في أنه - على عكس العصارة السوداء والصفراء والبلغم - كان له تأثير إيجابي على الجسم. أما عن مصادر كل منها داخل الجسم، فالبلغم كان مصدره الدماغ، بينما ينبع الدم من القلب، أما العصارة السوداء فينتجها الكبد، والعصارة الصفراء ينتجها الطحال.
وهكذا بدأ الدم يلعب دورا أساسيا، ليس لأنه أحد الأخلاط الأربعة فحسب، بل لأنه نسبت إليه أيضا مهمة الحفاظ على التوازن الحيوي للجسم؛ أي الحفاظ على الكميات المناسبة من الهواء والماء والتراب والنار. وكان الدم يقوم بوظيفته عن طريق اتصاله بالمسام التي اعتقد أنها موجودة على السطح الخارجي للجسم. فكانت هذه المسام تتيح للعناصر الأربعة أن تنتقل من الدم وإليه، ثم يتحرك الدم بدوره داخل الأنسجة والأعضاء في مركز الجسم ليعيد التوازن إلى أي منطقة تعاني من الخلل في ذلك الوقت. والأهم أن الدم كان يضمن استمرار التوازن في محيط القلب؛ مركز تفكير الإنسان.
لقد كان الدم هو النسيج المثالي في الجسم. فقد كان حارا، وهو ما يعني أنه مفعم بالحياة وأنه يلعب دورا في جميع جوانبها بداية من التنفس وحتى التغذية، ومن الهضم حتى التفكير. وعرفت هذه الفكرة بالنظرة الدموية (المتمحورة حول الدم) للحياة. واتسق ذلك تماما مع فكرة أرسطو أن العواطف كان مكمنها الدم، فقد كان الجبن - على سبيل المثال - ناتجا عن فقر الدم، كما كانت برودة الدم أيضا مدعاة للقلق.
جرى المزيد من التنقيح لهذا المفهوم على يد بوليبوس - زوج ابنة أبقراط - الذي وضع في كتابه «طبيعة الإنسان» نظاما من أربعة أجزاء شكل جوهر ممارسة الطب حتى القرن السابع عشر وما تلاه. وقد لخص بوليبوس أفكاره في جدول بسيط :
الخليط
الفصل
الخصائص
الدم
الربيع
الحرارة والرطوبة
العصارة الصفراء
الصيف
الحرارة والجفاف
العصارة السوداء
الخريف
البرودة والجفاف
البلغم
الشتاء
البرودة والرطوبة
وكما تعلم زملاء دوني خلال دراستهم الطب، كان الجدول يمثل منهجية منظمة لعلاج الأمراض. فإذا كان الشخص يعاني البرودة أو نقص الرطوبة فعليه أن يشرب النبيذ حيث كان يعتقد أنه يساعد الإنسان على الشعور بالدفء، وهي الخاصية التي كانت تنبع من زيادة كمية الدم. كما تضمن هذا المنهج الطبي «إخراج» الدم. فبينما يمكن التخلص من الدم في بعض الحالات كوسيلة لتقليل حرارة الشخص المصاب بالحمى، اعتبر التخلص من الدم مفيدا لأنه كان يتيح الفرصة للتخلص من الأخلاط الضارة التي تختلط بالدم. وكان أبقراط وأتباعه مقتنعين بأن دم الحيض ونزيف الأنف وسيلة الجسم الطبيعية لاستعادة التوازن والحفاظ على الصحة؛ لذا كان إخراج الدم - وليس إدخاله - وسيلة جوهرية لاستعادة التوازن في حالات شديدة التفاوت.
سائل مرتبط بالحياة
كذلك، كان معظم فلاسفة القرن السابع عشر يعتقدون أن الدم مصدر حياة جديدة. وكان أرسطو قد ابتكر فكرة أن الحياة الجديدة تبدأ عندما يلتقي الدم المنقى للرجل والمرأة؛ أي المني والحيض. ولم يكن لدى دوني وزملائه أي دليل يدفعهم للتشكك في ذلك؛ فقد كانوا على بعد بضعة عقود قبل أن يستخدم تاجر الأقمشة الهولندي أنطوني فان ليفنهوك مجموعته من المجاهر المتطورة ويكتشف الأمشاج الذكرية في عينات المني. فكان أصدقاء دوني يعتبرون أن العبث بالدم عبث بالمادة الحاملة للحياة ذاتها.
وزاد التأكيد على الرابط بين الدم والحياة بسبب التغير الجوهري الأخير في منظومة المعتقدات التي ترسخت قبل القرن السابع عشر. وكان ذلك في القرن الثاني الميلادي على يد الفيلسوف وأخصائي التشريح الإغريقي كلوديوس جالينوس - الذي درس الطب بمدينة برجاموم التي تقع حاليا في المنطقة التي تعرف بغربي تركيا. وكان جالينوس كبير الأطباء المعالجين للمصارعين في برجاموم، كما كان كاتبا غزير الإنتاج. فقد ألف نحو 500 كتاب ورسالة في جميع مناحي الطب والفلسفة على مدار حياته المهنية. وكانت آراؤه تتسق تماما مع معتقدات المسيحيين الأوائل، وأصبحت جزءا أصيلا من الأنماط الفكرية للثقافات التي تسودها المسيحية طوال 1500 عام تالية. ووصل الأمر لدرجة أن من يشكك فيها كان يواجه أزمة كبيرة؛ فقد كان ذلك يعد تشكيكا فعليا في الكنيسة.
انتقل جالينوس إلى روما بصفته طبيبا وصديقا للإمبراطور ماركوس أوريليوس. وكان عمله مع المصارعين قد أتاح له كثرة التعامل مع الأجسام المصابة، كما أتاح له تطبيب المصارعين ذوي الإصابات القاتلة في الكولوسيوم مشاهدة الدم مباشرة. وكان ذلك أمرا غير مألوف، حيث إنه كان يرى رجالا أصحاء أصيبوا لتوهم، وليس أشخاصا يمرون بمراحل مختلفة من المرض، ولا مصابي المعارك الذين قد يصلون إلى الطبيب بعد ساعات أو أيام من الإصابة. ومن تلك المشاهدات توصل جالينوس لاستنتاج هام؛ إذ قال إن الدم نوعان: دم أميل إلى الزرقة يسيل ببطء من الطرف المقطوع للأوعية الحاملة له، ودم شديد الحمرة يتفجر من أوعيته.
ساعدت نظرية نوعي الدم هذه جالينوس على تكوين فكرة أكثر تعقيدا من الفكرة السائدة حتى ذلك الحين. فقد استنتج أن الدم يتكون في الكبد. فعلى كل حال، كانت قطع الكبد تبدو كالدم المتجلط، وعند هرسها ينساب منها سائل يشبه الدم. وكان هذا الدم يتكون مباشرة من العناصر الناتجة من هضم الطعام، وبذلك كان الدم هو الوسيلة التي يجري بها توزيع العناصر الغذائية عبر الجسم ونقلها في الأوردة.
أما الشرايين، على الناحية الأخرى، فكانت تنقل نوعا من الدم بعد تنقيته في القلب الذي يشبه الفرن. ويحمل هذا الدم مادة جديدة، ليس لها وزن لكنها في غاية الأهمية هي «العناصر الجوهرية الحيوية». مع ذلك لم تزل هناك إشكالية أخرى في هذه النظرية؛ وهي أن بعض الدم الذي يحمل الروح كان يضخ إلى الدماغ. وهناك ينقى الدم ويتحول إلى «العناصر الجوهرية الحيوانية»، التي تمكن من التفكير وتتوزع على الجسم عبر الأعصاب. ولم تكن قيمة الدم النفيسة إلا لتزيد قلق معاصري دوني تجاه أي إجراءات طبية تشمل الدم بأي حال. فبالتعامل مع الدم كان دوني يتعامل مع الحياة ذاتها.
نحو اتخاذ القرار
لم يكن نقل الدم في رأي دوني إلا مسلكا مختلفا لاستعادة التوازن الصحيح بين الأمزجة أو الأخلاط. كما كان يتيح على حد علمه ميزة استعادة التوازن مع الحفاظ على كمية طبيعية من الدم. وكانت خطته تقوم على التخلص من بعض الدم غير المتوازن من الشخص المريض؛ وإحلال دم متوازن من حيوان سليم محله. وكان هذا يعني أن المريض لن يحرم من العناصر المغذية في الدم، وسيتبقى له قدر كاف من الدم يمكن للقلب أن يدمغه بالخلاصات الحيوية والحيوانية للشخص.
لقد كان من الواضح أن موروا لم يكن في حالة مزاجية جيدة. بدأت المجموعات الصغيرة من الأطباء في المكتبة في الحث على فحص المريض، لكنهم كانوا يشعرون بالإحباط بوجه عام بسبب نقص المعلومات. فلم يكن هناك أي مؤشر على أن الرجل كان باردا فسيولوجيا، وهو ما كان يدل على زيادة نسبة البلغم، إلا أنهم لم يتوقعوا حدوث ذلك، عند شخص مجنون. من ناحية أخرى، كان الحصول على عينة براز سيفيد. كان حدوث الإسهال علامة قوية على زيادة الصفراء، وزيادة الصفراء - كما كان جميعهم يعلمون - ترفع درجة حرارة الدماغ، مسببة جميع صور اختلال العقل. من الناحية الأخرى، كان وجود كتل سوداء في البراز الصلب يحتمل أن يدل على زيادة العصارة السوداء. وكان المنتسبون لكلية الأطباء على يقين مما سيفعلون؛ كانوا سيفصدون دماءه. من المؤكد أنه خضع للفصد من قبل، إلا أن الإجراء لم يكن بالشدة الكافية، أو أن الدم لم يؤخذ من المكان الصحيح. على كل حال، هل كان هناك أي مؤشر على أن دماء الرجل قد فصدت حتى فقد الوعي؟ من المحتمل جدا أن العديد من الأطباء كانوا في ذلك الوقت، يداعبون بأصابعهم أقفال الصناديق الجميلة التي تحتوي مجموعات من أدوات الفصد الحادة.
كانت هذه هي النظرة السائدة آنذاك في المجتمع الطبي في باريس، وكانت تهيمن على معظم النقاش مع دخول الساعات الأولى من الصباح. كان دوني على وعي كامل بأن فكرته عن نقل الدم لمريض، وأخذ الدم من حيوان وضخه في آخر، تمثل هزة للنظام الراسخ حينها. لكنه قال إنه برغم كونها طريقة غير معهودة، كان من الممكن اعتبارها وسيلة لاستعادة توازن الشخص؛ إذ تؤدي ذلك على نحو أكثر فعالية من الفصد وحده. كما أنها إن نجحت فستصير تلك الطريقة علاجا عاما؛ فإن تعلمتها فربما يمكنك علاج أي مرض تقريبا. وفي ظل تلك المكافأة المنتظرة، من يسعه أن يقف أمام من يحاول نقل الدم؟!
وبينما كان دوني وإميري ينظران إلى مريضهما المحتمل، كانا يقيمان فرضية أن يكون مسار دمه بحاجة إلى تعديل. ولربما كانا يتساءلان في نفسيهما عما إذا كان جنون موروا وعنفه سيهدآن بحقنه بجوهر ألطف كلية. وكانا يتساءلان عما إذا كانت تلك هي فرصتهما لإبهار المتشككين وكتابة وتخليد اسميهما.
ما من سبيل إلى معرفة ما إذا كان قرار دوني سيختلف لو علم بتسلسل الأحداث التي كانت ستؤدي إلى وفاة مريضه. لكن من المرجح أنه كان يراوده الشك في أن تلك الخطوة ستثير ذعرا نابعا من الغيرة في أرجاء إنجلترا. لم يتردد أي رائد في مجاله أمام التحدي، وكان بمقدور دوني في ذلك الحين أن يرى اسمه متصدرا عناوين الصحف الرئيسية؛ المجد قبل سن الثلاثين؛ لقد كان ذلك صعودا صاروخيا نحو الشهرة لا يليق إلا بعبقري.
الفصل الثاني
استكمال عمل هارفي
كان القرن السابع عشر الميلادي مثيرا ومحبطا في آن واحد. لقد أخذ دوني الحماس في التشكيك فيما لم يخضع للشك من قبل؛ فقد كانت الثورة الفكرية هي سمة العصر. ومع ذلك، لم يعرقله سوى حقيقة أن الطرق المعروفة لفعل ذلك كانت لم تزل في بداية ظهورها.
كانت القضية الرئيسية هي التقدم، وكان السؤال هو عن كيفية كسر الأغلال التي قيدت العقول المستقصية في أنماط الفكر الأرسطي، حيث الأفكار والجدليات أهم من الملاحظات المادية. وقد كان عصر النهضة هو الخطوة الأولى نحو هذا التقدم، لكنه إن كان قد قدم شيئا، فإنه لم يقدم سوى مزيد من الاحترام للفكر القديم؛ فقد أعاد الناس بعث الفلسفة اليونانية، ووهبوها حياة جديدة ، وسمحوا لها بأن تلهم مرحلة فكرية جديدة. لكن هذا الفكر الجديد لم يزل قائما على التنظير لا القياس العملي. ومن ثم لم يكن يوجد حيز كبير لتحصيل المعرفة القائمة على التجربة.
والأسوأ من ذلك أنه كان هناك اعتقاد متزايد بأن الاستنتاجات القديمة كانت - في أحيان كثيرة - خاطئة. فعندما كان الناس يجرون التجارب ويعتمدون على القياس ثم يحاولون فهم النتائج، كانوا يكتشفون هم أيضا أن النظريات القديمة لم تكن سليمة. بينما رفض أنصار الفكر الأرسطي هذا المذهب على أساس أن أي انحراف عن التعاليم القديمة سيؤدي إلى فهم خاطئ بالتأكيد. أما من تمتعوا بالشجاعة الكافية لتجاوز قيود الفكر القديم، فرأوا ذلك دليلا على ضرورة النظر للحياة بمنظور مختلف.
لذا كان القرن السابع عشر شاهدا على بزوغ فجر حرية جديدة، وأخذ «الفضوليون» - كما كان ذلك الجيل من المفكرين يسمون أنفسهم - يحررون أنفسهم بحرص. ولم تكن المسألة تتمثل في التخلي عن كل المعرفة القديمة تماما، بل كانت إصرارا على اختبار كل فكرة بالتجربة العملية. وزعم الفضوليون أنهم يرحبون بالأفكار - قديمها وجديدها - لكن عندما تبنى على شواهد تجريبية لكل نظرية.
لقد كانت روح الاستكشاف تلك إذن هي ما مهد الطريق لعمل دوني. فإن كانت النظريات الإغريقية واللاهوت الإنجيلي هما المصادر الوحيدة للمعلومات، لم يكن من المرجح أن يعيد دوني النظر في فكرة نقل الدم. وباستثناء بعض الأحداث الوهمية أو الأسطورية أو التاريخية، لم يكن لدى دوني أي دافع للاعتقاد بأن محاولة نقل الدم لم تكن شيئا خطيرا وربما غير أخلاقي. لكن دوني كان على اطلاع كذلك بعمل ويليام هارفي. ففي عام 1624، نشر هارفي - الطبيب والجراح الإنجليزي - فكرة جديدة صادمة؛ إذ يستبعد كتابه «حركة القلب» - المكتوب باللاتينية - مفهوم جالينوس لسريان الدم الذي استمر الاعتقاد فيه لقرون. لم يكن هارفي يرفض فكرة تحول الطعام إلى كيلوس في المعدة، وأن هذا الكيلوس يتحول إلى دم عندما ينقل إلى الكبد؛ لكن اختلافه كان حول ما يعقب ذلك. فقد قال جالينوس إن الدم يذهب بعدها إلى القلب حيث ينتقل بعض الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين بينما ينتقل الباقي عبر المسام الموجودة في الجدار الفاصل بين البطينين إلى البطين الأيسر، ومنه ينتقل الدم إلى أجزاء الجسم التي في حاجة إليه ويستهلك. لكن هارفي أوضح أن الدم يسرى عبر الجسم في دورة مستمرة.
مع ذلك، لم يكن هارفي يعلم السبب وراء دوران الدم باستمرار، وربما كان ينظر إلى الحجج التي استخدمها لاستنباط ما توصل إليه على أنها غير دقيقة بل تكاد تكون مثيرة للضحك. لكن حين قرأ دوني كتاب هارفي أدرك - شأن كثيرين غيره - أن الكتاب فتح الباب أمام طرق جديدة لتعامل الأطباء مع الدم، وكان نقل الدم من بين هذه الطرق.
ولم يكن بيان أن الدم يجري في دورة إلا أحد سببين لأهمية كتاب هارفي. فقد كان السبب الثاني هو أن هارفي أظهر في أثناء وضعه نظريته مدى التزامه بالتراث الإغريقي، لكنه في الوقت ذاته سبر أغوارا جديدة لما أصبح فيما بعد يعرف بالعلم الحديث. ويستمر الخلاف في القرن الحادي والعشرين حول ما إذا كان من القدماء أم من المحدثين.
ولد هارفي في الأول من شهر أبريل من عام 1578 في فولكستون بكنت، وكان الأكبر بين سبعة أطفال. كان قصير القامة، ذا بشرة زيتونية اللون ووجه مستدير، وكان - بحسب جميع الروايات - سريع الغضب. وكانت عيناه سوداوين صغيرتين، وهو ما جعله قصير النظر لحد ملحوظ؛ وكان اللون الأبيض قد أخذ يزحف على شعره الطويل ذي اللون الأسود الداكن في شبابه؛ حتى إنه بلغ عامه الستين وقد خلا رأسه من أي خصلات سوداء. ولأنه ولد لمزارع يملك أرضا يقوم على فلاحتها بنفسه، فقد كان ميسور الحال لكنه لم يكن ثريا. ولأنه كان متقد الذهن، أرسلته أسرته ليدرس الطب في كلية كيوس بكامبريدج. وفي إطار اتباع المسار الوظيفي النموذجي، راح يعمل لما يقارب ثلاث سنوات بجامعة بادوفا في إيطاليا - وهي إحدى قلاع الطب في العالم. وكانت هذه التجربة المختلطة ستمنحه معرفة استثنائية بتصور جالينوس عن الجسم، لكنها أتاحت له كذلك الاحتكاك بهؤلاء الذين أخذوا يشككون في الاستنتاجات القديمة.
وفي بادوفا، تعرف هارفي طبيب عصر النهضة أندرياس فيزاليوس أحد أول من شككوا فيما لا يقبل الشك. درس فيزاليوس - بلجيكي الأصل - الطب في باريس، حيث بدأ في إجراء تشريح الجثث بعناية. ويقال إن أهم ما فعله كان نزوله عن كرسي التدريس والعمل بيديه؛ فحين بدأ دراساته كان المحاضرون يميلون للجلوس عن بعد يقرءون التعليمات من كتاب دراسي، ويلوحون بعصا طويلة في الاتجاه العام الذي توجد فيه الخصائص موضع الاهتمام في الجسم، بينما يجري من هم أقل شأنا عملية التشريح الكريهة. ففي عصر كانت المظاهر فيه هي كل شيء، قليلون من ذوي العلم والوقار كانوا على استعداد لتلويث أيديهم، أو الاقتراب من جثة متعفنة تفوح منها الروائح الكريهة. علاوة على ذلك، كان لا يزال هناك ذلك الإرث الفكري الإغريقي الذي يرى أن أهل الفكر لا ينبغي لهم أن يقوموا بالعمل اليدوي، الذي كان ينبغي أن يترك للطبقة الأدنى من الفنيين والعمال.
وكان تعثره هذا هو السبب ذاته الذي أتاح له فرصة إلقاء نظرة جديدة أكثر تدقيقا على الأفكار القديمة. وحاول قدر جهده أن يجد أي مسام في حجرات القلب، لكن كل محاولاته باءت بالفشل. ولاحظ الأخاديد التي تحدث عنها جالينوس في الجدار الفاصل بين شقي القلب، لكنه لم يتمكن من إنفاذ الدم - أو أي سائل آخر - من ناحية إلى أخرى. وقال:
لم أكن لأجرؤ على أن أحيد قيد أنملة عن رأي جالينوس حتى وقت قريب. لكن الجدار الحاجز سميك ومكتنز وقوي كسائر القلب؛ لذا فإني لا أرى كيف يمكن حتى لأصغر جسيم أن ينفذ عبره من البطين الأيمن إلى الأيسر.
1
هنالك ظهرت مشكلة؛ إذا لم يكن لتلك المسام وجود، فستنهار نظرية جالينوس. ولتفادي ذلك، أخذ معظم الأطباء يفترضون أن الدم يمكنه أن يذوب عبر هذا الجدار الصلب، رغم أن التجارب أظهرت عكس ذلك عندما كان أحد شقي القلب ممتلئا بالدم وتعرض للضغط. ومن ثم، اعتقد فيزاليوس ضرورة وجود حل آخر للمشكلة، لكنه توفي قبل 60 عاما من حلها. لكنه ألف بالتعاون مع مساعده جوهان ستيفان فون كالكار كتاب «تركيب جسم الإنسان»، وهو كتاب مليء بالرسوم المعقدة التي تبين الأوعية الدموية في الجسم بالتفصيل - وقد مثل جزءا مهما من تعليم هارفي.
ورغم أن هذا بدأ ينخر في أسس معتقدات جالينوس، ظلت توجد أسئلة كثيرة بلا إجابة. فكل الأدلة مثلا أشارت إلى أنه يوجد نوعان من الدم؛ إذ كان الدم الأزرق الداكن يجري في الأوعية ذات الجدر الرقيقة - الأوردة - بينما يجري الدم الأحمر القاني في الشرايين ذات الجدر السميكة. ونحن نعرف الآن أن جدر الشرايين السميكة تتيح لها نقل الضغط الانقباضي عبر الجسم، لكن هذا مبني على معرفتنا بعمل القلب باعتباره مضخة. لكن جالينوس ظن أن المرحلة النشطة من عمل القلب كانت عند انبساطه؛ إذ اعتقد أن هذا الانبساط كان يعمل على سحب الدم إلى القلب. ثم يسحب باقي الجسم بدوره الدم إليه لإشباع احتياجات الأعضاء المختلفة. ويشبه هذا المفهوم رؤية الحبر يتسرب عبر منديل جاف، حيث تمتص الأجزاء الجافة الحبر.
من السهل القول إن قطع أي وعاء دموي ومشاهدة الدم ينساب أو يندفع إلى الخارج دليل كاف على أن الدم يجري داخل الجسم. لكن، بينما لم يكن ثمة اختلاف بين فلاسفة عصر النهضة وكل من سبقوهم من المفكرين حول انسياب الدم إلى الخارج، كانت مدرسة عصر النهضة ترى أن ذلك دليل على أن الجهاز الدوري ممتلئ، ومن ثم فإنه مضغوط. فانسياب الدم خارج الجسم في حد ذاته لم يكن دليلا على أن الدم يجري في دورة داخل الجسم؛ فعلى كل حال يمكن تحقيق نتيجة مشابهة عند إحداث ثقب في جدار أنبوب ينقل الماء من مكان لآخر.
وربما لفتت المحاضرات والمناقشات التي كانت تدور حول موائد العشاء انتباه هارفي إلى شخص آخر أيضا هو ميجيل سيرفيت، رغم أن القليلين الذين عرفوه كانوا يخفضون أصواتهم بعض الشيء عند نطق اسمه. كان ذلك الطبيب الإسباني قد وصف تشريح القلب وأشار إلى الأوعية الدموية الأربعة التي تخرج منه. كما أصاب في إشارته إلى أن عضلات القلب ترتخي مع امتلائه بالدم وتنقبض مع خروجه منه. وكان هذا وحده اكتشافا ثوريا.
كما أجرى سيرفيت تجارب أولية لقياس تدفق الدم وتوصل إلى استنتاج آخر هو أن كمية الدم التي تجري في الرئتين كانت أكبر بكثير مما تحتاجانه لتشبعان حاجتهما الغذائية. والأدهى أنه اعتقد أن الدم يعود مرة أخرى من الرئتين للقلب، لكن في حين أنه دون ذلك في صورة رسم توضيحي في نص لاهوتي، ليس هناك دليل على أنه أدرك دلالة اكتشافاته.
شكل 2-1: غلاف كتاب «تركيب الجسم البشري» (أندرياس فيزاليوس). نسخت بتصريح من قسم المقتنيات الخاصة بمكتبة لين الطبية، جامعة ستانفورد.
ولسوء حظ سيرفيت، انجر إلى جدال مع عالم اللاهوت الفرنسي المتشدد جون كالفن حول طبيعة الإله. لقد كان تحدي التعاليم المسيحية خطيرا، هكذا أعلن سيرفيت مهرطقا في كل من فرنسا وإسبانيا وجنيف. وعندما حاول سيرفيت أن يثني كالفن عن اعتقاده أن المسيح ابن الرب، كان بذلك قد وقع شهادة وفاته فعليا. ولم ينقذه الاختباء وراء اسم مستعار هو ميشيل فيلينوف؛ إذ قرر أن يخاطب كالفن شخصيا وهو في طريقه من باريس إلى روما. وكان كالفن في ذلك الوقت يسكن في جنيف، ولما كانت نواياه أبعد ما يكون عن مناقشة أي قضايا، فقد رتب للقبض على سيرفيت فور وصوله. وكانت محاكمته سريعة حيث بلغت نيران حرقه على الخازوق عنان السماء. وكانت تلك تذكرة - إن كانت توجد حاجة لذلك - بأن الأفكار يمكن أن توقع صاحبها في المشكلات.
وكان هارفي سيطلع على أعمال الجراح الإيطالي ماتيو ريالدو كولومبو - أحد معاصري فيزاليوس - بعد أن خلفه في منصب أستاذ للجراحة في بادوفا عام 1554. وكان السبب الأول وراء شهرة كولومبو هو اكتشافه أن الدم يمر خلال الرئتين ودون ذلك في كتاب دراسي للتشريح. وورد في الكتاب أيضا أن القلب يعمل عمل المضخة، حيث يدفع الدم إلى الشرايين الكبيرة. لقد كانت الفكرة صحيحة بالأساس، إلا أنها كانت شديدة الجموح والثورية لدرجة أن قليلين هم من أخذوها على محمل الجد. على أي حال، كان كولومبو أستاذا في الجراحة ولم يكن لدى الأطباء «الحقيقيين» وقت لمثل هؤلاء الفنيين وأعمالهم الخام. لقد كان كتاب كولومبو مشهورا، لكنه كان يفتقر إلى الدليل الواضح الذي يدعم ما توصل إليه، ولم يستطع الاستفادة من الأساليب العلمية التي ظهرت حديثا للدفاع عن حجته. ويثير هذا سؤالا: كم من مرة لا يلقى المرء تقديرا لأن أفكاره تسبق عصره!
وعندما عاد هارفي إلى إنجلترا، في صيف عام 1602، استقر في لندن، وسرعان ما أصبح جزءا من منظومة الدولة. فقد كان طبيب الملكة يبحث عن زوج لابنته إليزابيث براون؛ وكان هارفي خيارا مثاليا. كان الوضع بالمجمل مفيدا لهارفي؛ إذ جاءته زوجته وبسبيل الوصول إلى الملك. وعليه لم يضطر هارفي أن يجتهد كثيرا في عمله بالطب من أجل توفير نفقات المعيشة، وكان لديه وقت كبير للبحث العلمي. وقد أدت علاقته القريبة التي توطدت بمرور الوقت مع الملك جيمس الأول ملك إنجلترا، ثم مع الملك تشارلز الأول إلى قضائه جزءا كبيرا من حياته في الترحال بصفته دبلوماسيا. إلا أن الملاحظة والاكتشاف كانا على رأس أولوياته. وفي إحدى رحلاته برفقة توماس هاورد - إيرل أروندل - لمقابلة الإمبراطور فيرديناند الثاني حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة - نمساوي المولد - شكا من نقص مظاهر الحياة البرية التي يمكن دراستها، قائلا:
بالمناسبة نادرا ما نرى كلبا أو غرابا أو حدأة أو غدافا أو أي طائر أو أي شيء يمكن تشريحه، ليس إلا بعض البشر البؤساء الذين تبقوا من الحرب والطاعون والذين قد حللتهم المجاعة قبل أن آتي.
سافر هارفي مع الملك تشارلز في حملات عسكرية ضد الاسكتلنديين في أعوام 1639 و1640 و1641، وعندما نشبت الحرب الأهلية لم يكن يترك جناب الملك إلا نادرا. ويروي التاريخ أن هارفي حضر معركة إيدج هيل في أكتوبر عام 1642، وهي المعركة التي أذنت ببداية الأعمال العدائية. وحتى مع تردد صدى طبول الحرب في أذنيه، لم يترك هارفي كتبه بسهولة، فبعد بداية المعارك بوقت قصير اصطحب هارفي أمير ويلز البالغ من العمر 12 عاما ودوق يورك البالغ من العمر 10 أعوام تحت شجيرة صغيرة قريبة، وأخرج من جيبه كتابا وراح يقرأ. لكن جون أوبري أحد النمامين في القرن السابع عشر يقول إنه لم يمر وقت طويل قبل أن تنفجر قذيفة مدفع كبير على الأرض بالقرب منه وهو ما دفعه إلى إيجاد مكان آخر.
2
وبعد المعركة غير الحاسمة، رافق هارفي الملك إلى قاعدته في أكسفورد رغم أن بيته وزوجته كانا في كومب في سري. ومع ذلك - بحسب ما روى أوبري - لم يكن على وشك أن يحرم من الصحبة:
أذكر أنه احتفظ بخادمة صغيرة جميلة لترعاه - وأظن أنه كان يحتاجها من أجل الائتناس كما كان يفعل الملك ديفيد - وأنه رعاها هي وخادمه باسم الملك.
3
لذا كانت تلك الظروف المتداخلة والتطورات السياسية المحلية هي ما جعل من أكسفورد مقرا لكثير من جهود هارفي العلمية. كما كانت صداقته الوطيدة مع الملك هي التي أتت بالعائلة المالكة إلى مركز البحث العلمي في إنجلترا، حيث كان تشارلز يحضر العروض التي يقدمها هارفي. وأتاحت تلك الصداقة لهارفي كذلك الوصول إلى قطيع الأيل المملوك للملك، وهو ما ساعد على تقدم عمله في السنوات التالية.
وبعد سنوات من التعليم النظامي، اقتنع هارفي بأن الجسم يعمل بناء على المبادئ نفسها التي يعمل على أساسها باقي الكون؛ فالجسم عالم مصغر. فكما أن الشمس مركز المجموعة الشمسية ومصدر الحياة للعالم، اعتقد هارفي أن القلب مركز الجسم وأنه مصدر الحياة فيه. وفي الملاحظات الافتتاحية لكتاب «تمارين تشريحية على حركة القلب والدم في الحيوانات» (المشهور ب «حركة القلب») وهو الكتاب الذي ألفه هارفي في النهاية ليفصل عمله زاد على تلك الفكرة؛ إذ لم يكتف بتشبيه القلب بالشمس بل شبهه بولي نعمته الملك تشارلز الأول. وقد ورد في افتتاح أشهر كتب هارفي ما يلي:
هو أبرز الملوك! إن قلب الحيوان هو أساس حياته وأهم أعضائه وهو شمس عالمه الصغير؛ فعلى القلب يعتمد كل نشاطه، ومن القلب تنبع كل حياته وقوته. تماما مثلما أن الملك هو مركز مملكته وشمس عالمه ومنه تنبع كل القوة وكل الشرف.
لكن كان السؤال: كيف كان القلب يضطلع بوظيفته؟ تجسدت أحد المصاعب التي واجهت هارفي ومعاصريه في كيفية دراسة القلب. تمثلت إحدى المنهجيات في تشريح الحيوانات الميتة، لكنهم حينئذ لا ينظرون إلا إلى قلب ساكن، فكان من الصعب بالتبعية تحديد وظيفته. أما البديل، فكان شقهم صدور الحيوانات الحية، لكن علماء التشريح الرواد هؤلاء وجدوا أن القلوب كانت تنبض بسرعة كبيرة لدرجة أعجزتهم عن تمييز حركاتها المنفردة. وشبه هارفي الموقف بمحاولة فهم عمل البندقية؛ إذ تبدأ سلسلة الحركة بالضغط على الزناد، وتنتهي بخروج الطلقة من ماسورة البندقية. لكن تسلسل الأحداث الفرعية التي تربط بين الحدثين الأساسيين يتم بسرعة كبيرة تجعل تتبعه شبه مستحيل. فكان الأمل الوحيد هو إبطاء تلك العملية.
وفي سبيل تحقيق ذلك، ركز هارفي مشاهداته على قلوب الحيوانات المحتضرة - حيث ينبض القلب ببطء شديد نتيجة لذلك، أو على قلوب الثعابين التي تكون معدل نبض قلوبها منخفضا دائما. عندها استطاع أن يرى أن النبض في الشرايين يتبع انقباض القلب مباشرة. وصار متأكدا من أن ذلك النبض كان ناتجا عن مرور الدم في الأوعية.
وبالملاحظة الدقيقة، وجد هارفي أن الدم يدخل إلى الشق الأيمن من القلب من الوريد الأجوف، وهو الوريد الذي يجمع الدم من أعضاء الجسم بما فيها الكبد. وعندما ينقبض القلب فإنه يدفع الدم إلى الرئتين. ثم يعود الدم إلى الشق الأيسر من القلب ومن هناك يضخ عبر الشريان الأورطى إلى الشرايين في سائر أنحاء الجسم.
مرة أخرى تترك دراسة هارفي للفلسفة اليونانية القديمة بصمتها. فقد استنتج أرسطو أن هناك كمية كبيرة من المياه تجري في أنهار الأرض. ومن دون أي حسابات لمعدلات التدفق أو حجمه قرر الفيلسوف القديم أن العالم لم يكن يحتوي على كمية كبيرة من المياه تسمح بانسيابها من قمم الجبال إلى البحر دون أن تعود من البحر إلى قمة الجبل مرة أخرى:
من الواضح أنه إن أراد أي شخص حساب كمية المياه المتدفقة في يوم واحد وتخيل خزانا مائيا، فإنه سيجد أن ذلك الخزان يجب أن يكون في حجم الأرض كلها أو أقل بقليل ليتمكن من استقبال كل المياه المتدفقة في عام كامل.
أدرك أرسطو أن طاقة الشمس تتسبب في تبخر مياه البحر؛ إذ يرتفع البخار في الهواء ويبرد ويسقط في صورة أمطار على الجبال. وتتجمع هذه المياه في المجاري وتتدفق في الأنهار وتندفع نحو البحار، فقد كانت دورة نشاط.
وأيقن هارفي - من خلال ملاحظاته - أن كمية الدم التي تمر عبر القلب أكبر من أن تفسر في ضوء نظرية جالينوس عن جريان الدم في اتجاه واحد من الكبد إلى الأطراف. فقد اعتقد أنه ربما كانت هناك دورة مشابهة للماء:
لكن لا يمكن تصور أن الدم يتكون من عصارة الطعام الذي يدخل الجسم دون أن تجف الأوردة من ناحية وتنفجر الشرايين بسبب ضغط الدم من الناحية الأخرى إلا إذا كان الدم ينتقل من الشرايين إلى الأوردة ومن ثم يعود إلى الشق الأيمن من القلب. لقد بدأت أعتقد أن الدم لا يتحرك في حركة خطية بقدر ما يتحرك في دورة مغلقة.
4
لقد استمد هارفي إلهامه من العالم الكبير. فمثلما تسخن الشمس مياه البحار وتبخرها، من المحتمل أن القلب يرفع حرارة الدم. وخلال جريان الدم في الشرايين، يوزع هذه الحرارة والمواد الغذائية التي يحملها؛ لذا فإنه يبرد ويحتاج إلى العودة إلى القلب لتجديد طاقته. فإن كانت هذه الدورة تحدث في العالم الكبير - في الطقس - فإنه من المنطقي افتراض إمكانية حدوثها في العالم الصغير المتمثل في الجسم. وكان هارفي يرى أن الوريد الأجوف هو «منبع الدم ومخزنه ووعاؤه».
شواهد التقديرات والتكهنات
أجرى هارفي من أجل إثبات نظريته سلسلة من الحسابات التقريبية العبقرية في الوقت ذاته. فقد ذكر بناء على بعض المشاهدات أن البطينين يمكنهما استيعاب ما بين أوقية ونصف وثلاث أوقيات من الدم. ثم قدر أن القلب عندما ينقبض فإنه يخرج كمية تتراوح بين ثمن حجمه وثلثه. وفي النهاية قال إن القلب يخفق ما بين 1000 و4000 مرة في الساعة. وبمجرد توافر الأرقام كان إجراء الحسابات سهلا.
حجم البطين الأيسر × نسبة الدم الخارج = حجم الدم المتدفق في النبضة الواحدة .
حجم الدم المتدفق في النبضة الواحدة × عدد النبضات في نصف ساعة = حجم الدم المتدفق عبر القلب في نصف ساعة.
كان استنتاج هارفي أن هناك 500 أوقية (نحو 16 كيلوجراما) على الأقل من الدم تتدفق من القلب في نصف ساعة. لكن، تبين أن هذا الرقم أبعد ما يكون عن الدقة؛ إذ إن حجم الدم المتدفق عبر قلب الشخص البالغ عندما يستريح أقرب إلى 4 كيلوجرامات في الدقيقة (120 كيلوجراما في نصف ساعة). لكن حتى القيمة التي استنتجها هارفي كانت كافية ليقتنع أن الجسم لا يحتوي على كمية كافية من الدم تسمح لهذا الأخير بالتحرك في اتجاه واحد، بل لا بد أنه يمر عبر الجسم في دورة.
كان هذا في بداية القرن السابع عشر، ولم يكن المجهر قد ابتكر؛ لذا كان من المستحيل على هارفي أن يرى الشعيرات الدموية التي تربط الشرايين بالأوردة. ورغم ذلك فقد زاد يقين هارفي بأن الدم بالتأكيد يجري في دورة، وساعدت نتائج سلسلة من التجارب على تأكيد قناعاته. بدأ بثعبان، شق جلده وضغط على وريده الأجوف، فاستحال لون القلب إلى الأبيض، وانكمش، وبطؤ نبضه. كان من الواضح أن انسداد الوريد منع الدم من التدفق إلى القلب. لكن ما إن رفع إصبعه عن الوريد، حتى استعاد القلب نشاطه ولونه. وعلى العكس، عندما ضغط هارفي على الشريان الخارج من القلب رأى القلب ينتفخ ويتحول إلى اللون الأحمر القاتم. لقد منع انسداد الشريان خروج الدم من القلب. وكان هذا دليلا آخر على اتجاه تدفق الدم من القلب.
بعد ذلك أثبت هارفي أن الدم يتدفق عبر شرايين في الذراع. ولكي يفعل ذلك، عقد عصابة محكمة حول ذراعه. فتلاشى النبض في المعصم. لقد قطع تدفق الدم، وفي المقابل ظهر نبض منتظم في موقع العصابة وهو ما أرجعه هارفي إلى أن الدم «يحاول أن يتدفق عبر عقبة تعوق مساره وأن يعيد فتح مجراه».
ثم أرخى هارفي العصابة قليلا، فتدفق الدم إلى الذراع لكنه لم يخرج منه، وامتلأت الأوردة بالدم وبرزت . وكان أحد معلمي هارفي في إيطاليا - يرونيموس فابريشيوس من أكوابندنتي - قد اقترح أن العقد التي تظهر في الأوردة هي صمامات، لكنه لم يتمكن من تفسير وجودها. ذكر هارفي:
لم يدرك مكتشف هذه البوابات وظيفتها، وكذلك من قالوا إن الدم ينبغي أن ينزل إلى الأسفل بفعل وزنه: إذ كان في الوريد الوداجي صمامات باتجاه الأسفل تمنع صعود الدم إلى أعلى.
كان هارفي يجمع أدلة على أن الصمامات تضمن تدفق الدم في اتجاه واحد؛ إلى القلب؛ إذ يجري الدم من الرأس إلى أسفل الوريد الوداجي عبر الصمامات المتجهة لأسفل بينما يصعد الدم من الساقين وأسفل الجسم عبر الصمامات المتجهة لأعلى في باقي الأوردة. وكان هذا مخالفا تماما للتوقعات. فالدم - على كل حال - كان من المفترض أن يتدفق من الكبد إلى سائر الجسم عبر الأوردة، أي في الاتجاه المعاكس. ورأى هارفي أن التفسير الوحيد لما اكتشفه هو أن الدم يجري في دورة عبر الجسم.
والتقى هارفي قبل وفاته بوقت قصير رائد الاكتشافات الأيرلندي شديد الثراء روبرت بويل الذي سجل محادثتهما:
أذكر أنني عندما سألت هارفي رجلنا المشهور - في النقاش الوحيد الذي أتيح لي معه (وكان قبل وفاته بفترة قصيرة) - عن ماهية الأشياء التي دفعته للتفكير في جريان الدم في دورة؟ فأجابني بأنه عندما راقب الصمامات في الأوردة الموجودة في مواضع عديدة من الجسم، لاحظ أنها في وضع يسمح بمرور الدم باتجاه القلب لكنها تمنع مرور الدم الوريدي في الاتجاه المعاكس: لقد شجعه ذلك على تصور أنه ليس هناك سبب أكثر حكمة من ذلك، لأن الطبيعة لم تصنع مثل هذه الصمامات الكثيرة دون علة: وليس أفضل من ذلك علة، وحيث إن الدم لا يمكن ضخه عبر الأوردة إلى الأطراف بسبب الصمامات التي تعترض مساره، فمن الواجب أن يضخ عبر الشرايين ويعود عبر الأوردة التي لا تمنع صماماتها مرور الدم في هذا الاتجاه.
شكل 2-2: رسم ويليام هارفي للذراع والصمامات. نسخت بتصريح من قسم المقتنيات الخاصة بمكتبة لين الطبية، جامعة ستانفورد.
عندما نشر هذا المفهوم الثوري انقسمت الآراء. إذا كان هارفي على صواب ، فذلك يعني أنه قد تلزم مراجعة جميع نظريات الصحة والطب الأساسية. ومما لا يثير الدهشة، لاقى ذلك معارضة كبيرة وصلت في بعض الأماكن إلى مقاومة صريحة. وهناك مؤشرات كثيرة على أن هارفي أرجأ نشر أفكاره بضع سنوات ريثما تزداد ثقته. ولم يمر وقت طويل قبل أن تلقى الفكرة قبولا واسعا.
كان هارفي مدركا لحجم عمله إدراكا واضحا؛ ففي الفصل الأول من كتاب «حركة القلب»، ناقش هارفي بثقة الاكتشافات الهامة التي أقنعته بأن الدم يجري بالفعل من الأوردة إلى الشرايين عبر القلب. أما في الفصل الثامن، فكان أكثر تحفظا. وعند اتجاهه إلى طرح تصوره عن جهاز دوري، يعبر عن مخاوفه قائلا:
لكن ما تبقى ليقال عن كمية الدم الذي يمر وعن مصدره غير مألوف ولم يسمع به لدرجة أنني لا أخشى الأذى بسبب حقد بعض الحاقدين فحسب، بل أرتعش رعبا من أن أكسب عداوة البشرية جمعاء، أخشى ذلك بشدة حتى إن الممارسة والعادة تحولت إلى طبع ثان في. إن المعتقدات بمجرد زرعها تضرب بجذورها عميقا، ويسيطر احترام القديم على كل الناس. مع ذلك فقد قضي الأمر، وأنا أضع ثقتي في محبتي للحقيقة وفي حيادية العقول المثقفة.
لقد كانت مخاوفه في محلها؛ فبعد نشر كتاب «حركة القلب» شكا هارفي من الانخفاض الملحوظ في عدد المرضى الذين كانوا على استعداد للحصول على استشارته الطبية. وقد أخبر أوبري ذات مرة بانتشار إشاعة بين العوام في البلدة أنه «مخبول»، لكنه كان شخصيا مقتنعا بأن الأطباء كانوا ينشرون إشاعات مغرضة لأنهم شعروا بالغيرة من اكتشافاته. وللأمانة، قليلون هم من أعربوا عن تقديرهم لمهاراته الطبية على أي حال؛ لذا لم يكن على الأرجح غيابه عن ممارسة الطب خسارة كبيرة للمجتمع.
رغم أن العديد من العلماء رحلوا قبل أن تحظى أفكارهم الثورية بالقبول، فقد كان من حسن حظ هارفي أنه جاء بفكرته في سن صغيرة وعاش حتى عامه الثمانين. وكان هذا وقتا كافيا ليتأكد الآخرون من فكرته وتحظى بالقبول بين معظم المشتغلين بالعلوم والطب.
قديم أم محدث؟
إذن هل كان هارفي مفكرا مؤمنا بالمعتقدات القديمة بنى عمله على جدليات فلسفية، أم كان عالما عصريا يعتمد على التجربة والقياس الدقيق؟ بداية، استمد هارفي مبادئه الإرشادية الرئيسية من معتقدين قديمين: الأول - كما رأينا - كان الاعتقاد بأن الجسم يعمل كعالم صغير بالنسبة إلى باقي العالم. والثاني هو أن الجسم قد صمم بعناية؛ فكل جزء في الجسم لم يكن ليوجد لولا أن خلقه الرب ووضعه في الجسم. ومثل كثيرين من أهل تلك الحقبة، اعتبر هارفي التشريح فرعا من دراسة علم اللاهوت:
لطالما كان فحص الجسم مصدر سرور لي؛ ومن ثم طالما اعتقدت أنه بالإضافة إلى قدرته على إمدادنا بفهم عميق لألغاز الطبيعة البسيطة، سنرى من خلاله صورة أو انعكاسا لصورة الخالق القدير نفسه.
وفي كتاب «حركة القلب»، يعلق هارفي على الحجم الكبير نسبيا للبطينين وللأوعية الدموية المتصلة بالقلب بأنه «بما أن الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا، فإنها لم تكن لتجعل حجمه كبيرا نسبيا دون هدف ...»
وتبين الطريقة التي وصل بها هارفي إلى استنتاجاته أنه لم يكن يهتم كثيرا بقياس أي شيء بعناية؛ إذ لم ير هارفي - كما كان حال بقية معاصريه - أي فائدة من وراء القياسات الدقيقة؛ فقد كانت تقديراته لمعدل تدفق الدم عبر القلب أبعد ما يكون عن الدقة، رغم أنه ربما كان من السهل عليه أن يقيس الأحجام بدقة أكبر، ويراقب عدد ضربات القلب في الدقيقة، محققا درجة كبيرة من الدقة. لقد اهتم هارفي بالقضية الفكرية أكثر من القياسات التفصيلية، وبذلك توصل إلى الاستنتاجات الصحيحة بناء على بيانات خاطئة.
ربما لم يسبق هارفي عصره إلا ببضع سنوات فقط؛ فبينما كان يدرس القلب، كان جاليليو جاليلي يطور وسائل لاستخدام القياسات والحسابات الدقيقة لدراسة الكون - العالم الكبير - إلا أن جاليليو لم يكن قد نشر عمله بعد؛ لذا لم يكن هارفي في وضع يسمح له بتبني منهجيته الدقيقة وتطويعها بما يتلاءم مع علم وظائف الأعضاء.
كان هارفي يعيش ويدرس عند مفترق طرق من الفلسفة. فقد كان يستخدم الجدل المنطقي لوضع النظريات ثم يجري تجارب بدائية ليرى إذا كانت هذه النظريات توافق الواقع. لقد دحض هارفي بشدة أي رأي يقول إنه ينتمي إلى أخوية الأطباء حديثة الظهور آنذاك، حيث قال إنه مقارنة بأرسطو لم يكن هؤلاء المدعون سوى «حثالة». ومن منظور القرن الحادي والعشرين يمكن اعتبار هارفي أحد آخر القدماء أو أحد أوائل المعاصرين أو - ما هو أفضل - جسرا بينهما.
وعندما ننظر إلى عمل دوني سنجد أنه بينما زعم أنه جزء من عالم التساؤل والاكتشاف الجديد، لم تكن له محاولات جدية للاعتماد على القياس؛ إذ بدا متراخيا فيما يتعلق بتسجيل ملاحظات تفصيلية. لكن في حالة دوني - مع ذلك - يزيد احتمال وجود مؤشر على نزعته المتعالية نحو التفصيل، بدلا من تأمل خاص للفلسفة التي ينبني عليها عمله.
حركة الدم بفعل الفوران
إذا كان الدم يجري في دورة عبر الجسم، فلا بد من شيء يحركه. لقد كان الرأي السائد هو أن أي ضغط في الجهاز الدوري سببه «الفوران». ويستخدم مصطلح الفوران للإشارة إلى تمدد اللبن أو العسل عند وضعه في إناء وتسخينه على الموقد. فبمجرد وصوله إلى نقطة الغليان تتكون الرغوة فوقه، وإن لم يكن الشخص حذرا فإن السائل يرتفع إلى حافة الإناء ويفيض إلى الخارج. وسيحدث الشيء نفسه مع إناء مملوء بالدم إن حاولت غليه. لقد اعتقد جالينوس وهؤلاء الذين جاءوا من بعده أن وظيفة القلب الأساسية هي تسخين الدم. ويتسبب الفوران الناتج في زيادة حجم الدم، فيجبره على الجريان في الشرايين. وكانت زيادة الضغط داخل القلب هي ما يجعله يتمدد بانتظام. فطبقا لما قاله جالينوس، كان القلب غرفة تسحب الدم، ثم تعمل كسخان.
أما وراء البحر، في فرنسا، فسرعان ما تبنى ديكارت فكرة هارفي القائلة إن الدم يجري في شبكة من الأنابيب ضمن نظرته الميكانيكية للحياة. ورغم ذلك تمسك ديكارت ببعض النظريات القديمة، حيث إنه ظل مؤمنا بأن تمدد القلب كان نتيجة فوران الدم بداخله. وبما أن دوني كان متبعا للمدرسة الديكارتية، فإن كل الأسباب تدفعنا للاعتقاد بأنه كان يتبنى أيضا هذا التصور للجهاز الدوري.
فكر هارفي كثيرا في تلك النقطة ثم أجرى تجربة؛ إذ أخذ عينتين متساويتين من الدم إحداهما من شريان والأخرى من وريد، ووضعهما في إناءين متماثلين وراقب ما سيحدث، فتكونت جلطات في كلتا الحالتين، وخلال دقائق معدودة تحول سطح العينتين إلى اللون نفسه. لكن الأهم بالنسبة إلى هارفي هو أن دم الشريان ودم الوريد كليهما ظلا في الحجم نفسه. فلم ينكمش حجم الدم الشرياني بعد انخفاض حرارته. فإذا كان الضغط في الشرايين عاليا، أو أن الدم الشرياني يجري في الأوعية الدموية لأن حرارة القلب دفعته للفوران، فإنه يجب أن ينكمش مع انخفاض حرارته. على كل حال، كانت رغوة اللبن المغلي تختفي عند إبعاده عن الموقد. وبما أن مثل هذا التغير لم يحدث، استنتج هارفي أن الفوران لم يكن إلا من نسج خيال الناس. لم يعرف رأي دوني في هذه التجربة، أو ما إذا اهتم بها من الأساس. فعندما نظر إلى الجهاز الدوري، كان أكثر حماسا لفهم ما يمكن فعله به أكبر من حماسه لاكتشاف آلية عمله.
وحاول آخرون - مثل يوهانس فاليوس عالم التشريح الهولندي - تجربة طرق أخرى لدمج فكرة الدورة الدموية في التصور السائد أن القلب يسخن الدم. وتوصل فاليوس إلى أن الدم يدور ليظل في حالة سليمة؛ حيث يدخل الدم الوريدي القاتم إلى الشق الأيمن من القلب، ويندفع الدم الشرياني الأحمر القاني خارجا من الشق الأيسر. كان التفسير بسيطا في رأي فاليوس؛ فقد كان الدم يسخن في القلب ثم «يكثف» حين يزداد تركيزه في باقي أجزاء الجسم. لأنه - كما قال - ليس في الجسم ما هو أشد حرارة من القلب، وما هو أبرد من سطحه الخارجي. وفتح هذا الباب - حسبما كان يرى - أمام احتمالية مرور الدم بعملية تنقية بالطريقة التي ينقي بها الكيميائيون السوائل نفسها، من خلال غليها عدة مرات وتكثيف الأبخرة الناتجة.
اكتمال الدائرة
أشار المتشككون في أفكار هارفي إلى ثغرتين في نظريته؛ أولا: لم يكن يوجد أي دليل على وجود ما يربط بين الشرايين والأوردة. ثانيا: لم يكن هناك ما يوضح ما الذي يدفع الدم إلى القلب مرة أخرى من الأطراف. وكما قال الطبيب كاسبار هوفمان من نوريمبرج بألمانيا: كيف فسر هارفي الطريقة التي يعبر بها الدم من الشرايين إلى الأوردة؟ وحتى إذا كانت هناك ممرات غير مرئية، فكيف فسر هارفي الحركة - ما هي القوة المحركة؟
ولم يمض على وفاة هارفي (في عام 1661) أربعة أعوام حتى اكتشف عالم الفسيولوجيا الإيطالي مارتشيلو مالبيجي الحلقة المفقودة، رغم أن الأمر استغرق عدة عقود بعدها ليكتشف الناس أن ضغط العضلات على الأوردة هو ما يدفع الدم للعودة إلى القلب مرة أخرى. راح مالبيجي - الذي ولد في العام ذاته الذي نشر فيه هارفي كتابه «حركة القلب» - يدرس الفلسفة الأرسطية في جامعة بولونيا. لم تكن حياة مالبيجي مستقرة: إذ توفي كل من والده ووالدته وجدته لأبيه وهو في سنوات دراسته، فاضطر من ثم إلى ترك الجامعة لعدة سنوات كي يرعى أخواته الثلاث الصغيرات وينظم شئون الأسرة المالية. وبعد عامين عاد للاجتهاد، حيث جمع في النهاية بين اشتغاله بالطب واهتمامه بالعلوم.
أثارت مساعي مالبيجي العلمية الجدل؛ فقد بدأ يشكك في جالينوس، وهو ما فوت عليه عدة فرص للترقي، رغم أن عمله حظي بالتقدير، وأصبح صديقا شخصيا للبابا. كرس مالبيجي كثيرا من عمله لاستخدام أول المجاهر التي عرفها العالم ورسم ما يراه. وفي عام 1661، نشر أول كتبه الذي كشف - من بين أشياء أخرى - عن ملاحظته لشبكة من الأوعية الدقيقة في رئتي الضفدع. وبعد أن سماها الشعيرات الدموية، اعتبر - وكان على صواب - أنها قد تكون الحلقة المفقودة في دورة هارفي، أي الأنابيب التي تربط الشرايين بالأوردة. ودحض هذا الاكتشاف في الأوساط العلمية فكرة تحول الدم إلى لحم عند أطراف الأوردة. مع ذلك، استغرق الأمر عشرات السنين قبل أن ينتشر العلم والتسليم باندثار فكرة جالينوس في الأوساط الطبية، بل استغرق الأمر وقتا أطول قبل أن يحظى باهتمام العامة بوجه عام.
جلب اكتشاف مالبيجي ما يشبه الجنسية الإنجليزية إليه. فقد كان العلماء في إنجلترا شديدي الحرص على إنجازاتهم وأسباب شهرتهم، وكان أهمها دليل هارفي القاطع على صحة نظرية الدورة الدموية؛ لذا كانوا حريصين على أن يكون أي عمل يضيف إلى اكتشاف هارفي على الأرض الإنجليزية. فلم يكن من المثير للدهشة - بحلول عام 1667 - أن يبدأ هنري أولدنبرج أمين عام كبرى المؤسسات البحثية في إنجلترا - الجمعية الملكية - في التواصل كتابيا مع مالبيجي نيابة عن الرابطة؛ إذ كان من الواضح أن مالبيجي عالم، ومن ثم فإن اكتشافه للشعيرات الدموية لن يكون إسهامه الوحيد على الأرجح في مجال العلوم والطب؛ لذا كانت الطريقة المثلى أمام إنجلترا لإدخال عمله البحثي ضمن مجتمعها العلمي هي دعوته ليصبح زميلا في الجمعية الملكية. فوافق وأضاف اسمه إلى القائمة المتنامية كأبرز الوجوه العلمية في عام 1669.
وبذلك اكتشفت آخر قطعة في أحجية الدورة الدموية، على الرغم من ذلك لم يكن أحد يعرف الوظيفة الفعلية للدم. لكن تلك الاكتشافات كانت كافية لتدفع كثيرين في أنحاء أوروبا إلى شحذ عقولهم؛ والسعي لمعرفة وظيفة الجهاز الدوري. وعندما تناول دوني هذه القضية لم يكن مهتما بالجانب الفسيولوجي من ورائها بقدر ما كان مهتما بمعرفة كيف يمكن لهذه المعلومات الجديدة أن تؤثر في ممارسة الطب.
الفصل الثالث
التجارب الإنجليزية في حقن الدم
أثارت فكرة الدورة الدموية الشكوك على مستوى جوهري في كل التصورات عن ماهية الدم ووظيفته. وأخذ علماء أكسفورد يقيمون سبيلين محتملين للدراسة، وهما حقن الدم ونقله. وفي عام 1639 - أي قبل مولد دوني بعام - بدأ فرانسيس بوتر العالم الأكسفوردي يدرس فكرة نقل الدم من حيوان لآخر. وقال إن هذه الفكرة خطرت له بينما كان يفكر في حدث يدور في قصة جيسون والمغامرون لبابليوس أوفيديوس ناسو. ففي قصة أوفيد، أعادت الساحرة ميديا الشباب لوالد جيسون العجوز بإعطائه شرابا يجمع بين ضوء القمر والصقيع وقطع من طيور البوم والسلاحف والذئاب والظباء والغربان. وسكبت ميديا شرابها في فمه بينما تركت دمه يسيل من جرح في رقبته. وطبقا للأسطورة، استعاد العجوز شبابه على الفور؛ فعاد لشعره الأبيض لونه الأسود السابق ، وامتلأت أوردته بالدم، واستحال شحوب بشرته إلى نضارة.
وتساءل بوتر إن كان من الممكن استبدال الدم القديم والمستهلك. وكانت محاولته لعلاج المرض المتكرر مسألة شخصية، حيث كان يعاني من نوبات صرع. وشهدت سنواته السبع والعشرون في كلية الثالوث في أكسفورد حصار المدينة، كما شهدت تلك المرحلة تسجيله تعليقاته في مدوناته على عدد المرات التي جاء فيها هارفي ليلقي نظرة على بيض الدجاج في حضانات الكلية. وكان ذلك لأن هارفي تابع تطور أجنة الدجاج داخل البيض، كما كان يزور حجرة زميله رالف باتهورست بصفة شبه يومية. وبحلول عام 1651، أصبح بوتر وهارفي صديقين حميمين، واستمتع كل منهما بتوسيع مدارك الآخر. واتضح أن ذلك عاد بفائدة كبيرة؛ إذ لم يكن بوتر - على عكس هارفي - محبا للقراءة إلى حد كبير.
وبمجرد انتهاء الحصار، انتقل بوتر إلى منزل كاهن الأبرشية في كيلمينجتون بمنطقة سومرست، حيث ارتدى ملابس ناسك أو راع قديم وعاش وحيدا، سعيدا بخروجه من صخب المدينة المليئة برجال الحاشية. كان بستانيا شغوفا، وكان وجهه الطويل الشاحب يرى من فوق الشجيرات الطويلة المشذبة بعناية على شكل مربعات. كما أنشأ مختبرا خاصا، وأجرى فيه سلسلة من التجارب. كان يحب اختراع الماكينات، فعمل نجارا وحدادا في آن واحد ليحول حلمه إلى حقيقة. وكانت إحدى آلاته نظام بكرات مصمما خاصة لرفع أواني بحجم البراميل من بئر غائرة العمق. وكان أوبري أحد أصدقائه الأقرباء القلائل، وكان منبهرا بتلك الآلة. كما كان بوتر مهووسا بالدراسات اللاهوتية التي تهدف إلى إثبات أن البابا عدو للمسيح، وفي كتابه الوحيد «تفسير الرقم 666»، سعى مثل كثيرين غيره لإيجاد تفسير رياضي لرقم الوحش في سفر الرؤيا.
بدأ بوتر - في المنزل المخصص له في الأبرشية - السعي وراء هدفه الذي يرمي إلى سحب الدم من دجاجة وحقنه في أخرى. لكنه واجه مشكلتين؛ الأولى: أنه واجه صعوبة في استخراج الدم، والثانية: أن الدم كان يتجلط قبل أن يتمكن من نقله إلى أي حيوان آخر. ولم يكن إجراء التجربة على الدجاج بالفكرة المثلى لأن الدجاج صغير في الحجم وكان إدخال الأنابيب إلى أوعيته الدموية من الصعوبة بمكان.
وفي السابع من ديسمبر عام 1652، كتب بوتر إلى أوبري واصفا الموقف:
سيدي العزيز
يؤسفني أنني لا أستطيع أن أقدم لك الآن رواية أفضل للتجربة التي ترغب في معرفة تطوراتها. إنني أشعر بالإحباط بداية (والمشكلة هي قلة خبرتي؛ حيث إنني لم أجر مثل هذه التجربة على أي مخلوق من قبل) لأنه بالرغم من محاولاتي المتكررة، لا أستطيع الوصول إلى الوريد وسحب الدم منه بقدر كاف.
لقد صنعت وعاء شفافا رقيقا قليلا من حوصلة دجاجة - هذا الوعاء يشبه المثانة قليلا. وثبت أنبوبا عاجيا في أحد عنقيه. وقد أدخلت هذا الأنبوب في وريد في أدنى مفصل في الساق. وهو وريد كبير وظاهر. إلا أنني لم أستطع استخراج أكثر من قطرتين أو ثلاث من الدم عبر الأنبوب إلى الوعاء الذي يشبه المثانة.
كنت سأرسل الوعاء والأنبوب إليك مرفقين بخطابي، لكني خشيت ضياع الخطاب. في المقابل، رسمت رسما تقريبيا لهما لترى ما أحاول فعله: (أ) عنق الحوصلة الذي يصل إلى فمي لأتمكن من الشفط. (ب) العنق الآخر الذي يصل إلى الأحشاء. ويمكن توصيل أنبوب آخر بطرفه وإدخاله إلى وريد كائن حي آخر في الوقت ذاته. (د) أنبوب عاجي منحن قليلا، وموصول بالحوصلة. (ه) تجويف الوعاء أو الحوصلة.
سيدي، يسعدني أن أكون في خدمتك دائما، إليك خالص تمنياتي، مع كل المودة.
فرانسيس بوتر
كيلمانتون، 7 ديسمبر 1652
رغم عدم النجاح، لم يستسلم بوتر بسهولة وتشجع على الاستمرار في المحاولة عندما أرسل إليه أوبري مشرط جراحة. وبعد عام كتب إلى أوبري مرة أخرى ذكر فيها أنه حسن طريقته وأنه يستخدم منفاخا صغيرا لجمع الدم. كما استعاض عن أنابيب العاج ب «القصبة الهوائية لبعض الحيوانات الصغيرة»، ملمحا إلى أنه حقق نجاحا هامشيا في إدخالها إلى أوردة حيوانين مختلفين ومبادلة دميهما. إلا أنه من غير المرجح أنه لاقى أي نجاح فعلي؛ ذلك أنه لم يكن هناك أي فرق في الضغط ليدفع الدم من أحد الحيوانين للآخر، بل الأرجح أن الأنبوب امتلأ ببطء ثم تجلط الدم به.
شكل 3-1: خطاب من فرانسيس بوتر إلى جون أوبري بتاريخ 7 ديسمبر 1652، مكتبة بودليان، أكسفورد، مخطوطة أوبري 6/إف 61 آر، وبه مخطط للوعاء الذي يشبه المثانة. نسخ بتصريح من مكتبة بودليان، جامعة أكسفورد.
كما تشير الطرق التي ذكرها خطاب بوتر أنه كان يحاول سحب الدم من الأوردة بينما كان يتجاهل الشرايين. ربما يرجع ذلك إلى أن الوصول إلى الأوردة أسهل، ولم تكن تنفجر بالدماء عند قطعها. ولسوء حظ بوتر فإن الأوردة التي تنقل الدم من الشعيرات إلى القلب ليس بها ضغط كبير يحرك الدم، ومن ثم تنغلق هذه الأوعية بسهولة. فلو كانت تجري داخل العضلات، لكان من السهل أن تنضغط وتنسد. أما جريانها على السطح تحت الجلد مباشرة فيبقيها مفتوحة. إلا أن سهولة انغلاق الأوردة كان يمثل مشكلة لرواد نقل الدم الأوائل؛ فإذا حاولوا استخدام إبر الحقن لسحب الدم من الوريد بسرعة كبيرة، انغلق الوريد نتيجة قوة الشفط. ومن هذا المنطلق، كان احتمال النجاح أكبر لو سحب الدم من الشرايين التي تمتلئ بضغط أعلى، ومن ثم فإنها أقل عرضة للانغلاق.
لم يكن رحيل بوتر نهاية التجارب في أكسفورد - بل كان الوضع أبعد ما يكون عن ذلك. لكن من بقوا في أكسفورد، اتبعوا مسارا مختلفا بعض الشيء في الدراسة؛ إذ أخذوا في البداية يجربون فكرة حقن محاليل داخل مجرى الدم. وكان بويل أحد أهم رواد المجال، الذي جاء إلى أكسفورد حوالي عام 1656؛ ولطالما كان مندهشا من احتمال أن يؤدي تلوث الجرح إلى إصابة الإنسان بالعجز. وتساءل كيف يمكن لخراج في اليد أو الساق أن يتسبب في معاناة الجسد بالكامل؟ ربما كانت دورة هارفي هي التفسير. فربما كان الجرح يطلق سموما في الدم، فينشرها الدم بدوره في جميع أجزاء الجسم. كان الوقت قد حان لإجراء التجارب.
أطعم بويل في البداية كلبا رأس أفعى وذيلها ومرارتها. وكانت هذه هي الأجزاء التي يعتقد أنها تحتوي على سم الثعبان. مع ذلك لم يتأثر الكلب؛ وكان هذا لغزا محيرا؛ إذ كان بويل مدركا تمام الإدراك أن عضة واحدة من الثعبان قاتلة؛ لذا لم تكن تلك الملاحظة منطقية عنده، فإذا كان الطعام يتحول إلى دم مباشرة فإن إطعام السم للكلب ينبغي أن يكون له ذات تأثير حقنه عن طريق أنياب الثعبان. وفي ذلك الوقت، كان هناك تصور ضئيل للغاية، إن وجد، عن عملية الهضم. فكانت المعدة - على حد علم الجميع - تذيب الطعام وتطحنه حتى يتحول إلى عجين سائل. ولم يفكر أحد في احتمال أن مكونات الطعام - التي نسميها اليوم الدهون والبروتينات والكربوهيدرات - كانت تتفكك لتتحول إلى سائل من العناصر المكونة. وفي حالة السم، فإن الهضم يحوله إلى مادة غير ضارة.
اتبع بويل - الذي لم يكن على دراية بما ذكرناه سابقا - مسارا استدلاليا مختلفا؛ إذ فكر أنه لا بد أن هناك شيئا جوهريا في غضب الثعبان يجعل عضته قاتلة. فالجميع يعرف بأي حال أنه عندما تصاب الكلاب المسعورة بنوبة غضب وتعض شخصا فإنها تصيبه بمرض خطير. ولم يكن هناك أي علامة على أن الكلاب تفرز سما؛ لذا فإن من المؤكد أن هناك شيئا في الشعور بالغضب في حد ذاته ينقل المرض. (وقد بتنا الآن نعلم أن ذلك ينتج عن البكتيريا المسببة لداء الكلب الموجودة في أسنانه وتدخل إلى جسم المصاب عندما يغرس الكلب أسنانه في جسم الضحية. أو على الأقل هذا هو فهمنا الحالي لما يحدث!)
خلص بويل في كتابه «اعتبارات بشأن أهمية الفلسفة الطبيعية التجريبية» الذي نشره عام 1663 إلى أن خير طريقة لاختبار هذه الفكرة هي غمس إبرة ما في السم ثم غرسها في أوردة الكلب. وسيؤدي ذلك إلى نقل السم وليس إلى الغضب. لكن ليس لدينا أي سجل يشير إلى أن بويل أجرى تلك التجربة بالفعل، رغم أنه لو كان فعل لاكتشف أن السم قادر على القتل رغم انعدام الغضب في الطريقة التي أدخل بها السم إلى جسم الكلب. ولو أنه كان أدخل الإبرة في الوريد لكانت أول تجربة للحقن في الدم.
بدلا من ذلك، انضم بويل إلى فريق من أعضاء نخبة أكسفورد في ربيع 1656. وكان أحد أعضاء الفريق الشاب الرائع كريستوفر رين الذي طرد من كامبريدج في وقت سابق بسبب أصوله الملكية. وكان هذا هو الرجل نفسه الذي اشتهر لاحقا عندما أتاح له اهتمامه الثانوي فرصة العمر؛ فبعد حريق لندن الكبير أوكلت إليه مهمة تصميم مبنى جديد لكاتدرائية القديس بولس. لكن في تلك المرحلة العمرية كان هذا الشاب القصير ذو الشعر الأسود المنسدل أكثر ميلا ناحية شغفه الذي لازمه طيلة حياته بالتشريح والفلك. كذلك كان من ضمن نخبة أكسفورد رجل الدين والعالم جون ويلكنز الذي كان متزوجا لتوه من إحدى أخوات أوليفر كرومويل المترملات، والذي سينقل بعد ذلك الوقت بثلاث سنوات إلى كامبريدج على يد ريتشارد كرومويل ليصبح عميدا لكلية الثالوث.
لعدة سنوات كان تأييد عائلة كرومويل طريقا جيدا للنجاح؛ فقد أعدم الملك تشارلز الأول بضرب عنقه قبل ذلك بست سنوات؛ وبدت استعادة الملكية غير محتملة. ومن أجل موازنة الرهان حرصت عائلة بويل على تقسيم ولاء أفرادها بين المعسكرين الملكي والبرلماني.
التقى بويل ورين وويلكنز في يوم ما عند شقة بويل المفروشة في هاي ستريت بأكسفورد والمطلة على كلية بريزنوز ولا تبعد كثيرا عن مكتبة بودليان المشهورة بالفعل. كانت الشقة فوق صيدلية ميزها الهاون ويد الهاون المتدليان من أحد أعواد البلوط المتقاطعة التي تشكل سورا. فتح رين وويلكنز الباب الخشبي الثقيل ورحب بهما مالك الصيدلية جون كروس وهو رجل بدين في أواخر العقد الخامس من عمره يرتدي ذلك النوع من المعاطف ذات اللون البني الفاتح المقصوصة بإتقان التي كانت شائعة بين التجار الناجحين. وكانت صيدليته معرضا للأوعية الزجاجية اللامعة التي تحتوي على الصخور والمساحيق والأعشاب والتوابل؛ وكانت الأوعية مصفوف بعضها فوق بعض بعناية على أرفف من خشب الأرز.
أرشدهما كروس إلى الطريق، لكن لم تكن الإشارة ضرورية؛ فقد كان رين وويلكنز يعرفان إلى أين يذهبان؛ إذ لم تكن تلك الزيارة الأولى. عبر الاثنان الأرضية البلوطية ودلفا عبر باب وصعدا الدرج. كان بويل في انتظارهما - متأهبا - فقد اشترى كلبا صغيرا من السوق ذاك الصباح. وبعد عدد من المداعبات، شرع الثلاثة في العمل ، مرتدين مآزر فوق ملابسهم لتحميها من الرذاذ الحتمي الوشيك. أخرج رين البالغ من العمر 24 عاما ومساعدوه أحد الأوعية الدموية الكبيرة من الساق الخلفية للكلب، وربطوا حولها قطعة من الكتان. وأدى ذلك لغلق الوريد لكنه مكنهم من إمساكه بإحكام. وبعد أن «تجاوزوا المصاعب التي سببتها مقاومة الكلب المتألم» أدخلوا إبرة في الوريد وحقنوا مادة الأفيون بعد إذابتها في نبيذ أحمر. ويروي بويل ما حدث بعد ذلك قائلا إن الدورة الدموية نقلت الجرعة سريعا لدماغ الكلب وباقي أجزاء جسمه. وكان التأثير سريعا لدرجة أنهم لم يكادوا يفكون رباط قطعة الكتان حتى «بدأ مفعول الأفيون التخديري في الظهور، وبمجرد وقوف الكلب على قوائمه أخذ يومئ برأسه ويترنح ويتعثر في مشيته.» وفقد الكلب اتزانه لدرجة أن رين وبويل بدآ في المراهنة على كون الكلب سيبقى على قيد الحياة من الأساس. لقد كانت تلك أول حالة مسجلة يجري فيها حقن جرعة زائدة من عقار تخديري.
لكن الكلب ظل على قيد الحياة بل صار بدينا، ربما لأن الشهرة التي اكتسبها أدت إلى عدم توقف الناس عن إطعامه. لكن بويل يوضح في كتابته عن التجربة قائلا: «لكني لم أستطع مشاهدة أثرها عليه طويلا؛ فما لبث أن سرق مني بعد تلك الشهرة التي حظي بها نتيجة هذه التجربة.»
1
أحيانا ما يغتر الباحثون بأعمالهم، وأحيانا ما يشعرون بالخجل منها. أما رين فكان متواضعا؛ فلم يذع كثيرا من المزاعم المؤكدة، بل كتب لمعلم التشريح السابق السير ويليام بيتي الذي كان قد انتقل في وقت سابق إلى دبلن، فقد أرسل خطابا مع زميله روبرت وود الذي كان مرتحلا إلى المدينة نفسها طلبا للثراء. لم يكن قد مضى على تعيين بيتي طبيبا للجيش في أيرلندا وقت طويل، وكان رين متأكدا من أنه سيهتز طربا لمعرفة النجاحات التي حققها تلميذه. ووصف رين في الخطاب العمل الشيق الذي يجري في أكسفورد، فتحدث عن المجاهر والمناظير التي تتيح رؤية جديدة متميزة كاشفة للعمليات التي تدور في الكون بأكمله . وكتب عن تشريح الأسماك والديوك ودراسة الكبد والمخ والأعصاب. لم يكن أي من ذلك بالنسبة إلى رين بنفس أهمية التجربة الأكثر محورية التي جرى فيها حقن النبيذ والجعة في أوردة كلب. وكتب يقول: «لا يتسع المجال لأخبرك بتأثير الأفيون ونبات المحمودة وغيرهما من المواد التي جربتها بالطريقة نفسها. إنني مستمر في التجربة التي أرى أنها على أهمية كبيرة وأنها سيكون لها بالغ الأثر في نظرية الطب وممارسته.»
2
كانت الفكرة الرئيسية هي أن الحقن يمكن أن يكون وسيلة فعالة لإدخال المواد العلاجية إلى الدم. وكان من المعروف أن الأفيون مسكن فعال، وكان نبات المحمودة يشبه اللبلاب، وعند غليه في الماء ينتج ملينا قويا للأمعاء. ولم يستغرق الأمر طويلا قبل أن يدرك العلماء أن الأثر الفعال لم يكن قويا فحسب، بل إن التأثير نفسه كان ينتج من كميات أقل من اللازم يتم تناولها بالطرق التقليدية.
أجرى رين وأصدقاؤه - والحماس يملؤهم - مزيدا من التجارب. أجري عدد من هذه التجارب في منزل صديق قديم لهارفي هو هنري بييربوينت، أول نبلاء دورتشستر وأول زميل شرفي في الكلية الملكية للأطباء. أتاحت تلك التجارب لأفراد الفريق أن يتقنوا الأسلوب الذي يتبعونه، وسرعان ما استخدموا حوصلة مثبتة بإبرة بدلا من المحقن. وعلمتهم التجربة أن الكلب يجب أن يكون كبير الحجم ونحيلا لكي يمكنهم العثور على الأوردة التي يريدونها، ويتمكنوا من إدخال الإبرة بها. اندهش رين حينما وجد أنه بعد وهلة قصيرة من حقن «كمية كبيرة» من النبيذ والجعة في أوردة الكلب «ثمل الكلب إلى درجة قصوى، لكنه سرعان ما تخلص من أثرها عن طريق البول». وفي مواقف أخرى، ذكر رين أثر حقن أوقيتين من الزعفران، وهو صورة غير نقية من الأنتيمون يعمل عمل الملين والمقيئ في آن واحد. وما لبث الكلب بعد تناول هذا المقيئ أن بدأ في التقيؤ بقوة كبيرة جدا لدرجة أنه لفظ أنفاسه الأخيرة ومات.
باستعراض تلك التجارب في ضوء ما نعتبره الآن أخلاقيات القرن الحادي والعشرين، يتضح لنا فورا أن مسألة حقوق الحيوان لم تكن قضية ذات شأن في إنجلترا في القرن السابع عشر. ومع ذلك، كان الباحثون يميلون إلى استئناس أي حيوانات تنجو من التجارب، والعجيب أنه روي أن بويل كان قلبه يرق للحيوانات الخاضعة للتجارب.
لقد كان هناك ولع شديد بالتجارب العلمية، وفي بعض الأحيان، كان الناس يجلبون حيواناتهم المريضة ليتمكن «الفضوليون» من تجربة آخر أفكارهم عليها. وإن نجحت فقد تستعيد الحيوانات حيويتها وصحتها مرة أخرى، ويمتلك أصحابها تحفة ثمينة؛ أما إن فشلت فقد استمتعوا على الأقل برؤية العلم يأخذ مجراه. وكانت فائدة ذلك للعلم هي مشاهدة العامة تلك المحاولات الجديدة مباشرة، إلا أنها من السهل أن تتدنى إلى مستوى عرض سيرك ترفيهي. وبعد مرور ثلاثمائة وخمسين عاما، لم يحدث تغيير كبير. فمعظم التغطية الإعلامية التي أحاطت بالنعجة دوللي، والمناقشات اللاحقة التي تناولت تكنولوجيات الاستنساخ العلاجي لم تبذل جهدا كبيرا لترفع مستوى الإدراك العلمي لدى عامة الناس. على العكس، كانت هذه المحافل العلمية تعتبر في بعض الأحيان فرصة للترفيه «الغريب والمدهش» أو وسيلة لتوليد الرعب والصدمة. وفي كلتا الحالتين، كان العلم ولا يزال أداة للترفيه، وكان من الصعب جعل أي شخص ينظر إلى القضايا الكامنة بجدية.
كانت حقوق الإنسان ترى هي الأخرى في القرن السابع عشر من منظور مختلف عن يومنا هذا؛ إذ كانت عقوبة الإعدام تطبق على نطاق واسع للقضاء على المجرمين اتباعا للحكم الإنجيلي الوارد في العهد القديم. وأكسب هذا حياة الإنسان قيمة عالية، وكان ذلك يعني أن قتل شخص بريء عمل خطير، بل كان الشخص المدان بارتكاب جريمة شنعاء مثل القتل يحرم مما نسميه اليوم «حقوق الإنسان». وانطبق هذا بصفة خاصة على أصحاب الطبقات الاجتماعية الدنيا.
لكن القتل لم يكن الجريمة الوحيدة التي كان من الممكن أن توقع مرتكبها في مشكلات خطيرة. فقد كان ذلك عالما يرى في اعتناق الآراء الدينية أو السياسية الخاطئة ما يخرج صاحبها من عناية الرب وحبه، وكان ضحايا العدالة في بعض الأحيان يحرقون أو يشنقون ويسحلون ويقطعون إربا. وبالمقارنة بهذا، كان من الممكن أن يبدو الاشتراك في التجارب العلمية أمرا يسيرا بالتأكيد.
لذا، لا بد أن اتجاه العلماء إلى تجربة حقن الخمور في دم الإنسان فور نجاحهم في حقنها في دماء الحيوانات لم يثر كثيرا من الدهشة. وكان أول من خضع لتلك التجربة خادم دوق بوردو، وهو السفير الفرنسي الذي كان يعيش بلندن. ويعلق بويل قائلا إن الرجل كان خادما وضيعا «استحق الشنق»؛
3
وبذلك ينفي عن نفسه أي اتهام بسوء الممارسة الطبية. جرت التجربة في خريف عام 1657، أي بعد بضعة أشهر من وفاة هارفي حيث كان رين قد انتقل إلى لندن في وقت سابق ليتولى وظيفة أستاذ في علوم الفلك بكلية جريشام. وحقن رين بمساعدة زميله والطبيب الرائد تيموثي كلارك مستخلص الزعفران في جسم الرجل المسكين. وبمجرد أن بدآ الحقن فقد الرجل الوعي وسقط أرضا - إما على نحو مصطنع أو بحق. وقرر العالمان إيقاف التجربة خشية قتل الخادم؛ إذ لم تكن هناك محاكم عديدة ستسبب لهما إزعاجا لمجرد إجرائهما تجربة على شخص مؤذ، لكنهما كانا سيقعان في مأزق لو قتلا الرجل. فما لم تدن المحكمة الشخص، كان من الممكن اعتبار موته جريمة قتل دون ريب، وهذا يعني بالطبع تطبيق عقوبة الإعدام.
كانت لدى رين فكرة أخرى إلى جانب دهشته من الآثار الفعالة لحقن المواد المخدرة أو السامة في مجرى الدم؛ إذ هل كان من الممكن حقن المواد الغذائية مباشرة في الأوعية الدموية، متجاوزين الحاجة إلى هضم أي شيء؟ لقد أدرك أنه في حالة نجاح الفكرة سيكون بمقدوره صناعة جهاز طبي كبير يمكن الأطباء من إبقاء المرضى ذوي الحالات الحرجة على قيد الحياة حتى يتحسنوا بدرجة كافية ليعاودوا تناول الطعام من جديد. وبالتعاون مع كلارك حاول رين حقن أجسام الكلاب بكل أنواع السوائل التي تحوي العناصر الغذائية بما فيها المرق واللبن ومصل اللبن وحتى الدم ذاته. وكان واضحا أن لمعظمها آثارا ضارة على الحيوانات، لكنها لم تكن خطرة بدرجة تكفي لدفعهما لإيقاف تقصي الاحتمالات.
كانت إقامة رين في لندن قصيرة، حيث عاد بعد ثلاث سنوات - في عام 1660 - إلى أكسفورد ليتولى كرسي سافيل في الفلك. وبذلك عاد وسط تطورات جديدة في دراسة الدم هناك. ورغم أن التاريخ يعتبره «أول من أجرى تجربة حقن الخمر في أوردة الحيوانات التشريحية العظيمة»، فإن دراسات علم الأحياء التي أجراها يبدو أنها كانت تدور حول اكتشاف تركيب الجهاز العصبي ووصفه.
التقدم الذي أحرزه لوور
بينما كان قليلون آخرون يطرحون أفكارا عن حقن السوائل في الدم، شرع شاب من كورنوول يدعى ريتشارد لوور في تحقيق تقدم ملموس. ويلخص الأستاذان الأمريكيان إب وفيبي هوف شخصية لوور في إحدى ترجماته في القرن الثامن عشر بأنها مثال فريد للقوة والعناد المنتظرين من شخص نشأ في كورنوول: «يبدو من المنطقي أن يكون رجل في عبقرية لوور قد قدم من كورنوول. فأهل كورنوول شعب عريق؛ وحتى في يومنا هذا تذكر أعينهم الداكنة التي يكسوها الغموض ووجوههم الرقيقة في الأساطير الغريبة التي انتشرت عنهم منذ عهد الفينيقيين الأوائل وما قبله إلى المهربين وناهبي السفن الغارقة من المتأخرين. فقد جمعوا بين الخيال المشرق والمثابرة الدءوبة التي اكتسبوها بعد سنوات من الكفاح مع الأرض الصخرية والبحر اللجاج. فهم رجال يتسمون بالشجاعة البالغة والدهاء الشديد والمزاج الغريب.»
4
ولد لوور عام 1631 في عصر ساده التغيير والشك. كان تشارلز الأول على عرش إنجلترا، وكانت الاضطرابات السياسية والدينية تعم البلاد. وكان كثير من الناس يتركون إنجلترا، مستقلين السفن ليسافروا عبر الأطلسي في رحلة محفوفة بالمخاطر، أملا في حياة وحريات جديدة في إقليم نيو إنجلاند في أمريكا. وفي سن الرابعة عشرة، صحب لوور أباه إلى لندن والتحق بمدرسة ويستمنستر. ونظرا لموقع المدرسة على بعد مئات الأمتار من كنيسة ويستمنستر وقاعة ويستمنستر التي تمثل مقر الحكومة، فقد نشأ لوور في وسط فريد أتاح له أن يكون على دراية بمجريات الأحداث التاريخية. كان كرومويل في الوقت ذاته يبني جيشه النموذجي الجديد، كما ألقي القبض على تشارلز الأول الذي لم يلبث أن فر من الأسر، ليلقى القبض عليه ثانية بعد سنة ويعدم بضرب عنقه في 30 يناير عام 1649، وهو العام الذي أعلن فيه كرومويل أن الإنجليز ليسوا رعية للتاج بل هم مواطنون في اتحاد الكومنولث.
انتقل لوور في العام ذاته إلى أكسفورد للدراسة في كنيسة المسيح. وليس هناك مؤشر على أن تلك الخطوة وراءها دوافع سياسية، لكن أكسفورد كانت تضم عددا من الشخصيات البارزة التي تتمتع بالجرأة الكافية للتمسك بالتوجه الملكي.
لم يمض وقت طويل على وصول لوور إلى أكسفورد، حتى التقى بالطبيب وعالم التشريح والكيمياء الإنجليزي توماس ويليس. كان الاثنان على وفاق وألهم كل منهما عمل الآخر. فكان ويليس يولد الأفكار، بينما كان لوور يطور مهارات تشريح ساعدت على اختبار تلك الأفكار. في الواقع، كان ويليس من أول من أقروا أنه لولا لوور لما وصل كثير من أفكاره إلى أي شيء. ففي كتابه «تشريح الدماغ» يقول:
لكن في سبيل إتمام هذه المهمة، لم يكن لدي الوقت الكافي وربما لم تكن لدي القدرة الكافية؛ لذا لم أتحرج من أن أطلب العون من الآخرين. فاستعنت بمساعدة ريتشارد لوور؛ وهو طبيب واسع الاطلاع، وعالم تشريح فائق المهارة. وأعترف أن حدة مشرطه وحدة ذكائه مكنتاني من دراسة كل من التكوين والوظائف في الجسم الذي كانت أسراره غير معروفة من قبل.
وفي 17 فبراير عام 1653 نال لوور درجة البكالوريوس، وفي يونيو التالي نال درجة الماجستير. وكان ذلك هو العام نفسه الذي أعلن فيه كرومويل نفسه سيدا حاميا لإنجلترا.
استغل لوور الشغوف بالتعلم الفرصة ليوسع نطاق معارفه بالدراسة مع الكيميائي بيتر شتايل عندما نزل بأكسفورد عام 1659. وكان بويل قد دعا بيتر - الذي كان يعيش في ستراسبورج في مملكة بروسيا قبل ذلك - ليأتي إلى أكسفورد، وذلك رغم اعتقاد كثيرين بأن الكيمياء لم تكن سوى ضرب من السحر ليس في جعبتها كثير لتقدمه للعلم الحقيقي. آنذاك كان مجال الكيمياء لا يزال مرتبطا في رأي كثيرين بالخيمياء ارتباطا وثيقا. لكن بويل اختلف معهم، حيث اعتقد أنه إذا مورست الكيمياء كما ينبغي، فستصبح فرعا من الفلسفة الطبيعية، وإذا مورست جيدا، فمن الممكن أن تكون أساس كل الجهود العلمية. وكان يتشوق بلا شك لمعرفة تطور المجال في القرن اللاحق.
كما بدأ لوور بتشجيع من رين وبويل في دراسة الحقن، ومع توجيه بويل صار لوور متحمسا لإمكانية أن يحل الحقن في الدم محل تناول الطعام. وفي عام 1662، كرر تجربة بويل السابقة حيث حقن ربعي جالون من مياه آبار تانبريدج ويلز في كلب. وفي ذلك الوقت، كان الطلب على المياه الجوفية كبيرا نظرا لخصائصها العلاجية. وبعد فترة قصيرة «تبول الكلب» وأصبح لوور مقتنعا بأنه قادر على إبقاء الكلب حيا «بدون اللحم، من خلال حقن كمية مناسبة من المرق مضاف إليها النترات لتكون حامضية الطعم مثل الكيلوس باستخدام إبرة في الوريد».
وكتب لوور لبويل في 18 يناير 1662 مقترحا أنه ربما من الممكن زرع أنبوب دائم يمكن من خلاله إدخال السوائل إلى جسم المريض، ليتخلى بذلك عن الحاجة لفتح جرح جديد في كل مرة يحتاج فيها إلى العناصر الغذائية. وبذلك حلم لوور بالإجراء الذي أصبح فيما بعد جزءا أساسيا من العلاج في وحدات العناية المركزة؛ وهي عملية جرى تحسينها ويطلق عليها اسم التغذية الكاملة بالحقن.
وفي عام 1664، تقدم لوور بأفكاره خطوة إلى الأمام بحقن نصفي لتر لبن في كلب؛ لكن الكلب مات في غضون ساعة. وعند فحصه عن كثب، اكتشف لوور أن العروق انسدت «بالدم المختلط باللبن وكأنهما تخثرا معا». وكان استنتاج لوور هو أن الاختلاف كبير بين الدم واللبن، وأنه يجب أن يستخدم سائلا أقرب شبها بخصائص الدم من أجل نجاح هذه التجربة.
لم يكن هناك سائل أشبه بالدم من الدم ذاته. إلا أن الدم ليس بالسائل الذي يسهل التعامل معه. فكل الفلاسفة والعلماء الذين عكفوا على دراسته اصطدموا بمسألة تغير طبيعته في غضون دقائق من استخراجه من الجسم؛ سواء أكان جسم إنسان أم جسم حيوان. في داخل الجسم يظل الدم سائلا، لكن بمجرد خروجه من الجسم يتحول إلى كتلة حمراء متجلطة وسط كمية من سائل بلون القش أو اللون الوردي الباهت.
وحسبما ذكر أبقراط، كان هذا دليلا واضحا على أن الدم حتما يفسد عند إخراجه من الجسم، واتفق معه معظم أطباء القرن السابع عشر، بل أضافوا أن هذا التلوث كان سببه فقدان الحرارة وفقدان الحياة؛ إذ إن إبقاء الدم دافئا باستخدام لهب شمعة أو شعلة نار صغيرة لم يمنع التجلط، فكان من الواضح أن جسم الحيوان الحي يمنح الحرارة الضرورية بنحو سحري؛ إنها حرارة القلب الغامضة.
ظل لوور منشغلا بعمليات التشريح والتجارب ودراسة الكيمياء معا، وفي عام 1665 - مع اجتياح الطاعون للندن وجنوبي إنجلترا - نشر كتابه الأول «أصل الحمى». وفيه ذكر اكتشافه المثير؛ وهو أن لون الدم يتغير عند مروره في الرئتين والقلب. بعدها انتقل إلى قضية مهمة أخرى طرحها هارفي؛ إذ كيف كان نوعا الدم - الدم الوريدي الأزرق والدم الشرياني الأحمر - هما الشيء ذاته؟
شكل 3-2: ريتشارد لوور (1631-1691) عالم التشريح. وهذه لوحة زيتية رسمها جيكوب هوسمانس. نسخ بتصريح من مكتبة الصور الطبية التابعة لمؤسسة ويلكوم تراست.
سيدهشك أن ترى كيف أن الظنون كانت توجه كثيرا الملاحظات. فمنذ نشر كتاب هارفي الشهير، اجتهد كثيرون في شرح دور القلب. ولم يزل معظم العلماء يؤمنون أن دوره الرئيسي هو إكساب الدم الحرارة وأن هذه الحرارة التي تحمل الحياة كان يعتقد أنها ستكون تفسير التغيرات التي تطرأ على طبيعة الدم. كان هذا الاعتقاد منطبعا في ذهن لوور وهو يفحص القفص الصدري في حيوانات مختلفة، محاولا فهم ما يجري بها. ولم تكن المهمة سهلة. فبداية، تتمدد الرئتان مع تكون فراغ جزئي بين الرئتين والغشاء الداخلي للقفص الصدري؛ غشاء الجنب. ويحدث ذلك مع كل نفس؛ حيث تنقبض العضلات بين الضلوع لتوسع القفص الصدري، وينقبض الغشاء العضلي المكون للحجاب الحاجز ويسحب نفسه للأسفل. وما إن شق لوور القفص الصدري، سمح للهواء بدخول تلك الفجوة وقضى على ذلك الفراغ، ومن ثم منع الرئتين من التمدد.
ومع عدم دخول الهواء إلى الرئتين، تنخفض قدرة الدم على التزود بالأكسجين؛ لذا لا يتغير لون الدم الذي يدخل إلى الرئتين عن الدم العائد إلى القلب كثيرا. وكثيرا ما يواجه العلماء هذا التحدي؛ إذ بمجرد أن يحاولوا قياس شيء، ينتهي بهم المطاف على نحو شبه دائم إلى إفساده. ولم يكن ذلك بالشيء السيئ إذا كانوا على علم بالمشكلة؛ إذ يمكن توفير البدائل لها. لكن لوور إذ لم يكن مدركا وظيفة الرئتين لم يكن في وضع يسمح له بحل المشكلة. فالحصول على قياسات صحيحة دائما ما يكون في غاية الصعوبة، ولم يتمكن لوور من إجراء التجربة على نحو صحيح إلا بعدما بدأ يستخدم منفاخا لضخ الهواء إلى الرئتين في أثناء التجارب.
أما المشكلة الأخرى التي كان على لوور - مثل غيره من علماء التشريح - أن يتجاوزها فهي أن الأعضاء في منطقة الصدر كانت متزاحمة، وكان الجزء العلوي من القلب متواريا خلف فصوص الرئتين. وتلك هي المنطقة التي يتصل فيها أربعة أوعية دموية كبيرة بالقلب. والأوعية الدموية في هذه النقطة قصيرة وقابلة للتمزق إذا جرى جذبها أو التعامل معها بخشونة. وواجه لوور صعوبة كبيرة في رؤية تلك الأوعية الدموية في حيوان على قيد الحياة رغم أنه كان على أتم الاستعداد لإجراء تشريح هو الأشنع للكلاب البائسة التي ساقها سوء حظها إليه.
لذا أجرى لوور التجربة دون أن يضع في اعتباره ملاحظة تغير لون الدم في أثناء مروره عبر الرئتين، وعليه لم يكن من المستغرب كثيرا أنه لم يلاحظه. وفي المقابل لم يلاحظ تغير لونه إلا بعد خروجه من البطين الأيسر للقلب. ويبين هذا أنه غالبا في ميدان العلم يمكن ألا ترى أوضح الأشياء إن لم تبحث عنها.
وفي ضوء ذلك، بدا أن ملاحظات لوور الدقيقة تقدم دليلا جديدا يدعم النظرية القائلة بدور القلب في تغير الدم من حالته الوريدية إلى حالته الشريانية، رغم أنها لم تفسر الطريقة العلمية لتغير اللون. وكتب لوور إلى بويل في 24 يونيو 1664 - وهو سعيد بهذا الاكتشاف - قائلا إنه كان ينوي معرفة «السبب في اختلاف لون الدم بين اللون الأحمر الوردي والقرمزي واللون القاتم الأميل إلى السواد». واستغرق الأمر عدة سنوات أخرى ليتمكن لوور من حل هذا اللغز.
القليل من النجاح في لندن
كان ثمة آخرون في لندن يتحدثون عن قضيتي الحقن ونقل الدم في غير جدية. فقبل شهر سجل صامويل بيبيس كاتب اليوميات المشهور أنه كان قد حضر عرضا خاصا تمكن فيه كلارك وزملاؤه في الجمعية الملكية من قتل كلب عن طريق حقن الأفيون في قائمته الخلفية. لكن لم يبد أن بيبيس كان منبهرا ببراعتهم الفنية:
16 مايو 1664
أجبرت على النهوض من أجل الذهاب إلى رؤية دوق يورك في سانت جيمس حيث أدينا عملنا المعتاد؛ وبعدها زرنا منزل السيد بيرس الجراح تلبية لدعوته، حيث قابلت زوجته التي لم أقابلها لعدة أشهر ... ولم يمض وقت طويل حتى شاهدنا تجربة لقتل كلب عن طريق حقن الأفيون في قائمته الخلفية. وقد فشل هو والدكتور كلارك فشلا ذريعا في إصابة الوريد، ومن ثم لم ينجحا في التجربة بعد محاولات كثيرة؛ لكن مع الكمية الصغيرة التي تمكنا من إدخالها نام الكلب فورا وظل راقدا إلى أن شرحه. وكان هناك كلب آخر صغير جعلاه يبتلع الأفيون فترنح في البداية، وفقد وعيه، وظل نائما؛ ولا أعلم ما إذا كان قد أفاق بعد مغادرتي أم لا؛ لكن هذا كان تأثيرا غريبا ومفاجئا.
يقدم بيبيس باعتباره مراقبا ذكيا ومهتما عرضا قيما للطريقة التي نظر بها العامة إلى تلك المساعي العلمية. كان يشعر بحماسة واضحة لعديد من التجارب التي شهدها، ورأى أنها كانت أفضل أوقات الترفيه في أسبوعه. إلا أن تدويناته المختلفة التي تتناول تجارب علمية في مذكراته تبين أن بيبيس كان مهتما بالعرض أكثر من اهتمامه بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها. ومثل عديدين من متابعي التجارب العلمية منذ ذلك الوقت فصاعدا، كان مهتما بما يمكن للعلم فعله في ضوء التكنولوجيا القابلة للاستخدام أكثر من التفاصيل المعرفية الدقيقة التي تشكل أساسا لها.
الخطوات الأولى
ظل مركز إنجلترا السياسي والفكري بين الدول يتغير خلال العقود القليلة السابقة، وفي عام 1665 وقعت البلاد في الفوضى مرة أخرى. فلم يكد تشارلز الثاني يعلن نفسه ملكا في لندن حتى ضرب الطاعون المدينة وفر الناس. وسرعان ما وجد لوور أن أعدادا متزايدة من الأكاديميين وأعدادا كبيرة من الحاشية الملكية تتوافد إلى أكسفورد.
وصل بويل إلى أكسفورد في منتصف يونيو مباشرة بعد انتهائه من اجتماع في الجمعية الملكية طرح فيه ويلكنز فكرة حقن الدم. وفي ظرف أيام كان قد اجتمع مع لوور لبحث كيفية إجراء نقل الدم بين الحيوانات.
زعم لوور أن فكرة نقل الدم خطرت بباله عندما كان يحقن محاليل مختلفة في أجسام الحيوانات خلال اجتماعات عقدت في أكسفورد، وسجل سلسلة الأحداث التي تلت ذلك في الفصل الرابع من كتابه «علاج القلب» الذي نشر لأول مرة عام 1671. وقال إنه «رغم أنه لا يوجد عذر يبرر القفز إلى استنتاجات من تجربة واحدة، إلا أنه وبينما كنت أدخل سوائل غذائية مختلفة، لاحظت أن دم الحيوانات المختلفة يختلط بسلاسة ... وخطرت الفكرة ببالي. فتساءلت إن كان من الممكن خلط كمية أكبر من الدم من حيوانات مختلفة دون تغيير حالته بأي شكل.»
كان لوور أكثر إدراكا من أغلب الناس بقدر سرعة تجلط الدم بمجرد خروجه من الجسم: «بدا أنه ربما يكون من الأفضل نقل الدم غير المتجلط من حيوان حي يتنفس إلى حيوان آخر». كما أدرك أنه إذا قطع الوعاء الدموي الصحيح فإن كل الدم في جسم الحيوان سيندفع إلى الخارج في لحظات. وقال: «في أولى محاولاتي لنقل الدم، استخدمت أنبوبا رفيعا لتوصيل الوريد الوداجي من كلب بالوريد نفسه لدى كلب آخر. لكن التجربة باءت بالفشل؛ فالدم يسيل من الأوردة ببطء؛ لذا فقد تجلط فورا في الأنبوب وسده.»
5
عند هذا الحد تنتهي تقريبا قصة نقل الدم في إنجلترا. وخلال فصل الصيف، أخذ لوور ونديمه أنطوني وود يبحثان احتمال زواج لوور بالسيدة اتش - وهي أرملة في البلدة. وكانت السيدة اتش تسكن في جارسينجتون القريبة، وكتبت في 8 أغسطس 1665 رسالة تعرب فيها عن رفضها عرض لوور للزواج. من غير المرجح أن يكون قلب لوور قد انفطر، لكن المؤكد أن آماله بالتخلي عن العزوبية وإيجاد زوجة ثرية قد تحطمت مؤقتا. فكان الحل أمامه هو العودة إلى موطنه، إلى كورنوول. وبعد يومين من تلقي لوور الرفض التقى هو ووود وعدد من الأصدقاء في قلعة تافرن وشربوا نخب لوور متمنيين له التوفيق في مسعاه.
وقد أحبط ذلك بويل إحباطا شديدا. فقد كانت خبرة لوور ضرورية لأي عمل يتعلق بالحقن أو نقل الدم، ومن ثم توقفت التجارب بمغادرته. وزاد شعوره بالإحباط من عدم القدرة على مواصلة هذا العمل في 25 سبتمبر 1665 عندما وصل الملك وحاشيته إلى أكسفورد ومعهم نسخة من كتاب ألماني نشر مؤخرا. وتضمن كتاب «الحقن الحديث» الذي كتبه يوهان سيجيسموند إلشولتس وصفا مفصلا لحقن محاليل مختلفة في أجسام المرضى. كان من الواضح أن ثمة آخرين في أرجاء القارة مشتغلون بدراسة هذه القضية، وكانت إنجلترا معرضة لخطر فقدان مكانتها الريادية في البحث في مجال الدم.
مع ذلك - على المدى القصير - لم يكن بإمكان بويل فعل الكثير إزاء هذا الشأن. إضافة إلى ذلك، خلق قدوم الملك إلى أكسفورد مشكلة جديدة تتمثل في رجال الحاشية. فقد كانوا في كل مكان، بل الأسوأ - عند بويل - أنهم عكفوا على زيارته. ربما لم يكن لديهم ما يفعلونه طوال اليوم، لكن بويل كان لديه عمل سيؤديه. وكان عليه طلب العلم. وفي النهاية سئم المقاطعة المستمرة لعمله ففر من المدينة في منتصف نوفمبر، وانتقل إلى ستانتون سانت جون، وهي قرية تقع على بعد ثلاثة أميال شمال شرقي أكسفورد. وهناك نسي كل أفكاره حول نقل الدم، وانشغل بتدوين الاكتشافات التي توصل إليها جراء سلسلة من التجارب الهادفة إلى فهم الضغط الجوي والهيدروستاتيكا أو علم توازن السوائل.
الفصل الرابع
المجتمع العلمي
لم يضيع جون باتيست دوني وقتا طويلا بعد وصوله إلى باريس عام 1664 ليصبح خيطا من نسيج الحياة الأكاديمية. وبحلول عام 1665، كان قد نصب لنفسه مكانة بوصفه أستاذا جامعيا، وتعرف إلى دائرة المفكرين الديكارتيين. كان صغيرا لامع الذكاء ومتشوقا للدخول إلى لب القضايا الجدلية الهامة وحفر اسمه في تلك المدينة المزدهرة.
لا بد وأن «الموقع ثم الموقع ثم الموقع» - وهو على ما يبدو العامل الجوهري والأكثر تأثيرا عند افتتاح أي متجر، كان على رأس ما وضعه دوني في اعتباره عند بحثه عن منزل. ووقع اختيار هذا الشاب الطموح على شقة في بناية من أربعة طوابق تطل على طريق أوجستين (طريق جراند أوجستين في يومنا هذا) وهو الطريق المحاذي لضفة نهر السين على الجهة المقابلة لبلاس دو دوفين في جزيرة إيل دو لا سيتي، حيث برج كنيسة سانت شابيل المذهل يكاد يلامس عنان السماء. كان من السهل الوصول إلى ذلك المكان الذي يقع بالقرب من نهاية جسر بونت نوف وفي نهاية الطريق القادم من جسر سانت ميشيل. كما كان المكان ساحرا؛ فبالنظر إلى اليسار من النوافذ الممتدة من الأرضية حتى السقف ترى واجهة اللوفر المحاذية للنهر؛ أما إلى اليمين، فتستحوذ كنيسة نوتردام على المنظر.
كان اختيار دوني للموقع جزءا من خطته لتحقيق الشهرة من خلال إلقاء المحاضرات؛ وقد نجحت بالفعل. فقد امتلأت محاضراته بالحضور، ولمع نجمه، ولم يستغرق الأمر طويلا قبل أن يدعوه مونتمور إلى الانضمام إلى دائرته. فرحب دوني بالدعوة أشد ترحيب؛ إذ لم يكن الأمر يقتصر على الاحتكاك بمجموعة من المفكرين، بل كان من المعروف عن مونتمور كذلك أنه يعطي المال مكافأة لمن يجرون عملا مثيرا للاهتمام. ربما كانت الشهرة هدف دوني بعيد الأمد، لكن في ذلك الوقت كانت النقود تشكل له منفعة كبيرة.
لقد كانت مجموعة مونتمور ذاتها نتاجا لثورة هادئة في الأنماط الفكرية. وبينما يستحيل تحديد اللحظة التي بدأت فيها تلك الثورة، إلا أنه يصح القول إن الفيلسوف ورجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون هو من دفع عجلة التغيير. تخلى بيكون عن المنطق الأرسطي لصالح مذهب يبحث عن الدليل المادي لبناء النظريات - متنكرا بذلك للقرون السوالف. وأصر على تفسير جميع الشواهد في التجارب وعدم تجاهل أي بيانات يمكن ألا تتواءم مع نظرية مفضلة.
كانت هذه المنهجية الجديدة المتمثلة في التشكيك في أنفسنا وفي العالم من حولنا تتطلب منهجية جديدة متمثلة في مناقشة الأفكار ونشر المعرفة. فشرع المهتمون بالفلسفة في جميع أنحاء أوروبا يتجمعون في عدد من النوادي غير الرسمية. وفي عام 1603، أنشأ الفلاسفة الإيطاليون أكاديمية دي لينشيي في روما ، وما لبث الفرنسيون أن أنشئوا أكاديمية فلوريمونتان دانيسي في عام 1606. والهولنديون لكيلا يشذوا عن الجميع أنشئوا الأكاديمية الهولندية في أمستردام عام 1617، وفي العام نفسه بدأت جماعة فروخت برينجنده الألمانية في الاجتماع. في واقع الأمر، كانت كل أكاديمية تضم في الغالب مجموعة من الأصدقاء المحليين الذين اهتم بعضهم بالتواصل مع أعضاء النوادي الأخرى. وفي عام 1635، أنشأ الفرنسيون أكاديمية وطنية: الأكاديمية الفرنسية، وتمنى مؤسسوها أن تصبح نقطة التقاء لجميع المفكرين في فرنسا.
كانت المشكلة أن هذه الأكاديميات كانت تتأسس على يد الأشخاص المرموقين؛ بمعنى أصح أهل الثروة وأهل النفوذ. فبينما كانوا يتكلمون عن التحرر، كانوا يميلون بشدة لفعل ذلك فحسب: أي الكلام لا شيء غيره؛ لذا لم يكن هناك أي محاولة كبيرة لإجراء التجارب التي تخيلوها في أوقات فراغهم وناقشوها بصورة مطولة في عروضهم.
وخلال عقد من الزمان، انفصل عدد كبير من الأعضاء الأحدث سنا الذين كانوا مهتمين أيضا بالفلسفة والعلوم عن الأكاديمية الفرنسية لما سئموا الخطابات المطولة المضيعة للوقت التي كان يلقيها أساتذتهم الذين قضوا معظم وقتهم يتجادلون حول التفاصيل الدقيقة للكلمات الملفوظة بدلا من محتواها الواقعي. وغالبا ما يقتصر الأمر على قراءتهم أبحاثا شكلية مطولة تاركين وقتا قصيرا للتفاعل. وتلخص طبيعة الخلاف المتزايد على نحو رائع في خطاب عالم الفلك وعالم المكتبات اللامع إسماعيل بوليالدوس إلى عالمي التاريخ بيريسك وبيير دوبويس:
14 أكتوبر 1645
كنت أحب أن أرى هذه الشوارب التي تتحدثان عنها في تلك المخطوطات لكي أؤنب أصحابها. فهؤلاء الحثالة ذوو الكلمات المنمقة يسعون إلى الحكم على ما لا يفهمون. سوف تريان أن هذه الأكاديمية ستصبح حاضنة للهمجية وستكبت بكل إمكانياتها علوم اللغات والحروف؛ ذلك لأن من هم على استعداد لتحمل مشقة الدراسة قلة. وسيقتصر تعليم المفكر وقدراته على كتابة علامات الترقيم وكتابة قصائد الروندو. إنهم يستغرقون ثلاثة أسابيع أو شهرا في تناول شيء تافه يمكن حسمه في طرفة عين، ويحبون استعراض أنفسهم في صالونات سيدات باريس اللاتي يعجبن بالمظاهر. وإن خير نصيحة كانت ستسدى لرئيس هذا التجمع الشهير (المستشار سيجير ) هي فض هذا التجمع، حينئذ سيكون فعله مبررا، وسيصيبه سخط كبير بعد أن أنفق كل ما أنفق، وبعد إرساله خادما مخصوصا لاستعادة كتب قد تكون أنفع للعوام من أي شيء خرج من أيادي أولئك المفكرين.
وبعد هذا الاتهام بأن الأكاديمية كانت في الأساس مجموعة من الأشخاص المغرورين عديمي الفائدة، يخشى بوليالدوس من أن يكون قد تمادى في الإساءة ويتابع:
لكن كل هذا يقبع تحت غطاء السرية، ولا أستثني أصدقائي في اللجنة. فلا أريد أن يروا ما أكتب إليكما، بل سيكون من دواعي أسفي الشديد أن يطلع السيد دي لا موتيه الذي أوقره وهو اللبيب الذي يتذوق الأدب على هذا الجزء من خطابي. ولست أتحدث عنه ولا عن دابلانكورت.
1
سرعان ما برز أحد أسماء الذين سخطوا على الوضع القائم، وهو هنري لوي هابرت دو مونتمور. فقد اجتمعت فيه الخصال الأساسية لمجدد القرن السابع عشر. لقد كان ثريا وعلى علاقة بالدوائر الملكية، ويحب الاختلاط بأهل الفضول، وفوق ذلك امتلك منزلا في وسط باريس كان بمثابة ملتقى رائعا.
اكتسب مونتمور نفوذا بسبب كرم ضيافته، وكان هذا وحده كفيلا بتلقيه الثناء برغم وجود بعض الشكوك حول كونه ألمع عقول أهل الأرض؛ إذ ذكر أحد المعلقين أنه كان يتمتع ب «ذوق في الخطابات» وهو ما يوحي بأنه كان يعتمد على الإسهاب الذي كان مزعجا. كما اتهم كذلك بمواجهة صعوبة في التعبير عن نفسه وبأنه كان بطيئا وطيعا ولم يكن يعبأ كثيرا بواجباته.
لكن أحد معاصريه الآخرين كان أكثر لطفا، حيث ذكر أن مونتمور كان يحب قضاء الوقت مع أهل الأدب والعلم، وأنه كان ألمعيا وكتب عددا من المقالات المهمة باللاتينية.
2
لكن الإطراء انتهى عند هذا الحد؛ إذ استطرد المعلق قائلا إن أعمال مونتمور فشلت لأنه حار أمام دقائق الجدل وأحاط الغموض وعدم الوضوح بموضوعاته:
لم نر أيا من كتاباته مطبوعة، برغم ما قيل من أن كثيرا من أعماله بدأت بصبغة فلسفية. هو يدرس المنهج الديكارتي، وتقول الشائعات إنه لم يؤسس أكاديمية في منزله إلا ليرسخ هذا المنهج الجديد وينسف المنهج الأرسطي الذي وجد فيه متناقضات جوهرية.
3
القواعد والأسبقية والحقيقة
بغض النظر عن أي نقاط ضعف شخصية، وجد مونتمور نفسه في طليعة الثورة الفكرية، ويمكن اعتبار مجموعة مونتمور من جوانب عدة بداية رعاية المؤسسات للعلم. فقد أتاحت ثروة مونتمور له أن يستقطب البارعين حتى وإن كانت مواردهم المالية قليلة، بدلا من أن يقصر العضوية على هؤلاء الشغوفين والأثرياء في الوقت ذاته. وعلى هذا النحو، انضم أمثال دوني وإميري إلى هذا الملتقى تحت الرعاية المباشرة لمونتمور.
وخلال سنوات التوسع 1653-1664، كانت تلك المجموعة تجتمع بانتظام - في البداية مساء كل جمعة، لكن مع زيادة الاهتمام، باتوا يلتقون في أمسيات الثلاثاء أيضا. دعي دوني للانضمام عام 1664 ليشهد نشاط المجموعة قبل أن يبدأ في الخفوت. وكان هدف المجموعة واضحا: فقد أراد مونتمور أن يضطلع بدور ورغب في أن يشارك في جهود استكشاف آلية سير العالم الذي خلقه الرب. وفي سبيل ذلك أراد مونتمور أن يهيئ بيئة للجدال المنهجي لا يعرقلها المهتمون بالجدل على حساب تحقيق تقدم في موضوعات المناقشة. ولوقاية المجموعة من الوقوع في فخ المناهج القديمة، وضعت مجموعة من القواعد لتحكم عمل جلسات المناقشات:
القاعدة الأولى
يجب ألا تتحول الملتقيات إلى استعراض للقدرات العقلية يضيع وقت الجميع في مناقشة تفاصيل لا داعي لها، بل ينبغي للمناقشة أن تهدف على الدوام لكشف «أوضح التصورات عن خلق الرب». وينبغي أن يعزز هذا التصور القدرة على ممارسة الآداب والعلوم بخلاف تحصيل المكاسب العملية.
القاعدة الثانية
على العضو الذي يترأس أي جلسة أن يحدد موضوع الجلسة التالية. وبعدها يطلب من عضوين محددين أن يعرضا رأييهما. ويقع الاختيار عليهما لكونهما واسعي الاطلاع في مجال المناقشة. ويمكن لباقي الحضور في المجلس أن يعرضوا آراءهم.
القاعدة الثالثة
تقرأ البيانات جهرا، وتدون كتابة كذلك. وتكتب التقارير باختصار قدر الإمكان دونما إسهاب أو اقتباس للمصادر بغير ضرورة. وبمنع الاقتباس من المصادر، منعت القواعد الأعضاء من بناء الأجزاء غير المثبتة في نظرياتهم على مصدر سابق غير قابل للنقاش؛ وبذلك طعنت المنهج الأرسطي بهدوء. وهكذا، إذا طرحت فكرة، فعليك أن تدعمها بالحجة والدليل.
القاعدة الرابعة
يبدأ العضوان المتناظران بقراءة أوراقهما دون مقاطعة.
القاعدة الخامسة
بعد انتهاء كلا المتحدثين من قراءة إسهامه، يعرض كل منهما تعليقاته أو نقده أو إقراره لما قدمه نظيره. وبعد ذلك يقفل باب النقاش في هذا الموضوع في تلك الليلة ما لم يأذن الرئيس علنا باستمرار المناقشة.
القاعدة السادسة
يمكن لمن لا يستطيع الحضور أن يسلم رأيه في الموضوع المقترح كتابة.
القاعدة السابعة
يشجع الملتقى أعضاءه على مراسلة المتعلمين في فرنسا وخارجها للاستفادة منهم بخصوص الأعمال الجارية أو بخصوص الأعمال المنشورة في الآداب والعلوم. ويبلغ الملتقى بهذه المسائل في نهاية جلساته.
القاعدة الثامنة
بمجرد عقد الملتقى لا يجوز انضمام أي عضو جديد ما لم يوافق على انضمامه ثلثا الحاضرين بعد أن يقدم إليهم طلبا بانضمامه.
القاعدة التاسعة
لا يسمح بدخول غرفة الاجتماع التي تستضيف المناقشة إلا للأعضاء. ويقتصر الملتقى على المهتمين بالعلوم الطبيعية والطب ما لم يكن هناك سبب معين للسماح بحضور ضيف شرف.
لذا فبحلول القرن السابع عشر، ضمت باريس فريقين من الفلاسفة: فلاسفة المجتمع القديم الذين كانوا يلتقون برعاية سفير البندقية، وعرفوا بسلوكهم الحسن وبيئتهم المتجانسة، وفي المقابل عرف فريق مونتمور بحدة نقاشهم. ففي الفريق القديم، اقترنت الوجاهة بالمنصب، أما في فريق مونتمور، فكانت الوجاهة نابعة من الإقرار بأنك أول من قدم فكرة جديدة. وفي بعض الأحيان، كان الصراع على التقدير يتدنى بمستوى الجدل حيث يحاول أحد الأعضاء أن يهدم فكرة آخر لمجرد تخوفه من أن يكون منافسه على وشك إعلان رأي في مسألة يعمل هو فيها. فكان كل فرد يرغب في التوصل وحده إلى الحقيقة، ولم يرد أن يشارك المجد مع غيره.
وعبر حكاية القرن السابع عشر تلك، نرى أن اللاعبين المحوريين بنوا أفكارهم على ما نسميه اليوم الاستدلال المغلوط بجلاء. إلا أن هذا الأساس بدا منطقيا وقتها. وفي حالة دوني ثبت أن الفهم الخاطئ لطبيعة الدم يشكل خطرا كبيرا على كل الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بهذا الموضوع؛ وفي بعض الأحيان كانت النتائج صادمة.
منافسون في كل مكان
لم يقتصر التنافس على صالونات باريس. ففي الوقت ذاته الذي كان يناقش فيه مونتمور ودوني وأصدقاؤهما علمهم، جرى نشاط مماثل في إنجلترا. في الواقع، كان التماثل كبيرا لدرجة أن الفرنسيين زعموا أن النادي الإنجليزي اتبع نموذج أكاديمية مونتمور. وكان ذلك حقا رأي الطبيب الفرنسي صامويل سوربيير الذي زار لندن في عام 1663:
إن ملتقى مونتمور هو أصل كل النوادي التي تأسست من بعده في المملكة، وفي إنجلترا، وفي هولندا، والتي تهدف مثلنا إلى النهوض بعلم الطبيعة وتحسين الفنون الحرة وعلم الميكانيكا. فوفقا للخطة التي وضعت هنا عام 1657، أو جزء منها، يجري هذا العمل في أماكن أخرى؛ من المؤكد أن منسق ملتقانا اللامع كان أول من شجع على الدراسات التي نضطلع بها والفضول لمعرفة المزيد عن خلق الرب، والرغبة في الارتقاء بمستوى اجتهاد البشر، وهما الفكرتان اللتان غفل عنهما كثير من رجال الفكر ومعظم رجال الأدب وكل رجال المنصب تقريبا حتى ذلك الحين.
4
وكتب الشاعر والناقد الفرنسي جون شابلان - بأسلوب مشابه - إلى صديقه فرانسوا بيرنييه الذي أصبح فيما بعد طبيبا للإمبراطور المغولي الهندي سيئ السمعة أورنكزيب. وعلق شابلان قائلا إن هناك «عددا كبيرا من سادة ديجبي وموراي وغيرهم من سادة الإنجليز ذوي النفوذ» كانوا يجتمعون في لندن على نحو مشابه لملتقى مونتمور. وبالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن الملك نفسه كان يدعم المشروع الإنجليزي وأن أعضاءه كلفوا بإجراء تجارب تساعد على اكتشاف العالم المادي وفهم العالم السماوي بدرجة أشمل. لقد كان يتحدث عن الجمعية الملكية المؤسسة حديثا.
عندما وصلت تلك الأفكار إلى شمال القنال الإنجليزي عم الشعور بالغضب. وثار أحد الأعضاء المؤسسين لهذه الجماعة الإنجليزية - وهو روبرت هوك - عندما علم تلك التصريحات وغضب من الادعاء بأن الإنجليز كانوا مجرد مقلدين للفرنسيين: «ذلك الكاتب مخطئ فيما يتعلق ببدايات الجمعية الملكية ونشأتها، وهو ما كان سيعرفها معرفة أفضل إن لاحظ ما قيل عنها. لكن ذلك - على ما يبدو - لم يكن يناسب نيته أن ينسب السبق للفرنسيين.»
5
إذن لم تقتصر المنافسة على النجاح منذ بداية البحث العلمي المنظم على المشاحنات بين أعضاء ناد أو ملتقى بعينه، بل كانت تزداد حدتها عندما يكون أطرافها أعضاء في مجموعات مختلفة، بل تحتدم إن كانت تلك المجموعات في بلاد مختلفة. ولما كانت البلاد المعنية هي إنجلترا وفرنسا فقد بلغت الخصومة منتهاها.
إلا أن الوقائع الفعلية أكثر تعقيدا؛ حيث قضى أحد أهم أعضاء المجتمع الإنجليزي هنري أولدنبرج بعض الوقت يتجول في فرنسا في منتصف خمسينيات القرن السابع عشر، ومن المؤكد أنه انضم إلى أكاديمية مونتمور قبل عودته إلى إنجلترا. وبما إنه أصبح عضوا مؤسسا في نادي العلوم الإنجليزي، فيبدو منطقيا أنه ساهم بأفكار عن أساليب العمل استمدها من تجربته في القارة الأوروبية.
نظرة جديدة للقوة
حتى ذلك الوقت كانت صراعات القوة في أوروبا تحت هيمنة الكنيسة والدين المنظم. وكان وضع أساس للعلوم المنهجية إحدى وسائل كسر قيود الماضي والتقدم نحو الأمام. وبينما أجبرت الفلسفة في السابق على الركوع أمام مذبح الكنيسة، تجرأ الناس في ذلك الوقت على تصور ما لا يمكن تصوره. فمنذ عهد الباحث والفيلسوف وعالم اللاهوت الإيطالي توما الأكويني، تبنت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مذهب أرسطو. ومن ثم أصبحت تعاليم أرسطو على درجة من القداسة تقارب الإنجيل نفسه. كان التشكيك في الأفكار الراسخة لا يزال مكافئا للتشكيك في العقيدة، وقد علق كثيرون على الأوتاد وأحرقوا بسبب جريمة الهرطقة المشينة تلك. لكن ذلك لم يمنع أهل المغامرة من توسيع حدود المعرفة، لكنه أجبرهم على الحذر من الكنيسة للتأكد من أنهم لم يستنفدوا صبرها.
لا يعني هذا أن العلماء الأوائل أرادوا هجر الدين والكفر بالرب؛ بل العكس تماما. فقد كان كثيرون منهم شديدي الإيمان بالدين تحركهم الرغبة في نقل معرفتهم بالرب إلى العالم أجمع. فقد آمنوا بأن خدمة الرب على خير وجه كانت بالدراسة الدقيقة لخلقه.
الفكر الإنجليزي
من بين الأسباب التي دفعت هوك للامتعاض من الإيحاء بأن الإنجليز قلدوا الفرنسيين هو أن العلوم الإنجليزية كان لها تاريخها . ففي عام 1645، بدأت مجموعة من الفلاسفة في عقد اجتماعات في لندن. وكان من بينهم شخصيات من أمثال ويلكنز وجون واليس وجوناثان جودارد. وكان اشتراك جودارد على وجه الخصوص في المجموعة مفيدا حيث إنه كان أحد أطباء أوليفر كرومويل، وفي ظل سلطة كرومويل في البلاد، كان من المفيد استقطاب أحد رجاله إلى جانبك. وكانت المجموعة تعقد لقاءاتها أحيانا في منزل جودارد في وودستريت بلندن، وأحيانا في شارع تشيبسايد وفي بعض الأوقات في كلية جريشام. وفيما بين عامي 1648 و1649، تفرقت المجموعة؛ إذ أدت عوامل السياسة القومية وارتفاع مستويات معايشهم الشخصية إلى انتقالهم للعيش في أكسفورد أو كامبريدج أو أيرلندا.
وكان على الفريق - شأنه شأن نظيره الفرنسي - أن يحدد موقفه بالنسبة إلى أرسطو. فقد عانى الفريق الأمرين في سبيل التأكيد على أنهم لم يسعوا إلى التقليل من شأن أرسطو، حيث إن أعماله كانت تدرس في المدارس على مدار قرون وكان لها أفضل الأثر. وذكر ويليس باعتباره أحد الأعضاء المؤسسين أن أرسطو كان رجلا عظيما وباحثا فريدا في أمور الطبيعة، لكن - ولا بد من «لكن» - الحياة تطورت من بعده. واتفق الأعضاء على أنه من المستحيل أن تجتمع كل المعرفة لدى شخص واحد، ولا حتى أرسطو؛ لذا كان أمامهم ما يقدموه، وكذلك من سيأتون بعدهم.
كانت الحياة في إنجلترا في ذلك الوقت معقدة جدا. فبجانب المشاركة في الثورة الفكرية الأوروبية كان أمام كل من عاش على تلك الجزيرة بالتحديد التعامل مع ثورة فعلية. فقد اندلعت الحرب الأهلية الإنجليزية في أغسطس عام 1642، وانتهت باستسلام الملك تشارلز الأول في المقر الملكي بأكسفورد؛ وشهد العام 1649 إعدام تشارلز الأول وإعلان إنجلترا جمهورية. وبعد بضع سنوات أصبح كرومويل السيد الحامي ودخل الإنجليز في حرب مع الهولنديين، وتورطوا في صراع مع الإسبان، وكانوا تارة يدخلون في مناوشات مع الفرنسيين وتارة يعقدون معهم تحالفات، واستخدموا القوة ليفرضوا السيطرة على أيرلندا.
كان العمل والقتال يسيران جنبا إلى جنب. وفي عام 1657 ذهب رين، وهو عضو محوري من النخبة، إلى محل عمله ذات صباح ليكتشف أنه لا يستطيع الدخول:
بالأمس، الذي كان أول يوم في الفصل الدراسي، كنت عازما على إجراء تجربة [في مجمع جريشام]. لكن رجلا ببندقية أوقفني عند البوابة وأخبرني بأنه ممنوع الدخول لهذا الغرض؛ إذ تحولت الكلية إلى ثكنة عسكرية.
6
وفي عام 1660 تبدلت الأحوال السياسية مرة أخرى، واعتلى الملك تشارلز الثاني - ابن تشارلز الأول المنكوب - العرش. وعادت الملكية الإنجليزية من جديد. وحان الوقت لهؤلاء الذين قدموا الدعم المخلص للملكية لأن يتنفسوا الصعداء وأن يستفيدوا ما استطاعوا من الوضع الجديد، كما حان الوقت ليغير من ناصروا كرومويل ولاءهم وأن يغيروه بسرعة. وقد جلب البلاط الذي استعاد الملكية لإنجلترا معه الأزياء الفرنسية، وسرعان ما بث ذوقا جديدا في الألوان والمرح في المشهد الاجتماعي البيوريتاني الذي اعترته الرتابة. وسرعان ما عرف تشارلز بحبه للترفيه وكان يتواجد في بيوت الدعارة ذات المستوى الرفيع بقدر وجوده في مقر البلاط الملكي.
وبعد أن أصبحت لندن أكثر أمنا أخذت مجموعة جديدة في الظهور. وعقدت هذه المجموعة لقاءاتها أيام الأربعاء في كلية جريشام وكان من بين المجتمعين أشخاص من أمثال رين، الذي أصبح اسما مألوفا خلال فترة قصيرة. وبحلول عام 1660، بدأت المجموعة تتخذ طابعا رسميا، وطلب من الأعضاء الأربعين المساعدة في التمويل، حيث يدفع كل فرد رسم انضمام قدره 10 شلنات ثم يدفع شلنا واحدا في الأسبوع لتدبير النفقات المستمرة.
وفي 28 نوفمبر1660، بعد إحدى محاضرات رين المنتظمة أيام الأربعاء في كلية جريشام، اجتمع 14 رجلا وشكلوا نواة منظمة جديدة. وحدث التقدم الكبير بعد عدة أسابيع عندما جاء السير روبرت موراي في الخامس من ديسمبر بنبأ معرفة الملك بالجمعية ورغبته في المساعدة. إلا أن الملك لم يمنح المجموعة لقب الجمعية الملكية إلا في 15 يوليو 1662. وبدت القائمة المعلنة للعاملين بها من أصحاب المقام الرفيع مبهرة ودالة على طبيعة الجمعية. وبينما كانت تسعى بثبات إلى الاكتشاف العلمي، فقد كانت إدارتها تتم بطريقة بريطانية بحتة؛ إذ كانت طبقة النبلاء هي التي تتولى إدارتها. وإذا كان شابلان مخطئا بشأن التأثير الفرنسي للجمعية فقد كان محقا بشأن الطبيعة الأرستقراطية لأعضائها .
صاحب السمو الملكي
إننا نحن رعاياك الذين ندين لكم بالولاء، والذين اجتمعوا على ميثاق جلالتكم وتشرفوا باسم الجمعية الملكية، نتقدم إليكم بصفتكم مؤسس الجمعية المذكورة بخالص الشكر؛ إذ إنها الوسيلة الوحيدة حاليا التي يمكننا بها أن نعرب لسموكم عن الامتنان والعرفان لفضلكم، ونؤكد إجلالنا الدائم لشخصكم الموقر وإخلاصنا في خدمة جلالتكم وعزمنا الراسخ على السعي بكل إخلاص نحو الغاية التي من أجلها أسستم هذه الجمعية وعلى تحقيق التقدم في معرفة أمور الطبيعة وجميع الآداب النافعة من خلال التجارب؛ وهو منهج معروف عن جدارة بعظمته ومجده ويشتهر بتحقيقه النفع للبشرية، وهو الذي زاد من الإعجاب بكم والثناء عليكم بعد إقراره؛ وهذه الجمعية قد ذاع صيتها بالفعل وعرفت في كل بقاع أوروبا المستنيرة؛ ولا شك أن صيتها سيزداد ذيوعا مع الوقت باستمرار أفضالكم وبجهود الجمعية المكللة بالنجاح بما يرفع قدركم ويعرف برجاحة عقلكم التي دفعتكم لوضع حجر الأساس لأعظم تطور في العلوم والفنون - التي يسع أعضاء الجمعية الوصول إليها - وهو ما لم يفعله أحد من قبل؛ وذلك كي لا يشكو أحد من افتقار مثل هذا المشروع الذي يؤمل دوامه إلى مساعدة وفضل ملك قدير.
مولانا، إن ما يكفل لنا عطاء سموكم ومساعدة جلالتكم التي تزيد إصرارنا وتتعلق بها آمالنا هو أننا في الوقت المناسب سنتمكن من أن نقدم لمعاليكم هدية تختارونها ونجري تجارب مفيدة، وننفذ خطتكم الجليلة؛ إذ تحركنا دوافع قوية عديدة نحو تلك الغاية.
وفي الوقت نفسه، سندعو كل يوم أن يعمكم الرب بفضله وأن ينزل عليكم كل البركات بقدر سعة قلبكم ورفعة شأنكم وثقل حملكم وتعدد فضائلكم وبقدر آمال رعيتكم المخلصين وأمنياتهم.
7
كانت استمارة التسجيل ورقة واحدة. وكان في صدارتها اتفاق بسيط بلغة قانونية نموذجية يحدد نطاق التزامات كل عضو. وتتصدر الصيغة نفسها أول كل صفحة مع قبول الأعضاء الجدد، حتى في القرن الحادي والعشرين:
نلتزم نحن الموقعين أدناه، كل بنفسه، بالاجتهاد في سبيل تعزيز مصلحة الجمعية الملكية في لندن، والنهوض بالمعارف الطبيعية، والسعي نحو الغايات التي تأسست من أجلها الجمعية؛ وأن نحضر اجتماعات الجمعية بقدر استطاعتنا وخاصة في الانتخابات السنوية، وفي المناسبات الاستثنائية؛ وأن نلتزم بقوانين الجمعية المذكورة وقواعدها، وفي حال قدم أينا للرئيس في أي وقت إفادة مذيلة بتوقيعه بأنه يرغب في الانسحاب من الجمعية فهو في حل من هذا الالتزام في المستقبل.
8
وبعد بضعة أشهر، في 29 أغسطس، أرسلت عريضة رسمية إلى الملك تشارلز الثاني كتبت بلغة تعتبر متذللة في يومنا هذا، إلا أن الملك لم يكن يتوقع شيئا غير ذلك. ورغم أن تشارلز كان حريصا على وجود جمعية علمية في إنجلترا، فقد كان شديد الانشغال بالحفلات والسعي وراء الترفيه بما لم يمكنه من حضور لقاءاتها.
جمعية ملكية فرنسية
بينما كان دوني متحمسا لدعوته للانضمام إلى جماعة مونتمور، إلا أن هذه الدعوة سرعان ما فقدت جانبا كبيرا من جاذبيتها. ولم يكد دوني يحضر اللقاءات حتى أصبحت اللقاءات متقطعة وغير منتظمة. فقد كانت أكاديمية مونتمور في مرحلة الانهيار. وقد كانت الأكاديمية على شفا الانهيار من قبل في عام 1658 عندما شكك جيل بيرسون دو روبرفال في ذكاء السيد ديكارت، ليضرب سبب وجود الأكاديمية في مقتل. ويبدو أن روبرفال اتهم بأنه قال إن شهرة أكاديمية مونتمور كانت بسبب ثروته ونفوذه، وليس لأن لديه أي فكر يقدمه.
إلا أن الأكاديمية صمدت، لكنها في ذلك الحين كانت تواجه مشكلة جديدة. فقد ألقى الأكاديمي الفرنسي فولتير الضوء لاحقا على هذه الحقبة التاريخية في أحد خطاباته التي حملت عنوان «خطابات عن الأمة الإنجليزية» وكتبت عام 1733. فأوضح أنه في عام 1666 شعر الفلاسفة الفرنسيون بالغيرة من الجمعية الملكية؛ تلك المنظمة الجديدة التي أشار إليها فولتير باسم «ذلك المجد الجديد»؛ إذ أرادوا أن يكون لهم منظمتهم الخاصة بتكليف ملكي، وأقنعوا لويس الرابع عشر بمنحهم الإذن لافتتاح أكاديمية للعلوم. وبعد أربع سنوات من بدء الجمعية الملكية عملها، افتتحت الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا.
أما بخصوص نشأتيهما فقد ذكر فولتير بعض التعليقات البارعة على أوجه الشبه والاختلاف بين المنظمتين قائلا إن النسخة الفرنسية كانت أقوى لأنها تعلمت من أخطاء سابقتها الإنجليزية. كما طبقت الأكاديمية الملكية الفرنسية للعلوم قواعد أكثر شمولا تحكم أنشطتها؛ كانت الجمعية الفرنسية منظمة كما لو كانت جيشا عالي التدريب، ومن ثم رأى فولتير أن إنجازاتها أرفع مجدا من نظيرتها الإنجليزية التي تفتقر إلى التنظيم الجيد.
لكن الأهم من ذلك هو ما أشار إليه فولتير من أن عضوية الأكاديمية الفرنسية كان لها امتيازات كبيرة. فكان العضو يتلقى راتبا، وهو ما يعني أن الأكاديمية تقدم الدعوة بناء على الكفاءة وحدها. في المقابل، كانت الجمعية الملكية الإنجليزية تحصل رسوم عضوية من أعضائها لتتحول إلى ناد يجتمع فيه من يتوافر لديهم الوقت والمال. ورأى فولتير أن أي شخص قادر على تحمل نفقات الجمعية الملكية كان يمكنه الانضمام إليها، بينما كانت عضوية الأكاديمية الفرنسية تعتمد على الكفاءة والتعلم فقط.
وبينما كان ذلك بمثابة هدية للبحث العلمي في فرنسا، فقد كان إيذانا باندثار أكاديمية مونتمور، حيث بدل عدد كبير من أعضائها المحوريين ولاءهم. وكان هذا مصدر انزعاج لمونتمور في البداية، لكن الانزعاج سرعان ما استحال غضبا. فعلى الرغم من أنه قدم في سبيل رعاية عالم علمي باريسي جديد ما لم يقدمه غيره، لم تقدم له الدعوة للانضمام إلى النادي الملكي الجديد. فلم يكن هذا تجاهلا غير مقصود؛ بل كان إقصاء متعمدا. وأثر سوء الحظ المضاعف هذا في دوني كذلك؛ إذ لم يدع - كما لم يدع راعيه - للانضمام إلى النخبة الجديدة. وتلقت آماله في الصعود السريع على سلم الشهرة والثراء ضربة قاصمة. وكان من الضروري اتخاذ إجراء حاسم وبسرعة إذا أراد دوني أن يمنع أحلامه من الانهيار.
وعندما أراد دوني أن ينهض من عثرته، كان من الواضح أنه ينبغي أن يتوصل إلى اكتشاف ما أو يخترع شيئا ولم يكن كنه الاكتشاف أو الاختراع ضروريا ما دام نافعا سليما ولافتا للانتباه. وكان عليه أن ينكب على سلسلة من التجارب التي كان من شأنها أن تهز العالم ... أو تهز باريس على الأقل.
الفصل الخامس
التجارب الإنجليزية في نقل الدم
لو استمرت مجموعة مونتمور في عقد لقاءاتها آنذاك، لسمع دوني على نحو شبه مؤكد بالأحداث التي جرت في إنجلترا خلال العامين 1665 و1666. فقد جرت نقاشات حول العمل الجاري في إنجلترا وقتها خلال الاجتماعات القليلة التي حضرها. لكن مع تراجع نشاط تلك المجموعة قل احتكاك دوني بمجالس القيل والقال المتعلقة بالأوساط العلمية، ومع عدم قدرته على قراءة الإنجليزية بنفسه لم يكن لديه أدنى فكرة عن زيادة الاهتمام بتجارب الحقن في الدم ومحاولات نقل الدم على الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي. كذلك ليس ثمة سبب للاعتقاد بأنه كان مهتما بتلك التطورات على أي حال؛ فعلى كل كان المجال البحثي الرئيسي لدوني هو الرياضيات.
أما في إنجلترا، فقد كانت الدراسات حول الدم تجري على قدم وساق. وقد زاد من وتيرتها في الواقع إبلاغ أولدنبرج الجمعية الملكية بأن يوهان دانييل مايور، وهو طبيب ألماني، قد نشر كتابا يدافع فيه عن حقن المواد الكيميائية مباشرة في الأوعية الدموية. فقد كان ذلك العالم الألماني ملما بدرجة واضحة بتلك المسألة، فلاح خطر أن يصبح مايور هو رائد ذلك المجال على مستوى العالم. وكان الاعتزاز الوطني يملي ضرورة اتخاذ خطوات فورية. فبمجرد معرفة الجمعية الملكية بالخبر قرر عدد من الأعضاء أن ينزلوا بأنفسهم إلى هذا الميدان. وتسجل دورية الجمعية الملكية تسلسل الأحداث التي تلت ذلك:
17 مايو 1665
اقترح الدكتور ويلكنز إمكانية إجراء تجربة لحقن دم كلب في وريد كلب آخر.
24 مايو 1665
كلف كل من الدكتور ويلكنز والسيد دانييل كوكس والسيد توماس كوكس والسيد هوك بتولي تجربة حقن دم كلب في أوردة كلب آخر؛ وطلب من السيد توماس كوكس تحديدا محاولة تبديل جلد الكلبين.
وروى السيد توماس كوكس أنه قد أجرى في السابق تجربة حقن دم حمامة في وريد حمامة أخرى، وذلك من خلال فتح وريد الأولى وتركها تنزف حتى كادت تلفظ أنفاسها؛ ثم استخرج دم حمامة أخرى وحقنه في الحمامة المحتضرة، وبذلك أبقاها على قيد الحياة لمدة نصف ساعة، نفقت بعدها كما نفقت الحمامة الأخرى وإن كان بعد فترة من الوقت.
31 مايو 1665
طلب أن تجرى تجربة حقن دم الكلب في أوردة آخر صباح اليوم التالي؛ وهو ما اقترح الدكتور كرون أن يتم باستخدام أنبوب عادي لكلا الكلبين من أجل أن يسحب الدم من أحد الكلبين إلى الآخر.
ويعكس القول بأن الحيوان المستقبل «سيسحب» الدم وجهة النظر السائدة آنذاك أن أطراف الجسم تسحب الدم؛ وسيذكر العلماء اللاحقون أن الدم يضخ إلى الأطراف عن طريق القلب.
7 يونيو 1665
أعد الدكتور ويلكنز تقريرا بالتجربة التي جرت تحت إشرافه، وهي فتح بطن كلب واستخراج الدم من الوريد الأجوف بمقدار 5 أو 6 أوقيات في حوصلة يخرج منها أنبوب نحاسي صغير مثل أنبوب الحقنة الشرجية ينتهي طرفه في وريد في قدم كلبة، وجرى ضخ نحو أوقيتين من الدم في ذلك الوريد بالضغط على الحوصلة المذكورة، لكن لم يلحظ أي تغير ملموس على الأنثى.
من الصعب فهم السبب في اعتبار هذه التجربة نجاحا ساحقا، لكنه كان بالنسبة إلى المشاركين فيها خطوة إلى الأمام على الأقل. ولم يحدث شيء آخر في لندن ذلك العام؛ فقد اجتاح الطاعون المدينة في عام 1665.
محاولة أخرى
عاد لوور إلى أكسفورد وقد ضمن زوجة أخرى محتملة؛ وحاول أن يستكمل ما بدأه؛ حيث التقى وود لتتناول شرابا معه، لكن هذه المرة في مطعم بلو بور في وسط أكسفورد في 24 فبراير 1665 (أو 1666) (من الصعب تتبع التواريخ في هذه الفترة من التاريخ؛ نظرا لاستخدام تقويمين في ذلك الوقت. فعلى مدار الجزء الأكبر من القرن السابع عشر، ظلت إنجلترا ملتزمة بالتقويم اليوليوسي (الأسلوب القديم)، في حين غيرت بقية القارة إلى التقويم الجريجوري (الطراز الجديد). ويختلف كلا التقويمين في المكان الذي يضعان فيه السنة الجديدة. ففي التقويم اليوليوسي، كانت السنة الجديدة تبدأ بنهاية مارس، بينما تبدأ السنة الجديدة في التقويم الجريجوري مع بداية شهر يناير. ومن ثم، حين يكتب الرجل الإنجليزي «فبراير 1665» فإننا نفهم أنه يتحدث عن فبراير 1666. في هذا الوقت، كان الإنجليز - المعروفون ببطئهم في تبني أي أفكار جديدة تأتيهم من أوروبا - قد شرعوا في بدء العام من شهر يناير بدلا من مارس، وكثيرا ما استخدموا طريقة كتابة العامين هذه للتعبير عن السنة. ومن ثم، فإن فبراير 1665 (أو 1666) يدل على ما يدل عليه في القارة كلها 1666). وعلى الأرجح ظلت حياته الاجتماعية نسبيا كما هي، لكن العمل صار أصعب. فعلى الرغم من عودة البلاط إلى لندن في يناير، لم يعد بويل من خلوته في الريف، فكان لوور مجبرا على الاستمرار وحده. وذكر في كتابه «علاج القلب»:
لاقت محاولتي التالية نجاحا أكبر. وكنت قررت أن أقلد الطبيعة فيها على نحو أدق. فالطبيعة تجبر الدم على الانتقال من الشرايين إلى الأوردة؛ لذا فإن توصيل شريان حيوان ما بوريد حيوان آخر لم يكن سوى تمديد للدورة الدموية للأول.
وضع لوور خطته، وجمع أدواته وحدد نهاية فبراير تاريخا. ولاعتقاده أن الحدث كان على قدر من الأهمية، فقد أرسل مجموعة من الدعوات تطلب من أمثال واليس ودكتور توماس ميلنجتون ومختلف أعضاء النخبة الطبية في أكسفورد حضور «احتفاله». لم يتغيب سوى القليل، ووجد لوور نفسه محاطا بحشد من المفكرين والأكاديميين المتحمسين وواحد أو اثنين من مروجي الأقاويل. وكتب لاحقا يقول:
كانت التجربة التي أجريتها مذهلة؛ إذ انتقيت كلبا متوسط الحجم وبعد أن شللت حركته أفرغته من معظم دمه. في البداية نبح الكلب بشدة، لكن سرعان ما خارت قواه وأخذ يتشنج ويرتعش. ومن أجل إنقاذ هذا الحيوان من فقدان الدم الكبير، فقد قيدت كلبا أكبر بجانبه وثبت أنبوبا يصل بين الشريان في رقبته ووريد الكلب الأصغر.
استعاد الكلب الأصغر وعيه وواصل صراعه ليتحرر. ربما أعطيته كثيرا من الدم. على أي حال، فقد ربطت الشريان في الكلب المانح ليتوقف نزيفه، وفرغت الدم من الكلب المستقبل مرة أخرى، وذلك قبل أن أعيد ملء عروقه بالدم من كلب كبير آخر.
وبانتهاء التجربة عقدت الوريد الوداجي في الكلب الصغير وفككت قيده ونظرت ماذا سيحدث. فقفز الكلب من فوق المنضدة وبدا أنه لا يشعر بأي إصابة إطلاقا. وجرى الكلب إلى صاحبه ثم تقلب على العشب لينظف الدم غير شاعر بالألم على ما يبدو كما لو كان ألقي في مجرى مائي وحسب.
كانت الاتصالات بين أكسفورد ولندن سريعة، حيث يمكن أن يصل خطاب إلى لندن في غضون يوم واحد إذا أحضر إلى مكتب بريد أكسفورد. بيد أن الخطاب يمكن أن يستغرق خمسة أيام ليصل إلى باريس. لكن لم يكن ثمة اختلاف، فقد بدا أن لوور لم يكن في عجلة من أمره ليخطر الجمعية الملكية رسميا بالتطورات في عمله. ومن المحتمل أن ممانعته للنشر رجعت إلى سببين؛ الأول: هو أن العلماء كانوا يخشون أن يجعلوا من أنفسهم مثارا لسخرية أقرانهم بنشرهم أي شيء بناء على تجربة واحدة ثبت أنه لا يمكن تكرارها. والثاني: هو أن النشر يعني الكشف عن الأسرار والخفايا المهنية على الملأ، وسيمكن لأي عالم حول العالم أن يستغل الفرصة ومن ثم يفوز في سباق الاكتشافات المستقبلية.
ومع ذلك، كان لوور يطلع بويل على تقدمه في العمل أولا بأول بطبيعة الحال. ولم يكد بويل يعلم النبأ حتى كتب إلى عالمين آخرين، هما جون بيل، وهوك طالبا رأييهما. ورد بيل من منزله في الريف الغربي معبرا عن حماسه للفوائد العلاجية المحتملة التي قد يقدمها هذا العمل، بينما كتب هوك من لندن مقدما بعض الاقتراحات بشأن طرق جديدة لصناعة الأنابيب النحاسية وإعدادها في سبيل تحقيق قدر أكبر من النجاح في تلك التجارب.
كانت النزاهة من الأهمية بمكان لدى بويل، فعندما طلب منه في 18 أبريل 1666 خلال لقاء بالجمعية الملكية أن يتحدث عن آخر تطورات تجارب نقل الدم، لم يعط سوى جواب شديد الغموض؛ إذ كان كل ما قاله هو أنه جرى التعامل مع الصعوبات التي واجهت تلك العملية على حد علمه، وأن الأرجح أن الدكتور لوور في أكسفورد سيكون أول من ينجح فيها.
واستمر اللقاء بطرح والتر تشارلتون احتمالية أن تكون سيولة الدم وحيويته راجعة إلى التخمر الذي لا يحدث إلا داخل الأوعية الدموية. وفي هذه الحالة، فإن أي تجربة يخرج فيها الدم من هذه الأوعية ستفشل بالتأكيد؛ إذ إن الدم سيفسد . وفي المقابل، إن كان الدم يفقد حيويته عند تعرضه للهواء ، فإن التجارب يمكن أن تنجح إذا أمكن إبقاء الدم بمعزل عن الهواء. ومن المؤكد أن هذا الطرح قد قوبل بكثير من التمتمات والإيماءات المرحبة من قبل ذوي الشعر الطويل وأصحاب الشعر المستعار الذي يرتديه هؤلاء المرتبطون بصلات وثيقة مع البلاط الملكي.
لكن في الواقع، لم تستمر الجمعية الملكية في حالة الترقب هذه طويلا؛ إذ لم يستطع كل من كشف لوور حجاب السرية عنهم الكتمان، وبعد أربعة أشهر من تجربة لوور التي أجراها في فبراير، كشف واليس السر في لقاء للجمعية بلندن. وبحسب ما ذكر أوبري، كان واليس معروفا بخبثه، حيث نجح في إيجاد طريقه وصولا إلى منصب رفيع في جامعة أكسفورد عن طريق نشر شائعات كيدية عن منافسه على المنصب. ويقول أوبري إن الحيلة كانت إشاعة أن الشخص الأقرب للفوز بالمنصب - ريتشارد زوش - قد هاجم كرومويل صراحة؛ وهو اتهام خطير لم ترد الكلية أن تبدو متساهلة معه.
ولم تكن تلك هي الرذيلة الوحيدة لواليس عند أوبري؛ إذ يتهمه أوبري كذلك بحضور مناقشات مع رين وهوك وغيرهما من الأكاديميين في أكسفورد، وكتابة الأفكار الرئيسية في صحيفته ثم نشرها باعتبارها أفكاره. ربما سبب له هذا بعض المشكلات لكنه أدى لنشر الأفكار؛ فلو انتظر العالم رين ليقترب حتى من تسجيل تلك الأفكار لظل منتظرا إلى الآن؛ لذا إن كان أوبري صادقا فلن يبدو من الغريب أن يكون واليس هو من وقف في أحد لقاءات الجمعية الملكية في يونيو وقدم تفاصيل عمل لوور. وفي ضوء معرفتنا بشخصيته، فإن فعلته تلك تفتح الباب أمام احتمال محاولته تقديم تلك المعلومات باعتبارها خاصة به.
إذا كان الأمر كذلك، فقد كان من حسن حظ لوور أن بويل كان حاضرا الاجتماع. فمع طول قامته الذي كان يبلغ ستة أقدام، ومع مشيته منتصب القامة دائما، لم يكن أحد ليغفل عن حضوره خلال الاجتماعات. وكان يسافر باستمرار في عربته الخاصة إلى لندن، ويبيت عند أخته ليدي رانيلا في منزلها في بول مول. وأبقته تلك الزيارات على اطلاع دائم بالحياة في المدينة ، كما مكنته من الاستمرار في العمل في المعمل الذي أنشأه في منزل ليدي رانيلا حيث كان يعين عديدا من الخدم والغلمان للاستمرار في تجاربه أثناء غيابه. حين تحدث واليس، كانت دراية بويل بمجريات الأمور في أكسفورد تعني أنه فكر فورا في لوور. فأسرع بإرسال خطاب إلى أكسفورد، يطلب فيه بأدب لكن بكل حسم تفاصيل تجاربه. وكان على لوور أن يكتب، وأن يكتب سريعا، إذا كان له أن يعرف برائد في هذا المجال:
لندن، 26 يونيو 1666
لقد كنت حاضرا يوم الأربعاء الماضي (سيدي العزيز) لقاء الجمعية الملكية المذكور الذي عقد في كلية جريشام. وهنا سمعت من الدكتور واليس أنك نجحت أخيرا (بحضوره) في إجراء تجربة شديدة الصعوبة لنقل دم من أحد كلبين إلى الآخر. ورأيت أن هذا الحدث يستحق فعلا أن يبلغ إلى هذا الجمع الموقر؛ لذا اقترحت أن يطلبوا من السيد الموقر أن يقدم بيانا بالطريقة التي أجريت بها التجربة. ولم يكن وصفه بالذي يرفع من قدرك لدينا. لكنه عندما سئل عن التفاصيل المتنوعة لتجربة غير عادية انقطع عنها الرجاء، رد بأن الأفضل أن ترد أنت كتابة على النقاط الفردية بدلا من أن يحاول هو سردها شفاهة؛ لذا أعلنت أنك كنت قد وعدتني، قبل فترة، أنك ستشرح لي التجربة ... وقد فعلت هذا دون أي ممانعة لعلمي أن من مصلحتك أن يعرفك هذا الجمع الموقر في هذه اللحظة الملائمة. فهناك كثير من بين أعضائه يقدرونك حق قدرك وهم أصدقاؤك لكن ليس أكثر من ذلك.
تحياتي
روبرت بويل
يسلم إلى
أعز أصدقائي
ريتشارد لوور، الدكتور في الطب، أكسفورد
بالنظر إلى أن لوور أحاط عمله بالسرية لأربعة أشهر أو يزيد، فقد رد على بويل بسرعة كبيرة وتفصيل شديد. فمهما كانت دوافع واليس لهذا الكشف، فالأرجح أن لوور سر بمعرفة أن عمله كان محل نقاش في مقر العلوم الإنجليزية.
أكسفورد، 6 يوليو 1666
صديقي العزيز
لقد وصلني خطابك، واستجابة لطلبك، أقدم لك شرحا مختصرا للطريقة الكاملة لنقل الدم. فلتختر كلبا أو حيوانا ترغب في استخدامه كمانح لإمداد حيوان آخر من النوع نفسه أو من نوع مختلف بالدم، واكشف شريانا في الرقبة وافصله عن العصب الثامن، واكشف منه ما يقرب من طول الإصبع.
رد لوور دون إضاعة وقت في الديباجات وتناول الموضوع مباشرة. وكان العرق الذي تحدث عنه في خطابه هو الشريان السباتي، أما العصب المحاذي له الذي يطلق عليه الآن العصب المبهم فيعرف بالعصب القحفي العاشر. بعد ذلك، تابع لوور وصف الطريقة التي استخدمها عدد لا نهائي من علماء الفسيولوجيا التجريبية على مدار قرون تالية لإدخال أنبوب دقيق إلى الشريان أو الوريد:
اربط حبلا بإحكام حول طرف الشريان من ناحية الرأس؛ لن تحتاج إلى فكه في أي مرحلة من العملية. واربط خيطا آخر على الشريان على مسافة نصف إصبع أسفل الأول، واعقده عقدة متغيرة يمكن تضييقها وتوسيعها حسب الحاجة. وأحدث قطعا صغيرا في الشريان بين الخيطين باستخدام مشرط حاد وأدخل قصبة باتجاه القلب تاركا طرفها معلقا بحرية كقضيب خشبي. ثم أحكم الخيط الثاني وأضف إليه خيطا آخر لضمان الإحكام.
وتابع هذا الجراح الناشئ ليقدم وصفا مفصلا للطريقة التي استخدمها لوضع القصبة في الوريد الوداجي في الحيوان المستقبل للدم. وكان الاختلاف هذه المرة في أنه وضع قصبتين واحدة باتجاه الرأس والأخرى باتجاه القلب. وكانت الفكرة هي أن يفرغ الدم من الدماغ ويدخل الدم الجديد إلى القلب. بعد ذلك يوضع الكلبان معا بحيث تكون رقبتاهما متقاربتين لتقليل المسافة بين القصبتين قدر الإمكان. ووصف لوور عندئذ تجربة التفريغ وإعادة الملء وانتهى محذرا:
لكن لدي تنبيه يا صديقي العزيز وهو أن تثبت القصبات في الأوعية الدموية بأربطة محكمة قبل توصيلها معا، وإلا فإنها ستخرج مع مقاومة الحيوانين وسيتعين عليك أن تبدأ من جديد.
من الواضح أن التجارب التي ذكرها لوور بالتفصيل مجرد بعض من محاولاته، وأن الكثير من المحاولات الأخرى انتهت بفشل ذريع:
مع اكتسابي مزيد من الخبرة، صنعت مؤخرا أنبوبا فضيا لا يمزق الوعاء الدموي عند إدخاله، وله حلقة أو امتداد بارز عند طرفه. ويتيح لي هذا الأنبوب تثبيته بإحكام أكثر. ويمكن توصيل الأنبوبين باستخدام قطاع من شريان يؤخذ من بقرة أو حصان. ولهذا الشريان الوسيط مزايا عدة؛ إذ إن مرونته تجعله أقل عرضة لأن ينتزع عندما يقاوم الحيوانان. كما أنه إن انسد بجلطة يمكنك أن تضغط عليها لتخرجها إلى الحيوان المستقبل فيتدفق الدم من جديد. ويقدم هذا الخطاب المعلومات إلى الجمعية الموقرة وأثق أنها لن تجد فيها نقصا من أي ناحية.
خالص تحياتي
ريتشارد لوور
مرسل إلى الصديق الأعز
روبرت بويل، في لندن
على مدار الأشهر القليلة التالية، كرر لوور التجربة عدة مرات ونقل في كل مرة الدم بين كلبين. إلا أنه رغب في توسيع نطاق تجاربه ليرى ما سيحدث إن استخرج الدم من عدة كلاب في الوقت نفسه، لكنه شكا لأصدقائه من أن قلة الوقت والكلاب المتاحة ثبط عزمه. ودفع هذا النقص لوور في ضوء شعوره بالفضول إلى إجراء التجربة بين خروفين، وبعدها وفي لحظة أصعب، حاول نقل دم خروف إلى كلب. «وجرت التجارب بنجاح ملموس» حسبما سجل.
وبعد بضعة أشهر، كتب بويل إلى لوور رسالة أخرى وضع فيها هذه المرة قائمة من 16 مقترحا لتجاربه رأى أن على لوور أن ينفذها. وكان بويل مولعا بإرسال مثل تلك القائمة إلى الأشخاص حيث تظهر أنه قادر على التفكير في إجراء تجارب أكثر مما يتسع وقته لإجرائه بنفسه: (1)
هل يغير نقل الدم من طبيعة الحيوان؟ فماذا يحدث مثلا إذا نقلت الدم من كلب مستأنس إلى كلب متوحش، أو العكس؟ (2)
هل يظل الكلب الذي استقبل الدم قادرا على تمييز صاحبه ويتصرف كما كان من قبل؟ (3)
هل يفقد كلب الصيد الذي يمكنه تحديد الفريسة قدرته على ذلك إذا نقل إليه دم من كلب لا يمتلك تلك القدرة؟ (4)
ماذا يحدث لكلب مدرب على أداء خدع مثل إحضار العصا؟ هل يتسبب نقل الدم في فقدانه القدرة على أداء الحيل التي تدرب عليها؟ (5)
هل من علامات على أن نقل الدم يغير نبض الحيوان أو بوله أو غيره من الفضلات؟ (6)
إذا أخذ الدم من كلب تناول مؤخرا وجبة دسمة وأعطي إلى كلب جائع، فهل يفقد الكلب الجائع رغبته في الأكل؟ كان المنطق هنا أن الكلب إذا أكل لتوه فإن دمه سيكون غنيا بالكيلوس. ورغم أن بويل قبل مفهوم هارفي عن الدورة الدموية، فقد ظل معتمدا على فكرة تكون الدم من الطعام مباشرة. (7)
هل من الممكن إبقاء كلب على قيد الحياة عن طريق حقن الكيلوس باستمرار من كلب آخر؟ (8)
هل يمكن علاج كلب باستبدال دم حيوان آخر سليم بدمه؟ أو هل يمكن في تلك النقطة أن يصاب الحيوان السليم بمرض غير معد بإعطائه دما من حيوان مريض؟ (9)
ماذا يحدث إذا أعطيت كلبا عجوزا دما من كلب يافع؟ هل يؤثر ذلك على حيويته وبلادته وحساسيته وما إلى ذلك؟ ماذا لو تم العكس؛ أي إعطاء دم العجوز لليافع؟ (10)
إذا أعطيت كلبا صغير الحجم دما من كلب ضخم، فهل يبدأ حجمه في الزيادة على نحو مفاجئ؟ (11)
هل يمكنك حقن الخمر المخلوط بمواد علاجية مع الدم؟ وهل يختلف الأثر عندما يجري حقن الخمر وحده أو عند تناول الدواء عن طريق الفم؟ (12)
يمكن إجراء سلسلة من التجارب لمعرفة ماذا يحدث إن أعطيت مادة مسهلة لحيوان ثم نقلت دمه إلى حيوان آخر. (13)
هل يمكنك تبديل الدم بين حيوانين من نوعين مختلفين مثل الكلب والعجل؟ وماذا يحدث إن أخذت الدم من سمكة أو ضفدع أو سلحفاة ذات دم بارد وأعطيته لحيوان من ذوي الدم الحار؟ (14)
هل يغير نقل الدم من لون شعر الحيوان أو ريشه ليتحول إلى لون المانح؟ (15)
إذا نقلت الدم بين نوعين مختلفين على نحو متكرر فهل يتغير نوع الحيوان؟ فهل يمكن مثلا أن يتحول الكلب الرمادي الأيرلندي إلى كلب رمادي عادي؟ (16)
هل يمكنك نقل الدم إلى الكلبة الحامل، وما أثر ذلك على جرائها؟
شكل 5-1: رسم يوضح القنية (الكانيولا) في كتاب «علاج القلب» (ريتشارد لوور). نسخ بتصريح من قسم المقتنيات الخاصة بمكتبة لين الطبية، جامعة ستانفورد.
اقترح بويل كذلك تحديد وزن المانحين والمستقبلين قبل نقل الدم وبعده باعتبار ذلك وسيلة لتحديد كمية الدم التي جرى نقلها بنجاح.
كما لفت إلى نقطة أخرى كذلك، وهي التأكيد على أن النتائج السلبية كانت على نفس أهمية النتائج الإيجابية. فغالبا عندما يفشل شيء، فإن العلماء يتجاهلونه ويواصلون عملهم، ولا يهتم الناشرون من جانبهم بذكره في دورياتهم؛ لأن الاكتشافات السلبية ليست مثيرة جدا للاهتمام. وكانت لدى بويل ثقة داخلية في مصداقية العلماء الذين عمل معهم. وبغض النظر عن أي شيء فإن اكتشافاتهم السلبية ستدع الوسط العلمي يدرك أن مواصلة البحث في منطقة معينة من المستبعد أن تكون مثمرة.
المداولات الفلسفية
قبل عام، أي في عام 1665، كان أولدنبرج قد بدأ مشروعا سيربط على نحو مؤكد بين ما يجري في إنجلترا وجهود دوني في باريس. ففي تلك المرحلة، لم يكن أولدنبرج يتقاضى أجرا من الجمعية الملكية نظير خدماته المكتبية، وكان يسعى لتوفير مصدر للدخل. وكان رأس ماله يكمن في قدرته على القراءة والكتابة بجميع اللغات الرئيسية المستخدمة في الأوساط العلمية الأوروبية؛ وكان طليقا على نحو خاص في اللغات الألمانية والفرنسية والإيطالية. كما كانت لديه دائرة واسعة من أصدقاء المراسلة الأوروبيين. ومع اهتمام بويل بجمع الأفكار من الدول الأخرى وامتلاكه الثروة التي تمكن من دفع مقابل تلك الأفكار، صار مصدر دخل ثمين، إذ كثيرا ما كان يستعين بأولدنبرج كمترجم ومصدر للأخبار والآراء العلمية.
لكن أولدنبرج كان يطمح للمزيد. فهل يوجد شيء أفضل من أن يسجل كل الأفكار المذهلة وينشرها في دورية ترسل إلى القراء الذين يدفعون المال؟ لقد كان موقعه متميزا من الناحية الجغرافية؛ إذ كانت تجارة الكتب في ازدهار وكانت لندن أحد أكبر مراكز النشر في أوروبا.
بصفة أولدنبرج أمين سر الجمعية الملكية، كان يشغل منصبا مثاليا مكنه من الاطلاع أولا بأول على آخر الأعمال. وكان يأمل أن تجمع هذه الدورية كل الأفكار والمفاهيم الهامة التي كانت تتولد لكنها كانت عرضة للضياع. وكان حلمه أن تعرف دوريته على مستوى العالم إن اضطلع الناشرون بتوزيعها عبر أوروبا، وتحول هذا الحلم تدريجيا إلى حقيقة. ومكنت الدورية الباحثين في البلاد البعيدة من الاستفادة من الاكتشافات الإنجليزية. كما كان أولدنبرج يأمل - مع تنامي شهرة الدورية - أن يعترف بأنها منشور يمكن للعلماء من خلاله إثبات أنهم أول من أجروا تجربة ما أو وضعوا نظرية ما. فعلى عكس واليس ومشاريعه في النشر، كان أولدنبرج حريصا على أن ينسب الفضل إلى أهله.
كانت رؤية أولدنبرج هي أن تكون الدورية خاصة به وليس بالجمعية الملكية وأن تنشر أبحاث الأعضاء في الجمعية وغير الأعضاء. وبما أنه كان أمين سر الجمعية الملكية، فقد كان يحمل على عاتقه مسئولية يومية متمثلة في تسجيل ما يقال في اللقاءات، بل تلقي الخطابات والتعليقات من أنحاء العالم. كما كان يكتب المراسلات بمعدل كبير، وكان يزعم أنه لم يكن يفتح خطابا إلا وفي يده قلم لكتابة الرد. ومما ساعد أولدنبرج في دوره بوصفه مراسلا دوليا أن ميثاق الجمعية الملكية جعل من تلك المراسلات الدولية إحدى السمات الرئيسية للجمعية. وكانت قدرات أولدنبرج اللغوية تساعده نسبيا في ترجمة الخطابات والدوريات الأجنبية واختيار أكثرها تشويقا لينشرها في دوريته.
وكان الهدف من الدورية مذكورا في عنوانها: «مداولات فلسفية: عرض للأبحاث والدراسات والأعمال الجارية على يد العباقرة في مختلف أنحاء العالم». ومع ذلك، كان بعضهم لا يزال يظن أنها نشرة الجمعية الملكية؛ لذا وفي العدد الثاني عشر المنشور في 7 مايو 1666، ذكر أولدنبرج صراحة انتماء الدورية إليه:
بعد ملاحظة أن أشخاصا عدة يقنعون أنفسهم بأن هذه «المداولات الفلسفية» تابعة للجمعية الملكية ... فقد رأى كاتبها أنه من المناسب أن يعلن أن هذا الاقتناع - إن كان له وجود فعلي - هو محض خطأ، وأنه بدأ، ويواصل، كلا من كتابة الدورية ونشرها على نفقته الخاصة.
لقد كان العدد الأول من الدورية هو العدد الذي اشتمل على وصف لوور لطريقته في نقل الدم بالكامل. والوصف المنشور خطاب لوور إلى بويل بجانب وثائق إضافية تشير إلى أن بويل شاهد عمل لوور مباشرة.
أصبح خطاب لوور إلى بويل علامة بارزة في التاريخ، ووضع لوور في بؤرة اهتمام الجمعية الملكية الجليلة. ويلخص لوور فيه أفكاره حتى حينه بجانب رأيه الذي مفاده أن أكبر ميزة لتجربته هي إمكانية «أن يعيش حيوان على دم حيوان آخر». وكانت تبعات ذلك أنه يمكن التبرع بالدماء الجديدة لأي حيوان يحتاج إلى مزيد من الدم وأن استبدال «الدم الفاسد» بدم سليم يمكن أن يعالج كثيرا من الحيوانات المريضة.
لم يكن نشر التجربة يعني أن طريقة لوور سجلت في الدورية المعروفة وحسب، بل كان يعني أن تفاصيل إجراء تجربة ناجحة قد انتشرت عبر أنحاء إنجلترا، بخلاف إرسالها إلى العلماء المشهورين وذوي المقام الرفيع في مختلف بقاع أوروبا. وأصبح من الممكن لكل من يرغب أن يجري التجربة ما دام يستطيع أن يقرأ الإنجليزية. وسرعان ما شمل ذلك كلا من دوني وإميري.
في بعض الأحيان، يمكن أن تصاب بالإحباط من مجرد رؤية الآخرين يكررون عملك، ولا سيما عندما يستخدمون معلوماتك ليسبقوك إلى الخطوة التالية من الاكتشاف. لكن التأكد من إمكانية تكرار التجربة مبدأ أساسي في البحث العلمي. فالصدفة والملاحظة الفريدة قد تكون مذهلة، لكنها لن تكون ذات قيمة إذا لم يمكن تكرارها. ومن ثم، من أهم واجبات العالم أن يعرض وسائله ونتائجه بوضوح، بحيث تسمح للآخرين بالاختبار للتأكد من أن النتائج متطابقة. ويمكن لمقارنة الاستنتاجات المختلفة أن تبين أي النتائج كانت صدفة كما تمنع المبالغة أو الاحتيال.
النار وشعلة العمل
في غضون أسبوعين من الإعلان عن عمل لوور، كان الباحثون في لندن يحاولون نقل الدم بأنفسهم ويطلبون من أصدقائهم الحضور للمشاهدة. وفي ذلك الوقت، قبل ويليس وظيفة لدى جلبرت شيلدون - رئيس أساقفة كانتربيري - واستقر في شارع سانت مارتنز لاين، الذي تفصله مسافة قصيرة عن مسكن بويل في لندن في بول مول. ولأن ويليس لم ينس الرجل الذي مكنته مهاراته من النجاح في عمله، فقد ضغط على الجمعية الملكية لتدعو لوور إلى الانتقال إلى لندن والعمل كمسئول التشريح لديها. وقبل لوور - مسرورا هذه الفرصة الجديدة - ووجد مكانا يقيم فيه في هاتون جاردن قبل أن ينتقل إلى كوفنت جاردن في قلب المدينة الصاخبة.
كان ذلك عام 1666، وكان الكثيرون يتحسبون من سوء الطالع؛ فالرقم 666 يرمز في الإنجيل إلى الوحش، وهو الرقم الذي أقلق بوتر كثيرا. بينما كان الآخرون يواسون أنفسهم؛ فقد تجاوزوا لتوهم أسوأ موجات الطاعون التي عرفتها البشرية، وهؤلاء الذين نجوا كان مقدرا لهم النجاة. فما الأسوأ من ذلك؟! لكن عندما اندلع الحريق في الثاني من سبتمبر وظل مشتعلا إلى السابع من سبتمبر وجدوا الإجابة. وبدا من الثابت للكثيرين أن الشيطان كان يصب جام غضبه على المدينة.
في مساء الأول من ديسمبر، خلد سكان لندن إلى النوم كالمعتاد. كانت الفوضى تضرب أطنابها في المدينة، ورغم وجود قانون يقضي بأن تبنى البيوت من الحجارة ويكون لها أسقف من ألواح صخرية فقد كان كل شبر في المدينة مليئا بالبيوت المبنية بالعوارض الخشبية والقش. وأدت الرغبة في بناء بيوت أكبر على مساحات أصغر من الأرض إلى أن وضع الحرفيون المهرة طريقة يبرز فيها كل طابق مسافة قدم أو اثنين عن الطابق الذي أسفله، مما أدى إلى اتساع الطوابق العليا وإظلام الشوارع وتعفنها. وفي أماكن عديدة، لو صعدت الدرج في منزل إلى الطابق الثالث - بل إلى الطابق الرابع في بعض البيوت - كان يمكنك أن تفتح النافذة وتصافح جارك في المنزل المقابل. ربما وفر هذا طريقة لاستغلال كل الفراغ المتاح، لكنه كان طريقة مؤكدة لانتقال الحرائق من منزل إلى آخر.
وبحسب ما كتب بيبيس، اندلع الحريق في الليل بعد موجة طويلة حارة وجافة:
2 سبتمبر 1666
كان بعض الخادمات مستيقظات حتى وقت متأخر من الليلة الماضية للإعداد للوليمة التي نقيمها اليوم؛ أيقظتنا جين في حوالي الثالثة فجرا لتخبرنا أنهن رأين حريقا هائلا في المدينة؛ لذا نهضت وارتديت ثياب المساء وذهبت لنافذتها، وظننت أن الحريق عند أقصى نهاية شارع ماركيلين؛ لكني ومع عدم اعتيادي على الحرائق على النحو الذي أعقب ذلك، فقد رأيت أنها بعيدة بما يكفي؛ لذا عدت إلى الفراش وواصلت النوم.
وتحولت هذه الاستهانة إلى ذهول، عندما أخبرته خادمته في السابعة صباحا أن 300 منزل احترقوا في أثناء الليل. وزاد ضيق بيبيس عندما ركب قاربا في نهر التيمز واكتشف حجم الحريق. وعندما التقى صديقه ملازم برج لندن، اكتشف بيبيس أن الحريق بدأ في منزل خباز الملك في بودينج لين. وفي منتصف فترة ما بعد الظهيرة، بدأ جنود الجيش في تفجير المنازل لعزل الحريق، ونجحوا في منع الحريق من الوصول إلى البرج. وبعد خمسة أيام ملأ الدخان نهارها وأضاء اللهب ليلها، أمكن السيطرة على الحريق، لكن ليس قبل أن تحترق كنيسة القديس بولس ومعها 13 ألف مبنى تضمنت 97 أبرشية وبضائع قدرت وقتها ب 3,5 ملايين جنيه استرليني دمرت تماما. ومن اللافت أن الحريق توقف قبل مسافة قصيرة من منزل بيبيس.
ورغم أن ستة أشخاص فقط هم من لقوا مصرعهم على إثر الحريق مباشرة، فقد اجتاح الناس موجة من رهاب الأجانب؛ وهي صورة مبكرة تقريبا من التطهير العرقي. وانتشرت شائعة عن أن الحريق نتج عن مؤامرة خسيسة، وقتل عدد كبير من الأجانب، خاصة من الهولنديين، دون محاكمة.
لم يشهد لوور هذا الدمار، حيث كانت لديه مشاغل أخرى ليهتم بها - بالتحديد بحثه عن زوجة - وهو ما تطلب رحلة أخرى إلى كورنوول. وخلال غيابه، اقترعت الجمعية الملكية في 17 أكتوبر لقبول انضمامه زميلا للجمعية، وفي 17 نوفمبر، تزوج إليزابيث بيلينجز - وهي سيدة كانت تمتلك أرضا. هكذا، بات يتمتع بصيت أكاديمي ذائع، ودعم مادي من الأملاك بالقرب من تريميير في كورنوول؛ لذا كان عائدا إلى ما تبقى من لندن أواخر ذلك العام بشعور بالانتصار الكبير.
ونظرا لتدمير ستة من بين كل سبعة منازل داخل أسوار المدينة، خلق حريق لندن أزمة سكن. فيما نجت كلية جريشام، التي كانت في موقع البرج 42 الآن (والمعروف سابقا ببرج ناتويست)، من الحريق وأصبحت من الأصول القيمة؛ بل ربما كانت قيمتها أكبر من أن تشغل الجمعية الملكية مساحة كبيرة منها. ومع تحول مبنى سوق الأوراق المالية إلى أنقاض، انتقل هذا القلب المالي للمدينة إلى ذلك الموقع طاردا العلماء خارجه ما بين عشية وضحاها. لكن برز متبرع جديد، وهو هنري هاورد الذي أصبح لاحقا الدوق السادس لنورفولك؛ إذ لم يمس الحريق ممتلكاته هو الآخر، فدعا الجمعية الملكية للانتقال إلى أرونديل هاوس - المتفرع من طريق ستراند، وهو الموقع الذي تقع فيه كلية الملك (كنجز كوليدج) في الوقت الحالي.
أتاح أرونديل هاوس للجمعية موقعا جيدا لعقد اللقاءات والمناقشات، إلا أنه لم يكن مناسبا لأي أعمال تشريح؛ لذا استأجرت الجمعية غرفة صغيرة وقريبة تقع في مواجهة نهر التيمز، وكانت مكانا مناسبا لأن يجري لوور فيها تجاربه في التشريح.
شكل 5-2: كلية جريشام. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
شكل 5-3: أرونديل هاوس. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
وفي ظل سعي نخبة لندن نحو الترفيه، فقد كانوا يطلبون إجراء التجارب، وسرعان ما أصبح نقل الدم حديث المدينة. ولم يمر وقت طويل حتى عاد بيبيس للكتابة عن تطوراته وذلك مع عودة العلوم للخروج من وراء حجبها إلى المجال العام:
14 نوفمبر 1666
أخبرني الدكتور كرون هنا في بيت بوبهيد العام أن هناك تجربة رائعة أجريت في لقاء بكلية جريشام الليلة
1 (وهو ما يبدو أنه يعقد من جديد حاليا كل أربعاء) جرى فيها إفراغ دم كلب (إلى أن مات) في جسم كلب آخر كان ينزف دمه من الناحية الأخرى. مات الأول في مكانه، والثاني حالته جيدة، ومن المرجح أن يظل في حالة جيدة. وفتح هذا الباب أمام أمنيات عديدة مثل نقل الدم من دجال إلى أسقف وغير ذلك. لكن وكما يقول الدكتور كرون، إذا نجحت العملية فستكون ذات فائدة كبيرة لصحة الإنسان ولعلاج الدم الفاسد بالاستعانة بالدم من جسم أصح.
زيارة للمسرح
كان أعضاء الجمعية الملكية الأساسيون يعتبرونها مكانا للتعلم الجاد. فقد كانت مؤسسة يسلط فيها الضوء على الاكتشافات الجديدة، حيث يمكن طرح الأفكار الجديدة وتحديها، ويمكن عرض التجارب المثيرة للاهتمام. أما العامة، فكانوا يرونها لغزا ومصدرا للتسلية التامة؛ وكانوا يستوعبون النظرة المعاصرة للعلماء باعتبارهم أشخاصا مصابين بشيء من الجنون، يرتدون سترات بيضاء وتثير اهتمامهم الشديد تفاصيل لا يمكنها أن تلفت انتباه الأشخاص «الطبيعيين». ويشكو العلماء المعاصرون من أنهم نادرا ما يؤخذون على محمل الجد، ويبدو أنهم يظنون أن تراجع مكانتهم في أوساط العوام شيء جديد. لكن حالة قلة تبجيل العلماء تلك قديمة قدم العلماء أنفسهم. وقد كتب بيبيس في إحدى المناسبات أنه قضى يوم 1 فبراير 1663 (أو 1664) ساعة أو اثنتين ممتعتين ساخرا من السير ويليام بيتي، وهو يحاول عرض أفكار جديدة عن القوارب. وذكر بيبيس أن الملك شارك ضحك ساخرا من أن أعضاء الجمعية قضوا معظم وقتهم منذ إنشائها محاولين قياس وزن الهواء؛ وهي مهمة من الواضح أنه رآها مضيعة للوقت!
وبعد عشر سنوات، سخر الكاتب المسرحي توماس شادويل من نقل الدم في مسرحيته «الباحث». وحضر الملك تشارلز الثاني أحد العروض الأولى لفرقة الدوق المسرحية عندما قدمت إلى مسرح جلالته الملكي في 25 مايو 1676، واستمتع تماما بالطريقة التي سخرت بها المسرحية من الجمعية الملكية بصفة عامة، ومن بعض التجارب المعينة بصفة خاصة. وتعكس أسماء الشخصيات - السير فورمال ترايفل (وتعني السطحي التافه) والسير صامويل هارتي (وتعني الحماسي المتقلب) وسنارل العجوز (وتعني المزمجر) وشخصية السير نيكولاس جريمكراك المحورية (وتعني الشق المظلم) - نظرة شادويل للجمعية. ويشبه اسم جريمكراك كلمة «جيمكراك» الإنجليزية التي تعني البهرجة أو الحلية عديمة الفائدة، حيث كانت الشخصية لرجل هاو يعبث بالأفكار والأشياء عديمة القيمة. وهذه الشخصية على الأرجح تتلقى الإلهام من بويل وتقضي أغلب الجزء الأول للمسرحية منشغلة بقياس وزن الهواء. ويتهكم شادويل من الفكرة بإعطاء جريمكراك قبوا مليئا بزجاجات النبيذ تحوي كل منها هواء من أماكن مختلفة؛ وإن أراد جريماك أن يغير المشهد من حوله فليس عليه إلا أن ينزع السدادة ويسكب ما في الزجاجة.
وتركيزا للنص على العمل الجاري في الجمعية الملكية، يتابع شادويل المسرحية ليتناول نقل الدم ويقدم تجربة أجراها توماس كوكس في 4 مارس 1667، وقرأها على الجمعية بعد شهر.
السير نيكولاس جريمكراك: ... كما أنني وإن لم أكن أول من ابتكر نقل الدم فقد حققت نتائج مذهلة بأداء هذه التجربة؛ وذلك بنقل دم حيوان إلى آخر.
السير فورمال ترايفل: أشهد أنه نهض بنقل الدم إلى قمة الكمال وسبق كل الباحثين في تلك النقطة. لقد رأيته وهو يحقق نتائج مذهلة على حيوانين: أحدهما حيوان مستأنس من نوع البولدوج السليم. فلتتكرم سيدي بنشر الخبر.
السير نيكولاس جريمكراك: إليكم السبب يا سيدي في جعل كلا الحيوانين مانحا ومستقبلا في الوقت نفسه؛ فبعد أن ربطت الضمادات بأقصى إحكام ممكن (حذرا من أن يختنق الحيوانان) من أجل أن يتضخم الوريد الوداجي، فتحت الشرايين السباتية والأوردة الوداجية في كليهما وجعلتهما يتبادلان الدم.
السير فورمال ترايفل: لقد كان ما تلا العملية معجزة؛ إذ شفي الكلب السبنيلي المصاب بالصفراء وأصيب الكلب البولدوج بالصفراء.
السير نيكولاس جريمكراك: ليس هذا وحسب أيها السادة؛ فقد استحال الكلب السبنيلي كلب بولدج وتحول البلودج إلى كلب سبنيلي.
السير فورمال ترايفل: وهو ما يستحق أن يكون من العجب بالنظر إلى السلوك المهذب والذكي للكلب السبنيلي وتعليمه مقارنة بالطبيعة البربرية القاسية وغير المدربة لكلب البولدوج.
بروس: إنها تجربة تستحق أن يبنى لك بها تمثال.
2
عند هذه المرحلة، لم يكن الجمهور يعرفون أيضحكون أم يبكون؛ أيسعدون بالنتيجة المذهلة أم يخافون من أن يفكر أي شخص في إجراء تلك التجربة. لقد كان كثيرون على دراية بتجارب الجمعية الملكية لكن التفاصيل كانت ضبابية لديهم. ولم يكن من السهل معرفة الحد الذي انقلبت عنده الحقيقة إلى سخرية. لكن كوكس في الواقع ذكر أن الكلب السليم لم يتأثر بنقل الدم، وأن الكلب المصاب بالصفراء شفي خلال 10 أيام من العملية.
تجارب إدموند كينج
في 18 أبريل 1667، قرأ إدموند كينج تقريرا على الجمعية الملكية. وفصل كينج في هذا التقرير آخر تطورات نقل الدم، زاعما أنه وجد طريقة أكثر أمانا لإجراء تلك العملية. كان كينج طبيبا ناشئا في الثامنة والثلاثين من عمره وكان حديث الزواج. وكان قدره يزداد رفعة لدى كثيرين، وسرعان ما أصبح ضمن دائرة الملك من الأطباء الشخصيين. في الواقع، جاء السبب الرئيسي لشهرته بعد بضع سنوات عندما هرع إلى فراش الملك وقرر أن يجري له الفصد قبل وصول أي طبيب آخر ليعطي استشارات أخرى. ونجا تشارلز الثاني، وصار إدموند كينج بطلا، وقد منحه مجلس بريفي (وهو مجلس استشاري) مكافأة قدرها 1000 جنيه استرليني. وبالنظر إلى موارد تشارلز المالية المحدودة لم يكن من الغريب أن إدموند لم يتلق المكافأة.
أجريت التجربة، حسبما شرح كينج للأعضاء المجتمعين، في 29 مارس 1667. فبعد أن دفع 50 شلنا مقابل عجل متوسط الحجم و33 شلنا وأربعة بنسات لشراء أكبر خروف رآه، أخذ كينج الحيوانين إلى منزله. وكانت فكرته هي العودة إلى نقل الدم من الوريد للوريد. كان لذلك ميزتان؛ الميزة الأولى: هي أن الأوردة يسهل الوصول إليها دون الحاجة إلى جراحة كبيرة. والميزة الثانية: هي أن الدم لا يتدفق في كل مكان في حالة ارتكاب خطأ على عكس ما يحدث في حالة الشرايين.
وبدأ كينج بتفريغ 49 أوقية من دم الخروف. وعند هذا الحد، ظن المراقبون جميعا أن الحيوان الضعيف قد فقد وعيه. وكان كينج يأمل أن يتسبب إحداث هذا النقص في امتصاص الخروف الدم من العجل بمجرد توصيل أوردتهما معا. وبعد وضع الأنبوب الموصل انتظر لخمس دقائق أملا في أن يكون هذا وقتا كافيا لنقل كمية أكبر من الدم من الأوقيات التسع والأربعين التي فقدها الخروف. بعدها نهض الخروف وتحرك وبدا أنه سليم.
ربما لفتت التجربة إلى طريقة أكثر أمانا لنقل الدم، لكنها لم تنفع الخروف. وبعد انتهاء تلك المرحلة من التجربة، أراد كينج أن يرى ماذا يحدث إذا أفرغ دم الخروف كله. وكما هو متوقع نفق الخروف. لكن كينج أخبر الجمعية الملكية «أن الخروف بدا لونه أبيض جميلا وكان لحمه ألذ من المألوف بحسب رأي كثيرين ممن أكلوا لحمه.»
وبعد أن تخلص كينج من الخروف، التفت إلى العجل. كان العجل في حالة غير مستقرة حيث كان نصف دمه قد فقد أو نقل إلى الخروف. وصعب ضغط الدم المنخفض على كينج استخراج مزيد من الدم من الوريد. يقول كينج: «عندها فتحت الشريان السباتي». كانت الفوضى الناتجة كبيرة، حيث اندفع الدم في جميع أركان الغرفة. وبرغم أن العجل قد قيد بإحكام، فإنه كان يقاوم، مرسلا كل دفقة دم إلى موضع مختلف. مع ذلك ، ذكر كينج أنه تمكن من جمع 25 أوقية من الدم قبل أن ينفق العجل. على الناحية الأخرى، كان لحم العجل شاحبا وأبيض، تماما مثلما كان الحال مع الحمل، وكان كل من اجتمعوا لفحص الجثة على يقين أن اللحم كان أكثر بياضا عما ينتج عن طرق الذبح العادية.
ولم تشمل التجربة التالية التي وصفها كينج سوى كلب ماستيف عاثر الحظ. ففي 4 أبريل 1667، أفرغ كينج 18 أوقية من دم الكلب، وأراد عندها أن يحقنه بالقدر نفسه من اللبن الدافئ المذاب فيه بعض السكر. ومن الواضح أن كينج كان يعمل تبعا لفرضية أن دور الدم هو توزيع المواد الغذائية على الجسم؛ وهي فكرة منطقية جدا وكانت صحيحة جزئيا على الأقل. إلا أن التجربة لم تجر كما خطط لها. بداية، انتشر اللبن في جسم الحيوان بنحو أسرع مما أراد كينج. وبعدها أصبح الكلب أكثر اضطرابا وكافح ليتحرر من قيوده. وبعد مرور بضع دقائق هدأ الكلب، بعد أن استنفدت طاقته على الأرجح لتخور قواه سريعا، وهو ما مكن كينج من حقن اللبن المتبقي.
انتهت التجربة، وحل كينج قيود الكلب الذي قفز من فوق الطاولة ومر بخفة من جانب كينج. لكن لم يدم هذا النجاح طويلا؛ إذ «مرض الكلب بشدة وقصرت أنفاسه لدرجة أني خشيت أن يموت. لكن بعد أن تقيأ مرة أو اثنتين خرج فيهما بعض الدم، استعاد نشاطه.» وبأخذ عينة من دم الكلب لمعرفة ماذا يجري بالداخل، وجد كينج أن الدم واللبن لم يختلطا، رغم أنه ظن أنهما سيختلطان مع الوقت. بعد سبع ساعات، فوجئ كينج بأن الكلب فقد السيطرة على أطرافه، لكنه استجاب عند التحدث إليه بلطف. وبعد ثلاث ساعات أخرى، دخل الكلب في غيبوبة، وكانت حركته الوحيدة هي التنفس. وفتح كينج فمه وأعطاه مقدار كوب جعة من الطعام المفيد السائل، بعدها انتهت معاناة الكلب وفارق الحياة.
وقتها كانت الساعة العاشرة مساء، وكان الظلام دامسا فلم يستطع كينج أن يقوم إلى الكلب ليرى ما حدث داخل جسمه؛ لذا قرر أخذ قسط من الراحة والنوم ثم تشريح جثة الكلب في الصباح التالي. لكن بحلول الصباح، واجه كينج مشكلة كبيرة؛ وهي ظهور رائحة نتنة شديدة. لقد كانت الفضلات البشرية وكل أشكال الفضلات الأخرى تتجمع في برك متعفنة في شوارع لندن وتتدفق بكميات كبيرة في بالوعات الصرف الصحي المفتوحة. لكن تلك الرائحة كانت أشد من رائحة هذه الفضلات. لقد فر حارس منزل كينج - وهو رجل كان قد اعتاد على الروائح النتنة والمشاهد القبيحة - من الحجرة، مصابا بالغثيان. قرر كينج أن يجلس وينتهي من فحصه. وخلص إلى أن الدم واللبن لم يختلطا جيدا، وأنه إذا جرى الحقن باللبن، يمتلئ القلب بالدم المتجلط، ويفشل الدم في الوصول إلى الرئتين على نحو صحيح. وكانت المثانة فارغة، رغم أنها كانت منقبضة إلى أقصى درجة. وكان أي طبيب شرعي في القرن الحادي والعشرين سيقول إن الخليط أنتج جلطات دموية كبيرة سدت مسار الشعيرات الدموية الدقيقة، وهو ما أصاب الكلب بسكتة دماغية وأزمة قلبية حادة.
وبينما كان أعضاء الجمعية الملكية يستمعون لرواية الأحداث المدعمة بالرسوم كان كثيرون منهم مقتنعين بأن حقن الطعام سيكون صعبا لكن حقن الدم هو الطريق المتوقع نجاحه. وبدا واضحا أن كينج كان يرى ذلك، حيث إنه وبعد تسعة أيام - في 14 أبريل - أجرى محاولة أخرى.
هذه المرة عاد كينج إلى نقل الدم، وأجريت التجربة على خروف وعجل آخرين. مرة أخرى في منزله، بدأ كينج بإخراج الدم من الخروف. وسارت العملية على نحو جيد لدرجة أن كينج تمكن سريعا من استخراج 45 أوقية من الدم، وتيقن المتابعون أن حالة الخروف لم تعد قابلة للشفاء، لكن لم يكن ذاك هو الحال؛ إذ تمكن كينج - كالساحر - من إعادة الحيوية إلى الخروف بنقل الدم إليه من العجل، ثم ترك الخروف ينزل عن الطاولة. عندها عم الاضطراب؛ إذ كان أحد الحضور قد أحضر كلبه معه؛ وقررت الشاة أن تهاجمه «ونطحت الكلب ثلاثا أو أربع مرات، غير عابئة على ما يبدو بما مرت به خلال التجربة.» لقد كانت الشاة حالة نادرة لدى كينج؛ إذ إنها ظلت على قيد الحياة، وكان مسرورا برؤيتها حية جيدا.
وفي 30 مايو 1667، كان كينج مستعدا لتجربة أخرى؛ وكانت التجربة هذه المرة بين خروف وكلب. إلا أن الأمور لم تجر على نحو جيد في هذه المرة. فعندما نقل دم الكلب إلى الخروف، لم يفعل الخروف سوى أن رقد في معاناة وصلت شدتها لدرجة أن كينج وجميع المشاهدين من أصدقائه ظنوا أنه على وشك النفوق. وكان استنتاجهم أنهم أعطوا الخروف جرعة زائدة من الدم تفوق ما يمكنه تحمله. ظلوا يشاهدون، وينتظرون، ثم عاد معظمهم إلى بيته. ومع قدوم اليوم التالي كان الخروف قد تعافى وراح يأكل التبن، رغم أنه بدا غير راغب في قضاء الوقت مع غيره من الخراف في الحظيرة. وبعد ثلاثة أيام نفق. أما تفسير الموت، فكان من الواضح - كما قال كينج - أن الخروف لم يكن بحالة جيدة قبل التجربة، رغم أنه رأى أن الكلب نفسه لم يكن في أحسن حال بسبب تجربة أخرى كان قد أجراها عليه في اليوم السابق!
رغم عدم النجاح، أصبح كينج أسيرا للفكرة، وكان حريصا على إعادة المحاولة في أقرب فرصة. وقد حدث ذلك في 9 يونيو 1667. ويبدو أن اتجاه دراسات كينج كان يفتقر إلى المنطق؛ إذ إنه بدلا من العمل على تحسين تقنيته، أدخل في دراساته نوعا آخر من الحيوانات، وكان ثعلبا. كانت فكرة نقل الدم من الحمل إلى الثعلب مثيرة لدرجة أن بويل حضر التجربة. كان الثعلب ضعيفا منذ البداية؛ لذا لم يخرج كينج منه كمية كبيرة من الدم قبل نقل الدم إليه. ولم تتحسن صحة الثعلب كثيرا بعد نقل دم الحمل إليه، وعندما أطلق سراحه جلس على نحو بائس على الأرض، وكان يرفع رأسه ويجأر ويعض العصي التي وضعت بالقرب منه وحسب. وبعد يوم مات الثعلب «وخرج من أنفه بعض الدم بعدما مات».
كشف تشريح الجثة أن التجويف الصدري والبطني للثعلب ممتلآن بسائل دموي، مما حدا بكينج إلى أن يتساءل عما إذا كان الاختلاف بين دم الحمل والثعلب كبيرا لدرجة تفاعلهما معا فأصبح الدم قليل التركيز. ولم يتمكن الدم الخفيف من الإبقاء على «روح» الثعلب ومن ثم ذهبت حياته. ربما لم يكن النجاح حليفا للفضوليين في إنجلترا، لكنهم كانوا على يقين من أن تجاربهم جعلتهم بلا شك أصحاب الريادة العالمية في ذلك المجال البحثي. وفي الوقت ذاته، كان كينج يأمل لعمله أن يجعله أحد منارات البحث العلمي في إنجلترا، ولربما تمنى أن ذلك كان يتيح له الانضمام إلى الجمعية الملكية المرموقة. لكن للأسف رغم كل تلك الجهود الحثيثة لم يحقق أي تقدم، ولم ينتخب زميلا للجمعية قط.
الفصل السادس
طريق دوني إلى القمة
كانت التواصل بين إنجلترا وفرنسا جيدا، وتتوافر لدينا جميع الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن العلماء الفرنسيين كانوا على علم بتجارب نقل الدم التي كان يجريها لوور وأصدقاؤه. وقرر الفرنسيون في سبيل العلم أنه إذا كانت هذه الطريقة جيدة كما يبدو فإن عليهم أن يجربوها بأنفسهم.
كانت محاولتهم الأولى في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1666، عندما ترأس الطبيب الباريسي كلود بيرو فريقا صغيرا وجرب نقل الدم بين كلبين. وفي 22 يناير 1667، أجروا محاولة أخرى. وكان ذلك بعد سنوات قليلة من بدء بوتر ولوور أبحاثهما في أكسفورد وما حولها، لكن قبل أشهر قليلة من بداية كينج تجاربه في لندن. وتجمع في هذه المناسبة عدد من أعضاء الأكاديمية الملكية للعلوم المنشأة حديثا في مكتبة الملك وأحضروا معهم كلبين. وجرى تقييد الكلبين جيدا بطاولتين في محاولة لنقل الدم من شريان في ساق أحدهما إلى وريد في ساق الآخر. وبعد القليل من العبث والتلطخ بالدماء تماما، تراجع العلماء عن المحاولة ملقين باللوم على أدواتهم؛ إذ شكوا من أن القنيات (الكانيولات) لم تكن مصنوعة بالضبط كما طلبوا من الحرفي ومن ثم لم يكن لديهم أدنى فكرة عما إذا كان الدم يتدفق خلالها أم لا.
ولئلا يتم إرجاء التجربة اجتمع الأعضاء من جديد يوم 24 هذه المرة في منزل لويس جايانت وهو جراح باريسي مشهور. وكانت الأنابيب الجديدة لديهم أفضل بكثير، ونجحوا في توصيل الشريان السباتي في رقبة أحد الكلبين بالوريد الوداجي في رقبة الآخر. وتحقق الاتصال هذه المرة بوضوح حيث وجدوا الوريد الوداجي ينبض مع ضخ الدم الشرياني. ونفق الكلب المستقبل للدم في الحال، وعندما فتح صدره لدراسة السبب، وجد أن القلب والأوردة الرئيسية مليئة بالجلطات.
التقى أصحاب العقول المتسائلة مرة أخرى بعد يومين في مكتبة الملك من أجل إجراء محاولة جديدة. واستنتجوا أن الكلب المستقبل ساءت حالته على نحو أكبر من المانح، حتى مع فقدان المانح لكمية كبيرة من الدم بسبب «حادث» خلال العملية؛ ولا يحتاج الأمر لجهد كبير لتصور حجم الفوضى. وبالنظر إلى أن معظم أطباء باريس قضوا حياتهم المهنية في علاج الناس بالفصد، ليس من الغريب أنهم ظنوا أن الكلب المانح كان بحال أفضل من المستقبل. والأرجح في الواقع أن كلا الكلبين كان في حالة سيئة في النهاية؛ أحدهما بسبب رد الفعل العكسي للدم الغريب والآخر نتيجة فقدان الدم الحاد.
أجري آخر أربع محاولات لنقل الدم في منزل جايانت في 28 فبراير و3 و15 و21 مارس. ولم ينبهر منفذو التجربة كما لم ينبهروا قبلها. فقد كان الدم يميل إلى التجلط في أوردة المستقبل، ولم تكن الحيوانات في حالة جيدة بعد العملية إلا التي تلقت كمية صغيرة جدا من الدم.
وفي التجربة النهائية، أضيفت لمسة علمية لطيفة على خطواتها. فقد جرى قياس وزن الحيوانات قبل نقل الدم وبعده، وأي فضلات خرجت كان يجري جمعها وقياس وزنها. ومن ثم، أمكن التأكد من نقل أوقيتين من الدم من أحد الكلبين إلى الآخر. وأعيدت التجربة ونقلت أوقيتان أخريان من الدم، لكن مع تفريغ ثلاث أوقيات من الدم خوفا من ملء الكلب بكمية زائدة من الدم. ونفق الكلب المستقبل في اليوم التالي.
في ضوء تلك النتائج السيئة، ليس من الغريب ألا يشعر أعضاء الأكاديمية بالحماس البالغ تجاه نقل الدم. ومع ذلك، لم يستسلموا تماما، وتساءلوا عما إذا كان من الممكن استخدام أنبوبين ونقل الدم في الاتجاهين في آن واحد. وكانت الفكرة هي السماح باختلاط الدم في كلا الكلبين واتحادهما، إلا أنه رؤي أن المشكلات الفنية لإجراء ذلك على الحيوانات الصغيرة مثل الكلاب كانت كبيرة.
وكانت النتيجة أن الأمل في نجاح نقل الدم صار ضئيلا، رغم أنه ربما لم يزل مفيدا في العلاج المبني على استعمال جرعات الدم. ونصت إحدى الملاحظات الختامية على ما يلي:
لكن هذه الأفكار عند فحصها لم تدعم الاعتقاد بأن هناك أساسا قويا للآمال التي علقت على تبديل الدم، وتبدو الطريقة التي استخدمتها ميديا لإعادة الشباب إلى حماها أكثر واقعية وأقل خرافية، حيث لم تدع الجراحة الحكيمة تجديد دم آيسون بمجرد حقن السوائل العلاجية في أوردته التي سحبت منها الدم القديم، لكنها اعتمدت في الجزء الأساسي للعلاج على دواء أعطته إياه عن طريق الفم.
دوني يخطو خطوته
إذن، كيف تخطر الأفكار الجيدة للمرء؟ أحيانا يستطيع الناس تسجيل اللحظة التي جاءتهم فيها الفكرة، لكن في الغالب تستغرق تلك العملية بعض الوقت. فحتى تلك الحكايات التي تروى عن سقوط التفاحة على إسحاق نيوتن ووضع نظرية الجاذبية الأرضية يعتقد أنها ملفقة. من المؤكد أنه لا يوجد أي سجل يوضح لماذا ترك دوني الرياضيات لبعض الوقت، وتحول اهتمامه لنقل الدم. ومن الواضح أنه سمع بمحاولة الآخرين نقل الدم، وبما أنه كان قد تعاون مع إميري فقد رأى في ذلك فرصة لمواصلة عمله. فأول من ينجح في علاج مريض من خلال نقل الدم سيحظى بأهمية كبيرة. ولم يكن هناك كثير من الوقت ليضيعه.
لذلك ذات مساء في بدايات مارس 1667، جلس دوني ليكتب أول منشور له يتناول عمله في بحث نقل الدم. وكان هدفه أن ينشر ما كتبه في دورية «جورنال دي سافونز». واكتسبت هذه الدورية الحديثة نسبيا قاعدة كبيرة من القراء في باريس، وأخذ القراء على مستوى العالم يشتركون فيها كذلك. وكان العدد الأول للدورية التي أسسها قاضي باريس دوني دي سالو قد صدر في 5 يناير 1665. وكانت الدورية بالأساس مخصصة لمقالات نقدية، لكنها أحيانا كانت تنشر بعض الأبحاث في العلوم والطب والتكنولوجيا.
نشر مقال دوني في عدد 14 مارس 1667 من الدورية، وهو ما أسعده كثيرا، وتضمن تفاصيل محاولاته الأولية مبينا أن المحاولة الأولى جرت في 3 مارس ذلك العام، وهو اليوم نفسه الذي جرت فيه تجربة جايانت الخامسة. وجرى في التجربة نقل الدم من كلب يشبه الثعلب وكلبة سبنيلي. وابتسم دوني لدى تقليبه صفحات إحدى نسخ الدورية عندما قرأ التقرير الذي كتبه عن التجربة الثانية لنقل الدم التي أجراها هو وإميري في 8 مارس. وكان هذا مرضيا بوجه خاص حيث نجحا في نقل الدم من المستقبل في التجربة الأولى إلى كلب ثالث. وتضمنت التجربة تفصيلة مهمة هي أنهما أبقيا الغرفة دافئة؛ إذ لم يرغبا أن يبرد الدم في أثناء مروره في الأنابيب الموصلة؛ فكان هذا سيفقد الدم حرارته الحيوية. وظهرت سعادة دوني بتلك الخطوة في وصفه للعملية بأنها كانت أقل خطرا مما توقعا. فالدم دخل أجسام ثلاثة كلاب في خلال أسبوعين فقط وبدت جميعها في صحة جيدة وفي كامل قوتها وفي حالتها المستأنسة. وانبهر أحد الأطباء الذين شهدوا الحدث، قائلا إنه لم يكن ليظن أبدا أن ما حدث ممكن إن لم يره بنفسه.
سيشعر أي عالم معاصر بالغيرة من حقيقة أن تلك التجارب نشرت على ما يبدو في دورية خلال أسبوع من إجرائها. من السهل الوقوع في خطأ الاعتقاد أن التكنولوجيا تعجل من إيقاع الأحداث حتما. لكن مع كل الشروط الإضافية المفروضة في يومنا هذا من أجل العرف ومن أجل التدقيق، يستغرق النشر في دورية أكاديمية عادة من ستة أشهر إلى سنة على الأقل من تاريخ الانتهاء من التجربة.
مرة أخرى، كتب دوني خطابا في مجال دراسته. وكان الخطاب هذه المرة موجها إلى راعيه مونتمور، مبينا تسلسل دراسات دوني في نقل الدم حتى تاريخه. وكما كان معتادا وقتها، استهل دوني خطابه بنسبة جزء كبير من الفضل في نجاح عمله إلى مونتمور؛ وذلك اعتمادا على أن الفكرة نوقشت لأول مرة في منزله وأكاديميته. وكان من الواضح حرص دوني على الثناء على راعيه، وحرصه في الوقت نفسه على أن يدافع عن نفسه أمام اتهامه بالطيش الذي كان منتشرا في أوساط العامة:
لقد سمعت بالمحاولة التي أجريناها قبل أربعة أشهر على كلبين لنقل الدم من الشريان الفخذي لأحدهما إلى الوريد الوداجي للآخر. ومع سرورنا بنجاح تلك العملية من المحاولة الأولى ... تشجعنا على تكرارها عدة مرات على الملأ وسرا، وأضفنا ظروفا عديدة لطريقة إجرائها دفعتنا سهولة التجربة لعدم تجاهلها، بل ساعدتنا على الخروج بمشاهدات وفيرة قد تفيد في ممارسة تلك العملية.
1
وتابع دوني ليشرح كيف جرب هو وإميري أساليب مختلفة. فأحيانا كانا يأخذان الدم من شريان في جسم المانح وينقلاه إلى وريد المتلقي، وفي أحيان أخرى، جربا نقل الدم من الوريد إلى الوريد. كما استخدما في التجربة كلابا ضعيفة وأخرى قوية، وكلابا كبيرة وأخرى صغيرة. وفي الحقيقة كانت الكلاب في وسط باريس عرضة للخطر ذلك الصيف!
وبينما لم ينفق كلب واحد بين كل تسعة عشر، في المقابل نرى نتيجة مفاجئة كما لو تلقت الكلاب دماء جديدة، فإننا تيقنا من أن نقل الدم ليس له أي تبعات خطرة كما أشار بعضهم.
2
وبعد أن أوقد النجاح حماسهما، ذكر دوني أنه أراد أن يوسع أفق التجربة ويجري تجارب لنقل الدم من نوع إلى آخر. واستمر دوني وإميري دونما توقف. وجرى في المحاولة الأولى نقل دم عجل إلى كلب، وكان ذلك مساء سعيدا؛ إذ لم تنجح التجربة وحسب، بل كان مونتمور يشهد هذا النجاح:
قمنا في حضورك بنقل دم العجل إلى أوردة الكلب في 28 مارس، وهو ما نفعله في كل التجارب اللاحقة التي أجريناها من وقتها، مع عملنا الدائم على إتقان العملية إلى حد ما.
وأصبحت تلك المرة الأولى من ثلاث مرات نقل فيها دوني الدم من العجول إلى الكلاب. وكان شغله الشاغل في كل مرة أن يرى ماذا يحدث عندما يختلط دم قوي لحيوان كبير بدم أضعف قطعا لكلب صغير. وفي جميع تلك التجارب، كان دوني يزعم أنهما لم يلاحظا أي مشكلات على الكلاب. فقد كانت الكلاب تبدو دوما بصحة جيدة كما كانت قبل التجربة. كما كان دوني سعيدا بأنه طور هو وإميري طريقة أبسط لنقل الدم تضمنت غرس الأنابيب عبر الجلد في العروق. ويبدو ذلك شبيها بالإبر تحت الجلدية المعروفة في يومنا هذا، وقد وفرت هذه الطريقة بكل تأكيد إحداث جرح كبير. ولو كانا علما بالأمراض المنقولة عن طريق الهواء لأدركا أن الإبقاء على الجلد مغلقا يقلل كذلك بشدة من خطر انتقال العدوى.
أول إنسان
بعد ذلك خطا العالم أولى أهم خطواته في تاريخ نقل الدم. ففي 15 يونيو، تعرف كل من دوني وإميري على فتى في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره - لا تعرف سنه بصورة مؤكدة - وكان من الشائع ألا يعرف الناس سنهم. وكان هذا الفتى يعاني طوال شهرين من حمى شديدة أوهنت قواه. واستقدم أقاربه الأطباء الذين أجروا له فصد دم حتما. كانت الحمى تعتبر علامة على أن أخلاط الشخص اختلت وأن الجسم يحتوي على كمية كبيرة من الدم المولد للحرارة. وكان إخراج نحو نصف لتر من الدم سيحل المشكلة.
لكن الفصد لم يعالج الحمى لدى هذا الفتى تحديدا؛ لذا عاد الأطباء وكرروا العلاج. وعلى مدار شهرين، فصدت دماء الفتى عشرين مرة؛ لذا لم يكن غريبا أن الفتى عاثر الحظ قد وهنت قواه، وتبلد عقله، وضعفت ذاكرته، وثقل جسده، وكان النعاس يغالبه باستمرار؛ إذ كان ينام لمدة 12 ساعة كل ليلة، وكان إيقاظه في الصباح يتطلب جهدا كبيرا؛ حتى إنه كان ينام حتى وهو يتناول الإفطار. وكان هذا تناقضا كبيرا مع الروايات التي ذكرت أنه قبل الحمى كان يتمتع باللياقة البدنية والرشاقة.
كان استدعاء طبيب أمرا مكلفا، بل كان خطرا؛ إذ لم تعد المشكلات التي يعاني منها الشاب في هذه المرحلة نتيجة للمرض الأصلي بقدر ما كانت نتيجة العلاج الذي كان يتلقاه. من المحتمل جدا أن يكون السبب الأصلي للحمى قد انتهى خلال شهرين وأن إرهاق الفتى كان نتيجة معاناته من فقر الدم الناتج عن فصد الدم المفرط؛ فقد كان النزيف الشديد لعشرين مرة كافيا لجعل أي جسم في غاية الوهن.
وعندما وصل دوني، برزت احتمالية تحول الموقف من سيئ إلى أسوأ. فحص دوني المريض واستمع إلى قصته. وبعدما ناقش المشكلة مع إميري توصل كلاهما إلى أن جسم الفتى يحوي كمية قليلة جدا من الدم، وأن الكمية القليلة المتبقية قطعا كانت مليئة بكمية مركزة من الحمى. ومع نقص الدم من جسم يخف مستوى الحمى. هذا بخلاف أن قلة كمية الدم كانت تعني أن الحرارة الطبيعية في جسم المريض لم تكن كافية لقتل العوامل المسببة للحمى. وظنا أن الدم بدلا من أن يجري عبر الجسم كان في الأغلب يرقد في برك ساكنة داخل الأوعية الدموية، فلا يحمل ما لديه من القوة المانحة للحياة إلى الأعصاب والعضلات.
وكانت هناك طريقة واحدة للتأكد من صحة نظريتهما، وهي فتح أحد أوردة الشاب ورؤية ما يخرج منها. ومرة أخرى خسر الشاب بعضا من دمه الثمين. وباستخدام أدوات فصد الدم الشائعة، فتح دوني وإميري أحد الأوردة ورأيا كمية صغيرة من الدم تخرج منه، وكان الدم داكن اللون كثيفا لدرجة أنه لم يكد يخرج من الوريد، لقد كان الشاب في حالة سيئة بلا شك.
كان الحل واضحا لهما، لكنه كان حلا ثوريا في رأي المراقبين. كان الحل إعطاءه مزيدا من الدم. هنا كان الوقت قد حان لإرسال شخص للبحث عن متبرع وبدت الخراف حلا جيدا كغيرها من الحيوانات الأخرى.
كان الانتقال من مجرد التصور - عبر التجارب الأولية على الحيوانات - إلى أولى التجارب على البشر سريعا للغاية. وليس هذا بالشيء المسموح به حاليا، حيث توجد الضمانات التنظيمية واللجان الأخلاقية من أجل حماية المرضى من تصرفات الممارسين ذوي الحماس الشديد؛ إذ ربما توافق إحدى اللجان الأخلاقية في الغرب لعالم أن يجرب فكرة على حيوان وهي تعلم أن الحيوان لن ينجو من التجربة، لكنها تصر على ألا تجرى أية تجارب على إنسان إلا إذا توافر دليل قوي على أن الشخص سيستفيد من الإجراء. ويقودنا هذا إلى التفريق بين العلماء الذين يجرون «التجارب» على الحيوانات، والأطباء الذين يجرون «الاختبارات» على البشر. والآن يمثل إعلان هلسنكي لعام 1964 أساسا للطريقة التي ينبغي أن يتواصل بها الأطباء والمرضى ، مع الإصرار على أن مصلحة المريض هي الهدف الأساسي لأي علاج. ففي البحوث الطبية ، ينبغي أن تسبق سلامة الإنسان الذي يخضع للاختبار اهتمامات العلم أو المجتمع. ويبدو أن دوني تصرف بنزاهة ملحوظة في هذا السياق، حتى بمقاييس القرن الحادي والعشرين. ولم يكن من المعتاد أن تكون صحة المرضى وسلامتهم هي الشاغل الأساسي للأطباء.
أصبح كل شيء جاهزا في الخامسة صباحا. فتح دوني أحد الأوردة في ذراع الشاب وأخرج ثلاث أوقيات من الدم. فقد أراد أن يخرج بعض الدم ليتأكد من وجود مجال لدخول الدم الجديد؛ إذ لم يكن دوني يعارض المنطق السائد القائل بأن زيادة الدم خطر. ثم انتقلا إلى الحمل، فعندها كان دوني وإميري قد أدخلا أنبوبا رفيعا إلى الشريان السباتي للحمل، وهو ذلك الشريان الموجود في الرقبة الذي يحمل الدم من القلب إلى الدماغ. يتمتع هذا الشريان بعدة مميزات تتجسد في أنه يسهل نسبيا تحديد موضعه في جانب الرقبة، وما إن عثرا عليه، كان لديهما وعاء دموي يمتد بطول 10 سنتيمترات يمكن كشفه بسهولة.
وسرعان ما أدخل إميري أنبوبا في وريد الشاب ووصلها بالأنبوب المتصل بالحمل. وانتظرا كلاهما وظلا يحسبان الوقت. فقد كان هدفهما أن ينقلا إلى الشاب ثلاثة أضعاف ما أخرجوه من دمه. وكان هذا سيعوض الخسارة، ويخفف تركيز الحمى، ويوفر كمية كافية من الدم لاستعادة الحرارة الضرورية. وعندما شعرا بأن عملية النقل قد انتهت سحبا الأنبوبين، ومنعا نزف الدم عن طريق عقد رباط صغير بإحكام حول الجرح الموجود في ذراع المريض.
بعدها لم يكن أمامهما سوى الانتظار والمشاهدة. وأمطر دوني المريض بالأسئلة، واكتشف أنه شعر بحرارة شديدة في ذراعه في أثناء العملية. وبخلاف ذلك، لم يكن هناك كثير ليعرف على مستوى النتائج الفورية. لكن الشاب ذكر أنه في المساء الذي سبق العملية كان قد سقط من فوق درج مكون من 10 درجات وأصيب في جنبه، إلا أن الألم قد اختفى منذ نقل الدم. وفتح هذا الباب أمام الاحتمال المثير للاهتمام المتمثل في أن فائدة نقل الدم قد لا تقتصر على علاج الحمى بل تتجاوزه إلى جميع أنواع الآلام والأوجاع الجسدية.
بحلول العاشرة صباحا، وبعد خمس ساعات فقط من العملية شعر الشاب بالبهجة وتساءل إن كان من الممكن أن ينهض. ولم ير دوني أي سبب لمنعه، وسر لما رأى المريض يقضي باقي يومه وهو يأكل ويشرب ويعيش حياة طبيعية تماما. وبعد الظهيرة، في حوالي الساعة الرابعة عصرا نزفت أنف الشاب قليلا، وظن دوني أنه نزف ثلاثة أو أربعة قطرات من الدم. شعر أن هذا غريب، لكنه شعر أيضا أنهما ربما أعطياه كمية من الدم زائدة قليلا وكانت النتيجة مثل أنبوب فاض في خزان للمياه.
شكل 6-1: «من الحمل إلى الإنسان» (بورمان، 1705). نسخت بتصريح من المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.
مر وقت بعد الظهيرة في سلام؛ لذا حث دوني مريضه على تناول وجبة عشاء غنية ثم الخلود إلى النوم. وفي الساعة التاسعة، رقد الشاب في الفراش، وفي العاشرة كان قد نام. وعلى النقيض التام من الأيام السابقة التي لم يكن يقدر فيها على الاستيقاظ، وجد الشاب صعوبة في النوم واستيقظ في الثانية فجرا. وبحلول الساعة الرابعة شعر بالملل وقرر أن يبدأ يومه. لقد كانت بداية لبقية حياته. وعلق دوني:
في اليوم التالي نام لمدة أطول قليلا، ومنذ ذلك الحين استطاع بسهولة أن يتغلب على الشعور بالنعاس، بعد أن كان يحاول النوم من قبل دون جدوى؛ والآن لا يفوته الاستيقاظ مبكرا من تلقاء نفسه. وهو ينفذ ما يطلب منه بمنتهى الخفة مهما كان، ولم يعد يعاني من بلادة الروح ولا ثقل الجسد، اللتين جعلتاه في حال لا تمكنه من فعل أي شيء. وزاد وزنه بوضوح، وباختصار، أصبح مثارا لدهشة كل من يعرفه ويعيش معه.
أزكى النجاح البادي لهذه التجربة حماس دوني لتلك الطريقة. فبقدر ما كان يرى، فقد بدا أن نقل الدم مقدر له الاستمرار. دعا دوني الفتى ليأتي إلى منزله خادما - سواء بدافع الإحسان أو بدافع الفضول. وبالنظر إلى الحادث، متمتعين بميزة مرور أكثر من 300 عام إضافي على علم الطب، يبدو أن التفسير الأرجح لتعافي الشاب لم يكن بسبب نقل الدم بل كان بسبب توقف فصد الدم. إن نزيف الأنف يشير إلى أن الشاب ربما استجاب استجابة عكسية لدم الحمل، لكنها لم تكن قوية لدرجة تسبب له ضررا دائما.
شكل 6-2: «من الكلب إلى الإنسان» (سكالتيتوس، 1693). نسخت بتصريح من المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.
نقل الدم يتحول إلى واقع
لقد مر 200 عام قبل أن يبدأ الأطباء في اكتشاف التعقيدات التي تدخل في عملية نقل الدم، وعندئذ كشفوا عن مدى خطورة تلك العملية في حقيقة الأمر؛ إذ ثبت أن الدم لم يكن سائلا أحمر بسيطا، بل هو عضو حي يتكون من عدة أنواع مختلفة من الخلايا التي يؤدي كل منها دورا مختلفا في جميع أجزاء الجسم. فخلايا الدم الحمراء تنقل الأكسجين من الرئتين إلى الأنسجة، وتمكن الدم من نقل ثاني أكسيد الكربون في الاتجاه المعاكس. وتحارب خلايا الدم البيضاء الأمراض، بينما تؤدي الصفائح الدموية دورا حيويا في تجلط الدم. وتسبح هذه الكتل الصلبة في سائل البلازما. وسرعان ما وجد العلماء أنه عند السماح للدم بالتجلط، ظهرت لهذا السائل خواص مختلفة بعض الشيء عن البلازما، فسموه مصل الدم.
وفي عام 1875، استخرج عالم الفسيولوجيا الألماني ليونارد لاندويس، الذي كان يعمل في جرايفسفالد، خلايا دم حمراء من دم الحملان، وخلطها بأمصال مأخوذة من دم حيوان آخر، كالكلب مثلا، وأبقى الخليط في حرارة الجسم الطبيعية. وعندما نظر في المجهر، وجد أن خلايا الدم الحمراء انفجرت خلال دقيقتين تقريبا. كان من الواضح أن ما حدث لن يكون أمرا جيدا إن تم داخل جسم الإنسان. فخسارة خلايا الدم الحمراء تعني صعوبة انتقال الغازات إلى أجزء الجسم المختلفة. كما كان لاندويس يعلم أن هلاك الخلايا الحمراء كان له أثر آخر. فخلايا الدم الحمراء غنية بالبوتاسيوم، ومن ثم سيسبح هذا الأيون في مجرى الدم. فعلى الرغم من أن البوتاسيوم أحد العناصر الحيوية للجسم، فإن التركيز العالي للبوتاسيوم في الدم ذو أثر قاتل ويمكنه أن يمنع عضلات القلب من الانقباض. سيشعر الشخص عندئذ بآلام في الذراعين والصدر، ويعاني فعليا من سكتة قلبية.
في ضوء هذه المعلومة، يبدو أمرا عجيبا أن يظل أي فرد على قيد الحياة بعد نقل الدم إليه من نوع مختلف، رغم أن لاندويس عندما راجع كل الحالات المسجلة لنقل دم الحيوانات إلى الإنسان، وجد أنه في نحو ثلث الحالات لم يعان الشخص من أضرار طويلة المدى. والتفسير الأرجح هو أنهم لم يتلقوا كمية كبيرة جدا من الدم، ومن ثم تمكن الجسم من احتمال التأثير. ومع ذلك، ظل بعض الأطباء يدافعون عن نقل الدم من الحيوان إلى الإنسان حتى عام 1928.
وبعد ربع قرن من اكتشاف لاندويس، دفع النمساوي كارل لاندشتاينر هذا العلم خطوة أخرى إلى الأمام؛ إذ بدأ لاندشتاينر يدرس استجابة الدم المأخوذ من أشخاص مختلفين عندما يختلط في تركيبات مختلفة. وكانت عيناته الأولى مأخوذة من 22 شخصا كانوا يعملون معه في معمله. وفي بعض الحالات، وجد أن كرات الدم الحمراء تتكتل عندما يخلط مصل دم من شخص ما مع الدم الكامل لشخص آخر. وفي تركيبات أخرى، لم يحدث مثل هذا التلاصق. لقد حقق هذا الرجل الطويل النحيل وقتئذ اكتشافا شكل أساسا لما صار لاحقا صناعة نقل الدم. فقد رأى أنه من الممكن تصنيف الناس في ثلاث مجموعات تبعا لفصيلة دمهم؛ وسمى تلك المجموعات
A
و
B
و
C . لم يكن مزج الدم بين الأشخاص الذين ينتمون للمجموعة نفسها يسبب ضررا، بينما كان مزج الدماء التي تنتمي إلى مجموعات مختلفة ضارا. فكان مصل دم المجموعة
A
يسبب تكتل دم المجموعة
B ، وكان مصل دم المجموعة
B
يسبب تكتل دم المجموعة
A . وكانت المجموعة
C
مختلفة، من حيث إن مصل دم أفرادها يسبب تجلط دم أفراد المجموعتين
A
و
B . وبعدها بعام، اكتشف أحد تلاميذ لاندشتاينر مجموعة رابعة؛ وهي مجموعة نادرة لم يسبب مصل الدم لدى أفرادها تجلط دم أفراد المجموعتين
A
و
B . فقد اكتشف نظام فصائل الدم
ABO .
وفي عام 1919، اقتنص لاندشتاينر وعرض عليه منصب رفيع في معهد روكفلر للبحوث الطبية في نيويورك، حيث واصل عمله ليثبت أن الحياة أكثر تعقيدا من ذلك وأن هناك عديدا من فصائل الدم الأخرى. فقد اكتشف مثلا الفصائل
M
و
N
و
من خلال حقن الدم البشري في الأرانب، حيث تسبب المزج بين دماء أنواع بيولوجية مختلفة في تلك المرة في رد فعل أعنف. وكان اكتشاف هذه المجموعة من استجابات الدم تلك ومفهوم فصائل الدم سببا في فوز لاندشتاينر بجائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب.
نقل الدم غير المتوافق
يمكن لأحد ثلاثة احتمالات أن يقع عند نقل فصيلة دم غير مناسبة: فأحيانا لا يحدث شيء؛ إذ لا يتعرف الجسم في تلك الحالة على هذا الهجوم من الخلايا الغريبة ومن ثم لا يعطي استجابة دفاعية.
أما الاحتمال الثاني فهو تحطم كرات الدم الحمراء المنقولة بنحو فوري ومهدد للحياة. ويحدث هذا عندما ترصد خلايا الدم في جسم المريض خلايا دم غريبة ويستثير ما يعرف بالجهاز المناعي المتمم. والمتمم هو جزيء يلتصق بخلايا الدم الحمراء ويسبب ثقوبا في أغشيتها. وبما أن تركيز المواد الكيميائية داخل الخلايا أعلى من تركيزها في الدم، فإن الماء يندفع عبر الثقوب فتتضخم الخلايا وتنفجر، وتخرج محتوياتها إلى مجرى الدم. عندها يواجه الجسم مهمة كبيرة تتمثل في إزالة هذا الحطام. وعلاوة على ذلك، يمكن لآلية التجلط في الدم أن تخرج عن السيطرة، فتسبب نزيفا حادا من أي نقاط ضعيفة. ويطلق على هذا الوضع التخثر المنتثر داخل الأوعية الدموية المعروف اختصارا باسم دي آي سي. يمكن أن يكون النزيف داخليا فلا يلاحظ، أو يمكن أن يحدث من خلال الجروح القديمة أو في الممرات الأنفية، مما ينتج عنه نزيف الأنف. ويمكن لصدمة الجهاز المتمم أن تكون شديدة وغامرة. لكن في الحالات الأقل سوءا يمكن ألا يستثار الجهاز المتمم بالكامل ولا يفقد الدم سوى ثلث خلايا الدم الحمراء في الساعات الأربع والعشرين الأولى. وفي هذه الحالة يستقر وضع الشخص المتأثر ويتعافى ببطء.
وأما الاحتمال الثالث فهو أن تزال خلايا الدم الحمراء الغريبة على نحو بطيء من مجرى الدم. ولا يتدخل في هذه العملية نظام التعرف على فصائل الدم، بل تضطلع بها خلايا دم بيضاء موجودة خاصة لرصد الخلايا المهاجمة وإزالتها. وفي هذه الحالة، يجري تدمير خلايا الدم المتبرع بها خارج مجرى الدم، إما في الكبد أو في الطحال. وربما يشعر الشخص بالتوعك، لكن الوضع لا يشكل خطرا على حياته.
من حين لآخر، تحدث حالات نقل دم بين فصائل متباينة في البيئات الطبية الحديثة، لكن ذلك لا يحدث إلا في حالات الأخطاء المطبعية فيعطى الشخص دما من فصيلة غير مناسبة.
المؤشرات السريرية
تعد الحمى أكثر أعراض عدم التوافق في نقل الدم شيوعا؛ إذ يستجيب الجسم للمواد الكيميائية التي تصب في مجرى الدم. ويمكن للوضع أن يسوء إذا كان الدم المنقول يحمل عدوى بكتيرية أو كانت الأدوات المستخدمة غير معقمة، ومن ثم تنقل البكتيريا إلى المتلقي. ربما كان دوني ومعاصروه ينظفون الأنابيب التي يستخدمونها، لكن بما أنهم لم يكتشفوا وجود البكتيريا لم يكن هناك أي أمل في أن تكون الإبر التي تدخل في العروق معقمة. ومن ثم زاد احتمال أن تدخل الميكروبات المسببة للأمراض مع الدم إلى الدورة الدموية.
كما يمكن للمرضى أن يشعروا بألم في الصدر حيث يعاني القلب من ارتفاع نسب البوتاسيوم في الدم. وفي تجربة دوني، ربما كانت السكتة القلبية الناتجة أحد أسباب شكوى الفتى من الألم في ذراعه مع دخول الدم الجديد، رغم أن نسبة كبيرة من الألم الحاد كانت تعود على الأرجح إلى الحساسية المفرطة في استجابة الجسم في ظل اختلاط الدم الأصلي والدم الجديد داخل الوريد.
ومع الصعوبة التي تواجه عمل القلب، ينخفض ضغط الدم لدى المريض ويظهر لديه الشعور بالغثيان ويتقيأ. ويمكن لضغط الدم المنخفض في ظل وجود ملايين التجمعات الصغيرة لخلايا الدم الحمراء أن يشل الكليتين بسهولة ما يزيد المشكلات تعقيدا. فمع توقف الكليتين يصعب على الجسم تنظيف الدم، وإن لم تحل المشكلة يصبح المريض عرضة للوفاة نتيجة التسمم الداخلي.
وتؤدي الوسائط أو الرسل الكيميائية التي تطلق في الدم إلى ارتخاء الشرايين الدقيقة، ويسمح هذا بتسرب السوائل منها إلى النسيج المحيط بها. ويؤدي هذا الأثر المركب إلى انخفاض ضغط الدم على نحو أكبر. وفي محاولة لاستعادة ضغط الدم الطبيعي، يتم إفراز هرمونات أخرى تسبب غلق بعض الأوعية الدموية. ويتأثر أحد تجمعات الأوعية الدموية على وجه التحديد وهو ذلك الموجود في الكلى. ونتيجة انخفاض ضغط الدم يصعب على الكلى تنقية الدم من الشوائب. وفوق كل ذلك، تتعطل آلية التنقية في الكلى بسبب الانسداد الناتج عن الجلطات الصغيرة التي تسبح في الدم، وتبدأ الأوعية التي تمد الكلى بالدم في الانغلاق. وإذا استمر هذا الوضع، تعجز الكلى عن أداء وظيفتها وتموت خلاياها مع استنفادها الأكسجين الضروري للحياة.
لكن في حالة مريض دوني، يبدو أن الكليتين تمكنتا من الاستمرار في عملهما. إلا أنه في حالات مرضى لاحقين، سجل دوني أن أجسامهم أخرجت كميات وافرة من البول الأسود؛ ويرجع اللون الأسود إلى احتوائه على نواتج تكسير خلايا الدم الحمراء. كما شكا المرضى من ألم شديد في الظهر، وهو عرض ربما يرتبط بالفوضى الدائرة في الكليتين.
كما ظهرت على مريض دوني أعراض واضحة لإصابته بالتخثر المنتثر داخل الأوعية الدموية. وبدلا من أن يثير ذلك مشاعر القلق لدى دوني، عرف دوني في أثناء تعلمه الطب أن النزيف كان جزءا لا يتجزأ من العلاج الطبيعي لذا اعتبر ذلك علامة صحية؛ فعلى كل حال كان ينظر للحيض على أنه الوسيلة التي يستعيد بها جسم المرأة توازنه الداخلي بصورة طبيعية شهريا. فكانت تلك الاستجابة لنقل الدم علامة في رأي دوني على أن الجسم يحل مشكلاته بنفسه. وبدلا من القلق من نزيف الأنف عندما حدث في المرضى اللاحقين، قرر دوني أن يشجع تلك العملية بقطع أحد الأوردة والتخلص من مزيد من الدم.
المضي قدما
على حد علم دوني، كانت عمليات نقل الدم التي أجراها ناجحة؛ لكن ماذا كانت الخطوة التالية؟ لقد كان هناك الكثير من المرضى في باريس، إلا أن إجراء التجارب على المرضى كان محفوفا بالمشكلات. فإذا توفي المريض بعد نقل الدم إليه، فكيف سيمكن تحديد ما إذا كانت الوفاة ناتجة عن مرضه أم أنها بسبب حقن الدم؟ لذا ولدراسة العملية على نحو أشمل، كان عليه أن يجربها على شخص سليم . ويحفل تاريخ علم الطب بأمثلة لعلماء جربوا الوسائل الجديدة على أنفسهم، لكن في هذه الحالة، قرر دوني أن يبحث عن متطوع، مما أسفر عن إجراء ثاني عملية نقل دم للبشر في العالم.
ومثلما كان يوجد كثير من المرضى، كان يوجد كثير من الفقراء؛ هكذا وبعد أيام قليلة استقدم دوني عاملا بالغا من العمر 45 عاما. وكان ضخما وسليما وقويا، وكانت حسابات دوني تقضي بأنه سيحتاج لنقل كمية أكبر من الدم إليه ليتمكن من رؤية الاستجابة.
بدأت التجربة بداية سيئة، حيث وجد دوني وإميري صعوبة في إخراج دم العامل من أوردته. وفي النهاية، لم يتمكنا إلا من استخراج ما لا يزيد عن 10 أوقيات. وباستخدام الطريقة نفسها التي استخدموها مع الشاب، وصلا العامل بحمل؛ لكنهما في تلك المرة أخذا الدم من الوريد الفخذي الأكبر في ساق الحمل. وظلا يحسبان، منتظرين هذه المرة حتى رأيا أنهما نقلا إلى الرجل 20 أوقية من الدم.
يبدو أن الرجل احتفظ بحس الفكاهة لديه عبر التجربة، وهو ما كان أمرا جيدا، حيث تسرب الدم لاحقا على نحو متوقع من الأنابيب المستخدمة وانتشر الدم عبر أنحاء الغرفة وغطى كل المشاركين في العملية. كما أنه من المستبعد أن يكون الحمل قد اشترك في تلك التجربة في استكانة. فرغم أنه قيد بإحكام ولم تتح أي فرصة لأن يتحرك أو أن يفعل أي شيء سوى إصدار صيحة اعتراض مكتومة، فإن ذلك لم يمنعه من إغراق المكان ببوله من وقت لآخر.
مرة أخرى، ذكر المتلقي الحرارة الشديدة التي شعر بها في ذراعه مع تدفق الدم الجديد إليه. ويصف دوني ما حدث بعدها، قائلا إن العملية عندما انتهت نصحوا العامل بالاستلقاء والراحة لكن مع شعوره بالنشاط تجاهل توجيهاتهم. وعلى العكس، قرر العامل أن يذبح الحمل معللا ذلك بأنه تعلم الجزارة في شبابه. ويبدو في الحقيقة أن العامل أحسن ذبح الحيوان وسلخ صوفه. بعدها قال إنه سيعود إلى منزله وأكد أنه سيطهو حساء مغذيا وأنه سيستلقي ويرتاح بقية اليوم.
أما دوني فقد شعر بالإحباط؛ إذ كان ذلك يعني أنه لن يتمكن من أخذ ملاحظات مستمرة على استجابة العامل لنقل الدم، لكن لم يكن أمامه خيار على أية حال. مع ذلك، ظل دوني مصرا على أن يرتاح العامل. وانصرف العامل، وذهب دوني وإميري ليحصلا على قدر من الراحة بينما عكف الخدم على تنظيف المنزل. وبعدها ذهبا إلى منزل العامل ليكتشفوا أنه لم يعد إلى المنزل قط. ولم يكتشفا ما فعل إلا عندما صادفاه في الشارع في اليوم التالي.
من الواضح أن العامل تلقى أجرا نظير خدماته، رغم أن المبلغ الذي حصل عليه ليس معروفا. وبينما كان هذا مألوفا في ذلك الوقت إلا أنه عمل مستهجن في يومنا هذا؛ إذ يعني تلقي الشخص للمال بهذه الطريقة أنه لم يعد متطوعا بل يتخذ من جسمه وسيلة لجني المال. ويمكن أن يقال عن الشخص أنه يبيع جسده؛ وهو ما يكاد يقترب من العبودية.
لم يكد العامل يغادر منزل دوني حتى صادف مجموعة من أصدقائه، ونظرا لحيازته المال الذي جناه لتوه، وسعادته بأحداث يومه، ذهب مع أصدقائه لتناول مشروب في أقرب حانة، وسرعان ما نسي كل شيء عن الذهاب للمنزل والراحة:
مع شعوره بعد الظهيرة بالنشاط (إما بسبب الدم الجديد الذي تلقاه قبل ست ساعات أو بسبب كمية النبيذ التي شربها) انكب على عمل شديد الإجهاد لجسمه بالكامل لدرجة قد تتعب فرسا؛ وقضى طيلة وقت ما بعد الظهيرة على هذا النحو.
غضب دوني عند سماعه ذلك؛ إذ عرض سلوك الرجل تجربته للخطر، والأسوأ من ذلك كما ذكر، أنه لم يتمكن من تسجيل الملاحظات اللازمة. فعلى كل حال، قد تلقى الرجل مالا نظير خدماته، وكانت مرحلة الملاحظات بقدر أهمية مرحلة نقل الدم نفسها للتجربة. هذا تذكير حي بأن إحدى مشكلات إجراء التجارب على البشر هي أنهم يميلون للنهوض والمغادرة بعد نصف التجربة. مرة أخرى: يكرس إعلان هلسنكي هذه الفكرة في الوقت الحاضر؛ وهي فكرة أن «صحة مريضي ستكون أول اعتباراتي»، ويحسب لدوني أنه اختار أن يمنح العامل حريته بدلا من أن يسعى لتقييده بينما كان يؤدي عمله.
وزعم الرجل في دفاعه عن نفسه أنه كان من المستحيل عليه أن يفكر في الراحة بينما كان مفعما بالطاقة. وأوضح أنه لم يشعر بأي ألم، وأنه أكل وشرب ونام جيدا، وأنه شعر بقوة لم تكن لديه من قبل. لقد كان متحمسا لنتائج عملية نقل الدم لدرجة أنه عرض تكرارها وقتما يريد دوني وإميري؛ مضيفا أنه سوف يتصرف هذه المرة على نحو أفضل ويستلقي كما أمره دوني.
ليس هناك ما يدل على أن دوني طلب هذه الخدمة من هذا الرجل مجهول الاسم مرة أخرى، لكن ليس هذا آخر ما سنسمعه عنه.
الفصل السابع
السبق والسجن
أتت نهاية يوليو عام 1667 على دوني حاملة معها بشرى تقديره؛ إذ كان الفارق كبيرا بين أن يسجل عمله وينشره في نشراته الخاصة - وهو ما كان يفعله دوني طوال الصيف - وأن ينشر بعضها في دورية «جورنال دي سافونز» - التي كانت جديدة لكنها بالغة التأثير - والتي كان رئيس تحريرها صديقا شخصيا لدوني. إلا أن رؤية أعماله تترجم إلى الإنجليزية وتنشر في دورية أولدنبرج «مداولات فلسفية» كان تتويجا لنجاحه.
ففي العدد 27 من «مداولات فلسفية» توالت الصفحات عن أعمال دوني وأفكاره، حيث طبعت ووزعت على كل قلاع العلم في أوروبا. فكان ذلك اعترافا بدوني في واقع الأمر. ودفع ذلك نقاده للتفكير. فقد كانت إنجلترا على كل حال هي موطن اكتشاف الدورة الدموية. فإذا رأى أهلها أن عمل دوني يستحق الذكر فمن عساه أن يعترض؟
ومع عدم إلمام دوني بالإنجليزية، لم يتمكن من تحليل ما نشر كاملا ليتأكد من أن أفكاره نجت من أخطاء الترجمة، لكن الفحص العرضي أظهر أن كثيرا من النقاط الرئيسية كان موجودا. فعلى سبيل المثال، وردت في البداية جملة تشير إلى أن دوني كان يدرس احتمالات نقل الدم لعشر سنوات منذ سمع عنه في أكاديمية مونتمور. وكان حدثا عظيما أن يذكر ذلك كتابة، لأنه عندها يتأكد سبقه في ذلك المجال. وعندما يشيع نقل الدم عبر أنحاء العالم ستطبق شهرته الآفاق، وسيجني ثروات طائلة من وراء ذلك.
شكل 7-1: «مداولات فلسفية» العدد رقم 27 (أولدنبرج، الطبعة الأولى). حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
أورد المقال بالتأكيد حالتي نقل الدم اللتين أجراهما دوني إلى الشاب ثم إلى العامل؛ إذ لم يجرب أي شخص في العالم شيئا بمثل هذه الجرأة. ومع الاعتراف الدولي به، أليس من المؤكد أن تعرض عليه الأكاديمية الملكية الفرنسية للعلوم عضويتها المرموقة؟ فكيف ترفض ذلك؟! فكل ما كان يحتاج إليه في ذلك الوقت هو قليل من التجارب الناجحة ومزيدا من التغطية رفيعة المستوى.
استمرت هذه الفترة المثالية من حياة دوني المهنية شهرا واحدا، وربما زادت بضعة أيام. ثم بدأت الأزمة في أغسطس؛ إذ أنكر أولدنبرج العدد المذكور من دوريته واستبدل به نسخة جديدة. فتحول الثناء والضغائن اللذان أحاطا بدوني في الأسابيع الأخيرة إلى قهقهات وضحكات ساخرة. وكان الفارق الرئيس بين النسختين - فيما يخص دوني - هو أن خطابه المطول قد حذف واستبدل به مقال قصير يصب نقده اللاذع لادعاء دوني السبق.
استدعى دوني صديقا لترجمة النسخة الجديدة، وجلس دافنا رأسه بين كفيه، ينصت إلى الهجوم الشرس على أقواله وعلى مصداقيته:
إعلان بشأن ابتكار نقل الدم
إن مؤلف هذه الدورية إذ عاد الآن إلى أنشطته السابقة التي اضطر لقطعها رغما عنه لبضعة أشهر، يرى من الأنسب أن يجمع مداولات جميع الأشهر المحذوفة في منشور واحد، يجب عليه في بدايته أن ينبئ القارئ بأنه وإن نشر ذلك الخطاب القادم من الخارج في آخر يوليو «بشأن طريقة جديدة لعلاج الأمراض العديدة بنقل الدم» والمرسل إلى السيد دو مونتمور وآخرين من جون دوني أستاذ الفلسفة وآخرين، فقد كان عليه أن يلتفت - كما يفعل الآن - إلى ما تم التأكيد عليه في ذلك الخطاب عن الزمان والمكان اللذين نفذت فيهما تلك الطريقة لنقل الدم.
كان هذا تغيرا واضحا في نبرة الحديث؛ فبدون الاستمرار في القراءة اتضح أن دوني تحول من بطل إلى غاصب. تابع صديقه القراءة، وكان المقال قصيرا، لكنه ذكر بوضوح أن الإنجليز وليس الفرنسيين هم أول من توصلوا إلى الفكرة معلنا أن الفائزين في هذا السباق بالتحديد هم لوور وكينج. وما زاد الطين بلة هو أن المقال أتبع مباشرة بعرض لباحث إيطالي كان يفكر هو الآخر في احتمالية التحكم في مجرى الدم.
شكل 7-2: «مداولات فلسفية» العدد رقم 27 (أولدنبرج، الطبعة الثانية). حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
وبعد شهر، استحال الضيق لدى دوني يأسا. ففي أواخر أكتوبر صدر العدد الثامن والعشرون من «مداولات فلسفية»، وجاء فيه مقال مطول.
1
واستغرق دوني بعض الوقت ليفهم عنوانه:
بيان
من بين مزيد من تجارب نقل الدم، مصحوبة ببعض الاعتبارات التي ترتبط بالأساس بتطبيقها الواعي على الإنسان؛ بجانب دفاع آخر عن هذا الاختراع من مغتصبيه.
هذه التجربة إذ أثارت خلافات بين أهل الفضول هنا وفي الخارج ...
لقد حان الوقت للاستعانة بمترجمه مرة أخرى. لم يعد المقال مجرد نقل لمقاله، لكنه استقى مادته من عدة مصادر. فقد ذكر أفكار الآخرين الذين يشارفون على النجاح في نقل الدم، وحذر بشدة من أنه في حال تنفيذها يجب ألا تنفذ إلا بحرص شديد، وعلى يد الأشخاص المناسبين. وكان ثمة إيحاء ضمني بأن كلا الشرطين السابقين لم يتحققا من قبل.
أدرك دوني أن أحلامه بتحقيق الشهرة والثراء السريع قد تلقت ضربة قاصمة؛ إذ لم يكتف المقال بالسخرية من عمل دوني بل ألقى بظلال الشك على ذلك المجال البحثي بأكمله.
وبينما لم ينتقد الجزء الأول من المقال دوني إلا ضمنا، فإن الجزء الأوسط منه لم يقف عند ذلك الحد؛ ففيه تناول المؤلف تناولا مباشرا ادعاء دوني السبق:
قبل أن ننتهي من هذه المسألة، هناك شيء ينبغي ذكره عن سبب حذر «الفضوليين» في إنجلترا من إجراء هذه التجربة على الإنسان. فقد أطلع العبقري سابق الذكر السيد دوني العالم على تجاربه في باريس وأخبرنا عن مدى نجاحها. كما نشر عمله في «جورنال دي سافونز» وابتهج لأن الفرنسيين أحرزوا تقدما على صعيد هذا الابتكار - من ناحية تجربته على البشر - قبل أي إنجليزي.
وبينما نقر فعلا بأنهم حسب علمنا أول من اتخذ تلك الخطوة، وأجرى عملية نقل الدم على إنسان، فأذنوا لنا أن نخبر العالم بأن الفلاسفة في إنجلترا كان بإمكانهم أن يجروا تلك العملية على الإنسان قبل وقت طويل إن لم يكونوا حريصين أشد الحرص على ألا يضروا بحياة الإنسان. فهدفهم دائما هو الحفاظ على الحياة وإنهاء المعاناة. كما أنهم يشعرون بخوف مبرر من أنه حال فشل التجربة ووفاة المريض، من الممكن أن يعرضوا أنفسهم لعقوبة قانونية. وينبغي الوضع في الحسبان أن عقوبات القانون في إنجلترا أشد من نظيرتها في دول أخرى عديدة.
لكن ذلك لا يعني أن الإنجليز لم يفكروا بهذا الأمر. ويؤكد الناشر بكل إخلاص أنه قبل عدة أشهر رأى بأم عينيه الأدوات جاهزة للاستخدام وشهد الطريقة التي اتفق عليها ورئي أنها مناسبة للتطبيق على الإنسان. وللإمعان في إثبات ما سبق، سنورد الطرق الكاملة التي وضعها العبقري الدكتور إدموند كينج لأجل ذلك الغرض وذكرها في خطاب له. وهذا هو السبق الحق؛ إذ لم ير السيد دوني ملائما وصف الطريقة التي استخدموها في فرنسا على الإنسان، ولا غيره بحسب ما نعرف.
جلس دوني وقد أسكتته الصدمة بينما تابع صديقه قراءة وصف طريقة لنقل الدم بين الحيوانات تشبه كثيرا ما نشر من قبل. ولم يستطع أن ينتقد الطريقة، ولم يكن لديه سبب لينتقدها؛ فقد كانت هي الطريقة نفسها التي استخدمها هو:
إننا لم نكن لنعلق على هذا الموضوع في هذا الوقت إن لم يكن من الواجب علينا تصحيح خطأ وجد في إحدى أحدث الدوريات الفرنسية التي تؤكد بثقة أن الفرنسيين هم من منح الإنجليز أولى الأفكار عن هذه التجربة. ولماذا؟ لأنهم (كما يزعمون) كانوا شهودا على أن أحد الرهبان البندكتيين وهو دوم روبرت دو جابتس ناقش الفكرة في منزل السيد دوني قبل عشر سنوات. ومن المؤكد أن كل العباقرة يقرون بأن الطريقة الوحيدة لحسم مثل هذه الخلافات هي وجود سجل علني مكتوب أو مطبوع. ويجب أن يرد فيه الزمان والمكان اللذان اقترح فيهما الابتكار للمرة الأولى وكذلك شرح للطريقة وحالات النجاح. وكل هذا ينطبق على إنجلترا.
صاح دوني: «أنا أول من نشرها. أنا أول من نشرها.» وقفز من مقعده وأخذ يجوب أرجاء الغرفة وهو يلوح بنسخة من الطبعة الأولى لدورية «مداولات فلسفية». وصرخ قائلا: «انظر، هنا، ها هو ذا مطبوع. سجل مادي للتاريخ. لقد كنت الأول إلى أن قرروا شن هجومهم لهدمي في محاولة لإعادة كتابة التاريخ»، وتقطع صوته من فرط السخط: «هل علي أن أصدر دورية خاصة بي لتصل أفكاري إلى القراء؟» اقترح صديق دوني عليه أن يجلس ويسمح له بمتابعة القراءة. لكن دوني رفض ووقف محدقا عبر النافذة ناظرا إلى المحاكم الواقعة على الجهة الأخرى من نهر السين. وكان سؤال «أين العدالة؟» هو كل ما كان يجول بخاطره. وتابع صديقه:
وتعرفنا المداولة السابعة (المطبوعة بتاريخ ديسمبر 1665) بعدد السنوات التي مرت منذ أن اقترح الدكتور كريستوفر رين تجربة نقل الدم إلى الأوردة. وكانت تلك إشارة كافية لدى الجمعية الملكية لترى إمكانية التحول من الحقن إلى نقل الدم في مرحلة ما في المستقبل. في الواقع، عندما عقدت الجمعية اجتماعا علنيا في 17 مايو 1665، أوصت بإجراء هذه التجربة. وإن ساورك الشك في ذلك، يمكنك الرجوع إلى العدد المناسب في الدورية الصادرة عن الجمعية، حيث سجلت التجربة على يد أمناء السر الملتزمين بميثاق الأمانة.
ولم تحقق التجارب في ذلك الوقت تقدما كبيرا؛ بسبب عدم كفاءة التجهيزات وعدم وجود منهجية متفق عليها. إلا أن الطبيب المطلع وخبير التشريح ذا الخبرة الدكتور لوور قد جاء بعد ذلك، وقد أتقن منهجية معينة ونشرها في العدد رقم 20 من هذه الدورية. وكان قد استخدم تلك المنهجية في أكسفورد قبل نشرها كما استخدمها آخرون في لندن.
لذا يبدو من الغريب أن يظهر هذا الابتكار المفاجئ في فرنسا كما يقولون منذ عشرة أعوام ويظل في مكمنه لمدة طويلة إلى أن أعلنت من لندن طريقة إخراجه إلى النور. ناهيك عن الخلاف الدائر على ما يبدو حول الأب الروحي الفرنسي لهذا الابتكار؛ إذ يقول السيد دو جوريي إنه أبوت بورديلو، لكن كاتب الخطابات في دورية «جورنال دي سافونز» يزعم أنه راهب بندكتي.
لكن أيا من كان صاحب هذا الابتكار، فليس هذا دليلا ماديا؛ حيث إن على جميع من يدعون ملكيتهم لهذا الابتكار أن تتضافر جهودهم ليطوروه في سبيل خدمة البشرية، إذا كان يبشر بذلك. وهذا هو الهدف الرئيسي الذي يرمي إليه هذا المجال. ولا يهدف ما كتب إلى مهاجمة أحد بل إلى إعطاء كل ذي حق حقه قدر المستطاع في ضوء ما يتبين للناشر.
عندها بلغ غضب دوني أقصاه. راح يحدق في الفراغ بينما خرج صديقه من الغرفة بهدوء، وأخبر الخدم بالمنزل أنه من الأفضل ألا يستقبلوا أي ضيوف خلال فترة ما بعد الظهيرة في ذلك اليوم. وكان كل ما أجاب به على تساؤلاتهم هو أن دوني تعرض لصدمة.
كان إنكار ادعاء الفرنسيين أنهم أول من فكروا في نقل الدم كالطعنة التي تركت جرحا عميقا، بينما لم تفعل الفقرات الأخيرة شيئا سوى زيادة الأمر سوءا. فقد ذكر أولدنبرج أنه نظرا لأن الإنجليز هم من سبقوا إلى التفكير في الحقن، فإنهم يمتلكون الحق في زعم السبق إلى أي عمل تال يتعلق بإدخال أي مادة في الدم. ودافع عن ذلك بالرجوع إلى أفكار دونها بنفسه في وثائق لا توجد إلا في الجمعية الملكية. فما هي الأفكار التي كان يمكنهم المطالبة بحقهم فيها أيضا عن طريق الاستشهاد ببند مختصر في دفاتر ملاحظات كدليل؟
مع ذلك كان هناك شيء واحد مؤكد لدى دوني؛ رغم أنه لم يشعره بارتياح كبير على عكس المتوقع. كان دوني هو الوحيد الذي نقل الدم من حيوان إلى إنسان؛ ولو كان الإنجليز قد فعلوا ذلك لذكره خادمهم الأمين أولدنبرج بكل تأكيد، وادعى أن للإنجليز السبق في هذا أيضا.
قصص الأبراج
لكن كان هناك سؤال آخر في ذهن دوني: لماذا تكبد أولدنبرج كل هذا العناء والتكلفة بالتخلص من طبعة من دوريته وإصدار طبعة جديدة؟ إن كان يريد النكاية بالفرنسيين فلم لم يفعل من البداية ؟ كانت الإجابة بالنسبة إلى دوني بسيطة؛ فمن الواضح أن الدورية أثارت جلبة بين علماء إنجلترا الذين أرادوا الهيمنة على هذا المجال البحثي. من المؤكد أنهم أجبروا أولدنبرج على سحب دوريته وإعادة طباعتها.
يبدو هذا التفسير هو الأرجح، لكنه تبين - في الحقيقة - أنه كان مخطئا تماما. وكما هو الحال في معظم الأحيان، كانت الحقيقة أغرب من الخيال.
شكل 7-3: هنري أولدنبرج. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
بدا صباح يوم 20 يونيو 1667 كغيره من الأيام. كان أولدنبرج قد قضى الأيام السابقة يعمل في مقر الجمعية الملكية، حيث كان يكتب بعض الخطابات لأشخاص في الهند الشرقية، وكان يستعد هذا الصباح ليذهب إلى عمله كالمعتاد، عندها دق الباب، وما إن فتح الباب حتى دلف ضابط في سرعة، وبدلا من أن يقدم بطاقة تعريف، قدم مذكرة توقيف:
إذن بضبط هنري أولدنبرج بشخصه وإحضاره إلى البرج بتهمة المخططات والممارسات الخطيرة.
أرلنجتون
2
ودون كثير من الرسميات، نقل أولدنبرج إلى عربة، ووجد نفسه ينقل بسرعة عبر لندن برفقة ستة جنود. ومع وصولهم إلى برج لندن سيئ السمعة، أخرج الضابط المجهول من جيبه مذكرة ثانية وسلمها للحراس:
مذكرة إلى ملازم البرج لاستلامه [أولدنبرج] والتحفظ عليه في الحجز ووضعه تحت الحراسة المشددة. (20 يونيو 1667)
أرلنجتون
3
كانت التجربة مرعبة، فرغم تراجع دور البرج باعتباره سجنا حكوميا مقارنة بالقرن السابق، لم يكن البرج مخيما سياحيا، كما كانت هناك حالات كثيرة لأشخاص دخلوا على أرجلهم وخرجوا في توابيت. لقد كانت خسارة تشارلز الأول للبرج وللندن بالكامل عاملا مهما في هزيمته، ولم يكن ابنه ليكرر الخطأ نفسه، لذا فقد حول البرج إلى ثكنة شديدة التحصين؛ فقد زود بمجموعة رهيبة من المدافع موزعة على الأسوار تدعمها ترسانة كبيرة.
اقترن الخوف بالحيرة لدى أولدنبرج. لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ ما التهم الموجهة إلي؟ ردد أولدنبرج هذه الأسئلة طوال رحلته رغم أنه أدرك سريعا أن لا أحد سيجيبه. فهؤلاء كانوا ينفذون الأوامر، وليسوا أصحاب القرار وربما لم تكن لديهم فكرة عن هويته، ولا السبب في القبض عليه. مع ذلك ازداد قلق أولدنبرج عندما لم يكن أي ممن في البرج يعرف هو الآخر؛ ولم يسمح له بقلم أو ورقة. لم يكن لديه أي وسيلة للاتصال بالأصدقاء في الخارج، وبدا الأفق معتما.
بينما كان العلماء يقضون حياتهم في الاختراع والدراسة، كانت إنجلترا عام 1667 في حرب، وفي هذا الوقت لم يكن أي شيء على ما يرام. فقد اندلعت الحرب مع هولندا فعليا في صيف عام 1664، رغم أنها لم تعلن رسميا إلا في ربيع عام 1665. كان أصل المشكلة هو التجارة الدولية، حيث كانت هولندا وإنجلترا تتصارعان حرفيا على الهيمنة وعلى الحق في جلب البضائع من البلاد الأجنبية إلى أوروبا. وكان البرلمان البريطاني قد أقر عام 1660 قانونا بحريا يفرض على أي تاجر إنجليزي أن يسجل سفنه التي بنيت بالخارج في لندن، وفرض البرلمان قيودا تجارية بتحديد السلع التي لا يمكن استيرادها من قارة أوروبا إلا في سفن إنجليزية. وأقر قانون آخر عام 1663 ليضاف إلى سابقه؛ إذ أجبر قانون السلع الرئيسية المستعمرين الإنجليز على عدم استيراد أي سلع إلا من إنجلترا، وحتى في هذه الحالة، يجب نقل البضائع في سفن إنجليزية. وكانت تتمة الأمر في مارس 1664 عندما منح تشارلز مدينة نيو أمستردام - التي صارت نيويورك لاحقا - إلى أخيه جيمس دوق يورك. ولم تفاجأ هولندا؛ لقد كانت الحرب قادمة لا محالة.
كانت هذه هي الحرب الثانية لإنجلترا مع هولندا. وكانت الأولى قد انتهت لصالح إنجلترا، ولم يتوقع كثيرون أن تختلف الأمور هذه المرة. سجل بيبيس أولى المعارك البحرية الكبرى قبالة سواحل لوستوفت في 3 يونيو 1665 في نشوة كبيرة:
اشتبك الفريقان في ذاك اليوم - وتجاهل الهولنديون الأفضلية التي كانت لهم علينا بسبب الرياح - وهو ما أفقدهم ميزة سفن النار التي لديهم. وقتل ماسكري إيرل فالماوث والسيد بويل على متن سفينة الدوق - رويال تشارلز - بقذيفة واحدة. وتطاير دمهما ودماغاهما على وجه الدوق؛ واصطدمت رأس السيد بويل بالدوق وأسقطته كما يقول البعض.
على كل حال، يقول بيبيس إن الإنجليز بنهاية اليوم قتلوا وأسروا ما بين 8 آلاف إلى 10 آلاف رجل ولم يخسروا سوى 700 رجل؛ «لم يعرف العالم انتصارا أعظم من ذلك.» لكن الحال انقلب، وفي معركة كارثية وقعت فيما بين 1 إلى 4 يونيو 1666، دمرت 20 سفينة إنجليزية وعلى متنها 8 آلاف رجل. ومع قضاء الطاعون والحريق الكبير على معظم تجارة لندن، قلت الموارد المالية، وبحلول يناير 1667 أصبح تشارلز مستعدا لعقد مباحثات سلام مع الهولنديين. وفي ظل انخداع الأسطول الحربي بإحساس زائف بالأمان، وقف عاجزا عن حماية سفنه بينما رست في ميناء كاثام، وتركها فريسة سهلة لهجوم خاطف. ففي 11 يونيو، قدم الهولنديون وأضرموا النيران في المنازل والحظائر في جزيرة كانفي، وهاجموا شيرنس وجزيرة شيبي، وسقطت شيرنس في أيديهم. وفي اليوم التالي، شق الهولنديون طريقهم بالقوة عبر دفاعات ميدواي وأبحروا على طول النهر، وأحرقوا عددا من خيرة سفن الأسطول الإنجليزي واستولوا على كبرى سفن البحرية الإنجليزية: رويال تشارلز. ورغم أن الهولنديين لم يصلوا لأبعد من ذلك، فقد أحدثوا ضررا كبيرا وسببوا إهانة عظيمة.
انتشر الخوف والفزع في البر في أعقاب الهجوم. وترددت شائعات عن إحراق كاثام وكوينبورو وهارويش وجريفسيند وكولتشستر ودوفر. وقال البعض إن الملك نفسه اختفى، وانتشر الهمس بوجود مؤامرات خيانة. وعم الخوف بر إنجلترا عندما شوهد أسطول معاد من 50 إلى 60 سفينة قبالة سواحل لاندز إند، وهو الطرف الغربي لمقاطعة كورنوول. وكانت السلطات تبحث عن جواسيس وأفراد يكونون كبش فداء. ويبدو أن اسم أولدنبرج ورد في إحدى قوائم المشتبه بهم.
لكن كلما سأل أولدنبرج أي شخص عن التهمة الموجهة إليه قوبل بالصمت. فإما أنه ما كان أحد ليخبره، أو أنه لم يكن أحد يعلم. ومن الصعب جدا إظهار براءتك، إذا لم تكن تعلم بالتهمة الموجهة إليك. إلا أنه في أوقات الحرب يكون من المغري جدا للسلطات الحصول على صلاحيات تتيح لهم إلقاء القبض على أي شخص دون أي تهمة رسمية، واحتجاز سجناء إلى أجل غير مسمى. وكانت المذكرة الصادرة بحق أولدنبرج قد صدرت في وقت سابق بموجب ما يسمى الآن «اللائحة 18ب» لقانون الصلاحيات في حالات الطوارئ (الدفاع) لعام 1939 - وهو قانون استخدم في وقت أحدث لاعتقال سير أوزوالد موزلي وثمانية من زملائه المقربين.
كان أولدنبرج هدفا سهلا. فقد ولد في بريمن بألمانيا عام 1618 تقريبا، وبدأ مسيرته مثل كثير من الأكاديميين بدراسة اللاهوت. وخلال أربعينيات وخمسينيات القرن السابع عشر، كان أولدنبرج المبعوث الرسمي من بريمن إلى كرومويل، كما عمل لمدة طويلة في ألمانيا وهولندا. وكان قد تعرف على آل بويل عند زيارته لكرومويل، ربما من خلال تقديم الشاعر جون ميلتون له. وتعرف أولدنبرج على وجه التحديد بليدي رانيلا وأخيها روبرت بويل. وتحولت علاقة الصداقة إلى رعاية، وذلك عندما طلب من أولدنبرج عام 1657 أن يكون معلما خاصا لريتشارد جونز ابن ليدي رانيلا وقضى السنوات الأربع التي تلت يجوب قارة أوروبا ويعرف ريتشارد الصغير بجوانب أدق من الحياة الأوروبية.
وفي حين بدأ أولدنبرج حياته متجولا ومع عدم وجود صلات كثيرة تربطه بمكان واحد، فقد استقر في إنجلترا وقت عودة الملكية إليها، ووثق زواجه عام 1663 بدوروثي ويست ارتباطه بالمكان. وزادت قوة الارتباط عندما صار الزوجان مسئولين جزئيا عن اليتيمة ذات الأحد عشر ربيعا دورا كاترينا وهي وريثة لأطيان في كنت. وللأسف ماتت دوروثي بعدها بعامين.
وخلال أسفار أولدنبرج في أنحاء أوروبا، كون قائمة مهمة من المعارف والزملاء، ونما افتتانه ببيئة العلم الناشئة. وجعلته درايته بالمشهد العلمي الدولي - بجانب علاقته ببويل - خيارا واضحا لشغل منصب أول سكرتير للجمعية الملكية عندما تأسست بصفة رسمية.
وكان من بين ميثاق الجمعية الملكية مادة تحث بوضوح على المراسلات مع الخارج، واستغل أولدنبرج هذا الامتياز بصورة كاملة. لم تكن الجمعية تدفع له أي راتب، ودمر الحريق الكبير تجارة الكتب في لندن؛ لذا لم تكن دوريته تدر الدخل الذي كان ينتظره. ولكي يشغل وقته - ويكسب المال - بدأ أولدنبرج باستغلال مهاراته اللغوية في العمل لصالح جوزيف ويليامسون وهو زميل بالجمعية الملكية ومساعد وزير الدولة اللورد أرلنجتون؛ وهو نفسه أرلنجتون الذي ذيل توقيعه مذكرة القبض على أولدنبرج.
وبقراءة ما بين سطور التاريخ، ساورت الشكوك أرلنجتون في أن هذا الأجنبي الذي له باع في المكر والالتفاف قد زرع نفسه في قلب الحكومة الإنجليزية، وأنه - وإن لم يسبب أي أذى حتى الآن - لم يكن محل ثقة. ومن الأرجح أن ما أثار هذه الشكوك هي مراسلات أولدنبرج المتكررة مع فرنسا وهولندا، بجانب استخدامه لصندوق البريد الموجود في مكتب أرلنجتون. فبإرسال البريد الوارد، كان المكتب يتحمل رسوم البريد ويوفر على أولدنبرج أموالا كثيرة. ولإخفاء هذا، كان يجعل خطاباته الواردة توجه إلى السيد جروبنول وهو عبارة عن إعادة ترتيب ساذجة لحروف اسمه. وكان معظم تلك الخطابات يسلم لأولدنبرج ولم يفتح، وفي مقابل هذه الحرية، كان أولدنبرج يسرب أي معلومات سياسية حساسة في ردوده على ويليامسون.
ففي 24 مارس 1665 (أو 1666) - على سبيل المثال - كان قد تلقى خطابا من المراسل الباريسي أونري جوستيل:
لقد تسلمت كل خطاباتك، فمنذ آخر خطاب تفضلت بكتابته إلي علمت بطبول الحرب التي تدق في إنجلترا. ويبدو أن الحال نفسه سائد هنا؛ فقد استولى الإنجليز على بعض سفننا، وقيل لي إن الملك أخبر الملكة الأم لإنجلترا أن هذا سينتهي بإجباره على إعلان الحرب على إنجلترا.
وبعدها في تلك السنة كتب جوتسيل مرة أخرى يقول:
لم يكن لدي شك قط في أن البرلمان سيوفر وسائل استمرار الحرب؛ لكني أيضا على يقين بأن إنجلترا ستعاني الويلات بسببها. فلا يزال من الممكن أن يقع حدث مزعج لا يمكن لأحد توقعه، والأعداء غير واضحين إطلاقا؛ ومهما بلغت شجاعة المرء، فعندما يواجه مقاومة قوية وعنيدة سيعاني منها. أعترف بأننا خسرنا سفينة قوية؛ لكن لسوء الحظ لم يكن بإمكانها مقاومة سبع من سفنكم هاجموها؛ لم يكن هذا هجوما حاسما - علينا أن ننتظر نهاية الحرب.
4
ويبين خطاب كتبه أولدنبرج وهو في رحلة إلى باريس كيف كان نشيطا في إرسال الأخبار إلى أعلى مناصب في البلاد. كان الخطاب موجها إلى ويليامسون ومكتوبا بالفرنسية، ربما يكون بهدف تقليل عدد القادرين على قراءته في إنجلترا:
لقد دخل التتار بولندا، ودمروا كل شيء بالنار والسيف. ووصلوا إلى لفيف، ومن المقرر أن يجتمع المجلس التشريعي مرة أخرى خلال ثلاثة أشهر. ويخطط مايكل عباسي لشن الحرب على راجوتسكي الصغير. وسوف يمده الأتراك بالجنود. وستكون هذه الحرب مصدر إلهاء وستسهل غزو تلك المقاطعة بمنع الإمبراطور من إرسال جنود إلى فلاندر. «وهنا لا يدور حديث إلا عن السلام والجميع يؤمن بأنه سيتحقق.
شئونك في أمريكا ليست بحال جيدة، ومهما قلت فلتصحبك السلامة. لا يعتقد أحد أنك ستستطيع أن تنفذ حساباتك في أيسولا.»
5
كان هذا التواصل البريدي إجراء مريحا، لكن من السهل تصور كيف يمكن أن يثير شكوكا في أن أولدنبرج ربما يسرب معلومات في الاتجاه الآخر كذلك. وفي الأوقات المحمومة في هذه الحرب، بدأ أرلنجتون بالتحفظ على بريده وقراءته. ويبدو أن أولدنبرج قال شيئا «حساسا» في أحد خطاباته.
وكان للذين عرفوا أولدنبرج آراؤهم الخاصة فيما إذا كان قد ظلم أو لا. كان هوك المساعد العلمي لبويل وزميل الجمعية الملكية معروفا بسلاطة لسانه وقدرته على تكوين الصداقات ثم إفسادها. كان الموقف واضحا لديه: لقد دخل أولدنبرج عالم الاستخبارات الموحل وكان السجن جزاءه.
حتى إذا كان أولدنبرج قد تجاوز الحدود، كان بيبيس منزعجا من فكرة إرسال رجل إلى البرج كان قد قضى وقته في العيش في قلب الحكومة وتسجيل تفاصيل التاريخ والعلم. وكان الموقف سيصبح أكثر واقعية بالنسبة له حيث لم يكن يفصله سوى بضع مئات الياردات عن ذلك المعلم الشهير. وفي 25 يونيو علق قائلا:
قيل لي بالأمس إن السيد أولدنبرج أمين سرنا في كلية جريشام قد أودع البرج لكتابته أخبارا إلى عالم في فرنسا كان يتراسل معه بانتظام حول أمور فلسفية؛ والكتابة أو فعل أي شيء تقريبا في هذا الوقت أمر غير آمن.
وفي يوم في أوائل يوليو، لاحت لأولدنبرج أول بارقة أمل؛ خطاب من صديقه وزميله ويليامسون. ربما سيكتشف الآن السبب الذي دفع رئيسهما المشترك أرلنجتون للتوقيع على المذكرة. كانت الأمور تتحسن:
سيدي
في هذه الأزمة التي ألمت بك لا أعرف ما يمكنني تقديمه إليك بجانب تأييد منطقك وفلسفتك اللذين يقضيان بالتحلي بالصبر. آمل أن تتحسن الأمور في وقت قصير، وسأكون سعيدا بتقديم ما أستطيع.
إن أردت فسأرسل إليك ما قد يرد إليك من أي مكان، وأعتقد أن علي أن أفتح البريد القادم من فرنسا وأبقيه معي. أرى أن قانون لويس أرسل إليك مرتين، ثمة طرود وصلت بالفعل. أتمنى لك السعادة بكل إخلاص وألا يطول أسرك.
سيدي
خادمك المتواضع
جوزيف ويليامسون
6
لم يكن أولدنبرج ليلام على قراءة الرسالة عدة مرات محاولا أن يفهم ما كان يقصده ويليامسون بالضبط. لكن مضمون الرسالة كان واضحا. لقد شعر ويليامسون بالأسف تجاهه، لكن لم يكن يستطيع فعل أي شيء. ولم تكن هناك أي إشارة إلى أنه علم حتى سبب احتجاز أولدنبرج، وبدا اقتراحه إرسال خطاباته الواردة من الخارج إليه غريبا.
كان أولدنبرج من الناحية الرسمية تحت «السجن المشدد»، وهو مصطلح كان يعني لإدارة السجن أنه لا يتمتع بامتيازات كثيرة، ولا يحق له بالطبع الحصول على ورقة وقلم؛ فإن كان متآمرا، فآخر شيء تقبله السلطات هو أن يتمكن من استكمال مهمته من داخل سجنها. لكن يبدو أن أولدنبرج قد استخدم مهاراته الدبلوماسية في التفاوض ونجح في كتابة رسالة قصيرة بالقلم الرصاص على الجهة الخلفية من خطاب ويليامسون.
سيدي
أشكرك على خطابك الودود: وأرجو استكمالا لفضلك إن استطعت، وفي الوقت الذي تراه مناسبا أن تقدم تحياتي للسيد أرلنجتون وأن تخبره أنني آمل من سعادته أن يدرك في الوقت المناسب - عندما ينتهي سوء التفاهم هذا - إخلاصي وحماسي لخدمة جلالة الملك والأمة الإنجليزية وسعادته بكل ما أوتيت من قوة. وفي الوقت الراهن، أرجو منك عندما تسنح الفرصة أن تتحدث عن ضيق حالي وطول إقامتي في مكان مشئوم كهذا البرج. كذلك ما ترى من المناسب إرساله إلي من الخطابات التي تصلك من بريدي الوارد سيكون مصدر ترويح أرحب به.
سيدي
خادمك المخلص والمتواضع
أولدنبرج
ملحوظة
أرجو أن توفر لي - إن تيسر - إمكانية أن أرى صديقا من وقت لآخر؛ إذ لا يتاح لي استخدام القلم والأوراق، إلا هذه الرسالة فقط كتبتها بمعروف من الملازم.
7
كان تعليق أولدنبرج عن طول إقامته في مكان مشئوم طريقة مهذبة لقول ما كان كل شخص يعرفه في ذلك الوقت؛ فالطريقة الوحيدة التي يمكن بها للمرء أن يمر بتجربة أبعد ما تكون عن السرور في السجن هو تحمل تكاليفه. فالأكل والاستحمام كانا مقابل المال، وحتى عندها يجب تسيير الأمور بدفع المال للحراس.
يبدو أن خطاب أولدنبرج لم يحقق فائدة كبيرة. والأسوأ أنه بدأ يسمع أن أصدقاء سابقين جاءوا لزيارته في السجن، لكن بعد رؤية مذكرة الاعتقال التي تقول إن احتجازه كان بسبب «التصاميم والممارسات الخطيرة» غادروا سريعا. فحتى إن كان أولدنبرج بريئا، كان من الواضح أن التعامل معه كان صعبا وخطيرا. كما أنه لم يكن لديه أي سلطة؛ لذا لم يكن هناك سبب يدفع أي شخص ليتحمل عناء مساعدته. فأولدنبرج ليس في موقع يسمح له برد الجميل. والأسوأ كذلك، أن كثيرين من معارف أولدنبرج قد نشروا على ما يبدو شائعة كونه جاسوسا، وسرعان ما جف نبع زائريه.
إلا أن أولدنبرج استقبل في الواقع زائرا آخر، رغم أنه لم يرغب في الكشف عن هويته. وتمكن أولدنبرج من إملاء خطاب كتبه الزائر المجهول بعد مغادرته قبل أن يرسله إلى سيث وارد، وهو زميل بالجمعية الملكية وأصبح الآن أسقف ساليسبري. وبين الخطاب أن أولدنبرج لم يسمح له بقلم وحبر، لكنه كان يأمل أن يتمكن هذا الصديق الحميم من إثبات براءته. من الواضح أن أولدنبرج لديه الآن فكرة عن الاتهام الموجه إليه، لكن نتيجة لطبيعة احتجازه لم تسنح له الفرصة للدفاع عن نفسه:
قضيتي هي ما يلي. أنا متهم بمخططات وممارسات خطيرة؛ وعلى حد فهمي، فقد استنتج من بعض خطاباتي وكلماتي أنها تحتوي على تعبيرات تجسد هذا. هذا كل ما أعلم بشأن اتهامي، وهو ما سأرد عليه بكل صراحة وصدق يرجى، وأمام الرب الذي يرى كل شيء، بما يلي.
8
وتابع أولدنبرج ليبين أنه إن كان ينتقد الإنجليز في الحرب، فإن ذلك لم يكن إلا لأنه أراد أن يكون أداؤهم أفضل. ولا يمكن بأي حال أن ينظر إلى ذلك باعتباره إهانة للملك أو شعبه. كما أنه أكد أن كتابته للخطابات قدمت ميزة كبيرة للملك من خلال الحصول على معلومات مفيدة من الدول المختلفة التي راسلها . وختم دفاعه بنداء أنه على استعداد لتحمل العقاب الكامل إن كان هناك أي ذنب ارتكبه. وتوسل إلى قارئ الرسالة أن يفعل كل ما في استطاعته ليحوز رضا أرلنجتون والملك؛ لكيلا يترك في السجن لتتدهور حالته وتسوء.
تشير كل الدلائل إلى أن هذا الخطاب لم يتخط أسوار البرج. والأرجح أنه عثر عليه بحوزة الزائر وصودر، وهو الآن في مكتب السجلات الحكومية. (من المنطقي أن نفترض أنه لو كانت الفرصة سنحت لأولدنبرج، لكتب إلى بويل أيضا؛ ولو أن بويل تسلم الخطاب لحرقه لإخفاء أي دليل على وجود اتصال بأولدنبرج.)
وفي 20 يوليو نجح أولدنبرج في تهريب خطاب آخر عبر أسوار البرج التي لا تخترق. وهذه المرة كان الرجاء مباشرا؛ إذ كتب إلى اللورد أرلنجتون يسأله أن يلتمس له عفو الملك:
فخامتكم!
بعد أن حصلت على قلم وحبر وورقة في إطار التزام حارس جلالته في البرج بأوامركم من أجل تقديم عريضة متواضعة إلى جلالته بجانب شفاعة سعادتكم، لا يسعني إلا أن أبدأ بالإعراب عن امتناني لمعاليكم على منحي هذه الحرية، وأن أطلب في الوقت ذاته أن تصل هذه العريضة إلى جلالته على يديكم وبفضل إحسانكم بهدف أن أقدم لجلالته كما قدمني إليكم ربما بعض أولئك الذين يعرفونني حق المعرفة.
9
لم يؤثر حبس أولدنبرج لشهر كامل في قدرته على كتابة عبارات افتتاحية منمقة ومتذللة. إلا أنه لا يوجد ما يشير إلى أن أي شخص خاطر بالدفاع عنه وعرض قضيته. فحتى بويل لم يكن مستعدا على ما يبدو لأن يتخذ تلك الخطوة ويستخدم نفوذه.
لم يعرف أولدنبرج أنه في الوقت الذي كان يكتب فيه الخطابات محاولا استعادة حريته، كان هناك شخص ما - ربما يكون ويلكنز - ينشر النسخة التالية من دوريته؛ وهي النسخة الأولى من العدد 27 المثير للجدل من دورية «مداولات فلسفية». من المتوقع أن الدافع وراء ذلك كان الحفاظ على بقاء دورية أولدنبرج واستمرارها - هي ودخلها - ليجد صاحبها عملا يعود إليه عند إطلاق سراحه. من ناحية أخرى، ربما كان الشخص الذي تدخل - أيا كان - يسعى للاستيلاء على الدورية وادعاء ملكيته إياها أو جعلها جزءا لا يتجزأ من الجمعية الملكية. من الصعب أن نعرف، لكن من دون علم أولدنبرج أو موافقته نشرت النسخة ووزعت على قائمة المشتركين الذين يدفعون رسومها.
وفي 5 أغسطس، كتب أولدنبرج مجددا إلى أرلنجتون. تغيرت نبرته وكان الخطاب مختصرا ومباشرا. إن لم يطلق سراحه قريبا فسيفلس ويرسل إلى سجن المديونين. ربما كان لهذا الخطاب بعض الأثر، أو الأرجح أن الخطوة التالية كانت نتيجة انتهاء الحرب بين إنجلترا وهولندا بتوقيع معاهدة سلام في بريدا في 31 يوليو. وأيا يكن السبب، فقد تلقى ملازم البرج رسالة بسيطة في السادس والعشرين من أغسطس:
أولدنبرج. إفراج للسجين أولدنبرج من البرج. 26 أغسطس 1667.
10
لا بد أن الاحتجاز في زنزانة كان أمرا محبطا على نحو يفوق الوصف. لكن إطلاق سراحه جلب مزيدا من الخطر. فمن الذي يمكن لأولدنبرج أن يثق فيه؟ هل يأمن عودته إلى منزله في لندن، أم أنه يقتل على يد جماعة من الغوغاء لا يميزون الرجل البريء عندما يرونه؟ لقد أعدم كثير من الأجانب في الشوارع دون محاكمات في أعقاب الحريق الكبير، وكان أهل لندن معروفين بأن شكوكهم سرعان ما توصلهم إلى استنتاجات بشعة. لم يعرف أولدنبرج كثيرا عن الحالة المزاجية العامة في لندن بعد انتهاء الحرب.
ربما كان أولدنبرج يرتعد خوفا أثناء سيره، لكنه لم يكن جبانا. لقد أراد أن يقف أمام الشخص الذي تسبب توقيعه في سجنه، ولو لإثبات أنه لم يكن لديه ما يخشاه. انطلق أولدنبرج على قدميه وسار نحو ميل من البرج إلى منزل أرلنجتون في وسط المدينة، وكما أخبر بويل لاحقا: «حضر إلى لورد أرلنجتون معلنا عن خضوعه التام له.» وأعرب عن ولائه وإخلاصه للملك والبلاد وتصالح مع المدعي.
ربما تصالح أولدنبرج، لكن قليلين من الناس في الشارع هم من علموا بذلك. فالأفضل ألا يلفت الأنظار وأن يخرج من لندن؛ ولو لبضعة أيام. فسيستغرق الأمر بعض الوقت لينتشر الحديث عن إطلاق سراحه، والأمل في أن تنتشر الشائعات نفسها عن براءته. ولم يكن منزله في بول مول يوفر له قدرا كبيرا من الأمن؛ لذا انصرف بأقصى سرعة متوقعة من رجل يحمل قليلا من المال - إن لم يكن لا يملك مالا على الإطلاق - إلى الريف، إلى كريفورد في كنت، ربما إلى منزل دورا - تلك الفتاة القاصر التي تحت وصايته.
كان هواء الريف عليلا، لكن لم يكن لدى أولدنبرج أي وسيلة لجني المال بعيدا كل هذا البعد عن لندن. وبعد أن استعاد أولدنبرج عافيته وتناول بعض الطعام الجيد، قرر أن يعود إلى لندن ليرى إن كان من الممكن أن يستأنف نشاطه من حيث توقف. وسرعان ما أدرك أن هذا الأمر لن يكون سهلا. وفي 3 سبتمبر 1667، كتب إلى بويل - الذي كان يقيم في أكسفورد وقتها - وتمنى أن يكون بخير واعتذر عن غيابه. وكتب إلى كثيرين من أصدقائه السابقين الآخرين، وشعر بخيبة الأمل من عدم تلقيه أي رد إلا من بويل وبيل؛ ولم يكن ذلك بأفضل ترحيب بعودته إلى الديار.
لندن، 12 سبتمبر 1667
سيدي!
رغم مرور أكثر من أسبوعين منذ أن أعلمت أصدقائي الذين أتراسل معهم بعودتي إلى سابق عهدي، لم أتلق أي رد إلا منك ومن الدكتور بيل (وامتناني إليك أكبر)، الأمر الذي يجعلني أخمن أن الأجانب، وخاصة في المناطق المجاورة ربما يتحرجون من مواصلة نشاطهم السابق الذي اعتادوا عليه وهو قضاء الوقت معي، بدافع الرفق بي وخوفهم على سلامتي التي قد يظنون أنها تتعرض للخطر نتيجة كتابتهم إلي بقدر كتابتي إليهم. لكنني أنوي أن أريحهم من مخاوفهم إن وجدت أنها تسيطر عليهم، وذلك بقصر مراسلاتي على الأمور ذات الطبيعة الفلسفية، أو من المجاملات اللطيفة ما لا يساء فهمه أو يثير شكا في أي نوايا خبيثة.
11
كان أولدنبرج قد تغيب لبضعة أشهر وكان عليه أن يتوقع بعض المفاجآت في كومة البريد التي تنتظره. لقد انتابه الفضول حتما لفتح نسخة مما ادعي أنه دوريته. والأرجح أنه قلب صفحاتها ووضعها جانبا. كان على وشك اكتشاف من الذي استكمل إصدار صحيفته بمجرد فتحه باقي البريد.
شكل 7-4: ترجمة أولدنبرج لخطاب من دوني. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
من ضمن بريده كان هناك بضع خطابات تشكو من الطبعة المذكورة لدوريته، مشيرة إلى أنه أفسح المجال لانتشار الادعاءات الفظة لفرنسي مغمور بالسبق. ربما نجا أولدنبرج من اتهامات بخيانة التاج، لكنه الآن يواجه نداءات بالخيانة من داخل الوسط العلمي. تصفح أولدنبرج نسخة الدورية مجددا، لكن بعناية أكبر هذه المرة. ووجد النسخة المترجمة من المقال الفرنسي. وتذكر ترجمته المقال قبل يوم فقط من اعتقاله أو نحو ذلك، ووضع الترجمة ضمن كومة من الأوراق المجهزة للعدد التالي. من الواضح أن ادعاء السبق في هذا المقال كان مبالغا فيه، وكان يخطط دائما لأن يستغل صلاحيته كمحرر في إضافة معلومات توازن الأمر على نحو سليم. إلا أن المقال نشر بالكامل دون أي تعديلات.
وبحلول الثالث والعشرين من سبتمبر، كان أولدنبرج قد أعاد كتابة النسخة الجديدة وطبعها، ووزعت 500 نسخة في أنحاء أوروبا. وبالنظر إلى أن النسخة الأصلية لم يتبق منها إلا طبعات قليلة، يبدو أن معظم الناس تخلصوا من الأولى وأبقوا النسخة الجديدة. لم يكن الاختلاف ملموسا لدى كثيرين إن لاحظوه أصلا. أما بالنسبة إلى القلة المهتمة بنقل الدم اهتماما شغوفا - الذين كانت المكانة الرفيعة في هذا المجال إلزامية في حيواتهم المهنية - فقد كانت تلك الأحداث كارثية.
كان هذا وقت بذل مزيد من الجهد لمواجهة الأزمة. ففي 24 سبتمبر، كتب أولدنبرج إلى بويل من جديد، وذكر أن النسخة المعدلة من العدد السابع والعشرين في المطبعة، وأنها تضمنت تنصلا من المسئولية عن النسخة الأولى. كما ذكر أن لوور طلب مقابلته وأن الفرصة قد سنحت ليشرح له ما حدث. وختم أولدنبرج خطابه بشكوى من أن ناشره السيد جون مارتن قد عدل مستحقاته، وأن الدورية لن تدر عليه في الأرجح أكثر من 30 فلورين هذا العام. كان هذا درسا قويا في عالم الأعمال القاسي؛ من الصعب أن تجني الأموال من بيع المعرفة العلمية في أحسن الأحوال.
خريف مضطرب
في مجمل الأمر ، كان الخريف وقتا عصيبا على دوني وكارثة على أولدنبرج. لكن الأشهر التالية كانت على وشك أن تزخر بأحداث كثيرة لكلا الرجلين. فخلال ذلك العام، تزوج أولدنبرج من دورا القاصر التي تحت وصايته ذات الأربعة عشر ربيعا. وبذلك آلت له أملاك دورا في كنت؛ مما عزز موقفه كثيرا، ولو لم يوفر له الاستقلال المالي. أما دوني فقد ظلت الأشهر التالية صعبة عليه، حيث ظهرت المشكلات مع مريضه التالي البارون بوند. في الواقع، انتقلت أخبار الموقف بسرعة إلى أولدنبرج لدرجة أنه تمكن من التعليق عليها في مقاله في شهر أكتوبر الذي شكك فيه في ادعاءات دوني.
كان البارون بوند ابن أول وزير دولة لملك السويد. وكان يقضي الوقت على اتصال وثيق بالملكة السابقة كريستينا - وهي امرأة متألقة أعلنت عام 1655 تحولها من العقيدة البروتستانتية إلى الكاثوليكية وتخلت عن عرشها. وكان والدا كريستينا يرغبان في إنجاب ذكر؛ وتنبأ المنجمون بأن الطفل سيكون ولدا وأعلن الأطباء في البداية، أن كريستينا ذكر. ولما أدركت أمها أنها في الواقع أنثى تعاني من تشوه في الحوض، رفضتها. وقرر والدها أن يربيها لتكون أميرا؛ وهو ما لم يكن بداية جيدة لحياتها. وتحسنت الأمور بعض الشيء عندما قتل والدها في معركة عام 1632، وتوجت كريتسنيا ذات الأعوام الخمسة ملكة على السويد من بعده.
وعلى الفور، خضعت كريستينا لبرنامج تدريبي قاس يتضمن 12 ساعة من الرياضة والدراسة لستة أيام أسبوعيا. وفي الخامسة عشرة من عمرها، كانت تتحدث خمس لغات بطلاقة، وبدأت تدير شئون البلاد بالفعل، ولم تكن تنعم إلا بثلاث أو أربع ساعات من النوم كل ليلة. وكان الترويح في صورة ركوب الخيل واصطياد الدببة. وكان حماسها للاستيقاظ باكرا وبالا على ديكارت؛ فقد كانت كريستينا قد عينت ديكارت ليعلمها الفلسفة، لكن أصابه الإرهاق من استمرار مطالبته بالاستعداد لتقديم دروس في الخامسة من صباح كل يوم؛ إذ كان يفضل أسلوبا باريسيا أكثر راحة يمكنه من الاستيقاظ الساعة الحادية عشرة. في عام 1650، أصيب بالتهاب رئوي، ومات ودفن في استوكهولم.
لذا لم يكن من المفاجئ أن تتدهور صحة كريستينا بعد وفاة ديكارت بعام. وأوصى أطباؤها بوصفات علاجية كثيرة، لكن كريستينا أرسلت في طلب صديق ديكارت الطبيب الفرنسي بيير بوردولو. وعند قدومه استبعد كل الأطباء وتخلص من وصفاتهم، وبدلا من ذلك، أوصاها باللهو واللعب؛ بالراحة والاستجمام. لا بد أن ذلك كان صادما بكل تأكيد لهذه الفتاة المفعمة بالحيوية على نحو استثنائي، لكنها سرعان ما تعافت وأشرقت ملامحها أمام هذه الحرية الجديدة. وباستغلال هذا الإحساس الجديد بالاستقلال، تخلت كريستينا عن العرش وانتقلت إلى روما.
عاد بوردولو إلى باريس محملا بالهدايا، وظل هو وكريستينا يتواصلان بالخطابات. لقد كانت المراسلة هي الوسيلة التي سمعت بها كريستينا عن نقل الدم. كان من الواضح أنها انبهرت بالفكرة، لكنها قالت في ردها على بوردولو:
أعتقد أن ابتكار حقن الدم جيد جدا، لكنني لا أرغب في أن أجربه بنفسي، فقد أتحول إلى خروف. فإن كنت سأمر بتحول، فإني أفضل أن أصبح لبؤة، لكيلا يتمكن أحد من التهامي؛ أنا بحال جيدة ... لكن إذا احتجت هذا العلاج، فقد قررت أن أحقن بدم ألماني، لأن الحيوان الألماني أقل شبها بالإنسان من أي حيوان أعرفه.
12
لم ترق الحياة في روما إلى توقعات كريستينا، وسرعان ما اكتسبت عداوات علية القوم. وبعد فشل محاولة تحرير نابولي من حكم الإسبان قررت العودة إلى السويد في عام 1666. وفي خريف عام 1667 سمعت أن مستشارها السابق البارون بوند أصيب بوعكة شديدة. وبالمصادفة كان البارون في باريس حيث أحدث التكنولوجيا الطبية: نقل الدم. على الأرجح أن كريستينا أرسلت إلى بوردولو، وعلى إثر ذلك، أرسل في طلب دوني وإميري.
كان البارون بوند مريضا لدرجة أن كلا الطبيبين كانا ممانعين التعامل معه في البداية؛ فمعالجة شخص قبل وفاته مباشرة تنطوي على احتمال كبير بالاتهام بالإهمال. وكان البارون يعاني على مدار ثلاثة أسابيع من مرض في الكبد والطحال، وإسهال صفراوي وحمى شديدة بحسب تشخيص دوني. ومع وصول دوني وإميري، كان قد فحصه أربعة أطباء آخرون، وقد أجرى جميعهم للبارون فصد دم، آملين في التخلص من الدم المصاب. هكذا ، أصبح المريض في غاية الوهن، عاجزا عن الحركة أو الكلام، وكان فعليا غائبا عن الوعي ؛ كانت العلامة الرئيسية على الحياة أنه كان يتقيأ بشدة بمجرد إعطائه أي طعام أو ماء.
أرسل أقارب البارون في طلب خيرة الأطباء كإجراء أخير، لكن دوني لم يكن متحمسا جدا؛ فنقل الدم - كما بين - لا يصلح لعلاج الأجزاء الصلبة (في مقابل الأجزاء السائلة) من جسم الإنسان، وكان واضحا من الأعراض أن المريض يعاني من غرغرينا بالأمعاء. كان على قناعة بأنه لو كان أقارب المريض اتصلوا به قبل ذلك لاختلف الأمر كثيرا. وكان على يقين من أنهم لو كانوا أجروا له نقلا للدم، بدلا من فصده لكانت لتلك الطريقة فائدة كبيرة.
ومع ذلك، قال أقارب المريض إن الاستسلام الآن يعني التخلي عن أمل الرجل الأخير. وفي النهاية تراجع دوني عن قراره. لكن حتى عند ذلك كان راغبا في إبراء نفسه؛ إذ أصر على إقرار الأطباء الذين عالجوا المريض قبله بفشل علاجهم، وأنه من المقبول تجربة هذا العلاج التجريبي.
وفي صباح اليوم التالي، ومع انتهاء الإجراءات الشكلية، عاد دوني وإميري ومعهما عجل. كان المريض في حالة خمول ويعاني تشنجات. وكان نبضه بطيئا وضعيفا. وبمجرد نقل كمية صغيرة من الدم إلى أوردة بوند، تسارع نبضه وزاد قوة، وتوقفت التشنجات وبدأ يتكلم بعدة لغات. وبعد دقائق غلبه النعاس. وانتظر دوني وأقارب بوند ليروا ما الذي سيحدث.
وبعد ثلاثة أرباع الساعة، استيقظ بوند وتمكن من تناول عدة أطباق من الحساء على مدار اليوم، وظل هادئا، وهو ما اعتبر تحسنا. وتوقف الإسهال للمرة الأولى منذ أسابيع. لكن - للأسف - بعد 24 ساعة خارت قوته وضعف نبضه وهزل بدنه مجددا. وبطلب من أصدقاء البارون، أوصل إميري المريض بالعجل وأعطاه جرعة دم جديدة. مرة أخرى تعافى المريض قليلا لكنه توفي في الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم.
تجمع عدد من الأطباء في عملية تشريح مريعة ليشهدوا الفحص ويقدموا تعليقاتهم. واكتشفوا أن أمعاء الرجل المسكين كانت متعفنة، وكان البنكرياس متصلبا والقناة البنكرياسية - التي تحمل العصارات الهاضمة إلى القناة الهضمية - مسدودة. وكان طحاله مكتنزا بشدة وكبده متضخما وعليه علامات مرض واضحة في بعض الأماكن. وكان دوني مهتما بحالة القلب. فقد كان «جافا جدا كما لو كان محترقا». كما لفت انتباهه أن الوريد الذي حقنوا الدم فيه لم يعد أكثر امتلاء من سائر الأوردة، فقد بدت كل الأوعية فارغة.
وكما يروق للجراحين كثيرا، أعلن دوني أن عملية نقل الدم نجحت، لكن سوء حالة المريض الصحية بشدة لم يسمح لعملية نقل الدم بأن ترد له عافيته. كان دوني جريئا؛ فقد كانت الطريقة سليمة، لكن ما كان يحتاج إليه في ذلك الوقت هو مريض سليم بدنيا، لكن مصاب بمرض آخر. وكانت هذه الحالة المثالية لبيان مزايا علاجه الجديد.
الفصل الثامن
اللحاق
في الوقت الذي عبست فيه الحياة لدوني، كان لوور أوفر حظا. ويبدو أنه كان راضيا عما اعتبره تقدما بطيئا لكن منتظما في نقل الدم للحيوانات، وأنه كان متطلعا لفهم تفاصيل الدم وتعقيدات نقله أكثر من تحويله إلى علاج طبي. إلا أن لندن كانت تستحثها أخبار التطورات في القارة الأوروبية. وكانت الأخبار هي خطاب دوني هذه المرة. ربما كتب أولدنبرج مقالا يشكو فيه تجاهل دوني للتفوق الإنجليزي في هذا المجال، لكن لا يسعه إنكار أن دوني سبقهم خطوة بإخراج نقل الدم من المعمل إلى ميدان الطب. فحسبما يقول دوني، كانت عمليات نقل الدم ناجحة وكل الدلائل تشير إلى أنه سيستمر ويكرر ذلك. وكانت إنجلترا تواجه مخاطر التأخر في سباق النجاحات الطبية.
كان التحرك ضروريا؛ وبسرعة. كان زملاء الجمعية الملكية بحاجة لشخص فقير بدرجة كافية ليجد في مبلغ صغير من المال إغراء كافيا للمشاركة في تجربتهم، لكن ليس فقيرا لدرجة عدم حصوله على تعليم؛ إذ كان الاحتمال أضعف في حالة الشخص غير المتعلم أن يعطيهم بيانا دقيقا بما يشعر به مع نقل الدم إليه، ومن ثم فلن يمكن تدوين سجل دقيق لأي من آثار العملية. كانوا بحاجة لشخص غير معتل بدنيا، حيث إن تلك العلة في حد ذاتها قد تفسد التجربة، إلا أنه لن يكون ممكنا رؤية أي آثار إيجابية في شخص سليم تماما.
وفي النهاية وجدوا شابا يعاني درجة طفيفة من الجنون. كان حاصلا على بكالوريوس اللاهوت من جامعة كامبريدج. اعتبرت حرارة مخه «مرتفعة قليلا»، كان يدعى آرثر كوجا وتحدد أجره ب 20 شلنا. مرة أخرى كان الحضور يثرثرون كعادتهم وكان قلم بيبيس يسجل:
21 نوفمبر 1667
خرجت وركبت العربة إلى أرونديل هاوس حيث انفض اجتماع كلية جريشام (الجمعية الملكية)؛ لكنني بعد أن قابلت السيد كريد هناك ذهبت معه إلى الخان الواقع في ساحة كنيسة سانت كليمنتس.
كانوا يتحدثون مثل غيرهم عن رجل مضطرب قليلا أشبه بقس، ويقول الدكتور ويلكنز إنه قرأ له في كنيسته، وأن هذا الرجل الفقير الفاسد الذي استعانت به كلية جريشام لقاء 20 شلنا سينقل إليه بعض الدم من خروف؛ ومن المقرر أن يتم ذلك السبت القادم. وقد اقترحوا أن ينقلوا إليه 12 أوقية؛ وهو ما قدروا أنه سيدخل إليه خلال فترة تحسب بالساعة. وهم يختلفون في رأيهم عن آثار العملية؛ إذ يرى البعض أنه سيكون لها أثر جيد عليه بصفته مضطربا بتبريدها لدمه، بينما يرى البعض الآخر أنها لن تؤثر إطلاقا. لكن الرجل يتمتع بالصحة، وبهذا سيكون قادرا على التحدث عن أي تغيير يجده في نفسه إن وجد، وهو ما قد يكون مفيدا ...
وبدون توقف، انتقل بيبيس إلى ظروف أخرى كانت موضعا للنقاش بينما جلسوا في الخان. وتكشف المفارقة عن مسار تفكيرهم؛ فقد كانت الأسئلة التي خطرت بأذهانهم أقل ارتباطا بأي بيانات علمية عن الدم، بل انصب اهتمامهم على أمور أكثر روحانية وغموضا. فقد كان الاعتقاد العام أن أي سائل ينشأ عن الإنسان يجب أن يصطبغ بروحه. وإن دخل إلى إنسان آخر، فهم يتوقعون ظهور أثر ما على روح المتلقي:
وبهذه المناسبة روى الدكتور ويسلر قصة جميلة حكتها مافت - وهي مؤلفة جيدة - عن الدكتور كايوس الذي أنشأ كلية كي. تقول القصة أنه حين تقدم به العمر، كان يعيش في تلك الفترة على لبن النساء وحده، وكان يتناول لبن سيدة حانقة عبوس ، فكان هذا حاله أيضا؛ وبعدها نصح بتناول لبن امرأة حليمة جيدة الطباع، فصار كذلك هو الآخر، وهو ما يختلف عن الطباع المعتادة لسنه. وهكذا لاحظوا أن وفرة التغذية قد تؤدي الغرض.
وفي 23 نوفمبر 1667، وقف لوور وكينج أمام الأعضاء الذين وقع عليهم الاختيار من الجمعية الملكية في أرونديل هاوس. وكان هدفهم هو مواكبة دوني ونقل الدم إلى البشر. ووصف أولدنبرج التجربة ونشر التفاصيل في عدد دورية «مداولات فلسفية» الصادر في 6 ديسمبر 1667:
عن تجربة نقل الدم، التي أجريت على رجل في لندن
أجريت هذه التجربة في 23 نوفمبر 1667، على السيد آرثر كوجا في أرونديل هاوس بحضور عديد من الوجهاء والنبهاء وتحت إشراف الطبيبين العالميين واختصاصي التشريح البارعين الدكتور ريتشارد لوور ودكتور إدموند كينج، وقد ألقى الثاني البيان التالي للتجربة:
لقد أجرينا تجربة نقل الدم إلى وريد إنسان بهذه الطريقة. فبعد تجهيز الشريان السباتي في خروف صغير، أدخلنا أنبوبا فضيا في الإبر لنسمح للدم بالجريان من خلالها إلى صحن. وخلال دقيقة تقريبا، انساب نحو 12 أوقية من دم الخروف عبر الأنبوب إلى الصحن؛ وهو ما أرشدنا إلى كمية الدم التي سيجري نقلها إلى الرجل. بعد ذلك، عندما أخذنا نجهز الوريد في ذراع الرجل، كان الوريد أصغر من الأنبوب الذي كنا ننوي إدخاله فيه؛ لذلك استخدمنا أنبوبا آخر أصغر بنحو الثلث عند الطرف. بعدها شققنا الوريد اتباعا للطريقة المنشورة سلفا في العدد 28؛ وهي الطريقة التي اتبعناها دون أي تغيير إلا في شكل أحد الأنابيب الذي رأينا أنه أنسب لأداء الغرض الذي نريده. وبعد فتح الوريد في ذراع الرجل بالقدر نفسه من السهولة المعهودة في طريقة الفصد التقليدية، أخرجنا نحو 6 أو 7 أوقيات من الدم. ثم زرعنا أنبوبنا الفضي في الشق المذكور، وأدخلنا الإبر بين الأنبوبين اللذين أدخلا بالفعل إلى الرجل والخروف لنقل الدم الشرياني من الخروف إلى وريد الرجل. لكن هذا الدم استغرق نحو دقيقة خلال مروره في الأنبوبين والإبر إلى الذراع، ثم تدفق بحرية إلى وريد الرجل في خلال دقيقتين على الأقل؛ لذا شعرنا بنبض في الوريد المذكور في الجزء المجاور لطرف الأنبوب الفضي؛ رغم أن المريض قال إنه لم يشعر بالدم، لكن (كما ذكر عن المريض في التجربة الفرنسية) هذا يعزى إلى طول الأنابيب التي يعبر الدم من خلالها، حيث يفقد كثيرا من حرارته ليصبح متلائما مع الدم الوريدي. أما كمية الدم التي دخلت وريد الرجل فقد قدرنا أنها من 9 أو 10 أوقيات تقريبا، لأن هذا الأنبوب أقل من نظيره الذي مرت عبره 12 أوقية في دقيقة واحدة من قبل، فقد افترضنا أنه سيستغرق دقيقتين لنقل نفس كمية الدم إلى الوريد، كما نقل الأول الكمية إلى الصحن في دقيقة واحدة؛ بافتراض أن الدم مع كل ذلك لم يتدفق بقوة في الدقيقة الثانية كما كان في الأولى ولا في الثالثة كما كان في الثانية إلخ. لكن الدم تدفق طوال الدقيقتين، ونستنتج ذلك بسبب شعورنا بنبض خلال هذا الوقت. وكذلك لأنه بعد تعبير الرجل عن اكتفائه سحبنا الأنبوب من وريده وفاض دم الخروف خلالها سائلا؛ وهو ما لم يكن ليحدث إن كان هناك ما يوقفه من قبل خلال هاتين الدقيقتين؛ نظرا إلى أن الدم يميل بشدة إلى التجلط في الأنابيب مع أي توقف، ولا سيما في حالة الأنابيب الطويلة بطول ثلاث إبر.
شعر الرجل بعد هذه العملية - وكذلك في أثنائها - أنه على ما يرام، وروى ما يحدث له حرفيا، مسهبا في الحديث عن الفائدة التي عادت عليه - كما يظن - منها بدرجة تتعدى ما نراه مناسبا في الوقت الحالي. وطلب منا أن نكرر إجراء هذه التجربة عليه في خلال 3 أو 4 أيام. لكننا رأينا أنه من الأفضل أن نؤجلها لمدة أطول. وفي المرة المقبلة، نأمل أن نكون أكثر دقة، خاصة في قياس وزن الحيوان المانح، قبل العملية وبعدها، لتتوفر لنا معرفة أفضل بكمية الدم التي فقدها.
تبدو التجربة في رأي أولدنبرج ناجحة وإن كانت مملة إلى حد ما؛ فقد نجا الرجل لكنه لم يتغير، وليس من المؤكد ما إذا كان كوجا قد تلقى كمية كبيرة من الدم؛ نظرا لاهتمامهم بطول الأنبوب الموصل بينه وبين الخروف، والعلامات الأولية على تثاقل حركة الدم عبره حتى قبل إدخاله إلى ذراع كوجا. علاوة على ذلك، لم يذكر كوجا أي شيء عن إحساسه بأي حرارة؛ وهي ملاحظة تكررت في التجارب الفرنسية وعرض يظهر على الأغلب نتيجة استثارة الدم الغريب لرد فعل شديد في دم المتلقي مع دخوله إلى الأوعية.
من الصعب تحديد الأثر الحقيقي لعمليات نقل الدم إلى كوجا. ومن المؤكد أن بيبيس كان إيجابيا بدرجة كبيرة، رغم أنه لم يذكر أن كوجا ربما كان يعاني من اختلال عقلي بسيط، وبذلك يصعب التأكد من أي نتيجة:
سررت لرؤية الرجل الذي أخذ منه دمه؛ إنه يتحدث جيدا، وقدم للجمعية تعليقا على التجربة باللاتينية، قائلا إنه يشعر بتحسن من بعدها، وإنه صار رجلا جديدا، إلا أنه يشعر بصداع خفيف في رأسه رغم أن كلامه منطقي وجيد جدا. لم يتقاض سوى 20 شلنا لقاء الخضوع لتلك التجربة، ومن المقرر أن يخضع لذات التجربة مرة أخرى؛ هو أول رجل سليم يخضع لها في إنجلترا، لكننا نسمع عن آخر في فرنسا.
لذ اتفق مجموعة العلماء، بعد انبهارهم بأدائهم الأول، على تكرار التجربة. مع اطمئنانهم إلى أن محاولتهم الأولى بينت أنهم لم يكونوا على شفا كارثة. ففتحوا الأبواب أمام مجموعة أكبر من المشاهدين، وبعد أقل من شهر، في الرابع عشر من ديسمبر 1667، أجرى لوور وكينج ثاني تجربة لنقل الدم أمام الجمعية بالكامل، ومعها - كما أخبر أولدنبرج بويل - «حشد غريب من المحليين والأجانب».
لكن هذه المرة، لم ترد عملية نقل الدم في «مداولات فلسفية». والسبب؟ من الممكن جدا أن يكون ذلك بسبب أنها كانت عادية جدا. في الواقع، كتب السير فيليب سكيبون إلى جون راي - عالم البيئة الرائد وعالم اللاهوت وقتئذ - قائلا: «لم تر آثار نقل الدم؛ فقد تكفلت المقاهي بإفساد أخلاق الرجل، ومن ثم بإحراج الجمعية الملكية وجعل التجربة سخيفة.»
1
من الواضح، أن الحضور المهمهم قد أصيب بخيبة أمل لأنهم لم يروا علاجا ولا شخصا معتوها، وطردوا الرجل المصاب ببعض الخرف.
وأتت الكلمة الأخيرة تقريبا عن هذا العلاج الخاضع للتجربة في خطاب للجمعية الملكية من أجنوس كوجا، وهي إما والدة المريض أو زوجته، ولم تكن متفائلة بالمسألة بجملتها. وباستنباط مضمون الرسالة، يبدو أن آرثر قد أصبح في فقر مدقع، ومحتقرا إلى حد ما، وعاجزا عن الحصول على عمل. يمكن أن ينظر لهذا باعتباره «خطاب استعطاف» تقليديا يتوسل للحصول على المال، لكن بالنظر إلى الحالة المالية المزرية للجمعية الملكية، لم يكن هناك ما يؤدي لاعتقاد قدرة الجمعية على إرسال المال:
إلى علماء الجمعية الملكية وكل أعضائها الموقرين، إليكم خطاب أجنوس كوجا المتواضع
إن كائنكم (إذ إنه كان إنسانا قبل أن تحوله تجربتكم إلى نوع آخر) من بين التغييرات التي وجدها وقد طرأت على حالته، والتي تتبدى واضحة عليه، يجد جيوبه بالية كما بلي جسده، واستجماع قواه يعني إجباره على فقدان أعصابه - والأمر نفسه ينطبق على المال - سواء كان هادئا أو مضطربا. إنه لمن البؤس أن تجرده الحاجة إلى حرارة طبيعية من حرارته الظاهرية كذلك: لكن تلك هي حالته؛ فلمداواة جروحه (جروحكم؛ لأنكم من أوجدها) يرهن ملابسه؛ لقد اشترى بثمن باهظ دم خروفكم؛ إذ خسر سلامة وعائه الدموي الذي دمره دم الخروف؛ لقد باع لكم نفسه ليشتري منكم الصوف الذهبي - مثلما فعل أرجوس. لقد كان يرى أنه من الضروري لمعاليكم - من أجل التحول الكامل - أن تغيروه من الخارج كما غيرتموه من الداخل. وإن أجبرتموه على ذلك، فلا يزال في أوعيته بعض من دماء تحت إمرتكم، بشرط أن يكون دمه كي تكون التضحية أنبل.
خادمتكم المتواضعة
أجنوس كوجا.
2
وكما هو الحال في أغلب الأحيان، كانت الكلمة الأخيرة للطبيب، وتعطي كلمات لوور في كتابه «علاج القلب» انطباعا عن خيبة أمله في كوجا. فمن وجهة نظر لوور تلقى كوجا تعويضا سخيا لخدماته، خاصة بالنظر إلى أنه تلقى المال لقاء تلقي علاج رائد. من الواضح أن لوور أراد تكرار نقل الدم عدة مرات أملا في علاج الجنون الطفيف لدى كوجا تدريجيا، لكن كوجا على الجانب الآخر «راجع غريزته بدلا من مصلحته الصحية، وخيب توقعاتنا بالكامل». وبهذا نزل كوجا عن مسرح التاريخ، ولم يسجل أي شيء آخر عن حياته.
عند هذه المرحلة توقفت أبحاث نقل الدم في إنجلترا هي الأخرى. في الواقع، لم يكن هناك أي مجهود حقيقي في هذا الصدد إلا حين بدأ الطبيب الإنجليزي جيمس بلانديل تجاربه لنقل الدم بين الكلاب فيما بين عامي 1817 و1818 قبل أن يبدأ نقل الدم إلى 10 مرضى كانوا قد عانوا من نزوف حادة. إلا أن الفجوة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر كانت ناتجة بصفة رئيسية عن الاضطراب الذي كان على وشك الانفجار في باريس.
الادعاءات الأوروبية
أوحت الطريقة التي كتب بها دوني عن عمله بأنه ما من أحد غيره قد سبق وفكر في نقل الدم قط، لكن من الصعب الاعتقاد بأنه تصور ذلك فعلا. فقد كان هو وإميري متحمسين جدا لتحدي المعتقدات القديمة عن الكيفية التي يعمل بها الجسم، لكن لا بد أن دراستهم للطب قد جعلتهم يصادفون حتما بعض الكتب التي عرفوا منها أن هناك آخرين في أوروبا قد دونوا أفكارا مشابهة كتابة. علاوة على ذلك، وخلافا للادعاءات في إنجلترا، يبدو من المدهش أن بويل كثير الأسفار بجانب أصدقائه رين ولوور قد عجزوا عن استيعاب أهمية بعض النصوص التي يعود تاريخها إلى بداية ذلك القرن. لكن يتضح من ذلك أنه لم يكن هناك أي وسيلة رسمية لنشر المعرفة في أنحاء أوروبا في ذلك الوقت، ووجد كثيرون أنفسهم يعملون في عزلة. وحدها مزية كوننا ننظر إلى الأمر برمته بعد قرون من حدوثه، تسهل لنا تكوين صورة أفضل عمن فعل ماذا أولا.
بداية، كانت هناك محاولة غريبة لنقل الدم في روما؛ مرض البابا إنوسنت الثامن؛ إذ كان يعاني سكتة دماغية، ورغم أنه كان قد تحسن قليلا، لكنه لم يستعد كامل عافيته مرة أخرى، بل إن صحته سرعان ما أخذت تتدهور؛ حتى ظن أحد مساعديه في يوم من عام 1490، أنه قد مات. لكنه قاوم، وفي العامين التاليين تولى طبيب يهودي (ذكرت بعض الروايات أن اسمه أبراهام ماير من بالمز) الإشراف على حالته، واقترح علاجا. كان اقتراح الطبيب أن ينقل كل الدم القديم في جسم الكهل إلى شاب، وفي المقابل ينقل دم الشاب إلى البابا البالغ من العمر 58 عاما؛ من المفترض أن يعيد هذا التبديل للبابا عافيته بتجديد دمائه تماما بجرعة من دم يافع.
يحتمل أن يكون هذا الطبيب قد بنى فكرته على عمل نشر عام 1489 للفيلسوف الإيطالي ورئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا مارسيليو فيسينو. كان فيسينو أحد أبرز الأسماء التي قادت النهضة، كذلك أشار إلى أن شرب دم الشباب اليافعين الأصحاء قد يكون طريقة جيدة للتخلص من الوهن والأمراض المرتبطة بالتقدم في السن.
أما ما حدث بعد ذلك بالضبط، فقد ضاع عبر السنين، لكن هناك أدلة قوية تشير إلى استدعاء ثلاثة صبية في العاشرة من عمرهم، وإعطاء كل منهم دوكات (العملة في ذلك الوقت) وأخذ كمية كبيرة من دمائهم، إلا أن أيا من الروايات المعاصرة لا تبين إذا كانت قد أجريت أية محاولة لنقل هذا الدم إلى البابا، سواء بخلطه بوصفة علاجية، أو بإدخاله في أوردته، لكن النتيجة كانت واضحة. فقد مات الصبية الثلاثة وكذلك البابا، وهرب الطبيب اليهودي لينجو بحياته. لم تمر الحادثة بسلام في الجوار، حيث أثير الشغب والاضطرابات بعد أن أخذت الشائعات عن وفاة الصبية الثلاثة في الانتشار. ربما لم تحقق هذه المحاولة النجاح، لكنها لم تقض على كل التفكير في هذا الشأن.
لكن قبل أن نفزع، علينا أن نذكر أنفسنا بالتصور المعاصر عن الدم. فإن الدم الوريدي لم يكن إلا سائلا مغذيا يفرزه الكبد، فمن المنطقي الاعتقاد بإمكانية إخراجه من شاب أو صبي وبأنه سرعان ما سيفرز كمية أخرى. سيكون الصبي سليما معافى؛ إذ سيتناول وجبة دسمة، وربما يأخذ فترة راحة قصيرة لكيلا يجهد نفسه بينما يهضم الطعام الذي سينقل إلى الكبد، ومنه إلى القلب حيث يمكن تحويله إلى دم. وكان إخراج الدم الشرياني للشخص خطوة أكثر جرأة؛ إذ إن هذا سيستنفد جوهره الحيوي بشده ويمكن لهذا أن يهدد حياته . كان كل ذلك يجري بالطبع قبل قرن من أن يثبت أي شخص أن الدم الوريدي والشرياني هما شيء واحد، وقبل نحو قرنين من معرفة أن الدم لا يقتصر على توزيع العناصر الغذائية على الجسم بل والأكسجين كذلك. في الواقع، لم يكن أحد يعلم في ذلك الوقت بوجود الأكسجين أساسا.
وكأن حادثة البابا لم تكن مريعة بالقدر الكافي، فالتاريخ يسجل الأسوأ؛ إذ شهدت المجر عام 1560 مولد فتاة تزوجت في 8 مايو 1575 من الكونت فيرينسز ناداسدي وأصبحت تعرف بإليزابيث كونتيسة باثوري. تقول الأسطورة إنه ذات يوم جذبت خادمة شعر الكونتيسة بغير قصد؛ فكان رد إليزابيث أن صفعتها بقوة لدرجة أنها نزفت. وبعد انتهاء الحادثة، صارت الكونتيسة مقتنعة بأن الجزء الذي غطاه الدم من بشرة الخادمة قد لان؛ فقد كان أكثر نعومة ورقة. بالنسبة إليها، كانت الخصائص السحرية لهذا السائل قوية جدا.
لسوء الحظ، أدى هذا الاستنتاج إلى سلسلة من الأحداث البشعة؛ فقد استدرجت إليزابيث الفتيات القرويات الصغيرات إلى قلعة تشاختيتسة بحافز الحصول على وظيفة وكسب المال. وكانت ثلاث من المتواطئات مع الكونتيسة وهن دوروتيا سينتيز ودارفولا وممرضتها ليلونا جو يستخرجن دم هؤلاء الفتيات ويستخدمن هذا السائل الدموي لتجهيز حمامات لسيدتهن. يبدو أن إحدى الضحايا المحتملات تمكنت من الهرب، وذهبت إلى ملك المجر ماتياس الثاني الذي أمر بالتحقيق. وفي 30 ديسمبر 1610، اقتحم الجنود القلعة، وخلال المحاكمة التي تلت، اعترفت إليزابيث بقتل نحو 650 فتاة من أجل «حمامات تجميلها».
كانت العقوبات مقززة بقدر الجرائم ذاتها وهو طابع ميز هذا العصر؛ فقد تعرضت المساعدات للتعذيب، وقطعت رءوسهن، وحرقت جثثهن. أما الكونتيسة نفسها، فاعتبرت أرقى من تلك المعاملة، وحبست بدلا من ذلك في غرفتها التي أغلقت عليها بجدران حجرية ليس بها إلا فتحة صغيرة يمكن من خلالها إدخال الطعام، وماتت بعد ثلاثة أعوام.
جاء أول ذكر جدي لنقل الدم على لسان الكيميائي الألماني المولد أندرياس ليبافيوس الذي نشر في عام 1615 وصفا دقيقا للطريقة التي رأى أنه ينبغي استخدامها. وذكر في كتابه «ملحق الطريقة الغامضة اللازمة للخيميائيين» باللاتينية وما يلي ترجمة تقريبية:
ائت بشاب سليم قوي غني بالدم الزاخر بالحياة، وكهل واهن لا قوة له يمكنه بالكاد أن يتنفس. فإن أراد الطبيب أن يعيد للثاني حيويته فعليه أن يصنع أنبوبين فضيين يمكن إدخال أحدهما في الآخر، ثم يفتح شريان الشاب السليم ويدخل أحد الأنبوبين فيه ويثبته في الشريان. ثم يمكنك بعد ذلك فتح شريان الشخص المريض، وتثبيت الأنبوب الآخر ذي الطرف الغائر به. بعدها يمكن توصيل الأنبوبين أحدهما بالآخر. وسيرى عندها أن الدم الشرياني للشاب السليم وهو حار ومفعم بالروح يندفع إلى الكهل المريض ويمده فورا بنبع الحياة ويذهب عنه الوهن.
3
وبالدراسة الواعية لما ورد، نجد أن هناك علامات واضحة تذكر بأن ليبافيوس كتب ذلك قبل انتشار أي معرفة بأفكار هارفي عن الدورة الدموية. فهو، على كل حال، قد كتب ما سبق قبل أكثر من عقد على نشر هارفي لفكرته عن دوران الدم في أرجاء الجسم في كتابه «حركة القلب». مع ذلك كان هذا هو الوقت الذي كان هارفي سيبدأ فيه مناقشة أفكاره مع كثيرين وتنتشر أفكاره في الأوساط الأوروبية.
كانت فكرة ليبافيوس هي توصيل شريانين معا. لكن لماذا شريانين؟ كان ليبافيوس يعمل على وضع نظرية ترى أن هناك نوعين من الدم: الوريدي والشرياني. من الواضح أنه لم يهتم بالتعويض الغذائي للكهل، بل أراد أن ينقل خلاصة الحياة للشاب إلى هذا المريض الذي شاخ. وكانت النظرية القديمة تقول إن الروح كامنة في الدم الشرياني. (من الممكن أن ليبافيوس كان سيوصي بتوصيل وريدي الرجلين إن أراد أن ينقل المواد الغذائية.) ولا يوجد دليل على أن ليبافيوس قد جرب هذه الخطوة قط، ولا سبب يدعو إلى افتراض نجاحها إن كان قد فعل؛ إذ إن الضغط في شرايين كلا المريضين سيتعادل، ليمنع الدم من التدفق عبر الأنبوب. ولم يكن ليبافيوس ليعلم بهذه المشكلة المحتملة، بل كان سيتوقع أن يسحب جسم الكهل الفقير الدم من الشاب المتمتع بالصحة الوافرة.
رغم اهتمام بويل بالكيمياء، ورغم الاتصالات المتقدمة نسبيا في أوروبا، لم يعترف أي شخص في إنجلترا بمعرفته بأفكار ليبافيوس إلى أن كتب مراسل إيطالي - باولي مانفريدي - إلى أولدنبرج وأشار إلى الكتاب في عام 1668. لكن من الممكن أن يكون السبب هو أنهم استبعدوا أي شيء فيما قبل هارفي باعتباره غير ذي صلة على أساس أن أي أفكار غير مبنية على فكرة الدورة الدموية كانت معيبة من الأساس.
كتب الأستاذ يوهانس كول في أثناء عمله في بادوفا بإيطاليا كتابا يطرح وسائل جديدة لإطالة العمر. وذكر كتاب كول الذي بعنوان «الطريقة السهلة في إعداد علاج جديد آمن» والذي نشر بعد عمل مانفريدي ببضع سنوات فكرة نقل الدم بالفعل، وإن لم يرد فيه أنه جرب تلك الطريقة فعلا.
كما زعم كل من العلماء الفرنسيين والإنجليز عدم علمهم إطلاقا بمزاعم الطبيب الإيطالي فرانشيسكو فولي هو الآخر؛ إذ أكد فولي أنه في 13 أغسطس 1654، وبحضور الدوق العظيم فرديناند الثاني، استخدم جهازا مصنوعا من أنبوب فضي وجزء من شريان وأنبوب مصنوع من قطعة عظم لنقل الدم بين الحيوانات.
وفي عام 1680، نشر فولي كتيبا زعم فيه أنه مبتكر نقل الدم:
لقد أشرت إلى هذا في كتيبي عن ثقافة الحياة الذي لم أنشره إلا لأعرف الجميع أنني مبتكر نقل الدم بنهاية عام 1654، وشرحته لمعالي فرديناند الثاني دوق توسكانا العظيم صاحب الذاكرة التي لا تشيخ. وقد سرته حداثة الفكرة أو عبقريتها الباهرة أو شرحها التجريبي اللافت.
4
على عكس ليبافيوس، تمتع فولي بميزة الاطلاع على عمل هارفي، وبنى ادعاءه لاستحقاق الشهرة على أنه لما قرأ «حركة القلب» عام 1652، خطر بباله على الفور المزايا المحتملة لنقل الدم. وزادت قوة الفكرة بملاحظته لتوءمين ملتصقين يشتركان في الكبد ومتصلين عند الأمعاء. وكما هو الحال في أغلب الأحيان، كان أحد التوءمين مشوها بشدة وغير قادر على تناول الطعام أو الشراب، ومن ثم كان معتمدا على توءمه لإمداده بالغذاء والسوائل. لقد كان هذا في ذهن فولي المحب للاستطلاع مثالا «طبيعيا» على نقل الدم.
ودفعه حماسه إلى القول إن الأطباء عليهم أن يعدوا قوائم تضم 20 شابا يمكنهم أن يكونوا سلسلة من المتبرعين، حيث يعطون جرعة يومية من الدم لمستقبل. ويعرض كتابه صورا للأدوات المصنعة من الأنابيب الفضية والذهبية وأقماعا مصنوعة من معادن أقل تكلفة تتصل بشرايين مأخوذة من عنزة. لكن السؤال هو: لماذا لم يعرف أحد بهذه التجربة إذا كانت مثيرة وناجحة إلى هذا الحد؟ والأرجح على ما يبدو أن فولي ناقش إمكانية إجراء مثل هذه العملية مع ضيفه الكريم لكنه لم ينفذها قط؛ إذ لم يرد الحدث في أي سجل للبلاط. يقدم فولي تفسيرا بديلا:
لم أعرض فكرتي على أحد آخر؛ إذ رأيت أنه إن كان هذا الابتكار ناجحا فالملوك وحدهم هم من يستحقونه.
وحتى في توضيحه هذا لرغبته في السرية، يوجد أكثر من تلميح بأنه لم يتمكن من إتمام العملية بصورة كاملة، حيث تطلع إلى وقت يكون فيه «هذا الابتكار ناجحا». لكنه في نهاية الكتاب يعترف بكل شيء.
في النهاية، أعرف أنني ذكرت كثيرا من التفاصيل عن طريقة إجراء العملية وليس عن إجراء التجربة ... لكنني أجريتها وحدي حتى يمكن لأي شخص - مهما كان بسيطا أو جاهلا - أن يفهم وأن يتحمس وأن يجري التجربة بأقل كلفة ممكنة، ولهذا السبب وحده كتبت باللغة العامية.
بجانب هذه الكتب التي حاولت ادعاء السبق، شهد القرن ظهور بضعة كتب طبية تناولت نقل الدم كما لو كان جزءا طبيعيا من الطب المتقدم. فقد سجل يوهان سيجيسموند إلشولتس الطبيب الألماني الخاص ببارون براندنبرج تجاربه في كتيبه «الطريقة الحديثة لحقن الأدوية في الدم». وأورد فيه رسوما تشريحية لتكميل الوصف الوارد في النص، لكي يتمكن القراء من نقل الدم من قدم خروف إلى ذراع إنسان، أو نقل الدم بين ذراعي شخصين بدلا من ذلك.
شكل 8-1: يبدو أن دوني كان يشارك فولي تصوره عن التوائم الملتصقة كما يبدو من هذا الرسم المبين في التقارير المنشورة عام 1672 عن اجتماعاته في باريس. نسخت بتصريح من مكتبة كليندينينج لتاريخ الطب، المركز الطبي لجامعة كانساس.
وطبقا لإلشولتس، كان الأمل الأكبر معقودا على قدرة نقل الدم على علاج الأمراض الناتجة عن اختلال الأخلاط. فإن كان الشخص مصابا بمرض لا أمل من شفائه، ينبغي للطبيب أن يعطيه دما من شخص ذي مزاج مرح . بالمثل، من المفترض أن تلقي دم بلغمي (بارد الطبع) يعالج شخصا صفراوي المزاج (سريع الغضب). كما يقول إلشولتس إن نقل الدم ينبغي له أن يحل الخلافات الزوجية. فمشكلة الزيجات التي تفشل - على حد قوله - هي أن الزوجين مختلفا الطبع. وبما أن طبيعة الإنسان موجودة في دمه، فإن الحل واضح؛ ألا وهو خلط دم الزوجين. أراد إلشولتس أن يجري تجارب نقل دم تبادلي بين الأزواج والزوجات، لكن لا دليل على أن الفرصة أتيحت له ليجرب هذه الطريقة الثورية في تقديم النصائح الزوجية.
نشر كتاب إلشولتس عام 1667 - وهو العام الذي تمت فيه تجربة دوني - وكان أكثر اهتماما بحقن السوائل العلاجية من اهتمامه بنقل الدم؛ ويحق أن يقال إنه أول كتاب يحتوي على رسومات توضيحية للحقن باستخدام إبرة طبية. وكانت تعليقاته على نقل الدم مبنية بدرجة أكبر على الأمل والحس التنبئي من الواقع العملي، رغم أنه زعم أنه أجرى نقل الدم مرة واحدة على الأقل.
ثمة طبيب ألماني آخر اتبع المنهج الفكري نفسه؛ ففي عام 1679، نشر جيورج أبراهام ميركلينو كتابه «العلاج الطبي وغرائب بزوغ وأفول نقل الدم» الذي تضمن رسوما توضيحية تبين مدى بساطة نقل الدم من كلب إلى إنسان أو فيما بين البشر.
5
شكل 8-2: أول رسم توضيحي للحقن بالإبر. نسخت بتصريح من المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.
ونشر سكلتيتوس كتابه «العلاج الجراحي» بعد 26 عاما. وعرض هو الآخر كيفية نقل الدم، لكن هذه المرة بربط الحيوان المتبرع بحبل مشدود يمتد من الأرض إلى السقف. ويذكر الكتاب بالكاد الفوضى التي تنجم عن مثل هذه العملية. وكذلك كتاب جوتفريد بورمان المنشور عام 1705 «إكليل الغار أو طب الجروح».
وتضمن الكتاب - الذي نشر في فرانكفورت - رسما لحمل يجلس في هدوء على منضدة بينما يتبرع بدمه الحي في كرم لمتلق يجلس مستسلما هو الآخر؛ وهو شخص يجلس بارتياح على كرسي. ويزعم بورمان أن أفكاره قد خطرت له بعد أن شهد نقل الدم من حمل إلى شاب في فرانكفورت عام 1668، لكنه لم يذكر من أجرى العملية ولا نتائجها.
ويزعم بورمان أنه في أثناء عمله مع بالتاسار كاوفمان قد عالج السيد فيلسلاين من الجذام بنقل الدم إليه من حمل سليم، لكنه فشل في علاج «جنديين مصابين بالإسقربوط» وصياد يعاني من «طفح جلدي متفش». لكن، بصفة عامة، استنتج بورمان أن نقل الدم لا يؤثر كثيرا في المتلقي عادة؛ ربما لأن جهاز نقل الدم لم يكن فعالا بدرجة حالت دون حصول الشخص على كمية كبيرة من الدم.
كان انعدام الفائدة الملموسة يعني أنه مع أوائل القرن الثامن عشر لن يكون هناك في أوروبا من يواصل إجراء تجارب نقل الدم. إلا أن هذا لم يمنع الناس من وصف كيفية إجرائه في كتاباتهم. ففي عام 1763 - مثلا - أورد الجراح الألماني لورنس هايستر - الذي لم يكن قد ولد إبان تجارب نقل الدم في القرن السابع عشر - سلسلة من الرسومات في كتابه بعنوان «الجراحة».
وفي هولندا - عام 1668 - أجرى الطبيبان رينييه دي جراف وفان هورن تجارب نقل الدم باستخدام حيوانات، لكنهما لم يتحمسا للتقنية، وسرعان ما تخليا عنها.
وعلى مسافة أبعد، حيث إسبانيا، وردت روايات تقول إن الدكتور فابريتيوس طبيب دانتزيك كان يدرس إمكانية حقن سوائل طبية في أوردة البشر. ففي رسالة ترجمها أولدنبرج إلى الإنجليزية ونشرت في «مداولات فلسفية» في 9 ديسمبر 1667 وصف فابريتيوس ثلاث محاولات أجريت على ثلاثة أشخاص مختلفين. كان الأول «جنديا شهوانيا» أصيب بعدوى خطيرة لمرض تناسلي وظهرت لديه «نتوءات خطيرة في عظام ذراعيه». وبحقن ملين في أوردة ذراعيه، شكا الجندي من ألم شديد وتورمت أوردة ذراعيه إلى حد بالغ. وبعد أربع ساعات من التدليك بعناية، اختفى الورم من أوردته، وفي اليوم التالي تبرز خمس مرات بكمية جيدة - وهو ما يعد دائما علامة على الصحة الجيدة. علاوة على ذلك، اختفى المرض التناسلي والتكتلات التي كانت في ذراعه دون مزيد من العلاج.
أما عمليتا الحقن الأخريين فكانتا لامرأتين؛ كانت الأولى متزوجة وبالغة من العمر 35 عاما، والثانية خادمة شابة في العشرين من عمرها. وكانتا تعانيان من نوبات صرع طوال حياتيهما، وقد فقدتا الأمل في إيجاد علاج. حقنهما فابريتيوس بملين مذاب في «محلول روحي مضاد للصرع». تغوطت السيدة ذات الأعوام الخمسة والثلاثين برازا لينا بعد الحقن مباشرة، ومنذ ذلك الحين قلت لديها حدة نوبات الصرع وتكرارها، لتختفي تماما في النهاية؛ لقد شفيت المرأة. أما الفتاة فكان علاجها أقل نجاحا. فقد تبرزت أربع مرات بعد العملية، وهو ما أتاح لفابريتيوس أن يستنتج ضمنا أن العملية أصابت قدرا من النجاح. إلا أنها خرجت بعدها وأصيبت ببرد وعجزت عن الالتزام بنظامها الغذائي. وأدت النتيجة الإجمالية لهذه الأحداث إلى موتها.
وفي ختام تقريره يقول فابريتيوس: «من اللافت أن القيء مباشرة بعد العملية وبشدة وبصفة متكررة كان عاملا مشتركا في الحالات الثلاث؛ ويترك للأطباء العباقرة تحديد السبب وراء ذلك.» لقد أصبحنا نعلم الآن أن حقن كثير من السموم في مجرى الدم يمرض الإنسان بشدة.
بالعودة إلى إيطاليا، حيث أجرى سنيور فراكاساتي أستاذ التشريح في بيزا سلسلة من التجارب عام 1667، بحقن السوائل في الأوردة. في البداية، حقن ماء النار (حامض النيتريك) في كلب، فنفق، وكشف تشريح الجثة عن أن عديدا من الأوعية في الرئتين قد تلفت. ووجد فراكاساتي أن الدم كان متجلطا، واستنتج أن أي شيء يذيب الجلطات قد يكون علاجا لأمراض معينة.
وأدى حقن خلاصة الزاج (حامض الكبريتيك) في كلب آخر إلى نوبات صرع، وسبب له معاناة كبيرة قبل نفوق الكلب المسكين. وبفحص الكلب من الداخل، اكتشف فراكاساتي أن الدم كان «متصلبا في الأوردة ومتخثرا ويشبه السناج». أما زيت الكبريت (يشبه حامض الكبريتيك) فلم يكن له أثر مميز، وإن سبب زيت الطرطير (أحد مكونات مساحيق الخبز) الشعور بألم قبل أن يقتل الكلب.
وبين مقال نشر في «مجلة الأدباء» - وهي النظير الإيطالي لدورية أولدنبرج - أن ثمة تجارب نقل دم كانت تجرى في جنوب القارة. ففي 8 مايو 1667، نقل سنيور كاسيني الدم من الشريان السباتي لحمل إلى الوريد الوداجي لحمل آخر. وكان قد أخرج من الحمل المتلقي قبلئذ كمية كافية من الدم ليفسح مجالا للدم الجديد. وبانتهاء العملية كان قد ربط الوريد الوداجي وقطب الجرح وترك الحمل ينزل من فوق المنضدة. تعافى الحمل وراح ينمو طوال ثمانية أشهر إلى أن نفق فجأة في 5 يناير 1668. من الواضح أنه مر بعملية نقل الدم بسلام، وليس من المرجح على ما يبدو أن موته كان نتيجة مباشرة للتجربة.
وكما كان الحال في إنجلترا، أثارت أخبار عمليات نقل الدم الاهتمام، وسرعان ما استدعي كاسيني لعلاج كلب سنيور جريفوني السبنيلي الأصم البالغ من العمر 13 عاما. وكان هذا الكلب متوسط الحجم، ومصابا بالصمم قبل ثلاثة أعوام، وكان شبه كسيح. وعندما رأى الكلب سيده بعد نقل الدم، قفز عن المنضدة، وجرى إلى خارج الحجرة بحثا عن سيده. وبعد مرور يومين كان الكلب قادرا على المشي وخلال شهر لم يعد أصم. ولا يبدو أن هناك تفسيرا منطقيا لهذا الشفاء المذهل.
في مجمل الأمر، يبدو أنه ليس هناك شك في أن دوني وإميري من أوائل الناس الذي أجروا نقل الدم إلى إنسان، وأن الإنجليز كانوا أول من أجرى العملية بين الحيوانات. وكذلك كان العلماء الألمان والإيطاليون أول من فكر جديا في الفكرة. ودائما ما يقال إنه لا تتم تجربة على نحو جيد من المرة الأولى!
المعارضة الفرنسية
كما يبدو أن هناك قاعدة تاريخية أساسية تقول إن الناس إما يقبلون التكنولوجيا الجديدة على مضض أو يعارضونها بقوة. ففي أغلب الأحيان، لا يمكن الحكم على السلامة والمصداقية في الادعاءات والادعاءات المضادة للفريق «المناصر للتغيير» أو فريق «بقاء الحال على ما هو عليه» إلا بالنظر إلى الوراء على الموقف بأكمله والمزية المعتادة للنظر إلى الأمور بعد حدوثها بسنوات.
في الوقت الذي كان فيه بعض الأطباء الذين يؤلفون الكتب يعبثون بفكرة نقل الدم، ارتعدت فرائص الغالبية العظمى للعاملين بالمجال الطبي بسبب الفكرة. لسوء حظ دوني، كانت إحدى أكثر المجموعات المعارضة له تأثيرا هي كلية الطب في باريس. وجاء الهجوم في صورة خطابات وكتيبات مطبوعة أخذت تظهر بحلول عيد الميلاد عام 1667. ورد مؤيدو دوني، إلا أن أطباء باريس كانوا يتمتعون بنفوذ سياسي كبير؛ رغم أن حججهم كانت عن غير علم ومخطئة في التقدير إلى حد كبير، وكانت الحياة تزداد صعوبة على دوني. ففي وقت ما كان ممتنا لمونتمور وأصدقائه على رعايتهم له، والآن أصبح في حاجة إليهم ليحموه.
الفصل التاسع
لغز موروا
نعود من جديد إلى مكتبة مونتمور في ليلة 19 ديسمبر 1667. ما سر البعض وأصاب البعض الآخر بصدمة أن دوني وإميري أعلنا أن موروا - مريضهما المرتقب - على حد علمهما كان في حالة مستقرة ويتمتع بصحة جيدة بوجه عام. لقد كان مرشحا مثاليا لتلقي علاجهم الثوري. نعم سيكون هو ثاني مريض يتلقى بعض الدم المنقول. ولتفادي أي تدهور محتمل، ينبغي إجراء العملية في أسرع وقت ممكن. وكان ذلك - كما ذكروا - تجربة لفكرة. ولم يكن ليبدو عليهما أي شعور زائد بالثقة في ادعاء اليقين بأن العملية ستعالج الرجل المسكين، وإن كانا يأملان بالتأكيد أن يحدثا معجزة. لقد كان ظهور الحذر عليهما، ثم إعلان نجاحهما الباهر بعد أيام قليلة هو نهج العمل المفضل لديهما قطعا.
كان شعورهما بالتردد مبررا بأسباب عملية؛ إذ إنهما لم يسبق أن أجريا العملية على رجل سليم بدنيا يعاني من سلوك مختل. وكان أفضل تخمين لديهما هو أن عليهما استخدام دم عجل لأن «لينه وقوته قد تهدئ الحرارة والغليان في دمه.» تحدد موعد للعملية - في السادسة من مساء ذلك اليوم - وانفض الجمع وسط جلبة كبيرة وتحيات مطولة.
وسرعان ما خلت الغرفة إلا من العالمين، ومضيفيهما وراعيهما مونتمور، وسيئ الحظ موروا؛ إذ لم يكن استمرار وجوده تطوعيا تماما بما أنه كان لا يزال مقيدا إلى كرسيه؛ وقد أخذ يشكو من جديد في مرارة. كالعادة، كان مونتمور هو المسئول، فاستدعى مجموعة من الخدم وبدأ في التحضير لنقل «المريض» إلى منزل آخر، حيث كانت فكرة الاستماع لصراخه طوال اليوم صعبة جدا عليه. كما أن منزله كان في منطقة راقية من باريس، ولم يكن مونتمور يرغب في أن يسيء إلى اسمه ومنزله، باتهام الجيران له بأن ثمة شغبا على وشك الحدوث في منزله.
من الأرجح أن مونتمور ودوني قد خططا لباقي تفاصيل اليوم، حيث ناقشا المكان الذي سيحصلان منه على متبرع بالدم والمستوى المقبول لأجر كل المشاركين، فقد رأيا أن تلك فرصتهم لإبهار العالم والانضمام إلى الأكاديمية الملكية للعلوم المنشأة حديثا. فكونهما أول من يعالج الأمراض العقلية في العالم لا يمكن أن يضر بطلبهما العضوية بأي شكل.
وذكر دوني - مسجلا الأحداث التي تلت في خطاب أرسل في البداية إلى مونتمور وأرسلت نسخة منه إلى أولدنبرج في لندن - أنهم نقلوا موروا إلى «منزل خاص»، كان على الأرجح منزل دوني في كيه دي أوجستين. كما أرسل مونتمور ودوني في طلب عامل قوي البنية ليعمل لديهم «حمالا». لقد كانا في حاجة إلى احتواء موروا لكن دوني أراد كذلك أن يطمئنه. فلطالما كان العمل مع المرضى الهادئين أسهل وأقرب إلى تحقيق نتائج جيدة. فأي مرشح لوظيفة الحارس والسجان هذه خير من رجل استفاد شخصيا من نقل الدم؟ هكذا، لم يختاروا أي رجل مفتول العضلات على نحو عشوائي، بل اختاروا الرجل الذي كان دوني قد نقل إليه دم حمل قبل ثمانية أشهر؛ الرجل الذي قال دوني إنه كان يتوق لتلقي جرعة ثانية.
طيلة اليوم أخذ الناس يتوافدون، وسر دوني لما رأى بينهم أطباء ومترددين على الكنائس. لقد كان هؤلاء الشهود أناسا يتفهمون ما كان يفعله، هذا بالإضافة إلى أفراد من العامة الذين يتمتعون بسمعة طيبة. وبحلول المساء جاء العالمان ومعهما عجل. وجاء في ترجمة أولدنبرج لكلمات دوني نفسه: «لقد استعملنا ما بوسعنا من مهارات لنقنع خيال مريضنا بالرغبة في الخضوع لنقل الدم.» وهذا تحوير جيد للعبارة التي من الممكن أن تكون ترجمتها: «لقد قيدنا المريض وربطناه بإحكام في منضدة ثابتة بوسط الحجرة.» وربما كمموه لتقليل عويله وصراخه.
كان دوني وإميري عازمين على ألا ينفد الدم منهما في منتصف العملية؛ لذا كان العجل خيارا جيدا حيث كان ضخما بدرجة معقولة. كما سيكون طيعا بصورة نسبية. لكن حتى في تلك الحالة، من المنطقي افتراض أن العجل في هذه الواقعة المحددة قد ربط بإحكام إلى منضدة بنحو لا يسمح له بالحركة.
خفتت الأحاديث فلم يكن يسمع إلا همس، بينما كان إميري يقطع الجانب الداخلي من فخذ العجل وهو تحت ضوء عدد من المصابيح وكشف شريانا قرمزيا منتفخا. احتشد المشاهدون بهدوء للحصول على موقع أفضل، يريد كل منهم الاقتراب لكنهم في الوقت ذاته حريصون على أن يبقوا خارج نطاق الخطر؛ لأن جميع من في الغرفة - باستثناء موروا ربما - كانوا على دراية بأن أي انزلاق صغير في سكين إميري سيفجر سيلا مندفعا من في أنحاء الغرفة.
بعد الكشف عن عرق العجل وتجهيزه ليعطي ما به من الإكسير، جاء دور المريض. وقف إميري مائلا عليه ليحدث قطعا في ذراعه اليمنى، وكشف عن وريد أسفل المرفق مباشرة. أعاق عمله مقاومة المريض، وفي الوقت الذي تم فيه القطع، كان موروا قد تمكن من التكور في وضع يشبه وضع الجنين، وهو فعل غريزي ليحمي نفسه. إلا أن ذراعه كانت لا تزال مقيدة بإحكام في إحدى أرجل منضدة وكان القطع والوريد مكشوفين في تناسق.
وتبعا للتعليمات، جرى تقريب المنضدتين الحاملتين للعجل ولموروا استعدادا لنقل الدم، لكن إميري أراد أولا أن يفسح مجالا في جسم المريض لمزيد من الدم. هذا يعني أن بعض الدم يجب أن يخرج قبل البدء في العملية. فحز الوريد المكشوف وشاهد الدم يتدفق إلى وعاء. وانتظر حتى حسب دوني أن نحو 10 أوقيات من الدم قد خرجت، ثم أدخل طرف الإبرة إلى الوريد. وبسرعة قطع شريان العجل وأدخل فيه إبرة أخرى وشاهد الدم يتناثر من طرفها. وفي براعة مدهشة أوصل هو ودوني الصنارتين بسلسلة من الإبر لتكون أنبوبا كاملا. كان إميري منفعلا، وراح يمدد أصابعه ليخفف من توتره؛ لقد كان كل شيء يجري على ما يرام.
بدأ دوني يحسب كم من الزمن يلزم لإدخال 10 أوقيات من الدم واستبدالها بالكمية المفقودة في الفصد. لكن سرعان ما اتضح أن الأمور لم تكن تجري بسلاسة تامة. ففي خضم الحماس لرؤية الحدث، اندفع الجمهور إلى الأمام للحصول على رؤية أفضل. كان من المستحيل تماما على كل من إميري ودوني أن يقتربا من المريض لبضع لحظات. كما أن قواعد اللياقة صعبت على هذين الخبيرين المنتميين للطبقة المتوسطة أن يأمرا الأشخاص الأعلى مقاما بالتراجع، لكن الضرورة فرضت نفسها واضطرا لشق طريقهما من جديد لمركز الحدث.
وكانت مقاومة موروا ستؤدي حتما إلى عدم رقوده بالنحو المناسب، وعدم تدفق الدم عبر الأنبوب. وفي الوقت الذي عاد فيه المتخصصون لتولي زمام الأمور، كان عدم تدفق الدم قد جعله يتجلط في الأنابيب ومن ثم لم يعد ينتقل من العجل إلى الرجل. وتناثر خيط الدم العرضي عبر الغرفة بينما كانا يحاولان على نحو هيستيري وضع إبر جديدة واستعادة جزء من تدفق الدم.
وفي هذه المرحلة كان المريض يشكو من الشعور بحرارة شديدة في ذراعه إلى أسفل إبطه مباشرة. وعلق دوني قائلا: «لما رأينا أنه يفقد الوعي أوقفنا تدفق الدم إليه فورا، وأغلقنا الجرح.» وانتهت العملية وفق تقدير دوني فإن موروا تلقى ما يعادل خمس أو ست أوقيات من الدم.
تنفس دوني الصعداء؛ فقد نجحت عملية نقل الدم، لكن الجزء المهم الآن هو إبقاء المريض تحت الملاحظة لمعرفة ما سيحدث بعدئذ. رأى بعض الضيوف أن هذا هو الوقت المناسب للمغادرة والبحث عن مصدر متعة أكثر مرحا في مكان آخر لبقية الأمسية. أما البعض الآخر فقد اتخذوا مجالسهم، وانتظروا محدقين في الرجل كما لو كانوا يتساءلون عما إذا كان سيخور كالعجل أو تنمو له قرون وحوافر.
لم تقع أحداث كثيرة في الساعات القليلة التالية. فقد غفا موروا في مقعده لبضع ساعات، وبعدها طلب بعض الطعام؛ وهي علامة جيدة. قدمت له المساعدة تحت أعين دوني المراقبة في الذهاب إلى غرفة بها فراش حيث أبقوه تحت الملاحظة. كانت تلك الليلة كغيرها عند موروا؛ إذ لم ينل أي قسط من النوم على مدار أسابيع، ولم تختلف تلك الليلة: «لقد أمضى الليلة في الغناء والصفير وغيرهما من التصرفات الصاخبة التي اعتاد عليها» بحسب ما كتب دوني.
ومع بزوغ فجر يوم الثلاثاء، كان موروا أكثر سكينة بل أكثر هدوءا. فبينما يشخص العلم في القرن العشرين أنه كان يعاني من فقر دم حاد، لم يرصد دوني سوى أن المريض صار أقل عنفا؛ من الواضح أن نقل الدم كان له بعض الأثر. كان من المنطقي تكرار العملية، وجرى التخطيط لتكرار العرض في اليوم التالي. مرة أخرى تحدد الموعد في السادسة من ذلك المساء، وهو موعد يكون فيه معظم رجال الأعمال وموظفي البلاط غير منشغلين.
سرت أخبار عملية نقل الدم الأولى في الأوساط العلمية، وهذه المرة حضر جميع المشاهير والشخصيات البارزة. ضم الجمهور - كما يقول دوني - عدة أطباء مثل بوردولو ودوني دودار والطبيب بيير بورجيه ورجل الكنيسة جيوم أويو فايو.
لم يكن موروا هذه المرة في حال تسمح له بالمقاومة. علاوة على ذلك، كان على دراية بأن سلوكه يتجه نحو الوضع الطبيعي؛ لذا كان أميل للسماح بتلك العملية الثانية. ومن ثم رقد في «وضعية ملائمة» وهو ما سهل العملية كثيرا. وبسبب ضعف موروا، رأى دوني أن من الحكمة ألا يسحب منه أكثر من أوقيتين أو ثلاث أوقيات من الدم قبل بدء العملية.
جهز إميري في هذه المرة ذراع المريض اليسرى، وقدر الطبيبان أنهما نقلا رطلا من الدم إلى موروا. ولما كانت كمية الدم المنقول أكبر، كانت النتيجة أبلغ من ناحية الاستمرارية والحدة. بمجرد أن بدأ الدم في الدخول، ذكر موروا شعوره بحراره شديدة في ذراعه، وزاد نبضه وأخذ في التعرق بغزارة. ثم أخذ نبضه في الاضطراب، وشكا من آلام رهيبة في أسفل ظهره، وقال إنه أحس بوعكة في معدته، وأخذ الهلع يسيطر عليه، وشعر أنه على وشك الاختناق، وتوسل إليهم ليوقفوا العملية.
وبينما كانا يخرجان الأنبوب من ذراعه تقيأ بشدة، ليتخلص من لحم الخنزير والدهن الذي تناولهما قبل ساعة، وهو ما أثار جدلا كبيرا بين المشاهدين عما إذا كان لحم الخنزير فاسدا. وسرعان ما رغب في التبول والتغوط. وكانت الصدمة أن بوله كان وقتها أسود اللون؛ أسود كسخام المداخن. وتشنج وتقيأ لساعتين تقريبا وأخيرا غلبه النوم في العاشرة ليلا وواصل نومه حتى الثامنة من صباح اليوم التالي. لقد كانت تلك أول مرة ينام فيها منذ أسابيع، وهو ما شجع دوني كثيرا على أن يعتبر العملية ناجحة.
وعندما استيقظ موروا كانت النتائج أكثر إرضاء؛ إذ كان موروا خاملا، لكنه كان هادئا، صافي الذهن. وبغض النظر عما كان قد شعر به من آلام شديدة في معدته وذراعه، وبغض النظر أنه كان واهن البدن وأن بوله كان شديد السواد، فقد رأى دوني أنه بدا بحال أفضل!
جاء يوم الخميس وانقضى، وظل موروا في الفراش لا يتحدث كثيرا، وكان كلما طلب دوني منه أن يصف له أي أعراض، كان يطلب موروا منه أن يتركه وشأنه. إلا أنه مع علمه بأن عيد الميلاد لا يفصله عنه سوى يومين، فقد رأى موروا أنه وقت مناسب ليتوب إلى الرب خالقه، وسأل إن أمكن إيجاد قس ليأتي ويسمع اعترافه. وأتى السيد دو فو في الموعد واستمع لما قاله الرجل الذي كان مجنونا فيما سبق. واندهش قائلا إن اعترافه كان جليا بدرجة تكفي لتلقيه السر المقدس، لكن إن استمرت مسيرته.
في يوم الجمعة، 23 ديسمبر 1667، نزف موروا من أنفه نزيفا حادا، وظل يخرج كميات كبيرة من البول الأسود طوال الوقت. مر يوم آخر وحلت عشية عيد الميلاد، وأتى معها قس آخر. كان السيد بونيه هذه المرة. استمع القس إلى اعتراف موروا وأعلن في تلك المرة أنه عاقل. فكان مرحبا بحصوله على القربان المقدس، وأقام القس مراسم القربان المقدس دونما تأجيل.
إن أراد دوني تأكيدا على نجاح نقل الدم، فهو لم يكن بحاجة لأكثر من ذلك. فقد أعلن القس - وهو رجل الكنيسة الموقر وممثل الرب - أن المجنون قد شفي الآن؛ وكان هذا شاهد عيان مستقلا من أثقل عيار وأكبر ثقة للعامة.
كان ذلك هو الوقت الذي وصلت فيه بيرين موروا إلى المنزل. لم يفكر أحد في أن يخبرها بمكان زوجها، وكانت قد قضت الأيام السابقة تبحث عنه بلا جدوى. من المثير للاهتمام التكهن بما إذا كان هذا سهوا من جانب دوني فعلا أم كتمانا متعمدا؛ فلقد كان آخر ما أراده هو أن يظهر أحد الأقارب المتطفلين ويطلب اصطحاب قريبهم المحبوب إلى بيته؛ فذلك كان سيفسد التجربة.
فرح أنطوان بالتئام شمله مع زوجته، وبدأ فورا يحكي ما حدث طوال الأسبوع السابق، منذ أن كان يجري عاريا في شوارع باريس إلى أن وصل إلى الموقف الحالي حيث تلقى القربان المقدس من قس. كانت بيرين سعيدة بالقدر نفسه، وأخبرت الأطباء الذين كانوا يترددون عليهم كيف تحول من «مخبول تماما» إلى هذا الرجل الهادئ أمامهم.
شعر دوني وإميري بالزهو. لكن لم تكن لديهما أدنى فكرة عما إذا كان هذا هو السكون الذي يسبق العاصفة.
مقارنات حالية
لا يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تبدأ الألسنة في الثرثرة. فسرعان ما بدا أن كل رجل وامرأة وطفل في باريس يبدون آراءهم في هذا العلاج المذهل؛ إذ أصر بعضهم على أنها معجزة، بينما رأى البعض الآخر أن هذه التجربة اتسمت بكل سمات الشيطان نفسه متجسدة في صورة ملاك من نور. لقد أثارت التجربة بالتأكيد موضوعا جديدا في محادثات عيد الميلاد.
وبينما تحدث الناس عن موروا واتزانه من جديد، فقد أخذوا يطرحون الأسئلة، وهو ما كشف عدة مفاجآت؛ إذ لم تكن هذه أول عملية نقل دم يجريها دوني؛ بل كانت الأولى التي تحظى بهذا المستوى من الاهتمام والمتابعة من العامة. لقد بدا أن العلماء كانوا يعملون وراء الستار ويدبرون مؤامرة سرية، والآن يفرضون ما توصلوا إليه على المجتمع؛ ذلك المجتمع الذي شعر بأنه لم يحظ بفرصة لمناقشة القضايا أو يبدي رأيه فيما إذا كان يدعم هذا التطور الجديد.
في المقابل كان الموجودون في قلب الوسط العلمي يعرفون أن «الفضوليين» كانوا مشتغلين بالفكرة لعدة سنوات على أقل تقدير؛ إذ ناقشوا أفكارهم في اجتماعات، ووصل الأمر إلى نشر بعض الفضوليين لعدد من مناهجهم والنتائج التي توصلوا إليها في الدوريات المعروفة التي ظهرت حديثا. وكانوا سينفون أي محاولة عمدية لإخفائها عن العامة، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك اهتمام كبير بهذا المجال ومن ثم لم تتحول إلى قضية عامة من قبل .
وقد وقع موقف مشابه في القرن العشرين مع مولد العنزة دوللي المستنسخة في يوليو 1996. فإن سألت معظم الناس فسيخبرونك بأن دوللي هي أول كائن مستنسخ في العالم. وهي لم تكن كذلك، بل أبعد ما تكون عن ذلك؛ إذ كان الاستنساخ يجري طوال عقود في المعامل في مختلف أنحاء العالم. فأول حيوان مستنسخ - وهو ضفدع نمري شمالي - كان يتقافز في أرجاء المعمل الذي شهد مولده في فيلادلفيا في عام 1952. وفي عام 1977، زعم عالم ألماني أنه استنسخ فأرا، رغم أن هذا الزعم كان محلا للجدل وقتها. وورد أول التقارير المؤكدة عن ثدييات مستنسخة في عام 1984 عندما نجح العالم الدنماركي شتين فيلادسين في استنساخ خروف من خلايا جنينية أثناء عمله في المجلس البريطاني للبحوث الزراعية. وسرعان ما توالت محاولات الآخرين، وفي عام 1986 استنسخ فريق بقيادة نيل فرست في جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة بقرة. وكلاهما أدهش الوسط العلمي لكن أثار بعض الاستهجان بين العامة. وفي السنوات القليلة التالية، أنتج العلماء أعدادا كبيرة من الفئران والضفادع والماشية المستنسخة.
يرجع جزء من السبب وراء هذا الغموض إلى أنه فيما كان يأمل قليل من العلماء في وضع طريقة جديدة لتخليق قطعان من الحيوانات المتماثلة، كانت معظم الاستنساخات تخلق في تجارب تسعى لكشف وظائف الحيوانات، ووجه عديد منها نحو اكتشاف أسرار التكوين؛ إذ سعت إلى أن تفهم تماما كيف يكون الحيوان أعضاء متنوعة كالعضلات والبشرة والعظام والأعصاب والدم من بويضة مخصبة؛ وهي خلية بدائية واحدة. ولم يحظ هذا العمل بقدر كبير من انتباه العامة لبعده الشديد عن مجريات الحياة اليومية.
في الواقع لم يكن مولد دوللي ذاته في اسكتلندا هو ما استحوذ على اهتمام الإعلام، بل كان نشر بحث عن أصولها ومولدها في المجلة العلمية البارزة «نيتشر» بعدها بسبعة أشهر في 27 فبراير 1997 هو الذي أثار ضجة إعلامية؛ إذ عرف البحث العالم باستنساخ حمل جديد من خلال اتحاد خلية مأخوذة من ضرع نعجة بالغة مع بويضة معالجة طبيا قبل تحفيزها بنبضة كهربية صغيرة. وكان البحث مكتوبا بلغة معقدة وغامضة تماما، ويمكن أن تتغاضى عنه وسائل الإعلام على مستوى العالم. وعلى المنوال نفسه كان نشر خطاب دوني - وليس الحدث ذاته - هو ما أثار رد فعل وأحاديث بين العامة عن نقل الدم في باريس وأكسفورد ولندن في القرن السابع عشر.
لكن ما سبب هذه الجلبة حول دوللي؟ بالرغم من أنها لم تكن أول مستنسخ، فقد كانت خطوة جديدة في مسيرة العلم؛ لأن كل التجارب التي سبقتها استخدمت خلايا من أجنة، بينما هذا الحمل الصغير جاء إلى الحياة وهو خلية مأخوذة من حيوان بالغ. كان من الممكن أن ينظر لذلك باعتباره مجرد تطور فني آخر، لكن إمكانية استخدام الخلايا البالغة باعتبارها خلايا جينية مانحة لحيوان مستنسخ كانت لها تداعيات كثيرة. كما أن دوللي كانت نعجة، والنعجة من الثدييات. وكان هذا يعني أنها من الناحية البيولوجية شبيهة نسبيا بالإنسان العاقل. وبالإضافة لما سبق، فقد أثار هذا شبح احتمال استنساخ البشر لأنفسهم. مرة أخرى كانت خطوة دوني بتطبيق نقل الدم على البشر هو ما أثار الجدل. فحينما كان نقل الدم مقصورا على تجارب الحيوانات، لم يكن كثيرون من الناس يهتمون بها.
وما إن انصب اهتمام الإعلام على النعجة الاسكتلندية الصغيرة، حتى كان الإحساس المتنامي بعدم الارتياح يعني أن الجدل لن ينتهي. كان معظم الجدل عن غير دراية كافية وكان انفعاليا جدا. نشرت الصحف مقالات تناقش خطر وجود نسخ متعددة من الطغاة، وتحدث الباحثون في الأخلاقيات عن الامتهان المحتمل للكرامة الإنسانية. واتخذ بعض العلماء موقفا دفاعيا قائلين إنهم لم يروا أن دوللي حيوان مستنسخ على الإطلاق؛ بينما قال آخرون إنها حتى إن كانت مستنسخة فهم ليس لديهم النية في استعمال هذه التكنولوجيا. واتخذ الساسة ردود أفعال بلا تفكير تطالب بحظر هذه التكنولوجيا، دون النظر إلى إمكانية تطبيقها عمليا أو ما إذا كانت مفيدة للعلم أو ضرورية لحماية البشرية. لقد بدا أن المزاج العام معارض لهذه التكنولوجيا، وكان من السهل السباحة مع التيار وإعطاء الانطباعات بتولي زمام القيادة.
وبينما تتكشف لنا قصة دوني ومحاولاته لنقل الدم ، نكتشف نمطا مماثلا من رد الفعل الهيستيري والجدل بغير دراية والتسرع في اتخاذ القرار. من الممكن القول إن القرارات المتخذة كانت القرارات الصحيحة، لكن المنطق وراءها يبدو مثيرا للشكوك في أحسن الأحوال.
عملية نقل الدم الثالثة
لو كان دوني قد أعاد موروا إلى منزله ولم يره بعدها، لاختلف الوضع كثيرا. لكن الحال لم يكن كذلك؛ كان دوني حريصا على متابعة موروا لأطول مدة ممكنة لمعرفة الآثار المحتملة لنقل الدم وللتعلم من التجربة. لكن زوجة موروا كان لها رأي آخر على ما يبدو؛ فقد - كانت حسبما ذكر دوني - تتوق إلى استئناف علاقتهما الزوجية والاستمتاع برفقة زوجها. وعندما روى دوني الفصل التالي في هذه القصة، زعم أنها دخلت إلى المسكن الذي أعده لموروا، وفي مخالفة لرأيه اصطحبت زوجها إلى منزله. وفي ذلك الوقت كان قد تلقى جرعتي دم وبدا أنه استعاد اتزانه العقلي. لكن بعودته إلى المنزل، ورغم اعتراضات الأطباء، أخذت هذه المرأة العنيدة تطعمه البيض والحساء، وهو مزيج من المواد الغذائية كان دوني على يقين من أنه سيرفع حرارة دمه بالتأكيد، وهو ما يؤدي على الأرجح إلى عودته إلى حالة الجنون. وكأن هذا لم يكن ضررا كافيا، فقد اصطحبته إلى فراشها، ليس مرة ولا اثنتين ولا ثلاثا؛ بل أربع مرات على الأقل. وزعم دوني أن زوجها كان يمانع المشاركة في ذلك لكنه كان يستسلم لإغرائها وإقناعها. وكان متيقنا كذلك من أن النشاط الجنسي الحميمي يرفع من حرارة دم الإنسان.
لذا لم يفاجأ دوني بأنه خلال أيام ارتفعت درجة حرارة جسد الرجل بشدة، وعاد إلى عاداته القديمة بزيارة الملاهي والانغماس في الخمر والنساء. كانت تلك علامة سيئة. كما روى الجيران أن الزوجين قد بدآ يتشاجران. ورغم مرض موروا، ضربته زوجته عدة مرات. وذات مرة ضربها هو الآخر، مسددا لها لكمة في أذنها. فكان ردها أن صرخت قائلة إن عليه أن يعتذر فورا وإلا فليواجه الموت.
انزعج دوني بشدة من هذا الاستخفاف المتعجرف بالتعليمات الصحية؛ إذ لم يشعر بأن ذلك من شأنه أن يضر المريض وحسب، بل الأهم أنه أضر بسمعته. لقد كان على يقين بأن أفعال زوجة موروا المتهورة ونتائجها الواضحة الجلية تجعل استمرارية أي علاج محل شك. كما أنه كان قلقا من أن مثل هذا السلوك المعربد قد يهدد صحة الدم النقي الجديد الذي يجري في عروق موروا الآن. فقد بذل قصارى جهده في سبيل نقل دم من حيوان لا يمكن أن يتورط في أي أفعال إباحية، والآن صار كل ذلك الحرص في مهب الريح. ورغم الشكوك التي تساوره، لم يكن بيده شيء، فقد انتزع الرجل من رعايته، ورغم اقتناعه هو شخصيا بالفوائد الجمة لنقل الدم فقد بلغت المعارضة لعمله في المدينة درجة جعلت الوقت غير مناسب لملاحقة مريضه.
وبلغت الأمور ذروتها عندما لاقت زوجة موروا دوني في الطريق ذات يوم، وطلبت منه أن يجري عملية نقل دم ثالثة. فرفض دوني. وظهرت مرة أخرى بعد أيام قليلة. فقال دوني إن السبيل الوحيد لأن يجري العملية هو حصولها على إذن بالعملية من النائب العام. وبالنظر إلى الرأي السائد في الدوائر الرسمية في باريس، فقد شعر دوني بأن السلطات في الأغلب لن تمنح هذا الإذن.
كان دوني في مأزق. فمنذ بدأ يشتغل بنقل الدم أصبح مقتنعا حقا بإمكانياته، وكان يتوق لإجراء العملية كلما أمكن كي يستطيع إثبات فائدتها في الطب. فعلى كل حال، اقتضت مهنته أن يستخدم مهاراته في إنقاذ حياة الإنسان وعلاج الأمراض؛ ألم يكن ذلك حتما واجبه؛ أن يقدم العون كلما أمكن؟
على الجانب الآخر، كان دوني متخوفا من اتهامه بالتسرع المفرط؛ لذا فقد رأى أن الأفضل ألا يفعل أي شيء. فاسترخى وتابع حياته وانتظر أن تتكشف الأحداث. فتكشفت بالفعل؛ فقد جاءت زوجة موروا للمرة الثالثة، وزارته هذه المرة في منزله ذات صباح، وكان دوني بالخارج وقتها، لكن خادمه - وهو على الأرجح أول مريض ينقل إليه الدم - تلقى الرسالة من السيدة المتوترة: «رجاء أخبر سيدك عندما يعود بأني رتبت للقاء في منزلي هذا المساء لمناقشة الموقف وسيكون من المفيد كثيرا أن يحضر، فأنا واثقة من أن مشاركته ستكون قيمة. أرجوك لا تمتنع هذه المرة.»
تلقى دوني الرسالة عندما عاد إلى المنزل، وبدافع الفضول وحده قرر الحضور. لكنه لما وصل، وجد نفسه أمام عجل مقيد في الحجرة وزميله الجراح يعد سكاكينه وحباله وأنابيبه. وبمجرد دخوله وقف دوني بلا حركة وقد اعترته صدمة شديدة. لقد أقنعت زوجة موروا السيد إميري بطريقة ما بإجراء عملية نقل الدم الثالثة. وزعم لاحقا أنه استدرج مباشرة إلى فخ.
زادت صدمة دوني عندما رأي مريضه؛ فقد كانت آخر مرة رآه فيها في عيد الميلاد عندما جلس في فراشه، وتلقى السر المقدس من القس المحلي. لقد بدا وقتها شاحبا متعبا، إلا أن كل السمات الطبيعية للإنسان العاقل كانت بادية عليه. ووقتها تحدث حديثا مرضيا واحتضن زوجته بدفء. لقد كانت حالته هذه المرة على النقيض تماما من سلوكه المتقلب قبل أيام قليلة. فكان موروا في المجمل نموذجا لإنسان أعيد من جديد إلى الإنسانية؛ رجل انتزع من براثن الجنون بمعجزة الطب الجديد القائم على العلم.
أما هذه المرة، فلم يكن من الممكن تمييز موروا إلا بصعوبة؛ إذ كان نموذجا ممزقا وهمجيا للإنسانية. كانت بشرة وجهه مشدودة، وغطت بعض قطرات الدم الجافة ذراعيه ويديه في المواضع التي ضرب بها بعض الأشياء - والأشخاص - خلال نوبات غضبه. كان متسخا ولم يجلس في سكون إلا لأنه قيد من جديد بحبل غليظ إلى كرسي، وكان الكرسي مربوطا بأحد أعمدة المنزل الخشبية.
كان أول ما خطر ببال دوني هو أن يوليهم دبره ويهرب. فلم يكن هذا مكانا مناسبا لممارسة فن الطب المتقدم، وكان من الواضح أن المريض لم يكن قادرا على استقبال مثل هذا العلاج الثوري. كانت العربة التي استأجرها لتقله في انتظاره بالخارج؛ وكان بإمكانه أن يغادر بكلمة واحدة ولا يسمع منه سوى قعقعة حوافر الخيل. لقد ظل دوني لبقية حياته يتمنى لو أنه نفذ هذه الفكرة. لكن ما حدث أنه تردد. وفي غضون لحظة، كان الأوان قد فات؛ فقد نزلت زوجة موروا على قدميه ولفت ذراعيها حول ساقيه. وبكت وهي راكعة على الأرض الحجرية وتوسلت إلى الطبيب من أجل الرحمة. حاول دوني في تلقائية أن يتراجع، وكاد أن يقع في عثرته على الأرض. لم تكن السيدة على استعداد لإطلاق سراحه، ولم ترد تركه يخرج من الباب.
ارتبك دوني من المفاجأة؛ فقد كانت فرصة رؤية المريض شيئا مهما، لكن أن يدخل إلى غرفة كان من الواضح أن الاستعدادات فيها قد تمت لعملية نقل دم كان أبعد ما يكون عن تفكيره ومخالفا لما يراه صحيحا. من الواضح أن إميري قد اقتنع بضرورة إجراء عملية نقل دم ثالثة وكان عازما على المضي قدما؛ إذ كان يفحص مشرطه ويشحذه على حجر استعدادا للعملية.
في نهاية المطاف شعر دوني بأنه لا خيار أمامه، لكن ما إن حرر نفسه من زوجة موروا المتشبثة حتى أعلن رأيه بأن هذا لم يكن مسارا جيدا للأحداث. وبعد قوله ذلك تمنى في نفسه أن تسير الأمور على ما يرام وأن تكون العملية مفيدة حقا.
مع ذلك، ربما تبدد حماس دوني بالسرعة نفسها التي زاد بها. فقد كانت إضاءة الحجرة سيئة. كان ذلك في شهر يناير وكانت الشمس قد غابت وراء الأفق منذ وقت طويل؛ ولم ير دوني مدى تدهور موروا إلا عندما اقترب. فحينها أدرك أن موروا كان مصدر الرائحة العفنة التي ملأت الغرفة، لتؤكد على مدى تدهور حالة الرجل المسكين على مدار الأسابيع القليلة السابقة.
تابع دوني وإميري تقييد ذراع موروا قدر الإمكان بحيث لا يمكن تحريكها وبحيث تكون أوردته مكشوفة. وأدخل إميري إبرة عبر جلد المريض إلى أحد الأوردة. لكن قبل نقل الدم إليه، كانا بحاجة لإفساح مساحة في أوردته. وسرعان ما قيدت ساقه بحيث لا يمكن تحريكها. لم يكن موروا في مزاج يجعله يتعاون، لكنه كان أضعف من أن يستمر في المقاومة كثيرا. بعد لحظة واحدة، غرس إميري مشرطه في أحد الأوردة البارزة في الجزء العلوي من قدم موروا، وأمسك دوني بوعاء ليجمع فيه السائل الأرجواني.
قال دوني «وبهذا انتهت العملية. ففي غضون لحظات من بدء خروج الدم من قدمه، استولت على موروا رعشة عنيفة وتشنجت ذراعاه وساقاه بحدة.» توقف خروج الدم من الشق الذي أحدثاه في الوريد بقدمه، ربما لأن ضغط الدم في جسم الرجل المسكين انخفض بشدة، وانتزع إميري الإبرة من ذراع موروا لئلا تنكسر ذراعه أو تجرح.
أما ما حدث بعدئذ، فعليه ستار من الغموض، فقط كان هناك شيء واحد أكيد؛ بطلوع شمس اليوم التالي، كان دوني وإميري قد عادا إلى منزليهما، ووجدا موروا جثة هامدة.
الفصل العاشر
الجدل الكبير
بينما انتشر الحديث عن تجارب دوني على البشر وعن وفاة موروا، حاول كل من جهال أوروبا وكبار مفكريها على حد سواء أن يفهموا حقيقة ما كان يحدث. فرأى البعض أن هذا مثال على أن العلم الحديث سيعيد حتما تشكيل نظرتهم للعالم ولأنفسهم، أما البعض الآخر فقد اعتبروه نذير سوء بأن هذه النظرة الجديدة إلى الحياة محكوم عليها بنهاية كارثية. فقبلئذ آمن الناس بذلك الواقع الذي كشفت عنه الحجج المنطقية لأرسطو وأمثاله والذي حفرته الكنيسة (حرفيا) على الحجر. لقد كانت الكاتدرائيات أماكن لشهود عظمة الرب المهيبة، لا للتشكيك في التصورات الموجودة واكتشاف الجديد. لقد كانت نصبا لا يمكن تحريكها، مما جعل الناس يرون ما يشبه التصور الثابت لعالم غير متغير. وكان العلم الحديث يحطم الثوابت؛ إذ كانت الحجج المنطقية مهمة لكن ليس وحدها. فالخبرة والتجربة قد صارا الحكم الجديد على الحقيقة.
كانت النقاشات التي تثار عن أي موضوع تقريبا عبارة عن مزيج لافت من الجهل والبصيرة ومن التقبل والتحيز المسبق، ولم يكن نقل الدم استثناء. فما إن انتشر الحديث عن أن دوني عالج رجلا مختلا حتى اعتبره البعض مقاتلا باسلا ضد المرض واعتبره البعض الآخر شابا متحمسا لا ينصاع للأعلى منه شأنا. ولم يزد موت موروا نار النميمة إلا اشتعالا.
وعلى مدار عامي 1667 و1668، اشترك كثيرون في أنحاء أوروبا في الجدل الدائر في صورة خطابات وكتيبات منشورة. وانضم معظمهم إما للمعسكر المؤيد لدوني أو المعسكر المعارض له، وإن أبدى قليلون انفتاحا . وبالنظر إلى صعوبات السفر والطبيعة غير الواضحة للسياسة الأوروبية، لم يلتق كثيرون منهم ببعضهم قط، لكن هذا الكتاب على وشك أن يزيل هذه العقبة؛ فخلال عشر سنوات بعد تلك الأحداث، اشتهر دوني بعقد المؤتمرات، وقد سمحت لنفسي هنا بأن أعقد مؤتمرا لم يكن ليعقد على أرض الواقع وقتها. ورغم أن اللقاء ربما يكون من الخيال، إلا أن هذه الحجج هي ما ساقه كل من شارك في هذا الجدال. •••
تنعقد اجتماعات دوني في منزله في كيه دي أوجستين، ويجلس قرابة 20 مشاركا ومراقبا في مقاعد أنيقة بمساند مرتفعة تنتظم في شكل بيضاوي داخل الغرفة. في هذه المناسبة، جلس الفريق الإنجليزي في جانب، وفيه هنري أولدنبرج وروبرت بويل وريتشارد لوور وتوماس ويليس وصديق لإدموند كينج يحمل اسم هنري سامبسون. كان في مواجهة الفريق مجموعتان من المشاركين الفرنسيين. فقد جاء لويس دي باسريل وكلود بيرو وكلود تاردي ولويس جادروا بعقلية تتسم بالفضول الحذر، بينما أتى بيير مارتين دي لا مارتينيير وجورج لامي وحلاق وطبيب أسنان زميل وهم ينسبون نقل الدم إلى الشيطان معارضين هذا الإجراء بإصرار. ويجلس في ركن الحجرة الأقرب إلى أولدنبرج وبيرو مضيفهم جون باتيست دوني وإلى جانبه زميله بول إميري.
كان أولدنبرج هو أول المتحدثين، وقف يعدل من هندام العروات البيضاء الممتدة من ياقته على سترته السوداء؛ وكانت ثيابه تذكر على نحو خفي كل من لا يعلم بأنه قد تلقى تعليما في اللاهوت: «فلنتذكر سبب وجودنا هنا؛ إن اجتماعنا يدور حول اكتشاف تم على يد من هم أكثر عباقرة العصر ذكاء وفضولا. إنهم موهوبو الجمعيات الملكية في لندن وباريس. الوضع كالتالي: حبة الكرز أو الوردة التي لا تنضج مع بقية الفاكهة على الشجرة ثمينة، ليس لأنها تحمل أي قيمة في حد ذاتها، بل لأنها نادرة. فهذا التميز وحده يجعل منها هدية مقبولة للأمراء. وبالصورة نفسها أيها السادة، فإن تجارب العلاج بنقل الدم جديدة ومثيرة للفضول معا. آمل أن تلقي تأملاتنا الضوء على المواضع الغامضة والشاذة في الطبيعة، لكي نكتشف ربما بعض خفاياها، خاصة فيما يتعلق بالجسم البشري. لكني أرجو حيثما أمكن أن نتحاشى استخدام الألفاظ الصعبة الغامضة. نعم، توجد مواضع لا بديل فيها وتضطر إلى استخدام المصطلح المتخصص للتعبير عن أفكارك، لكني أناشد الجميع أن يبذلوا كل ما في وسعهم لشرح أي اصطلاحات. وذلك ممكن، فعلى كل حال تصير هذه الطريقة أبسط من تلك الطرق التي يطرحها العلماء الرحالة الذين يجنون المال لقاء بيع الأفكار الجديدة.
من المثير حقا أننا مجتمعون هنا لنناقش علما ربما هو الأهم بين العلوم البشرية، وهو البحث عن وسائل توفير الراحة والحفاظ على الصحة. فقد سعت إليها كل الحضارات القديمة، ورأى الكثير من الملوك في الطب قيمة أكبر من المجوهرات. ورغم أن جهل الكيميائيين الزائفين وتفاخرهم الجامح أدى تقريبا إلى ازدراء المجال في هذا العصر، فلا شك أن بعض رواد الطب مؤخرا مثل يان باتيست فان هيلمونت وباراسيلسوس تمكنوا من قهر كل الأمراض التي ظن أهل الطب الجالينوسي أنها بلا علاج.»
يدرك أولدنبرج وهو يتابع حديثه أن هذا سيكون اجتماعا ساخنا. فقد زاد ذكر فان هيلمونت وباراسيلسوس من سخونة الجلسة، حيث كان لا يزال عدد من الأطباء المجتمعين يعارضون أي شخص يتحدى مفاهيم الطب الجالينوسي. من الواضح أن الوقت قد حان لينهي أولدنبرج حديثه: «لكن عمل السيد دوني أيها الأصدقاء المثقفون قد أدى لعقد هذا الاجتماع، وأتاح لنا الفرصة لنطرح ملاحظاتنا المتعلقة بالصحة وإطالة العمر. فمن دواعي سروري أن أعلن بدء الاجتماع.
قبل أن ننشغل بالتفاصيل الدقيقة لهذا العلاج المرتقب، فإن لي أنا أيضا رجاء.» كانت الكلمات لبيرو. كان بيرو - مثل رين - قد بدأ مسيرته بالتركيز على الأبحاث البيولوجية والطبية، لكن اهتمامه بعد أن تقدم به العمر تحول من الكائنات الحية إلى الاشتغال بالعمارة. إلا أن هذا لم يمنعه من الاشتراك في النقاش حول نقل الدم؛ إذ كان مهتما بفهم العلم المبني عليه، وبمعرفة تسلسل الأحداث التي انتهت بدوني في قاعة المحكمة: «لقد جعلت همي في الأشهر الماضية أن أقرأ وأدقق في كل الأخبار والكتيبات ذات الصلة التي نشرها المجتمعون هنا اليوم، وأنا أتحقق حاليا من معلومات واردة في خبر ستنشره الأكاديمية الملكية للعلوم عام 1688. ولدي رسام في هذه اللحظة يشتغل بلوحتين مائيتين رائعتين تصوران طريقة نقل الدم. ورجائي ما يلي: التزموا بالحقيقة دونما مبالغة أو انحراف، فهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق أي تقدم.»
توقف لبرهة، وأخذ يتفقد الحضور ممررا نظراته بين وجوههم ومتحديا أيا منهم أن يختلف معه. لم ينبس أحد ببنت شفة. لم يرد أحد - خاصة في عهد العلم الحديث ذاك حيث ينظر إلى الملاحظات المسجلة بعناية باعتبارها شيئا ثمينا - أن يعترض على هذه النقطة.
يتابع بيرو: «نحن أمام خطر داهم يتمثل في قلب الرأي العام ضدنا. ستنتهي محاكمة دوني قريبا، ويعم اللغط بالفعل بين الناس الذين لديهم الرغبة من جديد لأن يرووا تعطشهم للفضائح والمؤامرات بالافتراء والتشهير الوفيرين. وتزخر الملتقيات بأحاديث عن الرشوة والفساد، وأن دوني على وشك رفع دعاوى مقابلة ضد خصومه، وكلهم أطباء أكفاء. وهذا يكسب مهنة الطب سمعة سيئة.»
ينادى أولدنبرج: «صحيح تماما.»
يستكمل بيرو: «ليس الأمر كما لو كنا قادرين على تحمل هذا الهجوم! من السهل أن تنجرفوا مع عملكم الحماسي في المعامل والمكتبات وتنسوا أهمية استمالة المعرفة والرأي العام إلى جانبكم في الوقت ذاته. فكل معرفتكم الرائعة قد حجبت رؤيتكم، فلا تدركون أن الناس لا يزالون يفضلون الذهاب إلى الدجالين الهواة على الذهاب إلى الأطباء المدربين. قد تظنون الأمر غريبا، لكن منطقهم يبدو سليما لأول وهلة؛ فالرأي العام يقول إن الناس يموتون على أيدي الأطباء أكثر من الدجالين. وقد يكون ذلك صحيحا. لكن فكروا في الأمر؛ فالأطباء لا يستدعون إلا من أجل الحالات المرضية الحرجة. إن هذا يشبه قولنا إن علينا أن نتخلص من البحارة لأن معدل غرق السفن يكون أعلى إن كان على متنها بحار، دون الأخذ في الاعتبار أنه يتم الاستعانة ببحار فقط إذا كانت تبحر في أمواج عاتية . أجل، إن نقاش اليوم يتمحور حول العلم. لكن القضية الأوسع نطاقا هي مهنتنا؛ فلنحافظ على العلم نقيا كي يتسنى للطب أن ينتصر على الرأي العام.»
1
ينتفض دوني واقفا ويقول: «إن سمحتم لي بالرد، توحي تعليقات السيد بيرو، بأنني بالغت وربما كذبت. وأنا أرفض هذا الادعاء بشدة؛ فلم أفعل، وعملي الأولي كان ناجحا جدا، وقد بذلت كل ما في وسعي لوصف حالة المرضى بالتفصيل. تذكروا القول المأثور: لا شيء أجمل من الحقيقة، والحقيقة وحدها تكفي.»
من القرن السابع عشر، وحتى القرن العشرين، لم يغضب العلماء شيء أكثر من اكتشاف أن زملاءهم قد بالغوا أو حتى زيفوا تقاريرهم. وفي حال اكتشاف أي أكاذيب فهناك فضيحة، تدمر وظائف في أغلب الأحيان، وتترك المؤسسات تقاتل في حملة علاقات عامة عصيبة. وهناك نقطة أخطر. فالتقارير المزيفة تدمر العلم أيضا، لأن الباحثين الآخرين يبنون أعمالهم على أرضية غير صلبة في أحسن الأحوال. وفي مجال الصحة يمكن للتأثير أن يكون فوريا؛ إذ تؤثر التقارير المغلوطة في القرارات العلاجية. وقد يصل الأمر لأن يكون البحث المزور لشخص ما حكما بالإعدام على آخر.
كان دوني قلقا كذلك من أن يشكك أحد في صدق كلمته. فقد كان بحاجة لأن تكون صورته أنقى من النقاء إن أراد أن يفوز بالقضية القادمة.
إلا أنه كان من الواضح أن بيرو كان مهتما ببعض التقارير عن عمليات نقل الدم: «توجد أسباب كثيرة تدفع للاعتقاد بأن عمليات نقل الدم لا يمكن أن تنجح لدرجة تفرض عليك التشكيك في حقيقة بعض الروايات وخاصة تلك الواردة من إنجلترا.»
وجاء دور بويل ليرد، فصاح وقد انفجر غاضبا في لحظة: «إن لدينا بيانات تدعم كل ما نقول.»
قال بيرو: «آه ... ربما ربما»، وقد بدا عليه أنه يفكر فيما يقال بجدية: «إن مشكلتي إذا سمحت لي هي أنني أجريت تجارب مشابهة، وخرجت بنتائج ناجحة قليلة جدا. فحتى الحيوانات التي تلقت الدم وظلت حية، كانت أضعف وأتعس وأكثر اكتئابا من الحيوانات التي أعطت الدم. وأؤكد لك أن هذا ليس لأن التجارب أجريت بصورة سيئة.»
فيسأل دوني مشيرا بسبابته نحو بيرو: «لكنك لم تستخدم أنابيب نقل دم دافئة، أليس كذلك؟»
ويرد بيرو، وقد نفد صبره: «إنني لا أظن فعليا أن ربط الأنابيب بقطع دافئة من القماش يمكن أن يحدث فارقا. فانظر على سبيل المثال إلى التقرير الذي كتبه دوني إلى الجمعية الملكية بعد أن توفي مريضه.
2
إليكم ما ورد عنه في تقريره: «لقد نجح نقل الدم لدرجة أن المريض شوهد بعد شهرين من العمليات في حالته السليمة وفي صحة ممتازة.» لكن كيف ذلك وقد توفي المريض بعد أن مر أكثر من الشهر بقليل على عملية نقل الدم الثانية. من الواضح أن دوني يبالغ في مزاعمه للنجاح، ولا يلتزم بالمتطلبات الصارمة للتسجيل الدقيق الضروري في العلم الحديث.»
سادت موجة هرج عامة في أرجاء الغرفة مع صياح الموفدين كل برأيه حول هذا الأمر.
وقف بيرو رافعا يده إلى أن عاد الهدوء. وقال مدافعا عن وجهة نظره: «ربما تكونون مقتنعين شخصيا بأثر هذه الطريقة، لكن المشكلة أنكم لن تقبلوا النصح؛ النصح بالتزام الحذر.»
قال دوني وصوته يتقطع بعض الشيء: «الحذر! لست بحاجة إلى الحذر الزائد؛ إن نتائجنا كانت مقنعة لدرجة أن إميري وأنا سنكون مخطئين إن لم نؤكد للعامة أن نقل الدم آمن وفعال. وإن لم نفعل فسنكون كاذبين. وسيترك الأمر للآخرين في البلاد الأجنبية ليتولوا زمام القيادة.»
رد بيرو «فعلا. من الخطأ فعلا أن نلوم دوني وحده، لأن هناك غيره، وخاصة من الأجانب» وانتقلت عيناه من دوني إلى بويل ولوور اللذين جلسا متجاورين على الجانب المقابل من الطاولة «ممن واصلوا تجارب نقل الدم. لكن من المخزي أن أولى التجارب لم تجر بعناية ودقة أعلى. فمثلا، من المستحيل معرفة كمية الدم الذي انتقل من حيوان لآخر فعلا. ونتيجة لذلك عندما يموت الحيوان نظل نختلف حول ما إذا كان قد تلقى كمية زائدة أم ناقصة من الدم. ولا يقتصر التسرع على الإيقاع الذي تجرى به التجربة، بل يصل إلى غياب العناية بالتفاصيل التي ستكون مفيدة جدا عند استرجاع الأحداث. ربما لم تكن لتصل إلى قاعة المحاكمة، لو كنت حللت هذه المشكلة في الحيوانات قبل الانتقال إلى التجارب على الإنسان.»
3
تحدث دوني ببطء وبقوة ليظل مسيطرا على انفعاله: «لم نر إطلاقا أننا كنا متسرعين في الاستمرار والانتقال إلى التجارب على الإنسان. لقد قاومنا في الواقع الضغط الذي تعرضنا له من بعض الناس لنعمل بسرعة أكبر، بل إن البعض اقترح استخدام مجرم مدان لإجراء أول تجربة عليه. لقد كانت فكرة مثيرة للاهتمام، لكنها لم تكن فكرة جيدة. فكر فيها للحظة. فحالة المدان ستكون مضطربة بالفعل بسبب الخوف من الموت. ومن الممكن أن ينظر إلى هذه التجربة باعتبارها صورة أخرى من الموت، وهذه المقارنة البعيدة ربما تفقده الوعي أو تقتله. وعندها سيشير الناس بأصابع الاتهام إلى نقل الدم بأنه أضر به وهو ما سيكون مؤسفا وغير صحيح. إن من شأن إدانتنا بقتل شخص أن تعرضنا للخطر، وهذا سيزعج حتما جلالة لويس الرابع عشر الذي كان يتابع عملنا باهتمام بالغ.»
عم الضحك المتحفظ مع استيعاب الحاضرين للتصريح الملطف؛ إذ إن إزعاج الملك يعني التوقيع على الحكم بالإعدام.
وفور أن عاد الحضور إلى الإنصات مجددا قال دوني: «بعد النظر في كل الآراء، كنا أميل إلى إجراء التجربة أولا على شخص يثق فينا وفي نظرياتنا. كان هذا يعني أن علينا الصبر قليلا لكن النتيجة تستحق؛ لذا وفي هذا الإطار تم تعريفنا بالشاب المريض ذي الخمسة عشر ربيعا الذي يعرفه كثيرون منكم جيدا لأنه استعاد صحته الآن ويخدم في منزلي. فكما ترون كنا حذرين، ولم نتعجل، بل انتظرنا اللحظة المناسبة.»
أولدنبرج: «نحن أيضا كنا حذرين ونحن نجري التجارب على البشر، بل إن حذرنا هذا هو ما أتاح الوقت لدوني لاقتناص الجائزة بإجراء أول عملية نقل دم إلى إنسان.»
وختم بيرو: «رغم مخاوفي، أتطلع إلى فعاليات اليوم آملا أن توضح الأمور. وأظن فيما يخصني أن غياب النجاح يمكن أن يضع حدا لعمليات نقل الدم وليس للمعارضة العامة للعلاج. ولفهم السبب في ذلك، عليكم أن تبدءوا بالتخلص من أي تحيز مسبق سببه السعادة بإمكانية إيجاد علاج طبي بهذه القوة.»
ظل قلق بيرو من أن الدعاية لا ينبغي أن تسبق الواقع يثير المشكلات. وفي عصر أحدث، اختلف العلماء والساسة حول الاستمرار في البحث في مجال «الاستنساخ لأغراض العلاج». فإن نجحت الطريقة، فسيؤدي ذلك إلى أخذ خلية من المريض ودمجها في بويضة بشرية مجهزة تجهيزا خاصا. وفي ضوء الظروف المناسبة، يمكن أن تنمو في صورة جنين - مستنسخ من المريض. وتكمن الفكرة في التدخل في نمو الجنين ليتمكن العلماء من استخراج خلايا مفردة، بدلا من تركها لتنمو مكونة طفلا. وإن كنت تصدق أكثر العلماء حماسة، فهذه الخلايا يمكنها أن تعالج كل الأمراض المزمنة تقريبا وكذلك إصلاح الأضرار العصبية التي يمكن أن تنتج من الحوادث القوية، مثل كسور الظهر. وكالحضور في غرفة دوني، يحتاج صناع القرار في الوقت الحاضر إلى التمييز بين الدعاية المبالغ فيها والأمل الصادق، وهي مهمة ازدادت صعوبة لأن العديد من مقدمي المعلومات لهم مصالح راسخة؛ إذ يأمل بعضهم - مثل دوني - أن يستفيدوا على الصعيد المهني والمادي من العمل. أما الآخرون - مثل أعضاء كلية الطب - فيسعون إلى حماية المبادئ القائمة منذ وقت طويل؛ وفي حالة الاستنساخ العلاجي فإن المبادئ المدافع عنها هي حق الإنسان في الحصول على الحماية، منذ أن يكون جنينا في بطن أمه إلى موته.
إلى يسار دوني مباشرة، جلس لويس دي باسريل وهو طبيب من خارج المدينة وقد تنحنح قائلا: «هل لي أن أعبر عن مدى سروري بأن دعيت إلى هذا المحفل وأن أستغل الفرصة لأشكر السيد دوني على استضافته لهذا المؤتمر في منزله الرائع؟ فمشهد نهر السين خلاب. مع ذلك أثق أننا لن نضيع وقتا كبيرا في المناقشات المملة المتعلقة بحالة موروا المسكين. فأنا من ناحية منزعج من هؤلاء الذين يقضون وقتهم محاولين بدافع الغيرة أو الجهل أن يثبطوا عزم الرواد من أمثال السيد دوني. فلنلق نظرة على الذامين للحظة، فما الصورة التي نراها لعملهم؟ لقد حاولوا أن يستخدموا الكلمات الواهية بدلا من الحجج الواضحة ليفوزوا في هذا السجال، وكان هدفهم الدفاع عن كلية الطب بدلا من السعي لتحقيق الاكتشافات الجديدة أو تقييمها. ويبدو أنهم يظنون أنهم أفضل وأن رؤيتهم أبعد من كل المتعلمين المجتمعين هنا اليوم.»
ترددت الأعين فيما بين دي باسريل وثلاثة أعضاء من الكلية قدموا إلى الجلسة. ولم يكن جلوسهم في أطراف متقابلة من الغرفة بالأمر المثير للدهشة.
تابع باسريل: «لذا أرى أنه من المحزن أن الكلية لم تر من المناسب أن توفد عضوا رفيع المرتبة، بل اختارت أن تتخفى وراء حلاق ينتزع الأسنان، بجانب الدكتور جورج لامي ودكتور بيير مارتين دي لا مارتينيير وهما اسمان تألفونهما إن تابعتم سلسلة الكتيبات المسيئة التي كتبت مؤخرا. اسمحوا لي بأن أذكركم قبل أن تبالغوا في أخذهم على محمل الجد بأن الدكتور لامي هنا هو طالب يدرس الطب يبلغ من العمر 20 عاما جاهد ليجتاز اختباراته، وبأن دي لا مارتينيير، وإن حمل لقب طبيب الملك، فإنه أكثر شهرة بين رعاع بو نيف منه في أي صرح تعليمي. آسف أيها السادة، لكن مجرد نطق أسمائهم يخلف أثرا كريها في فمي. على كل حال نحن نرحب بكم؛ فربما تتعلمون شيئا.»
كانت الاتهامات قاسية جدا، لكن المنطق كان يتراجع أمام البيان.
انحنى دي باسريل انحناءة ساخرة في اتجاههم.
قال الطبيب الباريسي جادروا الذي شارك مؤخرا في كتابة بحث مع دوني: «هل تنتظر الكلية فعلا أن نصدق أن لامي الصغير هنا هو أحد أفضل مفكريها؟ لا أظن.»
انتفض الثلاثة واقفين. فقال دي باسريل ملوحا لصديقيه في هدوء ليجلسا متصنعا سيماء السلطة: «سنتجاهل هذه الفورة حاليا.» وتابع كالمحامي الذي يترافع في قضية: «يا سيد بيرو، لقد ذكرت الحقيقة قبل قليل. أرى أن هؤلاء «الفلاسفة»، قد سلموا أنفسهم لحواسهم وهم غير مهتمين أبدا بالحقيقة في حد ذاتها. فقد أعلنوا أنفسهم عدوا لدودا لكل من يكتشف الجديد، أو هم بالأحرى أناس سلموا أنفسهم لحواسهم ولا يبالون بالحقيقة.»
طبيعة الدم
قال لوور مقاطعا الجدل الدائر: «قبل أن ننسى سبب عقد هذا الاجتماع، لنتذكر أننا جئنا إلى هنا اليوم لنتحدث عن العلم والتطبيقات المحتملة لنقل الدم. نعم، لقد كانت أفعال دوني المتهورة وما تلاها من مشكلات شخصية جزءا من الحافز، لكن لنحاول أن ننحيها جانبا إن أمكن. هل لي أن أقترح أن نبدأ باستعراض ما نعرفه عن الدم؟ فهو محوري في هذه القضية على ما أظن، أليس كذلك؟»
أومأ الحاضرون برءوسهم في إشارة إلى إمكانية المتابعة، لكن دوني جلس محدقا ببيرو. وكان قد جلس بالقرب منه، منتظرا أن يحظى بدعمه، وانزعج من أن الشخص الذي رآه محايدا في الجدال، سرعان ما اندفع إلى توجيه النقد.
كان لوور يتحدث في موضوعه المفضل: «أرجو أن يكون بمقدورنا افتراض أن كل من في الغرفة مقتنع الآن بوجود نوع واحد من الدم في الجسم، وهو ما أقصد به أن الدم الشرياني والوريدي متماثلان.» فقد كان في خضم عملية تأليف كتابه عن الدم والقلب الذي بعنوان «علاج القلب»: «وبذلك، يصبح السؤال الذي يجب أن نطرحه عما يكسب الدم الشرياني لونه الأحمر القاتم. تبين تجاربي الأخيرة أن هذا يجب أن يعزى بالكامل إلى الرئتين. فقد وجدت أن الدم عندما يدخل الرئتين يكون دما وريديا تماما ولونه داكنا؛ وعندما يعود منهما يكون دما شريانيا زاهيا. وكذلك بينت أن وجود الهواء في الرئتين هو ما يؤدي إلى ذلك التغيير. ولدي أدلة على هذا الاستنتاج، وليس مجرد حجة جدلية. وينبع الدليل من تجربتين: في الأولى، منعت الهواء من الدخول إلى رئتي الكلب. وبالنظر إلى داخل صدره رأيت أن الدم الذي يغادر الرئتين قد ظل على لونه الوريدي؛ وتحول إلى الأحمر الزاهي في اللحظة نفسها التي سمحت فيها للهواء بالدخول مجددا إلى الرئتين. أما التجربة الثانية، فقد شققت فيها عن صدر الكلب ووخزت الرئتين بإبرة لأسمح للهواء بالدخول من خلالها. وبعدها أخذت أضخ الهواء باستمرار إلى الرئتين باستخدام زوجين من الأكيرة متصلين بالقصبة الهوائية. وعندما قطعت الوريد الرئوي بالقرب من النقطة التي يدخل فيها إلى القلب، وجدت الدم الذي يتدفق منه ذا لون أحمر زاه. فلم يعد دما وريديا، بل أصبح دما شريانيا. وإن أوقفت ضخ الهواء يظل الدم وريديا داكن اللون. لدينا الآن دليل واضح على أن الدمين الأزرق الداكن والأحمر هما الشيء نفسه كما يتضح. وقد بين لنا هارفي أن الدم يجري في دورة، والآن نعرف أن لونه يتغير. وقد صدقت في مرحلة ما النظرية التي تقول إن تغير اللون يحدث في القلب، لكنني الآن أعلم أنه يحدث في الرئتين؛ وأعلم ذلك لأني رأيته.»
4
قال بويل وهو ينهض واقفا ومسرورا لأن الحوار انتقل إلى العلم الجاد: «نعم لكن لا تزال طبيعة الدم غير واضحة أمامنا. فأنا من أول من أقروا بأن العديد من الأطباء قد بينوا بقدر كبير من المعرفة والمهارة محاسن الدم. فمن الواضح أنهم يبينون أن الدم سائل رائع وممتاز، لكني أستميحهم عذرا، لأني أخشى أن تكون كتاباتهم قد تغنت بمحاسن الدم دون أن تقدم أي شيء يبين لنا طبيعة الدم. مؤكد أن الفضول المعاصر قد عرفنا بأشياء عدة لم يكن يعرفها القدماء، إلا أن المعروف بصفة عامة عن دم الإنسان، إن لم أكن مخطئا، لا يزال ينقصه الكثير، وهو يقوم على ملاحظات أكثر مما يقوم على التجارب. فنحن لا نعلم سوى ما جادت به الطبيعة من تلقاء نفسها، ولدينا قليل من المعلومات المستمدة من تجارب تهدف إلى اكتشاف خواص هذا السائل التي اختارت الطبيعة أن تبقيها خفية.
سأقول إن خبراء التشريح - وإن كانت عباراتي قاسية - يركزون في الغالب على الأجزاء الصلبة من الجسم، وينسون دراسة سوائله، وخاصة الدم. وهذا، يا أصدقائي، يشبه تاجر خمر يهتم ببنية براميله الخشبية لكنه يتجاهل النبيذ الذي تحويه. ورغم استبعاد إطلاقي لهذا الاتهام، انظروا على أي حال إلى أهمية الدم في جسم الإنسان؛ فعندما يكون الدم سليما ويتحرك بانتظام ينقل الغذاء والطاقة في مختلف أجزاء الجسم. فهو يحرك الجسم، ويوزع - باختصار - الصحة على بقية الآلة الحية. وأي تلوث أو اختلال في هذا الدم يقف وراء معظم الأمراض، ويعتمد علاج المريض بالدرجة الأولى على تنقية الدم. ومن ثم، دفعني النظر إلى أهمية الدم إلى إدراك أن نقص معرفتنا إهمال كبير ؛ وهو إهمال أخذت في معالجته. فبداية، هل علمتم أن الدم أثقل من الماء؟ لن تستنتجوا ذلك من الفلسفة لأن القياس الدقيق وحده هو ما يمكنه كشف معلومات مهمة كتلك.»
شجعه لوور قائلا: «إذن أخبرنا ...»
لم ينتظر بويل الطلب، وتابع حديثه قائلا: «لحسن الحظ كنت في وضع سمح لي بتجميع الكمية الكلية لدم إنسان واحد سليم. وكانت كمية وفيرة لكنني تمكنت من إيجاد وعاء زجاجي كبير بدرجة كافية لاستيعابها. وبعد رج الدم وتركه يستقر لتفريغه من فقاعات الهواء حفرت علامة على الزجاج باستخدام قطعة ألماس عند مستوى الدم ووزنتها بعناية. وبانتهاء هذه الخطوة، فرغت الوعاء من الدم وغسلته ووزنته مرة أخرى. وأعطاني طرح الوزن الأخير من الأول وزن الدم. ثم أعدت ملء الوعاء بالماء حتى بلغ مستوى العلامة التي وضعتها سابقا ووزنته للمرة الثالثة. وعندها تمكنت من حساب وزن الماء، وجدت أن الدم أثقل من الماء بنسبة 1 / 25 وهي ملحوظة هامة، لكن العلم السليم يقتضي تكرار الملاحظة.»
بينما لم ير كثيرون أهمية معرفة وزن الدم بالنسبة إلى الماء، إلا أن أغلب الحاضرين أومئوا برءوسهم ليظهروا بمظهر الأذكياء. ومع انطلاق بويل في حديثه، لم يكن هناك ما يوقفه. «لكن الأهم بالنسبة إلى كثيرين منكم هي التجارب التي أجريتها لاختبار حرارة الدم.» توقف بويل. وكان محقا، فقد برز الجالسون من مقاعدهم، حيث إن حرارة الدم قضية ترجع إلى العصور الإغريقية القديمة، فهو شيء يعرفونه جميعا ويفهمونه: «ولدراسة هذه القضية وضعت كرة مقياس حرارة الطقس في مجرى دم يتدفق من شابة ومن كهل. وفي كلتا الحالتين، ارتفع مستوى الكحول في المقياس فوق العلامة القصوى. فقط تفكروا في الأمر. هذا يعني أن الدم أعلى حرارة من أي درجة حرارة مسجلة للطقس. وكان هذا في أشخاص أصحاء، وليس أشخاصا مصابين بالحمى الناتجة عن المرض.»
صاح الحلاق طبيب الأسنان: «إذن ما سبب تلك الحرارة؟ هل يمكن لعلمك أن يلقي الضوء على هذه النقطة؟»
رد بويل متطلعا لشرح مزيد من عمله: «أظن أن ذلك ممكن. لا يزال القلب يبدو لي المصدر الأرجح لحرارة الدم، لكن الدم نفسه يحتوي على زيت؛ لذا فهو مفعم بطاقة قابلة للاشتعال.» استحوذ بويل على اهتمامهم، وكان مستمتعا بذلك: «لقد جففته وطحنته ووضعته على شمعة. فاشتعل بلهب أصفر و«طقطق» كملح البحر الملقى على النار. كما أخذت ورما ووضعته وسط قطع فحم ساخنة. فاحترق بلهب أصفر وتحول إلى مخلفات سوداء. وتسبب نفخ الدم المطحون نحو النار في انفجار. وكانت النتيجة عجيبة جدا لدرجة أني جربتها عدة مرات، وكان الشيء نفسه يحدث في كل مرة. ربما لا يحتاج الدم أي مصدر خارجي للحرارة، فمن الواضح أنه يحتوي على مادته الخاصة لتوليد الحرارة.»
الصبغة الفردية «رائع، رائع.» هكذا جاءت كلمات بيرو «لكنني أقترح أن نركز على نقل الدم. وأرغب أنا أيضا - مثل السيد بويل صديقنا من أعالي البحار - أن أبين ما تعلمناه من الطبيعة ثم أطرح أسئلة إضافية.»
صاح السيد مارتينيير: «لقد علمتنا الطبيعة والتجربة كلتاهما بالتأكيد أن نقل الدم عمل مقيت. فالسيد دوني متحمس للحديث عن مرضى نجوا بحياتهم، لكن تذكروا الوجيه السويدي؛ إذ توفي بعد ساعات من تلقي الدم. والآن موروا. فهل نحتاج لدليل آخر على أن تلك عملية شنعاء؟»
تابع بيرو: «العلم الجيد يبدأ غالبا بالفشل أيها الشباب. فلننظر إلى الجنين، لأنه بالتأكيد وضع يتم فيه نقل الدم. وأريد أن أسأل: لماذا إن كان نقل الدم بهذه البساطة توجد المشيمة لدى الجنين في رحم الأم؟ أليس من المؤكد أن دم الأم يمكن أن يمر إلى الطفل النامي دون الحاجة إلى العبور من هذا العضو الضخم؟»
كان الرأي المستنير يقول إن القلب يضفي صبغته على الكيلوس ويحوله إلى دم. وهذا يعني أن دم الأم مصطبغ بقلبها، لكن بيرو ذكر أن الجنين يحتاج إلى دم يحمل صبغة قلبه هو. وبينما يبدو دم الأم ودم الجنين متشابهين، قال بيرو إن من المؤكد أنهما مختلفان قطعا؛ لذا يجب أن توجد آلية لإزالة صبغة الأم واستبدال بصمة الجنين بها. وكان اقتراح بيرو أن الإجابة تكمن في المشيمة. فهذا العضو لا يوجد إلا في أثناء الحمل، وهو غني بالأوعية الدموية؛ لذا من المنطقي أن أوعيتها الدموية المتخصصة «تعيد الدم إلى طبيعته»، قبل أن يتدفق إلى الجنين. واختتم بيرو: «إذن تستطيع الأوعية الدموية الخاصة الموجودة بالمشيمة أن تجعل دم الأم آمنا للجنين، لكن في نقل الدم لا توجد أي مشيمة، ومن ثم لا يمكن لنقل الدم أن يتم. فهذا الدم المنقول لا يمكن أن يكون آمنا للمتلقي. ومن هذا أستنتج أيضا أنه إذا كان دم الأم بحاجة إلى أن يتغير ليصبح متوافقا مع طفلها، فما من سبيل لنجاح نقل الدم بين الحيوانات المختلفة في النوع أبدا.»
5
قال دي لا مارتينيير: «لكن هذا التشبيه غير موفق، لأن الأم والجنين هما في النهاية لحم واحد.»
فرد دوني: «غير صحيح. ففي كثير من الأحيان تغلب بذرة الأب نصيب الأم. ومن ثم يكون تركيب الطفل مختلفا كثيرا عن الأم، حتى وإن تغذى الطفل على دم الأم.»
كان هذا طرحا مشوقا وأقنع كثيرا من الحاضرين. واللافت أنه كان صحيحا لكن لأسباب مختلفة. فدم الأم غريب تماما عن دم طفلها الذي ينمو، بل إن دم الاثنين لا ينبغي أن يختلط أبدا. فالمشيمة لا تحيد دم الأم، بل تمثل حاجزا يفصل بين دم الأم ودم الجنين تماما ويسمح للغازات والمواد الغذائية بالمرور من الأم إلى الجنين. وإن اختلط الدم فهناك خطر حدوث رد فعل شديد على التنافر الدموي.
سأل بويل: «أفكار رائعة، لكن هذا حدس وطرح لأفكار؛ فأين الدليل المادي القاطع؟ أين البيانات التي تبين أن الدم من شخصين لا يكون متوافقا؟»
فرد بيرو: «إن أردت دليلا، فانظر إلى كل التجارب التي ورد فيها تجلط الدم في أوردة الحيوان المتلقي؛ أليس هذا دليلا على أن الدمين متنافران؟»
6
أطبق بويل شفتيه واتسعت مقلتاه وأومأ ببطء: «ربما ... ربما.»
شارك جايانت في النقاش قائلا: «إن لدي دليلا آخر.» وأخبر أعيان العلم المجتمعين بأنه ذات مرة أفرغ ثلاثة أطباق من دم كلب قبل أن ينقل الدم إليه من كلب آخر. ورغم نجاته من العملية، فقد مات الكلب المتلقي بعد خمسة أيام. وهذا كما أوضح يرجع إلى كبر كمية الدم التي نقلت في عملية واحدة. وكان جوهر قضيته أن الدم يحتوي على «جوهر الحياة»، وأن هذا الجوهر أودع في الكلب الذي كان يجري الدم في عروقه. ومن ثم ارتبط الحيوان ودمه برباط جوهري. وعندما نقل الدم إلى حيوان آخر، تمزق هذا الرباط، وكان الأمر سيستغرق بعض الوقت ليتكون رباط جديد في الحيوان المتلقي: «فالدم فصل عنه جوهر الحياة في الحيوان المانح لكنه لا يزال يخلو من الصبغة اللازمة ليحيا حياة الحيوان المتلقي. وفي هذه الحالة، نقل كثير من الدم في آن واحد بحيث لم يتوافر للكلب وقت كاف ليستعيد رباط الحياة قبل أن يموت.»
قال الحلاق الجراح: «أليس الاحتمال الأوضح أن الكلب مات بسبب الجرح الذي أحدث في رقبته؟ فهذه مشكلة كبيرة للكلب لأنه لا يستطيع لعق رقبته ومن ثم لم يكن لديه سبيل لمساعدة جرحه على الالتئام.»
رد جايانت «أختلف معك؛ فقد أجريت عمليات أكثر قسوة على رقبة الكلاب دون أن أراهم يموتون في الأيام التالية.»
7
أطرق بويل للحظات قبل أن يقود المناقشة من جديد: «وهناك بالتأكيد قضية أخرى. فكل عمليات نقل الدم التي أجريت حتى الآن أخذت الدم من الحيوانات ونقلته إلى الإنسان. فهل لدى أي شخص دليل على أن هذا النقل من نوع إلى آخر يسبب أي مشكلات أخرى؟»
كان أول من رد على هذا السؤال هو سامبسون، وهو صديق جيد لأخصائي نقل الدم إدموند كينج. كان سامبسون قسا مستقلا غادر إنجلترا بعد عودة الملكية في 1660 ودرس الطب في مونبيلييه وبادوفا ولايدن في هولندا: «أخشى أن نقل الدم لن يكون له استخدام عملي لصعوبة الحصول على دم شرياني بشري. فلن يبلغ كرم أحد بجاره العجوز المريض إلى أن يقطع شريانه. فقد يقدم دما وريديا لكنه لن ينفع، لأن فائدته قد ضاعت في تغذية أعضاء الجسم التي مر بها. وفي النهاية لا أومن بأن دم الوحوش يناسب جسم الإنسان.»
دوني: «كثيرون بالتأكيد لديهم هذا الرأي. فبعض الذين شهدوا تجاربنا لنقل الدم في الحيوانات بجانب العديد ممن سمعوا عنها وحسب كانوا مقتنعين أنها إن نجحت على الحيوانات فستفشل على البشر، لكن ...»
قاطعه دي لا مارتينيير. فقد كان واضحا لديه أن دم الإنسان السليم يختلف كثيرا عن دم الإنسان المريض؛ فالأول نقي والأخير ملوث. ولا يمكن أن يؤدي خلط الاثنين إلى إنتاج دم نقي. فالاثنان في الواقع متضادان، ومحاولة خلطهما ستولد حرارة: «والنتيجة ستكون بالتأكيد تدمير الحالة التي تلقت هذا الخليط المشئوم»؛ قال دي لا مارتينيير كلماته هذه مقتنعا أنه وجه ضربة قاضية.
رد دوني في حسم: «لكنك يا سيدي بكل تأكيد تبدي جهلك بقولك هذا؛ إذ لا أرى أي سبب يمنع الدورة المستمرة التي يمر بها الدم بصورة متكررة على الحرارة المنقية في بطيني القلب من أن تطهر المزيج، وتزيل أي خواص ضارة للدم.»
صاح بويل «الدليل يا سادة، أين الدليل؟»
رد دوني «لدي تجارب تدعم وجهة نظري في هذا الجدل. فلقد رأيتها تنجح، رأيت الامتزاج يحدث. فقبل بضعة أيام فقط حقنت ربع لتر من اللبن في أوردة حيوان. وعندما سحبت دما من الحيوان بعد ساعات لم يكن للبن أي أثر. فمن الواضح أن اللبن امتزج بالدم ونقي في القلب. وإن تأثر الدم فقد صار أفضل من المعتاد لأنه زاد سيولة وأصبح أقل عرضة للتجلط.»
لم يتوقف دي لا مارتينيير وشن هجوما آخر: «إذا اختلط الدم النقي بالدم الملوث، فإن الدم النقي سيفقد نقاءه. فبمجرد وصول الدم النقي المنقول حديثا إلى الكبد، سيجرد من كل مميزاته ويتحول في لحظة ليكون كباقي الكتلة الفاسدة في الشخص المريض. فالكبد على كل حال هو عضو تكوين الدم الأكبر، فهو المكان الذي يكتسب فيه الدم كل خصائصه. وفقدان صفات الدم سيجعل العملية عديمة الفائدة.»
رد دوني: «فكرة لافتة، لكنها مغلوطة جدا. فأنت تزعم أن الدم يتكون في الكبد، لكننا علمنا من التجارب الأخيرة أن الدم يتكون في الجنين وهو ينمو قبل وقت طويل من ظهور أي علامة على وجود الكبد أو الكيلوس. فالواضح أن الدم يتكون في عدة أماكن أخرى من الجسم. وعليه فلا أعتقد أن هذه النقطة تستحق مزيدا من المناقشة.»
قال بيرو: «أنا متيقن أن هذا رائع، لكنني بدأت أتساءل وأنا جالس هنا عما إذا كنا نبالغ في قيمة الدم؟ إن صح أنه يمكنك التخلي عن دمك وتلقي بعض الدم من متبرع، فسيمكنك أن تقول إن الدم ليس سائلا مهما. فهو يشبه من عدة أوجه القميص الذي يمكنك تغييره وقتما شئت، بل هو في الحقيقة ليس بأهمية القميص، لأن هناك مواقف يمكن أن تموت فيها إذا كنت بدون قميص، لكنك يمكن أن تعيش وقد فقدت بعض دمك!»
8
لم يرد أحد.
وسأل أولدنبرج معيدا المناقشة إلى موضوعها: «أليس أبقراط هو من قال إن الدم يفسد حتما إن خرج من العروق؟»
رد دوني: «إن خير طريقة للدفاع عن شرف هذا الرجل العظيم هي فهم المعنى المقصود من وراء كلماته بدلا من حملها على معناها السطحي. لقد أشار أبقراط إلى أن الدم يفسد لأنه عندما يخرج من الأوعية الدموية يفقد حرارته وطاقته الحركية الطبيعية، والدم يحتاج هذا المزيج من الحرارة والحركة لينقي نفسه باستمرار. نعم، إن وضعت دمك في طبق فستتوقف حركته ويتجلط. وبعد عدة دقائق يتغير تركيبه. وهذه عملية شهدناها عدة مرات. لكن على عكس القول إنه «أيا كان ما يفسد فهو يفسد عند نقله من شخص لآخر» يمكن للدم أن يفسد حتى داخل أوعيته. فلتمنع تدفق الدم داخل وريد وانظر ما سيحدث؛ سيتجلط الدم بسرعة.»
كان دوني يستمتع بوجوده في بؤرة الاهتمام ولم يكن ليستسلم: «في نقل الدم، يتحرك الدم بعملية طبيعية من حيوان لآخر. أعترف أن الأنابيب التي يمر الدم من خلالها غير طبيعية، لكن إن أبقيناها دافئة ومنعنا فقاعات الهواء من دخولها فلن تسبب أي تغير في الدم أكثر من الذي يحدث في الشرايين أو الأوردة . إن وقتي لا يتسع لمن يقولون إن العملية تسبب الجلطات حتما وإن هذه الجلطات بمجرد وصولها إلى القلب تسبب خفقانا مميتا، لأنني لم أر هذا يحدث أبدا. قد تكون الفكرة مثيرة للاهتمام من الناحية النظرية، لكن ليس لها أساس في الواقع العملي. وإن شئتم، يمكنني أن أريكم حيوانات وأشخاصا كثرا جرى نقل الدم لهم ولا يزالون على قيد الحياة.»
تدخل بيرو مرة أخرى: «حتى مع افتراض أن الدم لا يفسد من الناحية المادية عندما يدخل جسما غريبا، فإن من المؤكد أن عنف التغيير وفجائيته وحركة الأخلاط والخلاصات المصاحبة أشد مما يتحمله الجسم. فالطبيعة لن تسمح بذلك. فهي تحمي حقها في الإشراف على أي تغير في الأخلاط ولن تتحمل أن يحاول أي شخص الاستيلاء على سلطتها. إن كنت تشك في ذلك فانظر إلى المشاعر التي يمكن أن تقتل صاحبها؛ إذ تتسبب الأزمة في اضطراب حركة القلب الطبيعية ما يؤدي إلى حدوث اختلال في الأخلاط وبذلك تحدث الوفاة، لأن أسس الحياة والصحة قد اختلت.»
9
هب لامي للمشاركة في الحوار قائلا: «أتساءل عما إذا كان المرض أو التقدم في العمر يضر بشرايين الإنسان وأوردته وقلبه ضررا لا يمكن إصلاحه. ففي هذه الحالة ستنقل هذه الأوعية والأعضاء المتضررة على الأرجح صفات خبيثة إلى أي دم يجري في داخلها. وأعجب من أن الفكرة تؤيدها أمثلة مناظرة من التجارب. فالمثال الذي أحسن استخدامه بالطبع هو البرميل الصغير الذي كان يحوي الخل. فأي سائل يوضع به في أي وقت مستقبلا سيتأثر بحموضته. والدليل التجريبي أعقد، إلا أنه يتضح في خير صورة في التجربة الإنجليزية التي أجراها توماس كوكس والتي نقل فيها الدم من كلب أجرب إلى كلب سليم. وأدى إدماء الكلب الأجرب إلى شفائه، لكن الكلب السليم لم تصبه العدوى.»
قال أولدنبرج محاولا إعادة بعض النظام إلى الاجتماع: «لنتناول كلا منها على حدة. وأقترح أن تكون البداية ببرميل الخل.»
قال بيرو: «إنها حقيقة. وقد أشار عدد من الفلاسفة فعلا إلى أن بعض الحاويات لا تقتصر على حفظ المواد بل تحسنها كذلك في بعض الحالات. لكن الدم يتغير بصورة نشطة مع مروره في الأوردة أو الشرايين. في بعض الحالات يمكن أن يكون التغير مفيدا، وفي البعض الآخر، يكون ضارا. وفي حين أن أبقراط كان أول من قال إن الدم يفسد دائما عندما يخرج من الجسم، يقول الفلاسفة إن الدم قد يفسد وهو لا يزال داخل الجسم. فانظروا مثلا إلى أوردة الدوالي. ففيها نجد الدم الفاسد والمتجلط داخل الوعاء.»
10
قال دوني: «أولا لا أعتقد أن الدم قد يفسد بسبب المرض لدرجة لا يمكن بعدها إصلاحه. وإن كان هذا يحدث فهو نادر بالتأكيد فليس علينا أن نقلق بشأنه. وسيتطلب الشيء غير المعتاد منا أن نبحث عن وسائل علاج جديدة لحل المشكلة، وأتطلع للبحث عنها. أما وجهة النظر المقابلة فهي أن الفساد الإجمالي هذا شائع جدا. والمشكلة التي أواجهها هي إيجاد أي فائدة من ذلك؛ إذ يشوه التشبيه على أي حال تصورنا كله عن آلية عمل الجسم.»
قال بيرو: «أنا أيضا أشك في صحة التشبيه لكنني أردت أن أعرف آراءكم. فأي فكرة تقول إن طبيعة الدم تتغير عندما يدخل جسم حيوان آخر غير صحيحة بالتأكيد. فنحن جميعا نعلم - على أية حال - أن الماء لا يتحول إلى نبيذ بمجرد سكبه في برميل ممتلئ بالنبيذ. فليس أبعد عن الفلسفة الحقيقية من فكرة إمكانية تحويل الأشياء بطرق لا تعرفها الطبيعة. فتغير الدم بعد نقله خرافة ترقى لقصص تحول القمح إلى عشب ضار أو تحول الحبل الشوكي إلى حية أو الرصاص إلى ذهب أو تحول الإنسان إلى ضفدع. فالماء لا يتحول إلى نبيذ إلا إذا عالجته الكرمة. وكذلك الكيلوس يحتاج إلى أن يعالج داخل جسم الحيوان المستهدف لكي يتحول إلى الدم المناسب.»
11
جفل بويل الذي أنفق كثيرا من الوقت والمال على الخيمياء مع قرار بيرو بجمع كل مفاهيم التحول معا في فئة مذمومة، لكنه اختار ألا يلتقط الطعم.
خيم الصمت على المشاركين لوهلة. فقد كانت قدرة الدم على تغيير طبيعته موضع تساؤل. ووجد دوني نفسه أمام حجج متعارضة. فإن كان بإمكان الدم أن يغير صبغته فإن الدم الجديد يمكن أن يفسد في العروق وسيصبح نقل الدم عديم الفائدة. أما إن لم يمكنه التغير، إذن فلا يمكن أبدا للدم المنقول أن يتوافق مع جسم المتلقي. كما سيكون غريبا ومن غير المحتمل أن يؤدي وظيفته بكفاءة.
وبعد أن فكر دوني للحظة، رد بفكرة حاولت حل الإشكاليتين معا. فقد أمل بحقنه الدم في الوريد الوداجي أن يتفادى المشكلة، لأن هذا الدم سيمر مباشرة بالقلب. وبذلك يتفادى كل الأوعية الملتفة التي يمكن أن يفسد الدم فيها، ويصطبغ فورا ب «جوهر» الجسم ذاته. ولا يمكن للدم المرور عبر باقي أجزاء الجسم إلا بعد تطبيعه.
وتابع دوني: «أرى أن عديدا من الأطباء يتفقون معي في هذه النقطة. وحتى إن لم يتفقوا، فإن فكرة «برميل الخل» لن تغير رأيي؛ إذ إن الحموضة هي آخر صفة يتصف بها النبيذ، ولأن حلاوته الأولى لا يمكن استرجاعها فإن هذا التغير يعني فساد حالته. لا يمكنني أن أرى أي تغير يمكن حدوثه في الدم ولا يمكن معالجته. فالدم يمكن تنقيته دائما إلا - حسبما أفترض - في عدد صغير من الأمراض الاستثنائية التي ليس منها شفاء، ولسنا في حاجة لأن نتناولها الآن.» وأطرق للحظة. ثم تابع: «لكن النبيذ يمكن أن يكون مثالا جيدا. فكلنا يعلم أنه من الممكن تحلية أشد أنواع النبيذ اللاذعة، وتنقية أكثرها تلوثا وتركيز أضعفها وإزالة الدهون من أكثرها شحوما. بصفة عامة، إن كنت على دراية بما تفعله، يمكنك أن تضيف الكحوليات المناسبة إلى النبيذ لتحل أي مشكلة تقريبا. بالصورة نفسها، من المنطقي الاعتقاد بأن خلط الأنواع المناسبة من الدم باستغلال فن نقل الدم يمكن أن يحسن ويخفف الدم ذا الكثافة الزائدة أو يرفع حرارة الدم شديدة الانخفاض.»
وحتى في هذه الحالة أوضح دوني أنه لا يتوقع أن يفيد نقل الدم المرضى الذين أصبح دمهم «فاسدا أو ملوثا بصورة كبيرة أو ... مشبعا تماما بخمائر وسموم غريبة». فهو لم يتوقع أن ينجح العلاج في شفاء أي شخص قد تناول السموم أو تلوث جسمه وأنهكه مرض الإسقربوط أو الزهري أو الجذام أو غيرها من الأمراض المزمنة التي توهن الأنسجة. فقد كانت المشكلة لدى دوني أنه مع تكرار دورة الدم الملوث عبر الجسم تفسد ردود الأفعال الحية التي تحدث في الأعضاء المفردة. وأي دم جديد سيصيبه الضرر من هذه البيئة المسمومة قبل أن يتاح له الوقت الكافي لإعادة الأمور إلى طبيعتها.
12
إن استبعاد دوني لقدرة نقل الدم على علاج الزهري رأي طريف في ضوء النظرة المعاصرة لحالة موروا. فمن بين أعراض الزهري الجنون الشديد، وتاريخ موروا الذي تضمن زيارات متكررة لبيوت الدعارة يتماشى مع الموقف. ونعلم الآن أن مرض الزهري يسببه نوع معين من البكتيريا الحلزونية - البكتيريا اللولبية الشاحبة - ومن بين الآثار المدمرة لهذا الميكروب المنقول جنسيا أنه يسبب تلف الدماغ؛ إلا أنها تتأثر كثيرا بالحرارة؛ لدرجة أن المريض أحيانا يمكن علاجه بوضعه في غرفة بخار لبضع ساعات في المرة الواحدة؛ لذا يبرز احتمال أن تكون الحمى التي تلت عمليتي نقل الدم اللتين أجريتا لموروا في منزل دوني قد قتلت البكتيريا وعالجته من مرضه الأساسي، وأنهت جنونه. ومن ثم يمكن لنقل الدم أن يعالج الزهري، لكن تلك كانت طريقة خطرة جدا للعلاج.
تدخل لامي الذي لم يكن ليجلس في هدوء مستمعا للأكبر منه سنا وقال: «المشكلة الثانية كما أرى هي انخفاض التركيز؛ فأي كمية منقولة من الدم تجري عبر الوريد الوداجي ستلتقي بكتلة الدم في الوريد الأجوف وتضيع وسطها قبل أن تدخل إلى القلب. سوف تفقد بالتأكيد نقاءها قبل أن يكون لها أي فائدة. انظر إلى حجم الوريد الوداجي مقارنة بالأوردة الأخرى. إنه أحد الأوردة القليلة التي تصب في قناة مشتركة قبل الدخول إلى القلب. سوف تستنتج - دون خوف من التناقض - أن الكمية الصغيرة المنقولة من الدم ينخفض تركيزها أمام كمية دم المريض الكبيرة.»
مسألة الجرب
سأل أولدنبرج «والكلب الأجرب؟ هل من أخبار عن هذه التجربة التي أجراها صديقي الغائب توماس كوكس؟»
تطوع دوني بالرد: «نعم. لست مقتنعا بأن دم الكلب الأجرب كان فاسدا بالضرورة في عروقه؛ ربما نقي الدم في جسم الكلب لأنه أخرج كل ما يلوثه عبر مسام الجلد. وتظهر هذه السموم في صورة جرب على جلد الكلب، لكن الدم ظل من ثم نقيا. أليس من المؤكد دائما أن وجود الجرب في أثناء المرض علامة جيدة، لأن هذه علامة على أن كل السموم تخرج من الجسم ولا تستمر في الدورة الدموية حيث يمكنها أن تضر بأحد أجزاء الجسم «الثمينة» وتسبب أضرارا شديدة؟»
وقف أولدنبرج من جديد قائلا: «أنا أيضا كنت أتساءل كيف أنه عندما حقن كوكس الدم من الحيوان الأجرب إلى السليم شفي الكلب الأجرب دون نقل المرض إلى الكلب السليم. لكن عندئذ تكون التجربة محيرة أكثر لأن الكلبين لم يكونا من النوع نفسه. فالأمر يتطلب مزيدا من الدراسة، لكني أعتقد أن السيد دوني قد أخطأ؛ فهو يتساءل عما إذا كان دم الكلب الأجرب قد تعفن وفسد في أوردته، وكأن تعفن الدم بالضرورة هو السبب وراء المرض. إلا أن هذه الفكرة تتعارض مع المعروف في التشريح وهو أن الدم لا يتعفن في العروق حتى بعد الموت بعدة أيام. ويقل احتمال تعفن الدم في عروق الحيوان الحي، لأن الدوران المستمر للدم يمنع التجلط وهو ما نعرف جميعا أنه بداية التعفن.»
بدا على دوني أنه على وشك الرد، لكن أولدنبرج رفع يده طالبا السكوت. وتابع: «أما المرض ذاته فيبدو لي أن الجرب إخراج لنوع من الأملاح الحمضية من الدم. وإخراج هذا الملح إلى الجلد لا يكون في صورة متطايرة لذا يبقى ويتحول إلى جرب. يبدو لي أن الكلب السليم سيكون أكثر عرضة للإصابة بالمرض إن ظل متصلا بالكلب الأجرب لمدة تكفي لفرك بعض الملح عما إذا تلقى كمية ضئيلة من الدم.»
قاطع دوني متجاهلا كل ما قاله أولدنبرج: «أختلف معك؛ فحتى إن كان دم الكلب الأجرب فاسدا، هل نضمن انتقال المرض إلى الكلب المتلقي؟ لا، مرة أخرى أؤكد أنني لا أظن ذلك. فماذا يمنع الدم المتضرر من أن ينقى عند اختلاطه بالدم السليم للكلب المتلقي؟ من السهل أن نرى كيف للحرارة المعتدلة في الكلب الثاني أن تلطف الحرارة العالية التي سببت ظهور الجرب في الكلب المريض. وعندها لن يتفشى المرض.»
شن أولدنبرج هذه المرة هجوما لطيفا: «لكن حتى بمنطقك، من الأرجح أن تبريد هذا الدم الحامل للمرض سيقتل الكلب. فحجتك هي أنه - في عملية أشد من النار - تكون حرارة الدم ضرورية لإضعاف العناصر الضارة وإجبارها على الخروج عبر مسام الجلد. وإن انعدمت الحرارة انعدمت التنقية، وإن انعدمت التنقية انعدم الشفاء. يجب أن يضع كلامك كل الدلائل في الاعتبار.»
تابع دوني وقد جعل التوتر صوته جافا جدا: «إذا كنت متهما بعدم وضعي كل التفاصيل في الاعتبار، فأود أن أشير إلى الدليل الناقص في رواية كوكس لتجربته. فما الدليل على أن المرض لم ينتقل إلى الكلب السليم؟ لم يرد في الرواية أي شيء يقول إن من أجروها فتحوا جسم الكلب ليلقوا نظرة على أعضائه بعد نقل الدم؛ لذا لا أرى أنه يمكنهم إثبات ادعائهم بأن نقل الدم لم ينقل المرض للكلب المتلقي.»
تطعيم النباتات
قال لوور مستأنفا الاجتماع بعد استراحة لمدة خمس دقائق: «إنني أتطلع لأن أعرف آراءكم بخصوص مثال آخر. فقد ذكر بعض المراقبين أن حقن الدم يشبه تطعيم أشجار الحمضيات بالفروع. ففرع شجرة البرتقال المطعم به ساق ينتج البرتقال، بينما ينتج فرع الليمون في الساق ذاتها ثمار الليمون. فالساق في هذه الأشجار تصفي العصارة التي تستمدها من الجذور لتنتج الثمرة المناسبة.»
وخز بويل صديقه لوور وسأله: «ما رأيك؟»
رد لوور وقد أخذ على غرة «أنا؟ لا أرى أي عملية «ترشيح» مكافئة يمكنها تصفية الدم والسماح بتغير طبيعته. يبدو من المنطقي افتراض أن حقن الدم لن يغير طبيعة الحيوان المتلقي، وإن كان الأمر يستحق الاختبار من خلال بعض التجارب التي تجرى بعناية.»
سأل بيرو: «ولكن ألا يمكننا أن نتعلم من الطبيعة؟ فالأشجار على كل حال تقبل التطعيم بطبيعتها، وروى بعض الناس مواقف جرت فيها خياطة أجزاء مبتورة من الجسم والبقاء على قيد الحياة. فالطبيعة دائما ما ترنو إلى الكمال ومن المشكوك فيه حتما أنها قد ترفض هدية قيمة مثل نقل الدم.»
13
سأل أولدنبرج: «هل تتحدث عن المزاعم الإيطالية المبالغ فيها بزراعة الأنوف والآذان والأسنان؟»
رد بيرو: «لا، لكن الناس الذين يصعب عليهم تصديق تلك الروايات سيصعب عليهم تصديق أن هناك أي شيء حقيقي في الأحاديث القائلة إن الطبيعة ستسمح بنقل الدم.»
14
نفث لوور الهواء من بين شفتيه في تعبير عن الضيق وسأل «الطبيعة الطبيعة! ما هذه الطبيعة؟»
تدخل أولدنبرج قائلا: «يشعر بعض الناس بالقلق من الفرق الشاسع بين تكوين الدم من خلال تناول اللحم، والحصول على الدم من خلال نقله؛ إذ يقولون إن الطبيعة رتبت الأمور بحيث يتغير الدم المتكون من اللحم ليناسب كل حيوان، لكن إذا جرى نقله فلا يمكن أن يحدث له هذا التحول.»
صاح دي لا مارتينيير: «هذا مربط الفرس؛ فنقل الدم شيء يثير الاشمئزاز، فهو يعادل أكل لحوم البشر. فأصله من الشيطان.»
وأضاف لامي ساخرا: «بحسب ما أرى ذهب كتيب السيد دوني لما هو أبعد من ذلك؛ إذ يذكر قولا خياليا باحتمال وجود ميزة لاستقبال الدم الغريب على تكوين الجسم للدم من خلال هضم الطعام. فهذا العلاج الصناعي - كما يريدنا أن نصدق - خير من الطبيعة ذاتها.»
رد دوني «هذا صحيح؛ فتحول الطعام إلى دم طريق محفوف بالمصاعب، وسيقي نقل الدم من بعض أسباب فساده. لنكن صرحاء، يحمل الدم المنقول المواد الغذائية مباشرة من جسم لآخر، ويوفر على جسم المتلقي عناء تحويل الطعام إلى دم. فاللحم على كل حال يحتوي على عصارات ضارة كما يحتوي على عصارات مفيدة، لذلك يلزم وجود العصارات الحمضية في المعدة لتنقية الخليط كي يدفع الكيلوس المنقى وحده إلى العروق. إن نقل الدم ما هو إلا وسيلة بسيطة لإعطاء مزيد من الدم لشخص، وتفادي كل هذه العمليات التي تستهلك الجهد والوقت.»
قال بيرو: «يقول بعض الناس إن تصنيع الدم يستهلك كثيرا من حرارة الجسم ومعنوياته. فمن المنطقي افتراض أنه من الأفضل استغلالهما لدى الشخص الضعيف في أجزاء أخرى من الجسم؛ لذا يمكن لاستبدال الدم السليم بالدم الرديء أن يؤدي إلى استغلال طاقات الجسم على نحو أفضل.»
15
في هذه المرحلة بدأ دوني يسترخي قليلا. ربما كانت بداية بيرو عدائية، لكن اتضح أنه كان على الأقل مستعدا للتفكير في تلك المسألة. وزاد هذا من احتمال أن يقدم رواية متوازنة عندما ذهب بعدها إلى الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا.
وقف أولدنبرج بهيئته المهيبة مرة أخرى قائلا: «لمعرفة مآلات هذه القضايا علينا أن نفهم أن في الجسم ثلاث عمليات أساسية للهضم: تتم الأولى في المعدة وهي العملية الصغرى. وتحول العمليتان الأخريان هذه المادة المهضومة إلى الكيلوس والدم، وتجريان في الأغلب في الكبد والقلب على التوالي. ويفيد المثال الذي سقناه المتعلق بالتطعيم في توضيح هذه المشكلة؛ فانظروا إلى الأشجار: إن عصارات الأشجار فيها خليط من عصارات الأرض والجذر والجذع، لكن الثمرة التي تنتجها الشجرة تعتمد على الفروع التي تمر بها العصارات في النهاية، فإن تم تطعيمها بفرع شجرة تفاح فستتخلل العصارات الألياف الصغيرة في هذا الفرع لتنتج التفاح. وإن تم تطعيمها بجزء من شجرة كمثرى فستتخلل العصارات ذاتها لكي تنتج الكمثرى هذه المرة. أما في حالة نقل الدم من الحيوان إلى الإنسان، فمن الصحيح أن الدم لن يخضع لعملية الهضم الأولى، إلا أنه سيجري في دورته في الجسم ويصفى ويتحول في الكبد والقلب إلى مادة بشرية. فالمرحلة النهائية - التي تناظر التخلل في الفروع المطعمة - هي التي لها أكبر الأثر.»
قاطع بيرو قائلا: «لكن مثال الأشجار لا يجدي؛ فمن الممكن أن السوائل في النباتات المطعمة تمتزج جيدا، لكن هناك فارقا كبيرا بين النباتات والحيوانات؛ فليس ثمة مبرر لافتراض اشتراك النباتات والحيوانات في هذه الصفة إلا إذا افترضنا أن الخيول لها نفس ذكاء البشر. وهناك قاعدة واضحة تقول إن الطبيعة تولي رعاية أكبر للحيوانات مقارنة بالنباتات؛ فالتغذية في النباتات - على سبيل المثال - أقل إتقانا من الحيوانات؛ إذ تعمل الجذور في النبات عمل الفم والمعدة، وربما القلب كذلك. لكنها تستبدل بسهولة، فإن قطعت فرعا وغرسته في الأرض فستنمو له جذور جديدة. لكن هذا لا يمكن عمله في الحيوان؛ فعملية التغذية في الحيوانات متقنة جدا بحيث إن تلف شيء يكون إصلاحه أصعب كثيرا. وقياسا على ذلك، يمكنك أن تبني كوخا باستخدام أحجار متناثرة أو بحجارة من مبنى آخر متهدم، لكن إن أردت أن تبني قصرا فستحتاج لأحجار مقطعة بعناية لكل منها دور محدد. وبالمثل، لا يمكن للحيوان أن يتغذى إلا عن طريق الدم المخلوق خاصة لتغذية هذا النوع البيولوجي، أو الأرجح أن الحيوان لا يمكن أن يتغذى إلا من خلال دمه الذي كونه جسمه. فنقل الدم سيكون مثل إعطاء مهندس معماري أحجارا قطعت لبناء جدار مائل بينما قد طلب أحجارا لبناء جدار قائم دون اعوجاج.»
تابع بيرو قائلا: «إذن هذه هي الصورة البديعة التي يحيا بها الحيوان. فأعضاء الجسم المختلفة تعمل معا بكل الصور داخل كل فرد لتحقق فائدتها العامة وتتضافر لتكون شخصية كل فرد؛ فليس من الممكن أن يلبي عضو تكون في فرد ما احتياجات شخص آخر؛ فالقلب يمكن أن يطبع روحه على الكيلوس ويجعله نافعا لجسمه، لكنني لا أزال مقتنعا؛ لن يكون الدم الذي أعده القلب ذا فائدة كبيرة لجسم حيوان آخر.»
16
تدخل دوني في الحديث قائلا: «أتفق تماما.» أراد أن يبقي بيرو في صفه قدر الإمكان: «يتعين للدم أن يكون متوائما مع الفرد خاصة، وسيكون نقل الدم خطرا إن وضع دم غريب في عروق هذا الفرد، وعجز عن تحويله ليناسب احتياجاته الفردية. من المرجح أن يستغرق هذا التحول بعض الوقت، وأسلم بأنه لا تتوافر الشجاعة الكافية لدى أحد ليستبدل دم شخص ما بالكامل في عملية واحدة، بل ينبغي لنا أن نجري عمليات نقل دم جزئية، وعندها لن نجريها إلا إذا كان جسم الشخص قويا بدرجة كافية. فنقل الدم الجزئي يتيح لروح المتلقي ودمه أن يتغلبا على الدم المنقول ويحولانه إلى طبيعتيهما من خلال الغليان الخفيف.»
تابع دوني: «من المعلوم أنه إذا زاد التوافق بين المتبرع والمتلقي قل المجهود الذي يبذله الدم ليصبح متوافقا مع المتلقي. رغم أني واثق بأننا سنكتشف مادة يمكن نقلها دون الحاجة لتحويلها. وسيكون هذا الدم الصناعي إعجازا بحق.»
لكن وبينما اكتشف الناس بعد عدة قرون كيفية نقل الدم بأمان وإعطاء سوائل صناعية ترفع من مستوى الدم، فإن تعقيد الدم يعني أن الإحلال الكامل له هدف بعيد المنال إلى يومنا هذا.
دماء مختلفة
قال دوني: «مع احترامي، سيد بيرو، لا أظن أن مخاوفك تضيف كثيرا، لكن اسمح لي بأن أطرح عليك أحد أقوى الأسباب التي سمعتها للتشكيك في نقل الدم. يقول بعضهم إن خصائص الدم تتباين لدى الحيوانات المختلفة لدرجة أن الدم يكون ساما إذا نقل إلى حيوان آخر. وأنا أقر باحتمال وجود خصائص مختلفة للدم، لكن إن وصل بنا الأمر أن نعتبر الدم ساما، فإن هذه مبالغة بكل تأكيد. فإن تبنينا هذه الفكرة فسندين اللحم كذلك. فالدم على كل حال هو جوهر أو خلاصة هذا اللحم، وإذا كان مصدر اللحم حيوانا مختلفا، فمن المفترض أن ينتج دما لا يناسب الشخص الذي يأكله. وفي المقابل، نعلم أنه يمكننا استخدام اللحوم المبردة وأدوية معينة لمنع الدم من الغليان في العروق، أو استخدام الطعام الساخن وعلم الطب لنزكي شعلة الحيوية لدى كبار السن أو المرضى. إن اللحوم ليست سموما بل هي مفيدة لك؛ لذا فإذا كان خلط اللحوم صحيا فمن المنطقي افتراض أن خلط الدماء مفيد للصحة حتما. فلم لا يؤدي نقل الدم الساخن إلى تقوية شخص قد برد دمه؟
إنني لا أشك في أن ثمة اختلافات شديدة بين الدماء التي ترجع لحيوانات مختلفة وأنها لن تختلط بسهولة؛ إلا إذا خضعت للتخمر.»
صاح لوور: «التخمر؟ الدكتور ويليس، أظن أن هذا اختصاصك؛ هل ترى أن التخمر يوفق بين الدماء المختلفة؟»
رد الدكتور ويليس - صديق لوور وزميله المدرس السابق - وهو ينتصب واقفا وينفض بعض الغبار من فوق عباءته الزرقاء: «لم أتناول مسألة نقل الدم في كتابي «التخمر».» كان متوسط الطول، يشوب شعره الأحمر القاني بعض الخصلات الرمادية، وكان يتلعثم في حديثه: «لكن لنفكر في العملية وننظر إذا ما أمكن ذلك. فالتخ... التخ... التخمر محور الوجود. وفهم التخمر ضروري لفهم أي عملية فسيولوجية، بما في ذلك حياة الدم وأثار نق... نقله من حيوان إلى آخر.
بالعودة إلى الأساسيات في بعض الوقت، نجد أن كل شيء يتكون من جسيمات صغيرة، ويمكن تقسيم هذه الجسيمات إلى خمس فئات. فهي إما روح أو كبريت أو ملح أو ماء أو تراب. ولغرض مناقشة اليوم سنركز على الطبيعة الملتهبة للجس...» توقف برهة وأخذ نفسا واستنطق الكلمة التالية: «للجسيمات الكبريتية، لأن هذه الجسيمات هي ما يتحكم فيما نسميه عرضا بالحرارة. فإن كانت الجسيمات الكبريتية في مادة تتحرك بسرعة، فستظهر عليها الحرارة. وإن زادت سرعتها فسيشتعل الجسم. أما عندما تتحرك ببطء فستنضج الم... المادة وتصبح «سائغة».»
استطرد ويليس في شرحه لنظريته عن تغير طبيعة المواد عندما تجتمع الجسيمات التي تنتمي لفئات مختلفة. فالملح قد يصبح متطايرا إن اختلط بالكبريت أو الروح، والملح نفسه يمكن معالجته إن اتصل بجسيم ترابي. إذن، وضح هذا التصور البدائي كيف يتغير لون الدم من الأزرق القاتم في الأوردة إلى الأحمر الزاهي في الشرايين. فالسبب كان «عملية تخمر» تختلط فيها الجسيمات الكبريتية في الدم بجسيمات الملح والروح لتنتج ملحا أكثر تطايرا. كانت هذه هي العملية التي تصبغ الدم بصبغة الحياة والطاقة والتمايز الفردي.
سأل ويليس وهو ينظر حوله ليرى إن كان يحظى باهتمام الحاضرين: «وأين يحدث هذا التخمر؟ في القلب، بالطبع، هذا العضو الن... النبيل الذي يعطي الدم الحياة والحرارة. ففي القلب يصنع الدم في عملية اختمار تكوين الدم الكبرى تلك. أدرك تماما أن أخصائي الفسيولوجيا والتشريح الإنجليزي جورج إنت يعتقد أن حرارة القلب سببها أن جسيمات ملح البارود في الهواء تذكي لهبا داخل ألياف القلب، وأن ديكارت قبل موته السابق لأوانه قد خلص إلى أن هذه الحرارة تنتقل إلى الدم. لكني أعتقد أن القلب هو الوعاء الذي يحتوي العملية وليس مصدر الحرارة ذاتها. وفي بطيني هذا العضو العظيم تتحرك الجسيمات الروحية والكبريتية لتملأ الدم بالحرارة؛ تلك الحرارة التي تنقل بعدئذ في مختلف أجزاء الجسم.»
سأل دوني قائلا: «وما التطبيقات العملية لهذه النظرية؟»
فاختتم ويليس بقوله إن النظرية أدت إلى فهم المرض من ناحية أن الأمراض التي تسبب الحمى هي التي يكون فيها التخمر زائدا وتكون فيها الجسيمات الكبريتية أو الروحية في حركة عنيفة. وبالطريقة نفسها التي ينظم بها صانع النبيذ الخبير عملية التخمر في برميل النبيذ الخشبي، يجب على الطبيب أن يكون قادرا على التحكم في التخمر الذي يحدث في دم مرضاه. وقال: «المطلوب هو الفهم الأشمل للطبيعة الكيميائية للد... للدم لكي نكون في وضع أفضل يسمح بالسيطرة على سلوكه.» وشعر بالارتياح بانتهائه من الحديث.
وتوقف عن الكلام بعدما لفت صوت صرير كرسي على الأرض انتباهه. وجاءت كلمات لوور الذي وقف: «أتذكر كتابك جيدا يا صديقي العزيز وأقر أنني حتى وقت قريب كانت لي الأفكار ذاتها. لكن كما قلت قبل قليل، لقد علمتني التجربة أن أفكر مرة أخرى؛ إذ إنه من الواضح لي أن طبيعة الدم لا تتغير في القلب، بل في الرئتين. فإن كان التخمر هو ما يتم، فهو يحدث في الرئتين بالتأكيد.» وأومأ بويل الجالس على يساره بحكمة قائلا: «إن الرئتين وليس القلب هما المكان الذي يتعرض فيه الدم للهواء ليتغير من اللون الوريدي القاتم إلى اللون الشرياني الزاهي. فإن كان التخمر هو ما يتم، فإنه يحدث في الرئتين.»
رد ويليس قائلا: «إنني على دراية تامة بتجاربك سيدي الفاضل، وأتابعها باهتمام. ربما تكون على صواب.» وأومأ كل منهما بابتسامة نحو الآخر.
فوائد نقل الدم
سأل أولدنبرج محركا وقائع الاجتماع: «هل لنا أن ننتقل من النظرية إلى التطبيق؟»
رد لوور: «سأسرد بإيجاز بعض أنواع المرضى الذين يمكن إفادتهم من نقل الدم. فإن فقد شخص معافى كمية كبيرة من الدم فإن تعويضه من مصدر آخر قد يؤدي إلى فوائد واضحة. علاوة على ذلك، أرى أن نقل الدم قد يفيد مرضى التهاب المفاصل والمصابين باختلال عقلي ما دامت أجسامهم سليمة بالدرجة الأولى ولم تتضرر أدمغتهم ولم يتعفن الدم. وعلى كل حال، لنقل الدم فرصة في العلاج كما الحال مع فصد الدم.»
17
دوني: «بحسب ما أرى، يبدو أن الأطباء ينتمون لواحدة من ثلاث فئات. فهناك الذين يؤيدون الاختراع، ويرون أنه يمكن وصفه لعلاج مجموعة كبيرة من الأمراض. وينظر آخرون إليه باعتباره بدعة لا نفع منها، بينما لم يحسم الفريق الثالث موقفه بعد ويقول إنه ينتظر المزيد من الشواهد بطريقة أو بأخرى. أما أنا فلا أرى غضاضة في أن أنسب نفسي للفريق الأول. فأنا مقتنع بفوائد نقل الدم ومنافعه. فالكل يعرف أن فقدان الدم والنزيف يسببان وفاة كثيرين ويحكمان على آخرين بالشيخوخة المبكرة. فنقل كمية معقولة ومعتبرة من الدم يمكن أن يطيل حياة كثير من هؤلاء المرضى. وبالإمكان التنبؤ بقدرة هذه الوسيلة الرائعة على رفع المعاناة عن كاهل المصابين بالتهاب الجنبة والجدري والجذام والسرطان والتقرح والحمرة والجنون والخرف وغيرها من الأمراض التي يجري فيها الخبث في الدم. أتوقع تماما ظهور دليل على هذا في المستقبل القريب.»
أضاف لوور: «ربما يكون لنقل الدم دور في دعم شخص مريض جدا بإعطائه بعض الوقت ليشفى. ففي بعض تجاربي لنقل الدم أوضحت أنه إن أردت حقن دم شرياني قرمزي زاه في حيوان يلهث في حاجة إلى الهواء فإن الحيوان المختنق يسترخي وتتوقف معاناته في التنفس. فالواضح أن الدم الجديد ينعش الحيوان بما أنه أمد بدم مشبع بالفعل بالهواء.»
وبهذا القول، تنبأ لوور بما يطلق عليه الآن جهاز أكسجة الأغشية من خارج الجسم، وهو جهاز طبي يستخدم في جراحات المجازة يمكنه تزويد الدم بالأكسجين وتنقيته في الوقت ذاته من ثاني أكسيد الكربون.
دوني: «هناك احتمال جيد أن يكون حقن هذا الدم المفعم بالحيوية أفضل من الفصد. فلا يمكن أن ينكر أي طبيب يحضر معنا هنا أن الدم محوري في معظم الأمراض. ونعلم على أي حال أن الكثير من الحالات - إن لم يكن معظمها - يعالج بفصد الدم. لكن عليكم الاعتراف بأنه بينما قد يؤدي الفصد إلى التخلص من الدم الفاسد فهو يضعف المريض. ربما تعالج الحمى لكن العملية قد تترك المريض عرضة للإغماء.»
صاح لامي: «لكن لا يمكنك معالجة الحمى بنقل الدم - بالقطع - إن أخذت الدم من شريان؛ فالدم الشرياني محمل بالحرارة، وبدلا من إنعاش دم المريض أعتقد أنه سيرفع حرارته بدرجة أكبر. هذا بالتأكيد السبب الذي جعل الرجال الذين استقبلوا الدم يشعرون بحرارة شديدة في أذرعهم.»
استطرد دوني متجاهلا مقاطعة الشاب الصغير: «يمكن للإدماء الزائد أن يسبب الوفاة. ومن ثم يلتزم العديد من الأطباء بالحذر المفرط في استخدام هذه الطريقة. لكن الذين يجرون فصد الدم سيجدون نقل الدم مفيدا لأنه سيمكنهم من استبدال الدم السليم بالدم المتضرر المفقود على الفور، أما من لديهم مخاوف من فصد الدم فسيجدون أن نقل الدم وسيلة فعالة لتقوية المريض بدم جديد.» «أتفق مع هذه النقطة.» قالها لوور الذي بين أنه طالما شعر بأن نقل الدم على الأرجح سيستخدم بحيث يمكن للحيوانات التي تحتاج للدم أو التي فسد دمها أن تحصل على الدم من غيرها. ورأى أن تلك العملية ربما كانت أقل فعالية مما يمكن لأن الدم القديم المريض اختلط بالدم الجديد السليم، لكن حتى في هذه الحالة يوجد حل ممكن. ماذا عن نقل الدم من اثنين أو ثلاثة حيوانات إلى المستقبل، مع سحب دمه في الوقت ذاته؟ ذلك سيطرد الدم القديم ويترك الدم الجديد وحده.
سأل دي باسريل الذي بدأ يلين للإمكانيات التي أتاحها نقل الدم: «لكن السؤال عندها سيكون: ما أفضل مصدر للدم؟»
فرد دوني: «من المنطقي في البداية استخدام دم الحيوانات؛ وهو يحتوي على شوائب أقل من الإنسان لأن الحيوانات لا تمارس البغاء أو الأكل والشرب غير المنتظمين. كذلك فإن المشاعر والعواطف مثل الحزن والحسد والغضب والكآبة والقلق تفسد مادة الدم لدى الإنسان، بينما حياة الحيوانات أكثر انتظاما وتمر بقدر أقل من المآسي الناتجة عن خطيئة آدم في الجنة. إن التجربة تبين أنه كما من النادر جدا أن نجد دما رديئا في الحيوانات، فمن النادر أيضا أن نجد دم إنسان غير ملوث . فحتى الرضيع لا يخلو من النقص من بعض الأوجه، لأنه بتغذيه على لبن أمه يمتص منها المفاسد مع امتصاصه الغذاء.»
قال إميري، الذي ظل صامتا حتى تلك اللحظة، مقاطعا: «كما يمكننا أن نكون أكثر جرأة في استخدام حيوان. فهناك أدلة جيدة على أن الدم الشرياني أقل عرضة للتلوث وأنه يمر بانسيابية أعلى في الأنابيب من حيوان لآخر. لكن فتح الشريان في الإنسان خطر؛ فهو كما نعلم يمكن أن يؤدي دون قصد إلى نزيف المتبرع حتى الوفاة. ولن يسبب هذا مشكلة إذا كان المتبرع حيوانا.»
قال دوني: «للحيوانات ميزة أخيرة، فنحن نسيطر عليها ويمكننا أن نتحكم فيما تأكله قبل أيام من نقل الدم. ونعلم أن لحم العجول يختلف مذاقه عند العناية بتربيتها، وأن من الممكن التأثير في مذاق اللبن وصفار البيض بإعطاء الحيوانات طعاما معينا. ومن المنطقي افتراض أن تغذية الحيوانات تنتج دما أغنى يناسب غرض نقل الدم بصورة أكبر.»
جهر بيرو بأفكاره، وقد أصبح يسعى بصورة نشطة لإيجاد حلول لبعض المشكلات، قائلا: «أتساءل عما إذا كان من الممكن أن تكون الوفاة والآثار المرضية في بعض العمليات سببها نقص كمية الدم المستنزف من الحيوان قبل إجراء العملية؟»
رد إميري: «هذا مبعث قلق دائما.»
استطرد بيرو: «هل يحل المشكلة استخدام أنبوبين؟ في هذه الحالة يمكن لكل حيوان أن يتدفق دمه إلى الآخر ويمتزج دمهما ويتحدان بطريقة طبيعية أكثر.»
اتفق إميري: «وارد جدا، لكنه غير ممكن إلا في الحيوانات الكبيرة؛ بسبب الصعوبات الفنية التي تعوق وضع أنابيب كافية في مساحة ضيقة.»
الخوف
قال أولدنبرج وهو يقلب في بعض خطابات كانت قد وصلته: «يوجد اعتراض يرتبط مباشرة بعملية نقل الدم التي أجريت للرجل الباريسي؛ إذ يقول بعض الناس إن الخوف من العملية هو السبب وليست العملية ذاتها هي ما أفاقته من حالة البلادة.» فكان الادعاء هو أن القلق أثار روحه وجعلها تندفع سريعا لدرجة أنها أزاحت كل ما كان يعترض مسارها حول الجسم. فقد كان تنظيف الممرات الروحية وليس نقل الدم هو ما عالج الفتى.
لم يترك دوني أي وقت ليجيب غيره قبل أن يرد قائلا إن الفكرة لم ترق للدراسة . فإن كان القلق والخوف سببين رئيسيين في علاج الشاب فمن المفترض أن يكون قد شفي قبلها بيوم. والسبب هو أنه قبل لقائه بدوني بيوم سقط الرجل من فوق الدرج ولا بد أن هذا أخافه. أضاف دوني قائلا: «لقد كان الصبي أبعد ما يكون عن القلق لدرجة أنه بدا على غير دراية أصلا بأننا كنا ننقل الدم إليه، بل لقد ظن على ما يبدو أن الحمل موصل به ليكون بمثابة علقة ضخمة تسحب الدم منه.»
الفلسفة أم التجربة؟
قال بيرو: «بالنظر في المسالة برمتها، أتساءل فعلا عما إذا كان أي من عمليات نقل الدم تلك قد تم بالفعل.» قال ذلك متراجعا إلى الخلف في كرسيه وراح يحك صدغيه علامة على التفكير: «فانظر مثلا إلى الكلب الذي رقد على ظهره طوال ساعة بينما يفرغ من دمه ويحل محله دم من كلب آخر. من المفترض أن نصدق أن الكلب بعد عملية نقل دم كبيرة اكتفى بتحريك أذنيه ولم يعان بعدها. يدهشني أن التفسير الأرجح هو أنه بمجرد بدء العملية تجلط الدم في الوريد مانعا دخول أي دم آخر. واستفاد الحيوان على الأرجح من فقدان بعض دمه لأن جسمه كان به دم زائد من البداية. للأسف، لم يكن هناك أي محاولة جدية - إن وجدت - لقياس كمية الدم التي مرت من أحد الكلبين للآخر بدقة؛ لذا فما من سبيل للتأكد من الرواية الأصلية ولا التفسير البديل.»
أولدنبرج: «إنني حزين - وإن كنت غير مندهش - من عودة نقاشنا اليوم إلى الفلسفة بهذه الدرجة بدلا من أن يقوم على أسس الأدلة التجريبية. فكثيرا ما يفند معارضو نقل الدم التجارب باستخدام المنطق وبمنظومة من الحجج المعدة بعناية التي تدرس في المدارس الأكاديمية، معتقدين كما يتضح أن هذا هو كل ما هو ضروري لصياغة جدل يؤيد أو يعارض أي أفكار. لكن التجارب خير من أي جدال، وينبغي أن يترك للبيانات الحكم والكلمة الأخيرة ، خاصة في مسائل الفلسفة الطبيعية والطب.»
18
دي باسريل: «فعلا. وعلى زميلنا المتعلم أن يسترجع شيئا من التاريخ . فمثلا منذ مائة سنة اكتشفت كلية الطب أن بعض المواد الكيميائية تسبب المرض وأدرجتها ضمن السموم.»
سأل أولدنبرج: «هل تقصد الأنتيمون؟»
رد دي باسريل: «نعم، والزئبق والراوند. لكن بعدها شفي الملك باستخدام الأنتيمون، وعليه أصدر مرسوما ملكيا معارضا للكلية يقول فيه إنه علاج فعال وإنهم تسرعوا في استبعاده.»
تولى أولدنبرج زمام المناقشة: «والآن يعد ملينا فعالا وحلا في جعبة الطبيب. ولا يقتصر الأمر على سماح الكلية باستخدامه، بل إنهم يصفونه كدواء. فما السبب في تغير تلك النظرة؟ البيانات. فعندما رؤي أنه عالج كثيرين، بمن فيهم الملك الأشد التزاما بالمسيحية، اقتنع الجميع، ورفضت كل الحجج البارعة في العالم التي تخالف ما سبق. وكذلك الحال مع العلاجات التي يستخدمها الأطباء. ففي مراحل مختلفة حظر باقي أهل المهنة واحدا منها. إن الإنسان العاقل هو الذي يسترشد بالتجربة.
لكن نقل الدم شيء جديد، وحسبما نعلم لم يجر في العصور السابقة. وفي هذه الحالة لا يمكن للعباقرة وللراغبين في رؤية البشرية في رخاء إلا أن يقدموا قليلا مما يعرفونه لكي يتمكن غيرهم من الأطباء الكرماء غير المتحيزين من تجربته. وبهذه الطريقة نبني خبرتنا وسنكون في موضع أفضل، يسمح لنا بأن نحكم بما إذا كانت تناسب جسم الإنسان. لكن الوضع ليس بهذه البساطة؛ فمن ناحية يقول الناس إنه بما أن الأمر يرتبط بالصحة وحياة البشر فلا يمكن لأي قدر من الدراسة أن يزيد عن الحد. ومن الناحية الأخرى يرفض هؤلاء المتكبرون ...» وأشاح أولدنبرج بنظره في اتجاه ممثلي الكلية الثلاثة «... أي حقيقة أو برهان لم يفكروا هم فيه. فخير الناس هو من لا يأتي بحكم مسبق، بل يجري التجارب الكثيرة بعناية ويكون رأيه. ولهذا السبب أطلب ممن في السلطة أن يأمروا عددا من الأطباء والجراحين المنفتحين والموثوق فيهم بإجراء تجارب كثيرة تهدف إلى معرفة الإمكانيات الحقيقية لهذه الطريقة.»
19
بيرو: «لكن لا تتجاهل أيا منهما؛ فالمنطق والتجربة يتضافران معا كأداتين ثمينتين ، ولا يسلم كل منهما من الخطأ. فعليك أن تصحح التجربة بالمنطق وتصحح المنطق بالتجربة. هذا يتطلب دقة وتطبيقا أعظم - في رأيي - مما استخدمه هؤلاء الذين لا يشكون مطلقا في الفوائد التي يجلبها نقل الدم من حيوان لآخر؛ إذ يمكنك من التجارب الموجودة حتى الآن استنتاج أن نقل الدم مفيد، لكن في الوقت ذاته من الخطأ - على الأرجح - أن نصف تلك التجارب بالبغيضة أو الخبيثة. على كل حال، يبدو من الأرجح أن الحيوانات تتحمل معاناة نقل الدم لا أنها تتعافى بمساعدته. ربما تصل الحيوانات للنتيجة نفسها إذا جرى حقنها بماء كدر أو سائل غريب آخر.»
قال لامي آملا في تلخيص رأيه قبل انتهاء الاجتماع: «أيها السادة، إن نقل الدم اختراع جديد تماما. فإذا نجح فسيشرف قرننا باكتشاف وسيلة بسيطة وسريعة للتخلص من الأمراض المستعصية التي تؤرق مضاجعنا وتمنعنا من الاستمتاع بطيب الحياة. للأسف، لا أزال مقتنعا بأننا إذا نظرنا لنقل الدم جيدا فسنجد أن فوائده قليلة. فربما ينتهي بنا المطاف بقتل الناس بدلا من علاجهم.»
قال دوني وعيناه تجوبان الغرفة بحثا عن الإلهام ومحاولا أن يستشف ما إذا كان هذا اليوم سيخدم أم يمنع وقوفه المرتقب أمام القاضي: «لا يمكنني أن أتفق معك.» كان دوني سعيدا نسبيا على المستوى العام؛ إذ لم ينقض المفكرون الذين امتلأت بهم الغرفة تصوره؛ لذا فلن تكون المحكمة قادرة على توجيه أي ضربات له: «لا شيء مما سمعت أو رأيت يثنيني عن أن أرى أن نقل الدم وسيلة نافعة، بل ربما تشكل العلاج المطلق لكل الأمراض.»
ضغط بيرو: «لكن يجب عليك يا صديقي العزيز أن تقر بوجود مساحة للشك، أليس كذلك؟ فبعض هذه المزاعم يصعب جدا تصديقه. فلتنظر مثلا إلى علاج الجنون؛ فإذا كان الدم السليم أو الدم الفاسد يمنح أو يسلب الإنسان عقله وقواه العقلية، فإن إعطاء دم عجل لشخص لا بد وأن يورثه غباء هذا الحيوان!» لم يشارك دوني في الضحكات التي تلت هذه الكلمات.
20
فقال دي باسريل: «لكن لا يمكنك كذلك أن تستبعد فائدته تماما. فهناك عديد من الكلاب الآن عاشت لسنة أو أكثر بدم منقول. فهناك الكلب الذي تلقى دما من غزال واستعاد شهيته، وازدادت حيويته بعد ثمانية أيام. وبجانب الرجال الذين تلقوا الدم، أخبرني دوني مؤخرا عن امرأة شفيت من الشلل الذي أصاب الشق السفلي من جسمها، وهي نتيجة مذهلة تماما. وما ينبغي لنا هو أن نحذو حذو زملائنا الإنجليز ونوصي بسلسلة من التجارب تجرى بعناية وتسجل بحرص؛ وعندها قد نرى صورة أوضح للحقيقة. مع ذلك، أرجو من السيد دوني ألا يستسلم لأن لديه أعداء. فلطالما سمعت أن حسد الناس لك خير من الشفقة عليك. إنني أشيد به باسم كل الذين يتشوقون لاستمرار اجتماعاته ومشاركة الجماهير البيانات الجديدة التي يكتشفها كل يوم في المسائل الأخرى، وسأظل من جانبي أحد المستمعين الذين يدافعون عن مشروعية اهتمامه بالمواقف من كل الأنواع.»
عند هذه النقطة، بدا إنهاء الاجتماع مناسبا.
الفصل الحادي عشر
خطأ أم مكر أم قتل؟
ضربت العصا على الأرض مرة أخرى، فانقطعت الأحاديث هذه المرة. دلف رئيس المحكمة - ملازم القضايا الجنائية السيد دورميسو - إلى القاعة، فنادى الحاجب: «سوف تنعقد اليوم السبت الموافق السابع عشر من أبريل من عام ألف وستمائة وثمانية وستين ميلاديا محكمة لو جراند شاتليه في باريس»، وقد سره أن الناس قد أعاروه بعض اهتمامهم أخيرا. استغرق دورميسو بعض الوقت وهو يتخذ جلسته وانتظر الحاضرون؛ إذ لم يكن هناك أي طائل من امتلاك السلطة إن لم تتعد على وقت الآخرين وحرياتهم. وعندما تهيأ أخيرا أشار بإيماءة عامة في اتجاه الوجهاء من داعمي دوني المجتمعين في الشرفة حانيا رأسه لهم، قبل أن يلتفت إلى المحامي الموقر وأومأ برفق. وأخيرا أشار إلى حاجب ليتلو التهمة. «التهمة الموجهة للسيد دوني: أنه في الأيام الأخيرة من يناير من هذا العام قتل هو وشريكه مريضا - وهو السيد أنطوان موروا - في مخالفة للقانون. والتهمة هي أنه، رغم اعتراضات السادة المتعلمين في كلية الطب، أجرى سلسلة من التجارب غير الطبيعية بنقل الدم من العجول إلى عروق المجني عليه. ولم يفعل ذلك مرة واحدة، بل ثلاث مرات. والاستنتاج واضح. لقد قتل دوني موروا.»
قال السيد لاموانيو - محامي دوني - وقد وقف وانحنى للقاضي أولا ثم لمن في الشرفة: «سيادة القاضي، اسمحوا لي أن أتقدم بالدفاع عن المتهم.» ربما لم تكن هناك هيئة محلفين، لكن طالما كانت استثارة رد الفعل الصحيح من الجمهور تساعد على الفوز بالقضية، وكانت الكياسة ناجحة إلى حد بعيد. «إنكم - كما أتيقن - على دراية بالفصول الافتتاحية للموقف الحالي، بالعلاج الفريد الذي أعطي للرجل الذي لفت جنونه أنظار كل سكان مدينة باريس الكبيرة. لقد أدى التخلص من بعض دم الرجل الملوث، وإنعاش جسمه بدم بارد بريء من عجل طيع إلى تحوله، لدرجة أن سلطات الكنيسة أعلنته سليم العقل في غضون أيام وسمحت لموروا بالمشاركة في الشعائر المقدسة. وإن رغبت المحكمة، فأنا على أتم استعداد لاستدعاء القسيسين اللذين زاراه قبل أيام من عيد الميلاد ليشهدا على سلامة عقله.»
لم يبد على القاضي الاهتمام.
استطرد المحامي: «إنني على قناعة بأنكم تتهمون الشخص الخطأ بجريمة القتل هذه. وأود أن أعرض القضية، وأورد القرائن التي تدين فردا آخر من العامة ينبغي أن يكون حاضرا بين هذه الجدران بحسب ما تحتم الضرورة، لكنه يبدو غائبا.» ضاقت عينا لاموانيو، وجالت بين الشرفات، وكأنها تبحث عن جاسوس: «إنني أرى أن السيدة موروا ينبغي أن تحضر وتسأل عن أفعالها، فهي كما يبدو مسئولة عن كثير. على الأقل ينبغي أن تتحمل مسئولية تقصيرها في اتباع النصيحة السليمة.»
رد القاضي قائلا: «قد يكون هذا صحيحا، لكن الاتهام موجه حاليا للسيد دوني، وهناك أسئلة عليه أن يجيب عنها. إنك تشكو من تجاهل السيدة السافر للنصح، لكن أليس صحيحا أن دوني هو الآخر لم يلتفت، أو تجاهل نداءات الحذر من أهل الطب؟» «إن كنتم تميلون إلى الشك في حذره وممانعته فاعلموا ما يلي. لم يكن دوني هو من سعى وراء موروا، لكن زوجته هي من أزعجته وتوسلت إليه. وإن كنتم تقصدون أنه تجاهل من هم أرفع مقاما فهذا أيضا غير صحيح؟ فلقد جاءت دعوات وقف هذه الطريقة من كلية الطب الباريسية، لكن دوني درس في مونبيلييه . فلم عليه أن يتقيد بعقول باريس الجامدة؟»
قال القاضي في إصرار: «لكن يا سيد دوني، أليس من المنصف أن نقول إنك كنت ستسعى في تلهف لإجراء التجربة إن سنحت الفرصة؟» «إنني أؤمن بنفعها؛ لذا أبحث بالطبع عن الأوقات المناسبة لاستخدام هذه الطريقة؛ إلا أن هذه المرة لم تكن واحدة من الأوقات المناسبة.» «لكنك تابعت عملك ونقلت الدم!»
رد دوني: «لا يا سيادة القاضي. لقد امتلأت الليلة بالفوضى، لكننا لم نصل قط في أي لحظة من العملية إلى فتح شريان العجل وتوصيله بالإبرة التي في ذراع السيد موروا. لقد دخل الرجل في نوبات صرع عنيفة بمجرد أن حاولنا بدء العملية، فاضطررنا إلى التوقف. فما من سبيل لكي نتمكن من نقل الدم في هذه الحالة. كان من الممكن أن ننقذ حياته لو فعلنا، لكن في ضوء حالته الصحية المزرية لم نكن في وضع يسمح لنا بالاستمرار. فقد كانت حياته بين يدي الرب وكان من الواضح أنه تجاوز ما يمكن لأي فن من فنون الطب أن يقدمه.»
استطرد القاضي: «هل أنت متأكد من هذا؟» «تماما.» «هل لديك شهود؟» «ليس في هذه الواقعة. فكل الحاضرين كانوا أنا وإميري والسيد موروا وحرمه.» «ونعم الشهود!» قالها القاضي ودون شيئا على عجل: «ولم يجر أي فحص للجثة كذلك؟»
تدخل محامي الدفاع: «لم يكن هذا ذنب موكلي، سيادة القاضي. فالخطوة التالية كانت واضحة أمام السيد دوني؛ إذ كان بحاجة ليجري تشريحا للجثة، وبسرعة. وكان حريصا على هذا لسببين؛ أولهما: أن تلك كانت مسألة تتعلق بالعلم؛ فقد أجريت عمليتا نقل دم، وكان موكلي حريصا على البحث عن آثار دخول دم العجل. والثاني: أنه أراد أن يبحث عن أي أعراض تسمم، نعم تسمم. فقد كانت هناك شائعات تقول إن زوجة موروا إذ يئست جراء العنف الزائد هددت في عدة مواقف بقتله حالما تسنح الفرصة. وكانت تلك الكلمات وقتها تؤخذ على محمل الدعابة السوداء ، لكن الطبيب الجيد ينظر في كل احتمال قبل أن يكون تشخيصا.»
تدخل دوني: «لذا ولكي يمكن الوثوق في كلمتنا جمعنا سبعا أو ثمانية أطباء ليكونوا شهودا واتجهنا لمنزل موروا. وعلى النقيض تماما من الزيارة السابقة، لم أتلق أي ترحيب، بل أصرت الأرملة على ألا ندخل بيتها. وكانت مصممة على ألا نفحص جثة زوجها. ألا ترى هذا غريبا؟ فقبلها بيوم جررت إليه جرا؛ والآن أنا ممنوع. وطبقا للجيران، فقد قضت بقية اليوم بمجرد أن غادرنا في سعي محموم لتنهي ترتيبات دفنه، لكنها لم تتمكن من إتمام المهمة في ذلك اليوم. ستدرك السرعة التي انتشر بها خبر الواقعة في مقاهي باريس وملتقياتها؛ لذا ليس من الغريب سماع أحد أشهر أعضاء كلية الطب بباريس بخبر وفاة موروا ذلك المساء. لم يكن مؤيدا لعملي ورأى في ذلك فرصة لإقامة الحجة علي. فأرسل جراحين لفحص الجثة، لكن أرملة موروا رفضت أيضا السماح لهم، بل كذبت في تلك المرة قائلة إن الدفن قد حدث بالفعل.
بعد ذلك، قررت أنا والطبيب - في اتفاق نادرا ما يحدث بين أفكارنا - أن الشيء الوحيد الذي يمكن عمله هو أن نذهب معا إلى منزلها ونأخذ الجثة بالقوة. واتفقنا على أن نقوم بهذه المغامرة في الصباح، لكن بحلول هذا الوقت اكتشفنا أنها أتمت الدفن بالفعل قبلها بساعات في جنح الظلام وقبل الفجر بقليل.»
كان من الممكن - حسبما تابع قصته - أن تكون هذه نهاية التجربة بكل بساطة وآخر ما يسمع عن هذين الزوجين البائسين. وبالفعل، قرر الطبيب أن يستسلم وألا يقول أي شيء آخر. لكن سرعان ما أصبح هذا خيارا غير متاح؛ لأن «أعداء التجربة» فرحوا بهذا التسلسل المؤسف للأحداث وسعوا لاستغلال الموقف. وكانت أولى خطواتهم هي نشر كتيب يشجب فكرة هذا العلاج بالكامل. قال دوني: «وعندما التزمت الصمت، أشاعوا أن صمتي كان بسبب اتفاقي معهم وأنني لم أعد أريد مزاولة هذه المهنة.»
سأل دورميسو - رافعا بيده في الهواء حزمة من الخطابات والدوريات - قائلا: «هل تشير كما أفترض إلى تلك؟ لنلق نظرة سريعة عليها لو سمحتم. في البداية، هناك هذا الخطاب من الفيلسوف المعروف يوتسيل إلى زميله الإنجليزي السيد أولدنبرج بتاريخ الثالث من فبراير. من الواضح أنه يرى أن أعمالك طائشة غير مدعومة لا ببراهين فلسفية ولا بأدلة من العلم الحديث. فلنقرأ بعض كلماته: «وهذا سيبين خطأ نقل الدم، ولن يجرؤ أحد على تنفيذه على إنسان.» أظن أنه من الممكن أن نقول إنه كان متشككا على ما أظن. بعد ذلك، يوجد هذان الخطابان اللذان كتبهما جورج لامي. وفيهما يعبر عن احتقاره لعملك ويبدو أنه يتصور أن الشقاء حال أي مريض خضع للعملية. ويمكننا أن نضيف لذلك عديدا من المقالات الواردة من مارتين دي لا مارتينيير الذي يؤمن بأن عملك فضيحة غير أخلاقية.»
قال المحامي محاولا أن يستعيد السيطرة مجددا: «يسرنا أن نوضح ذلك. من الواضح أن هناك اختلافا في الرأي. إن الرأي الرسمي يشكك في نقل الدم، ويرى أن هؤلاء الرواد يتورطون في المضايقات أو المواقف لاعبين دور الأشرار منعدمي الأخلاق. لكنهم يثيرون اللغط دون أن يشتغلوا بالتجارب والملاحظة. فإن استمعت إليهم لن تتجاوز الفهم الذي ترسخ في بلاد الإغريق القديمة. لكن بالإضافة إلى ذلك، أود أن أقدم أدلة على أن من بين هؤلاء السادة المتعلمين من هم على استعداد لتغيير مسار العدالة لتحقيق أهدافهم. أسأل عدالتكم أن تستمعوا لرواية السيد دوني للفصل التالي في هذه القصة.»
تولى دوني زمام الحديث مرة أخرى: «تصوروا اندهاشي عندما اكتشفت أن السيدة موروا بعد شهرين من هذه الوفاة السابقة لأوانها تتعرض لمضايقات من ثلاثة من هؤلاء الأطباء. فهل كانوا يحاولون مساعدتها في مصيبتها؟ لا أظن. تبين أنهم كانوا يعرضون عليها المال، مقابل شهادتها في المحكمة بأني بإجراء عملية نقل الدم قتلت زوجها.
إن هذه الواقعة لا تلقي بظلال الشك على نزاهة خصومي، بل تكشف شيئا جديدا عن شخصية السيدة موروا. فأي ملتزم بالقانون سيرى الظلم والشر وراء الرشوة ويرفض العرض فورا. لكنها ليست من هذا النوع، بل إنها حتى لم تأخذ المال وتذهب كيهوذا للمحكمة لتسلم رجلا بريئا؛ لكنها أتت إلي في السر. في البداية بدا عليها أنها أتت بدافع الكرم وبنية حماية اسمي وسمعتي فقط. وأسهبت في الحديث عن الخدمة الجليلة والإحسان اللذين أبديتهما تجاه زوجها الراحل، معترفة بأنني قد أعطيته أفضل علاج يتيحه العلم الحديث لأي إنسان، ومن ثم عرضت أن تشهد لصالحي عند الحاجة. إلا أن نبرتها في هذه المرحلة تبدلت، وأصبح من الواضح أن العرض لم يكن مجانيا. وبعكس أعمالي الكريمة التي قدمتها لها ولأسرتها دون تكلفة، طلبت السيدة موروا مبلغا لقاء خدماتها في المحكمة. والسعر الذي طلبته؟ كان كل المطلوب أن أعرض مبلغا أكبر من الذي عرضه خصومي. وكان هدفها الوحيد - كما زعمت - هو أن توفر مبلغا كافيا لتعود إلى مسقط رأسها وتبدأ حياة جديدة.
لا أعلم ما إذا كنت تصرفت بدافع من المهانة أم الغضب. فقد طردتها ببساطة قائلا إن هؤلاء الأطباء وكذلك هي نفسها في حاجة لنقل الدم أكثر مما احتاجه زوجها من قبل، وإنني من جانبي لا أعبأ بتهديداتهم. فأنا على يقين من أن كل الأدلة المقامة ضدي مبنية على معلومات مغلوطة ضخمتها الغيرة والرغبة في تحويل مسار العدالة.»
ثلاثة شهود
قال لاموانيو: «لدينا شهود، سيادة القاضي.» وأشار لدوني بالجلوس.
تقدم في هذه اللحظة شاهدان، كان أحدهما يدعم قصة دوني وقال إن السيدة موروا حاولت فعلا ابتزاز الطبيب الشريف. وزعم الثاني أن طبيبا عرض عليه 12 عملة ذهبية إذا جاء إلى المحكمة ليقول إن موروا توفي أثناء عملية نقل الدم الثالثة ذاتها؛ وهو اتهام قد يجعل من دوني قاتلا ويتركه في صراع للحفاظ على حياته.
سأل لاموانيو وهو ينحني قليلا: «يوجد شاهد آخر أود أن أستدعيه، فهل تسمح عدالة المحكمة؟» وأومأ دورميسو بالإيجاب. فاستطرد لامونيو قائلا: «أود أن أستدعي جارة السيدة موروا.»
كانت الشاهدة جالسة تنتظر، ثم هبت واقفة كما لو كانت صاعقة كهربية قد سرت في جسمها. كانت تعبث طوال الوقت بخاتم في إحدى أصابعها وبدت غير مرتاحة وسط أجواء المحكمة الرسمية. سرت همهمة في القاعة مع تبادل الناس الأفكار وثرثرتهم محاولين التنبؤ بالمعلومات التي كانت على وشك الإفصاح عنها.
سأل المحامي بعد أن هدأت القاعة من جديد: «لقد رأيت بعض المواقف المقلقة، أليس كذلك؟ وقد بدأت عندما سمعت شيئا، صحيح؟ أخبرينا.» «لقد كان ذلك قبل أسبوع - أو ربما أسبوعين - من وفاة موروا» ثم سكتت قليلا وتلفتت حولها في توتر.
قال دورميسو: «تابعي.» «حسنا، سيدي، لقد سمعت شجارا.» تلعثمت السيدة من جديد ونظر دوني إلى الأرض. كانت الدلائل تشير إلى أن شاهدته الرئيسية على وشك الفشل.
استحثها لاموانيو: «شجار؟ بين من؟» «بين موروا وزوجته بالطبع.» بدا عليها الذهول من السؤال، وعندها نزل عليها الإلهام فجأة وانطلقت تسرد باقي القصة: «أقصد أنه لم يكن ذلك شيئا غير معتاد. فمنزلانا متجاوران، والجدران رقيقة جدا ونسمع كل شيء، بل يمكننا أن نرى عبر الجدران في بعض المواضع بسبب الشروخ. وقد تعمق أحد الشروخ كثيرا بعد أن ضرباه في إحدى مشاجراتهما. وطلبت منهما كثيرا أن يصلحاه. فإن حدثت مشكلة - كما ترى - كنا نعلم كل شيء عنها. وقبل أسبوعين - كما قلت - كان صوت الشجار أعلى من المعتاد؛ فالخلافات والمشاجرات كانت جزءا اعتياديا من حياتهما. ولطالما كان هذا حالهما. لكن في هذه المناسبة كان السيد موروا يشكو من الطعام. وكان يقول إن الطبيب أمره ألا يأكل شيئا يرفع حرارة دمه، لكن كل ما تقدمه له كان مشروبات وحساءات ثقيلة. وقد صاح بها ذات مساء قائلا: «قد يظن أي أحد أنك تحاولين أن تسمميني؛ يمكنك أن تضيفي الزرنيخ إلى هذا الحساء ولا أعلم بذلك أبدا.» ربما تظن أنه من الغريب أن يقول شيئا كهذا، لكن زوجته كانت تخلط أكياس مساحيق غريبة بحسائه. وقالت إنها وصفات من الصيدلية، ولإثبات صدقها تناولت أمامه ملعقة من الحساء.»
سأل دورميسو: «وكيف عرفت بذلك؟ هل كان بإمكانك أن تسمعي صوت ارتشافها للحساء أم كنت واقفة تنظرين عبر شرخ الحائط الذي وصفته على نحو رائع؟» سرت موجة من الضحك في أرجاء القاعة إثر سؤال دورميسو.
ردت قائلة: «لا يا سيدي» وقد ذاب توترها «ففي تلك المرحلة كنت قد خرجت لأشاهد الموقف عبر النافذة.» - «إذن فهي تناولت ملعقة من الحساء؛ فما أهمية ذلك؟» - «لا يا سيدي، لم تفعل. هذه هي المسألة. لقد تظاهرت بشربها، وبعد لحظة رأيتها تسكبها من الملعقة على الأرض.»
تساءل القاضي: «إذن لم يتناول أحد رشفة الحساء تلك؟»
قالت المرأة: «لم يتناولها إنسان، نعم. لكنها لم تبق على الأرض كثيرا، حيث رأيت قطة تلعقها.» «رائع»، قالها القاضي المتثائب وهو يمدد ذراعيه وعاد بظهره إلى الوراء ليبدي أكثر وأكثر عدم اهتمامه بهذه الشاهدة المنتمية لطبقة متدنية. أثار رد فعله همهمة بين الحضور، وتجاوب شخص أو اثنان بالتثاؤب اللاإرادي. بدأ البعض يتحدثون وبدأ دوني يشعر بالرعب من أن يضيع الجزء الأهم من الشهادة. «لكن القطة نفقت.» «كل القطط تنفق؛ من طبيعة القطط أن تنفق.» «ليس بعد تناول حساء مسكوب. فهي لا تنفق في منزلي بعد تناول حسائي، أؤكد لك ذلك.» خيم الصمت على القاعة على غير العادة: «تلك القطة كانت صغيرة وسليمة وقت الظهيرة، ثم نفقت في منتصف الليل، وجدت متكورة على نفسها في وضع ملتو في بركة من القيء والإسهال المشوبة بالدم. لم يكن ذلك نفوقا طبيعيا.»
سقط دبوس، فسمع جميع الحضور صوت رنينه على الأرض.
شكل 11-1: نسخة من الصفحة الأولى من صحيفة فرنسية تورد حكم المحكمة في شاتيليه. «شكرا»، جاءت الكلمة من لاموانيو بعد وقفة مناسبة الطول، وصرف الشاهدة بانحناءة عميقة وجليلة أخجلت تواضعها. وتابع بهدوء وانضباط وقد التفت ببطء إلى دورميسو: «كما ترون، عدالتكم، لدينا مشتبه به آخر في هذه الجريمة. شخص عرف الضحية جيدا ولديه الدافع والفرصة لارتكاب هذا الفعل. شخص عانى من عنف الضحية في الماضي وهدد بالانتقام مؤخرا. شخص ظاهره زوجة راعية تبحث عن علاج لزوجها، لكن لديها الدوافع الخفية لزانية تسعى للتحرر من الزواج الذي عقدته قبل بضع سنوات فقط. أشير بالطبع إلى السيدة موروا. إن سلوكها منذ وفاة زوجها يزيد الشبهات حولها.»
بعد أن انسحب دورميسو لينظر في الأدلة ونتائج أي حكم قد يحكم به، عاد مرة أخرى ورفع الجلسة بإصدار حكم مكتوب. كان بالحكم مساوئه؛ لكنه على الأقل سمح لدوني بأن يخرج حرا.
معركة ناجحة، وحرب خاسرة
غادر دوني ورفاقه المحكمة، وعبروا نهر السين من فوق جسر بونت نوف متجهين إلى منزله في طريق جراند أوجستين لمناقشة الحكم. لم يكن من الغريب أن يسرعوا في مشيهم، ليبعدوا أنفسهم عن المحكمة. لكن حتى اللحظة كانت الشمس ساطعة والجو معتدلا؛ وكان يوما رائعا يقضونه على قيد الحياة، فكان سيرهم متهاديا. وانقشعت غيوم الشتاء، مفسحة المجال ليوم ربيعي مثالي وكانت الشوارع مليئة بجموع البشر.
في أي يوم عادي، كانت بو نيف دائما مزدحمة طوال الوقت، إذ كان بعض الناس يتدافعون في طريقهم بينما يقف البعض الآخر محدقا في قصر اللوفر البديع، وشرفات المباني المبهرة، ومئات القوارب التي تشق طريقها في حذر متداخلة في النهر المزدحم. كان هذا هو الجسر الوحيد على النهر الذي لم تكن تحده المنازل، وهو ما أتاح مشهدا خلابا لمجرى النهر المتدفق الذي أعطى باريس روحها. كان الجسر في ذلك اليوم ممتلئا على غير العادة.
كان ذلك أحد الأيام الأخيرة لمعرض سان جيرمان، وهو احتفال يمتد لشهر، بدأه الرهبان قبل قرن إيذانا بفترة الصوم الكبير التي تسبق عيد الفصح لكن تحول في السنوات الأخيرة إلى احتفال بما هو غيبي. كان الجسر والطرق الواقعة أمام هذه المجموعة مباشرة مليئة بالجنود والمتسولين، وبالحراس والعاهرات. كان المهرجان بوتقة للحياة الباريسية، وحدثا مطولا يجمع بين أروع البغايا وأجمل الفتيات وأبرع النشالين. كان النبلاء يتجولون مع وصفائهم، وكان اللصوص يجالسون الشرفاء ويشربون معهم. تزاحم الموظفون وأصحاب المحال والخدم والطلاب والحمالون. كان المهرجان لدى الأرستقراطيين النبلاء فرصة لكسر الرتابة الشديدة للحياة الرسمية وفرصة للسخرية من فظاظة القرويين ودونيتهم. بالمثل، وجد البسطاء أنفسهم فجأة على قدم المساواة مع أسيادهم؛ إذ مد الكل أعناقهم ليشاهدوا الحدث. وكان المعروض كثيرا.
ومع الإبداء المتعمد للانزعاج، مر دوني ورفاقه بخيمة فيها رجل يتحدث عن عجائب العلم، لكنه كان في الحقيقة مخادعا تحايل بخفة اليد والدخان والمرايا على جمهور ساذج ليظن أنه يؤدي مهارات عجيبة. ربما كانت النتيجة امتلاء جيوبه بالنقود ، لكنها، بالنسبة إلى دوني، أدت للتقليل من قيمة العلم الحقيقي، وكانت تزيد مهمة إقناع العامة والقضاء المتشككين في قيمة عمله صعوبة. لقد أكد العرض في نطاق الجدل العام فكرة أن العلم والسحر شيء واحد. وبما أن أكثر من ثمانية بالمائة من أهل باريس أميون، كان دوني يعرف بكل أسى أنه ليس من السهل رفع الأمة إلى عصر تنوير.
كان السائرون على الحبال والبهلوانات والمهرجون وآكلو النار أكثر إمتاعا، حيث تبارى كل منهم مع غيره ليؤدي عروضا أكثر إذهالا. وكلما ازدادت صعوبة العرض كثر الجمهور. جثم أحد الاستعراضيين في وضعية ملتوية على الأرض، ثم قفز في حركة واحدة مفاجئة على سارية طولها ثمانية أقدام. وتحدى سائر على الحبل الجاذبية، عازفا الكمان وهو في حالة غيبوبة حقيقية. وكانت هناك طفلة من المفترض أنها في الثانية من عمرها تدور حول نفسها بينما صوبت سيوف حادة من حولها إلى عينيها وحلقها وبطنها؛ انزلاقة واحدة قد تحدث ضررا كبيرا.
لكن لم يكن هذا الاستعراض للقدرات البشرية الممتازة والمصقولة هو ما لفت انتباه دوني. ففي كل مرة يتجول فيها عبر المهرجان كان ينجذب إلى مظاهر التشوه؛ فأصحاب الأصابع الزائدة في أيديهم لم يثيروا اهتمامه إلى حد كبير، لكن أصحاب الرءوس شديدة التشوه أو الأجسام ذات العيوب الكبيرة كان لهم سحرهم الخاص؛ إذ كان هناك الأقزام الذين لم يتعد طولهم قدمين بجانب العمالقة الذين بلغت أطوالهم ثماني أقدام، وصبي بلا ذراعين أو ساقين، لكنه كان قادرا على حمل عصا في فمه والقرع على طبلة. جلس كثيرون منهم مغتمين. بينما بدا على آخرين الاستعداد لفعل شيء، مما أجبر القائمين عليهم على تقييدهم في الأغلال أو حبسهم في أقفاص كبيرة تعزز الإحساس بالخوف منهم، وتثير أسئلة عن الحد الفاصل بين الإنسان وغيره من الدواب التي تسير على ظهر الأرض.
وخلال نظر دوني إلى المشوه الذي كان يعرض وهو يرتدي الحد الأدنى من الملابس لإبراز الشعر الذي يغطيه، جال سؤال في خاطره. ما الكمية اللازم نقلها من دم الخراف إلى إنسان ليتحول إلى نصف خروف؟ وعندها ظهر سؤال آخر مواز: كم من الدم يلزم نقله من إنسان إلى خروف ليصبح بحالة لا تقل عن حالة هذا الرجل المسكين؟
بدا السؤال أكثر تعقيدا عندما نظر إلى القفص المجاور الذي يحوي قردا كبيرا يجلس وكأنه يسأله باهتمام كبير وذكاء ظاهري على الأقل. وفي المربع الذي أضاءته أشعة الشمس من ورائه، أدى قرد شمبانزي رقصة المينيويت، وأدى تدريبات عسكرية، رغم أن الدب الذي حلق شعره وارتدى ملابس تاجر باريسي كان محاولة أكثر بؤسا لطمس أي فرق بين بني آدم وباقي مخلوقات الرب البديعة.
باريس تتولى المسئولية: حان وقت التغيير
استغرقت مسيرة الدقائق العشر ساعة كاملة، وخلالها «انخرط» كثيرون من رفاق دوني جدا بالتسلية لدرجة أنهم لم يصلوا إلى منزل دوني. أما الذين وصلوا فقد دخلوا سريعا في جدال حول تبعات الحكم الصادر في الصباح.
جلسوا وقرءوا الحكم الذي ورد فيه أنه:
توجد أسباب كافية لاستجواب هذه السيدة للإجابة على عدد من الأسئلة: من أين جاءت بتلك المساحيق؟ ولم أعطتها لزوجها؟ وبتعليمات ممن؟ ولم كذبت في سبيل إعاقة تشريح الجثة؟ ولتنفيذ ذلك، أمر دورميسو بأن تحتجز خلال فترة التحقيق في هذه المسائل.
وأنه فيما يتعلق بالأطباء الثلاثة الذين عرضوا عليها المال نظير ملاحقة الأطباء الذين أجروا العملية قضائيا، والذين شوهدوا معها، طلب تحديد موعد ليمثلوا بشخوصهم أمامه.
وأخيرا، أنه في ضوء نجاح عملية نقل الدم مع الحالتين الأوليين، وأنه لم تجر الثالثة إلا بإلحاح من السيدة (التي تجاهلت في غير هذا الموقف تعليمات من أجروا العملية الذين اشتبه في تسببهم في وفاة زوجها) طلب إلغاء قرار مثول دوني أمام المحكمة - وأنه بريء من التهم الموجهة إليه ويخلى سبيله.
وعليه تقرر مثول أرملة موروا بشخصها في يوم محدد، وخضوعها للاستجواب بخصوص الأقوال المزعومة؛ وأن تقدم مزيد معلومات عن مضمون شكوى السيد دوني؛ وألا تجرى في المستقبل أي عملية لنقل الدم في جسم إنسان من دون موافقة أطباء الكلية الباريسية.
ساد ارتياح عام وراح رفاق دوني يربتون في حماس على أظهر بعضهم بعض بعد أن سقطت التهمة الموجهة لدوني؛ فأي حكم ضده كان سيفتح الباب أمام كثير من الشكاوى ضده. في الواقع، كان نقل الدم غير مألوف، لكنه من عدة أوجه كان أقل حدة من فتح ثقوب في رءوس البشر أو غيرها من أشكال العلاج الخاضعة للدراسة حاليا. كان بعض الناس يطرحون أسئلة حذرة عن أصول الشهود الذين وجدوهم لكن لم يكن من بينهم من كان على استعداد كبير لتتبع هذه التفاصيل؛ فكل هذا ستتناوله جلسة الاستماع المقبلة في المحكمة.
رغم المودة والزمالة أجبر دوني على الخضوع؛ فقد كسب المعركة لكنه خسر الحرب على الأرجح؛ إذ كانت المشكلة الكبرى تكمن في جملة القاضي الختامية: «وألا تجرى في المستقبل أي عملية لنقل الدم في جسم إنسان من دون موافقة أطباء الكلية الباريسية.» فقد كان منح كلية الطب الباريسية حق النقض بمثابة حظر لنقل الدم. فقد أبدت الكلية معارضتها له بصراحة وسيسرهم أن يتعزز وضعهم وقدرتهم على التحكم في الأنشطة الطبية هكذا.
ومع أن دوني كان طبيبا، فإنه لم يكن عضوا في الكلية الباريسية. فأصوله الطبية وانتماؤه المستمر كانا لكلية الطب في مونبيلييه، وكثير ممن حضروا في القاعة كانوا من تلك المجموعة أو من الكلية المنافسة في رانس. وكلاهما كان غاضبا؛ فالحكم بالصورة التي كان عليها ينطبق على فرنسا كلها. فإن لم يطعن فيه أحد، فذلك يعني أن الأطباء الباريسيين تولوا فجأة دور الحكم على كل أعمالهم. وتساءلوا: «لماذا ينبغي علينا أن نخضع لأي طبيب باريسي؟»
انصرف زملاء دوني بحلول الظلام، وجلس هو منكبا على مكتبه يسجل أحداث يومه في خطاب كتبه إلى زميله في إنجلترا: السيد أولدنبرج: ... وفي هذه الأثناء، إذا اجتمعت كلية الأطباء الباريسيين ليناقشوا الأمر، لا أعتقد أنهم سيتصرفون بتسرع. في الواقع، سيكون علينا أن ننتظر البرلمان ليفصل في الأمر، ولا أظن أنهم يرغبون في حظر هذا العلاج ، إلا إذا ظهرت فجأة دلائل جديدة من التجارب المستقبلية تشير إلى أن هذا الإجراء خطير.
وفيما يخص الكلية الباريسية، علينا أن نتذكر واقعة الأنتيمون. فقد أدرجوه ضمن السموم في الوقت الذي نصح زملاء آخرون باستخدامه كعلاج. وبعد أن نجح في علاج الملك، بدل الباريسيون رأيهم وبدءوا هم أنفسهم يطالبون باستخدامه على نطاق أكبر.
هذا المثال وحده سيجعلهم يتصرفون بحذر أكبر. بخلاف أننا نعيش في عصر يشجع الاكتشافات الجديدة. فبرغم الانشغال بإدارة المملكة، فإن الملك نفسه مهتم بتشجيع المتعلمين والباحثين. ففي الوقت الذي يرسل فيه الملك الأموال والعطايا حول العالم لتحصيل العلم، لا أعتقد أن قاضيا سيدين رجلا لا جريرة له سوى تركيز كل اهتمامه وعمله على تقدم المعرفة وتطورها.
سأطلعك بكل تأكيد على أي تطورات تطرأ في هذا الشأن.
في الوقت الحالي أطلب منك أن تصدقني.
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام.
المخلص
دوني، جيه بي
حصافة أم تحامل؟
لم تسر الأمور كما تمنى دوني. فقد رأى أن شهرته وثراءه المستقبليين مرتبطان بنقل الدم، لكن ذلك لم يحدث. لكن لم يكن هناك إقبال عام على اختبار العلاج، وسرت شائعات بأن بعض المحاولات التي أجريت في الأشهر القليلة التالية انتهت بالمريض في تابوت على عمق ست أقدام تحت الأرض. ومع ازدياد شكوك السلطات الفرنسية، وقع البابا مرسوما في عام 1675، يجرم الإجراء، وفي عام 1678، تدخل البرلمان الإنجليزي ليمنع إجراء نقل الدم في إنجلترا. ومر 150 عاما قبل أن ينشط نقل الدم ثانية ليصبح تلك الصناعة التي تقدر بمئات الملايين من الجنيهات في بلدان عديدة في يومنا هذا.
تلفت قرارات الحظر تلك الاهتمام باعتبارها من ضمن أولى الأمثلة على تعليق النشاط الذي يفرض على جانب من جوانب الجهد العلمي. ففي هذه الحالة، وجد المشرعون أنفسهم غير مستعدين للفصل في المسألة وردوها إلى الوسط الطبي ليفصل هو فيها. وكانت النتيجة حظرا فعالا، إلا أن العلماء لم يحزموا حقائبهم ويهجروا العلم، بل وجهوا اهتمامهم إلى مجالات أخرى، مع شعورهم الملح بأنه بمجرد إتمام الأبحاث الأساسية الأخرى، قد يعودون هم أو خلفهم إلى هذه المنطقة.
إن أصداء دعوات حظر البحث المبني على الاستنساخ الجاري حاليا لافتة للانتباه هي الأخرى. فبالعودة إلى نقل الدم، من السهل الآن أن نرى كم من القرارات كان مبنيا على معلومات قليلة. فلم يكن لدى لوور ولا دوني ولا بويل ولا بيرو أي فكرة عن المسائل الحقيقية التي كان يتحتم تناولها قبل أن يصبح نقل الدم واقعا. لقد كانوا بعيدين عن صياغة لغة تعبر عن فصائل الدم والتلازن، ولم يكونوا يعرفون أن الدم عبارة عن كتلة متدفقة من الخلايا الحية تسبح في سائل. وكان الحذر مفروضا عليهم من قبل ولاة أمرهم الذين كانوا يجهلون ما وصل إليه العلم وقتها، ومن ممارسي الطب الذين كانوا يخشون فقدان مصدر رزقهم إذا نجح نقل الدم.
يفيد هذا الموقف كتذكرة للعلماء بأنهم إذ يعملون على توسيع حدود المعرفة فإنهم يخطون إلى المجهول. فجهلهم بالآليات الحقيقية التي تكمن وراء ما وصلوا إليه من نتائج كان - وسيظل - كبيرا.
انتهى حلم دوني بتحقيق الشهرة والثراء، لكن الحياة لم تتوقف. لقد بدا أنه فقد حماسه للاستمرار في الأبحاث الطبية وعاد اهتمامه إلى أكثر المجالات أمنا؛ الرياضيات والفلسفة والفلك، وأضاف إلى سجله من خلال عقد المؤتمرات العلمية العامة. إلا أن الطب ظل جزءا من حياته، حيث نجده في عام 1673 يسير في شوارع لندن بعد أن تلقى دعوة من الملك تشارلز الثاني ليتحدث عن خبرته في نقل الدم ويقدم رأيه في علاجات أخرى. وبدا آنذاك رجلا يعيش جيدا مستفيدا من مذكراته بدلا من أن يكون باحثا يخطو نحو اكتشافات جديدة. لم يبد دوني أي علامة على تحدي التعميم القائل إن معظم العلماء لا تأسرهم إلا فكرة كبيرة واحدة في حياتهم. من اللافت أن نرى عدد الأشخاص الذين يمرون بمرحلة ابتكارية من حياتهم، في أثناء إعداد رسالة الدكتوراه وفي السنوات الأولى لأبحاث ما بعد الدكتوراه، لكن نجاحهم الدائم يعتمد على جمع فريق من العقول اليافعة حولهم. فإن سار الأمر على ما يرام، فإنهم يضطلعون بدور المعلم والموجه ويستمتعون بتجوالهم في سلك المؤتمرات الدولية ليقدموا أعمال أعضاء فرقهم؛ لذا لم يكن فشل دوني يتجسد في أنه لم يأت بفكرة أخرى مزلزلة بقدر ما تجسد في عدم بنائه لفريق.
وماذا عن زوجة موروا؟ في الحقيقة تحولت القضية إلى مواجهة بين الشهود ومقارنة بين أنصار كل طرف. ويحيط بنتائج هذه المواجهة بالتحديد جو من غياب العدالة. ففي جهة كانت هناك فلاحة فقيرة ترملت مؤخرا وتحاول جمع ما يكفي من المال لتبدأ حياة جديدة. لم تكن في المحكمة ذلك اليوم، لكن من المرجح أنها عند الاستماع لحجتها كانت قاعة المحكمة خالية؛ فلم يكن لديها كثير من الأصدقاء وليس لديها أي دعم مالي. وفي الجهة المقابلة، كان هناك رجل له أصدقاء ذوو نفوذ وتدعمه مجموعة كافية من الشهود. في الواقع، بدت مجموعة الشهود مناسبة جدا بدرجة تثير الشك في أن دوني استخدم الحيلة نفسها التي تضرر منها كثيرا على يد أطباء كلية الطب. هل من الوارد أنه عرض على شهوده بعض الحوافز؟
لا دليل على تقديم أي رشوة، لكن ما هي الاحتمالات الحقيقية لأن يرى شخص ملعقة من الحساء تنسكب على الأرض وتتناولها بعدئذ قطة ماتت نتيجة لذلك؟ يا لحظ دوني أن يعثر على شهود قد عرضت عليهم رشوة وتمكنوا من أن يشهدوا بأن زوجة موروا هي الأخرى عرضت عليها رشوة. لكن اللافت هو تعدد الروايات التي قدمها دوني عن الليلة الأخيرة لموروا؛ إذ تقول سجلات المحكمة إنه لم يصل إلى فتح شريان العجل قبل أن يدخل موروا في نوبة صرع. إلا أنه في خطاب دوني لأولدنبرج يقول إن الإبرة أدخلت لكن لم تنقل أي دم. لكن مع إدخال الإبرة، يكون الأرجح أن بعض الدم عبر إلى جسم المريض. وكما رأينا من قبل، كان دوني ميالا للمبالغة في طول المدة بين أول عمليتين لنقل الدم وتلك الواقعة الأخيرة، وهي مبالغة تعني أن العملية بدت أفضل مما هي عليه في الواقع.
علاوة على ذلك، أبدى دوني تجاهلا عاما للتفاصيل. فالخطاب الذي كتبه إلى مونتمور الذي أثار غضب الإنجليز كان بتاريخ 25 يونيو. لكن هذا خطأ حتما؛ إذ كان أولدنبرج قد تسلمه وترجمه عندما ألقي القبض عليه في 20 يونيو. ويعتمد ادعاء دوني السبق في عمله في نقل الدم على قوله إنه سمع الراهب البندكتي دوم روبرت دو جابتس يتحدث عنه في أحد اجتماعات أكاديمية مونتمور قبل 10 سنوات. على الرغم من أن عام 1657 شهد ذروة نشاط مجموعة مونتمور، لم يكن دوني يتجاوز السابعة عشرة في ذلك الوقت، والأرجح أنه لم يحضر الاجتماع. وأذكر كذلك القواعد التي نصت على أن الأعضاء وحدهم هم من يمكنهم الحضور؛ إذ لا يسمح للمراقبين بالحضور. وتوجد نقاط تضارب أخرى.
وأيا كان ما حدث ذلك المساء، لم تكن رواية دوني للأحداث متسقة تماما، وبدا أنها قد خضعت لبعض التنقيح لتخدم أهداف تبرئة اسمه. لكن يبدو من المنطقي جدا أن دوني حاول فعلا إتمام عملية نقل الدم الثالثة، وأن كمية الدم الصغيرة التي دخلت جسم موروا كانت كافية لترجح كفة الموت على الحياة. لقد كان موروا رجلا مريضا، وكان أي رد فعل عكسي آخر أكبر مما يتحمله. ويبدو أن زوجته لم يكن أمامها وقت كاف لتحضر الحساء القاتل المزعوم حتى وإن أرادت. لقد مات المريض بعد محاولة دوني الثالثة مباشرة. وللأسف لم يترك الحريق الذي دمر المحكمة وكل سجلاتها أي سبيل لمعرفة ما قالت زوجة موروا في هذا الشأن.
وكذلك لا نعرف مصيرها. فبينما كانت محاكمة دوني محل اهتمام في إنجلترا ومن ثم سجل أولدنبرج وقائعها، فإنه لم يهتم بأي مما حدث بعد ذلك. لم يكن قرار السيدة موروا بدفن الجثة في أقرب وقت ممكن غير معتاد تماما، ورغم أنه قرار ربما قد شجعته عروض الأموال من الوسطاء المنتمين لمهنة الطب. على كل حال، يبدو أنه ليس هناك كثير في قصتها - بخلاف الشهود «الملائمين» - يدينها بجريمة القتل. لكن بالنظر إلى المعاملة القاسية للسجناء الذين لم يكن لديهم دعم رفيع المستوى أو ثروة، وكذلك قسوة العقاب في باريس في القرن السابع عشر، من المشكوك فيه أن حياتها استمرت بعد ذلك.
إذن، هل كان دوني قاتلا؟ الإجابة أقرب يقينا إلى النفي . يبدو من المرجح أن علاجه أضعف موروا. لكن الجريمة تتطلب دليلا على وجود نية القتل، وهذا آخر ما كان يريده دوني. إذن هل ارتكب القتل بغير عمد؟ من الوارد جدا أن تلك التهمة كانت ستلصق به إن كانت تلك الجريمة موجودة وقتها.
في جميع أنحاء العالم، ينقذ نقل الدم الآن حياة الملايين كل سنة، ومن المنصف أن نقول إن دوني أدى دورا صغيرا في بدء هذه المسيرة. لقد كان على هذه الطريقة أن تتعطل حتى يصل العلم إلى النقطة التي تحول فيها حلمه إلى حقيقة. أما في حياته، فقد حقق جزءا صغيرا من الشهرة التي كان يتمناها، لكن من المؤكد أنه كان سيتحمس لنتائج عمله بعيدة الأمد. فإن فتحت أي كتاب تقريبا ستجد بلا شك ذكرا لعمله المغامر في موضع ما في الفقرات الافتتاحية. وكما هو الحال دائما، أعطى التاريخ لدوني تقديرا يفوق ذلك الذي أعطاه له أقرانه.
لقد انطوت الواقعة الكاملة التي سردت عبر دفتي هذا الكتاب على قليل من العلم وكثير من الدم، لكن هل حصل أي شخص في هذه الأحداث على العدالة فعلا؟
تسلسل زمني
الأحداث المتعلقة بنقل الدم
حدث عالمي
ديسمبر 1620
أوائل المهاجرين ينشئون أول مستعمرة في بليموث، إنجلترا الجديدة
هارفي ينشر كتابه «علاج القلب»
1624
مارس 1625
وفاة جيمس الأول وتولي تشارلز الأول عرش إنجلترا
أغسطس 1642
اندلاع الحرب الأهلية الإنجليزية
1643
تولي لويس الرابع عشر العرش وهو في الخامسة
يناير 1649
إعدام تشارلز الأول
مايو 1652
بداية الحرب الإنجليزية الهولندية في القرن السابع عشر
فرانسيس بوتر يكتب إلى جون أوبري عن محاولاته لنقل الدم
7 ديسمبر 1652
أبريل 1654
معاهدة ويستمنستر تنهي الحرب الإنجليزية الهولندية
سبتمبر 1654
كرومويل يؤسس أول برلمان وصاية
رين وويلكنز وبويل يحقنون الكلاب بالأفيون ومواد كيميائية أخرى
1656
رين وكلارك يحقنان جسم خادم بمستخلص الزعفران
خريف 1657
سبتمبر 1658
وفاة كرومويل
1659
صلح البرانس يؤدي إلى حلول فرنسا محل إسبانيا باعتبارها القوة العظمى في غرب أوروبا
مايو 1660
عودة الملكية في إنجلترا وتتويج تشارلز الثاني ملكا
1660
لويس الرابع عشر يتزوج ماريا تيريزا ابنة ملك إسبانيا
تأسيس الكيان السابق على الجمعية الملكية رسميا
28 نوفمبر 1660
10 مارس 1661
تولى لويس الرابع عشر السلطة المطلقة على فرنسا
1661
إنجلترا تضم بومباي وتزيد تجارتها مع الهند
سبتمبر 1661
القبض على نيكولا فوكيه في فرنسا، مما أزال أي تحديات سياسية لسلطة لويس الرابع عشر
لوور يبدأ تجارب حقن الدم في أكسفورد. وكلارك يجري تجارب مشابهة في لندن
1662-1664
دوني ينتقل إلى باريس ويتلقى دعوة للانضمام إلى أكاديمية مونتمور
1664
أولدنبرج يبدأ نشر دورية «مداولات فلسفية»
1665
فبراير 1665
بداية الحرب الإنجليزية الهولندية الثانية
1665
الطاعون العظيم يضرب لندن
ريتشارد لوور وجون ويلكنز ينقلان الدم بين كلبين صغيرين
1665
أولى محاولات لوور لنقل الدم تحقق نجاحا واضحا. أجريت التجربة بين كلبين، وتمت في أكسفورد
فبراير 1666
1666
تأسيس الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا
1666
موليير ينشر مسرحيته الكوميدية الساخرة «عدو المجتمع»
بيبيس يسجل تجارب نقل الدم في لندن
26 يونيو 1666
1-6 سبتمبر 1666
حريق لندن الكبير
نشر طريقة لوور في «مداولات فلسفية»
17 ديسمبر 1666
بيرو يبلغ الأكاديمية الملكية للعلوم بأنه أجرى أولى تجارب نقل الدم في فرنسا
31 ديسمبر 1666
دوني يجري أولى تجاربه لنقل الدم بين الحيوانات
3 مارس 1667
يونيو 1667
الهولنديون يهاجمون الأسطول الإنجليزي في ميدواي
دوني يجري أولى تجارب نقل الدم على الإنسان - على صبي مراهق
15 يونيو 1667
دوني ينقل الدم إلى عامل سليم
يونيو 1667
احتجاز أولدنبرج في برج لندن
20 يونيو 1667
نشر النسخة الأصلية ل «مداولات فلسفية» العدد 27
يوليو 1667
يوليو 1667
معاهدة بريدا تنهي الحرب الإنجليزية الهولندية
إطلاق سراح أولدنبرج من برج لندن
26 أغسطس 1667
نشر النسخة الثانية من العدد 27 من «مداولات فلسفية»
سبتمبر 1667
أول عملية نقل دم من حمل إلى آرثر كوجا في لندن
23 نوفمبر 1667
ثاني عملية نقل دم إلى آرثر كوجا
14 ديسمبر 1667
أول عملية يجريها دوني لنقل دم عجل إلى أنطوان موروا
19 ديسمبر 1667
ثاني عملية يجريها دوني لنقل دم عجل إلى أنطوان موروا
21 ديسمبر 1667
ثالث لقاء لدوني بالزوجين موروا
يناير 1668
محاكمة دوني في شاتيليه، باريس
16 أبريل 1668
مارس 1672
بداية الحرب الإنجليزية الهولندية الثالثة
تشارلز يدعو دوني للقدوم إلى إنجلترا
1673
البابا يحظر عمليات نقل الدم
1675
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
المراجع
أبحاث نشرت في دورية «مداولات فلسفية» 'An Account of the rife and attempts, of a way to conveigh Liquors immediately into the mass of blood’,
(1665) 1: 128-30.
Lower, R., 'The method observed intransfusing the bloud out of one animal into another’,
(1666) 1: 353-58.
Boyle, R., 'Trials proposed by Mr Boyle to Dr Lower to be made by him, for the improvement of transfusing blood out of one live animal into another; promised Numb 20 p 357’,
(1666) 1: 385-88. 'An account of an easier and safer way of transfusing blood: An experiment of bleeding a mangy into a sound dog; an extract of a letter written by a French philosopher concerning the same subject of transfusion’,
(1667) 2: 449-53.
Denis, J. B., 'A letter concerning a new way of curing sundry diseases by transfusion of blood, written to Monsieur de Montmor, Counsellor to the French King, and master of requests. By J: Denis
Transactions (1667) 2: 489-504. [Retracted version]. 'An advertisement concerning the invention of the transfusion of blood and an account of some experiments of injecting liquors into the veins of animals, lately made in Italy by Signor Fracassati, Professor of Anatomyat Pisa’,
(1667) 2: 489-91. 'Of more trials of transfusion accompanied with some considerations thereon, chiefly in reference to its circumspect practice on man; together with a farther vindication of this invention from usurpers’,
(1667) 2: 517-25. 'An account of the experiment of transfusion, practised on a man in London’,
(1667) 2: 557-59. 'A relation of some trials of the same operation lately made in France’,
(1667) 2: 559-64. 'Of injecting medicated liquors into veins, together with the considerable cures perform’d thereby’,
(1667) 2: 564-65. 'Of a letter written by J. Denis, Doctor of Physic, and
cure of an inveterate phrensy by the transfusion of blood’,
(1667) 2: 617-24. 'Of a printed letter, addressed to the publisher, by Jean Denis D. of physick and prof of the mathematics at Paris, touching the differences risen about the transfusion of bloud. Including an extract of the sentence, given at Chastelet, by the Lieutenant in Criminal causes, April 17, 1668, in Paris’,
(1668) 3: 710-15. 'Out of the Italian Giornale de letterati, about two considerable experiments of the transfusion of the blood’,
(1667) 3: 840-41.
سجل الجمعية الملكية
Lower, R., Boyle, R., King, E. and Cox, T., 'Blood transfusion’,
Register Book of the Royal Society
1666, copy II.
منشورات في المكتبة البريطانية (رمز الرف
23.g.783 ) 'Lettre ecrite a Monsieur **** par J. Denis docteur en medecine, & professeur de philosophie & de mathematique. Touchant une folie inveterée, qui a esté guérie depuis peu par la transfusion du sang’, 12 January 1667. 'Lettre ecrite a monsieur sorbiere docteur en medecine, par Jean Denis aussi docteur en medecine; Touchant l’origine de la transfusion du sang, & la maniere de la pratiquer sur les hommes. Avec le recit d;une cure faire depuis peu sur une personne paralitique’, 2 March 1667. 'Sentence rendue au chastelet par Monsieur le Lieutenant Criminel le 17. Avril 1668’, 15 May 1667. 'Copie d’une lettre escrite a Monsieur de Montmor, conseiller du Roy en ses conseils, & premier maistre des requestes. Par I. Denis professeur de philosophie & de mathematique. Touchant une nouvelle maniere de guarir plusieurs maladies par la transfusion du sang, confirmée par deux experiences faites sur des hommes’, 25 June 1667. 'Lettre escrite a monsieur Moreau, docteur en medecine de la Faculté, conseiller, medecin, lecteur & professeur ordinaire du Roy, par G. Lamy, maistre aux arts en l’Université de Paris; Contre les pretenduës utilitiés de la transfusion du sang pour la guerison des maladies, avec la réponse aux raisons & experiences de Monsieur Denis’, 8 July 1667. 'L’ombre d’apollon, decouvrant les abus de cette pretenduë maniere de guerir les maladies par la transfusion du sang. Ensemble. Une lettre servant de response à la premiere & seconde lettre de Monsieur Denis & Gadroys. Par le Sieur de la Martiniere, medecin chymique & operateur ordinaire du Roy’, 15 September 1667. 'Lettre ecrite a monsieur l’abbe Bourdelot, docteur en medecine de la Faculté de Paris, premier medecin de la Reine Christine de Suede, á present auprés de Monsegneur le Prince á Chantilly, Par Gaspard de Gurye Ecuier Sieur de Montpolly, Lieutenant au Regiment de Bourgongne; sur la transfusion du sang, contenant des raisons & des experiences pour & contre’, 16 September 1667. 'Lettre escrite a monsieur l’Abbe Bourdelot Docteur en medecine de la facultè de Paris, & premier medecin de la Reine de Suede, Par C. G. pour servir de rèponse au Sr Lamy, & confirmer en meme temps la transfusion du sang par de nouvelles experiences’, 8 August 1667. 'Lettre escrite a Mr Moreau docteur en medecine de la Faculté de Paris, conseiller, medecin, lecteur & professeur ordinaire du Roy; Par G. Lamy: Dan laquelle il confirme les raisons qu’ilavoit apportées dans sapremiere lettre, contre la transfusion du sang, en répondant aux objections qu’on luy a faites’, 26 August 1667. 'Reflexions de Louis de Basril-advocat en parlement, sur les disputes qui se sont à l’occasion de la transfusion’, 1667. 'Euthyphronis philosophi et medici, de nova curandorum morborum ratione per transfusionem sangvinis, dissertatio ad amicum’, 1667. 'Lettre ecrite a monsieur Oldenburg gentilhomme anglois, & secretaire de l’academie Royalle d’Angleterre. Par Jean Denis docteur en medecine, & professeur éz mathematiques. Touchant les differents qui sont arrivez à l’occasion de la transfusion du sang’, 1667. 'Physical reflections upon a letter written by J Denis
Counsellor to the French King and Master of Requests. Concerning a new way of curing sundry diseases by transfusion of blood’, 1668. 'Relatione dell’esperienze fatte en Inghilterra, Francia, ed Italia. Intorno alla celebre,e famosa transfusione del sangue’, 1668. 'Discours de Monsieur de Sorbiere, touchant diverses experiences de la transfusion du sang’, 1 December 1668. 'De nova et inavdita medico-chyrvrgica operatione sangvinem transfundente de individvo ad individuum; Prius in Brutis, & deinde in homine Roma experta. Opusclum singulare avctore avlo Manfredo Lucense ex camaiore philosopho & medici Romano, & in vrbis archilyceo medicine practica professore extraordinario’, 1668.
منشورات في المكتبة الوطنية الفرنسية 'Discours de Monsieur de Sorbiere, touchant diverses experiences de la transfusion du sang à Monsiegneur le Duc de Chaulnes, pair de France, cheualier des ordres du Roy, & son ambassadeur extraordinaire auprés de sa sainteté’, 1 December 1668. 'Lettre escrite a monsieur le Breton docteur Regent en la faculté de medecine de Paris & medecin ordinaire de monsigneur le prince, par M. Claude Tardy aussi docteur Regent en la mesme Faculté.
responder á ceux qui les estendent trop’, 30 October 1667. 'Lettre ecrite a monsieur l’abbe Bourdelot, Docteur en Medecine de la Faculté de Paris, Premier Medecin de la Reine Christine de Suede, á present auprés de Monsegneur le Prince á Chantilly, Par Gaspard de Gurye Ecuier Sieur de Montpolly, Lieutenant au Regiment de Bourgongne; Sur la Transfusion du sang, Contenant des Raisons & des Experiences pour & contre’, 16 September 1667. 'Traité de l’ecoulement du sang d’un homme dans les veines d’un autre et de ses utilitez, par M. C. Tardy’, 12 June 1667.
دورية «جورنال دي سافونز» (المكتبة الوطنية الفرنسية) 'Extrait du journal d’angleterre. Contenant la maniere de faire passer le sang d’un animal dans un autre’,
Journal des Sçavans,
Monday 31 January 1667; 1: 31-36.
Translation into French of Lower’s method of transfusing blood from the carotid artery of one dog into the vein of another. 'Extract d’une letter de M. Denis Professor de philosophie et de mathematique á M. *** touchant la transfusion du Sang. Du 9 Mars 1667’,
Journal des Sçavans,
Monday, 14 March 1667; 4: 69-72. 'Extrait d’une letter de M. Denis professeur de philosophie & mathematique, á M. *** touchant la transfusion du sang. Du 2. Avril 1667’,
Journal des Sçavans,
Monday 25 April 1667; 8: 96. 'Lettre de M. Denis Professeur de Philosophie et de mathematique, á M. deMontmor premier Maitre des Requestes; touchant deux experiences de la transfusion faites sur des hommes. Jn 4’,
Journal des Sçavans,
Monday 28 June 1667; 11: 134-36. 'Extrait du journal d’angleterre, contenant quelques nouvelles experiences de L’infusion des medicamens dans les veines’,
Journal des Sçavans,
Monday 23 January 1668; 1: 10-12. 'Diverses pieces touchant la Transfusion du sang: • Lettre de G Lamy a M. Moreau, Docteur en Medecine de la Faculté de Paris, contre les pretenduës utilitez de la transfusion. • Lettre de C. Gadroy a M. L’abbe Bourdelot Docteur en Medec. De la Faculté de Paris, pour servir de Response à la lettre écrite par M. Lamy contre la Transfusion. • Seconde lettre ecrite a M. Moreau Docteur en medecin de la faculté de Paris par G. Lamy, pour confirmer les raisons qu’il a apportées dans sa premiere Lettre contre la Transfusion. • Lettre de G. de Gurye Sr De Montpolly à M. l’Abbé Bourdelot Docteur en Medecin de la Faculté de Paris, touchant la transfusion. • Eutyphronis Philosophi et medici de nova curandorumm ratione per transfusionem sanguinis dissertatio. • Lettre de M. Tardy Docteur en la Faculté de Medecin de Paris, à M. le Breton Docteur en la mesme Faculté, touchant l’usage de la transfusion. • Extrait du journal d’angleterre, contenant quelques experiences de la Transfusion. • Lettre de J Denis Docteur en medecin &
folie inveterée qui a été guerie par la transfusion du sang’.
Journal des Sçavans,
Monday 6 February 1668; 2: 13-24. 'Relatione dell’esperienze fatte in Inghilterra, Francia, ed Italia intorno la transfusione del sangue in Roma’,
Journal des Sçavans,
Monday 2 July 1668, pp. 50-52. 'Extrait du Journal d’Angleterre contenant le succez des experiences faites á Dantzic, de l’infusion des medicamens dans les veins de quelques personnes maladies’,
Journal des Sçavans,
Monday 12 November 1668, p. 108. 'Extrait du journal d’Italie contenant deux experiences de la transfusion du sang’,
Journal des Sçavans,
Monday 19 November 1668, p. 117.
كتب
Harvey, W.,
On the motion of the heart and blood in animals,
1628 (English translation of
De Motu Cordis ).
Boyle, R.,
Usefulness of experimental philosophy,
1663.
Lower, R.,
Tractatus de Corde,
1670.
Boyle, R.,
Memoirs for the Natural History or Humane Blood, esp. the spirit of that liquor (London: Samuel Smith), 1684.
The diary of Samuel
1660-1699.
Hall, A. and Hall, M.,
The correspondence of Henry Oldenburg, volumes 1-13, (London: Taylor and Francis), 1986.
Hall, M.,
Henry Oldenburg: shaping up the Royal Society, (Oxford: Oxford University Press), 2002.
قراءات إضافية
Shadwell, Thomas,
The Virtuoso,
ed. Marjorie Hope Nicholson and David Stuart Rodes (Lincoln and London: University of Nebraska Press), 1966.
Aseventeenth-century play that discusses the Royal Society and blood transfusion.
An Instance of the Fingerpost (1997), (London: Vintage), 1998.
A novel involving blood transfusion and many of the characters in this book.
Coward, Barry,
The Stuart Age-England 1603-1714 (London: Longman Group UK Limited), 2nd edn, 1994.
An accessible introduction to this period of English history, with comments on the rise of science and medicine within English society.
Loux, François,
médecin au XVII
e
siècle (Paris: Imago) 1988.
Abiography of one of Denis’ most vocal detractors-chapter 5 looks specifically at his stance against transfusion.
Shafi da ba'a sani ba