شكر وتقدير
مقدمة
1 - الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
2 - «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
3 - الفن ونقيض الفن
4 - «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
5 - السياسات
6 - إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة
1 - الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
2 - «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
3 - الفن ونقيض الفن
4 - «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
5 - السياسات
6 - إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الدادائية والسريالية
الدادائية والسريالية
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
ديفيد هوبكنز
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
محمد فتحي خضر
شكر وتقدير
أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى بول ستيرتون لتشجيعه لي على تأليف هذا الكتاب في المقام الأول. أيضا، أقر بامتناني الشديد لكيت تريجاسكي، وكاثرين ريف، ونيل كوكس من أجل تعليقاتهم على المخطوطة الأولية للكتاب.
إلى بنجامين
مقدمة
سؤال:
كم عدد السرياليين الذين تقتضي الضرورة تغييرهم مصباحا كهربائيا؟
الجواب:
سمكة.
كل إنسان على دراية بمعلومة ما عن الدادائية والسريالية. ولدت الدادائية عام 1916، وبحلول أوائل العشرينيات أضحت ظاهرة فنية دولية سعت إلى قلب الأفكار البرجوازية التقليدية في الفن. في الغالب، كانت تلك الحركة مناوئة بشكل جريء للفن، والأهم من ذلك كله أن المشاركين فيها - أمثال: مارسيل دوشامب، وفرانسيس بيكابيا، وتريستان تزارا، وهانز آرب، وكورت شفيترز، وراءول هاوسمن - وضعوا حبهم للمفارقة والوقاحة في مقابل جنون العالم الذي جن جنونه، وذلك بينما كانت الحرب العالمية الأولى تستعر في أوروبا.
نشأت السريالية، الوريث الفني للدادائية، رسميا عام 1924، وأمست فعليا ظاهرة عالمية بحلول الفترة التي تداعت فيها في أربعينيات القرن العشرين. التزم الفنانون السرياليون - أمثال: ماكس إرنست، وسلفادور دالي، وخوان ميرو، وأندريه ماسون - بوجهة النظر القائلة بأن الطبيعة البشرية غير عقلانية في جوهرها، ودخلوا في علاقة حب للتحليل النفساني، شابها الاضطراب كثيرا، بغية الكشف عن أسرار العقل البشري.
بالنسبة إلى كثيرين، لم تكن الدادائية والسريالية حركتين قائمتين بذاتيهما في تاريخ الفن خلال القرن العشرين بقدر ما كانت كل منهما «فنا حديثا» متجسدا. فالدادائية ترى بوصفها متمردة وميالة للمواجهة والصدام؛ أما السريالية فاعتبرت بالمثل مناوئة للبرجوازية في جوهرها، لكنها كانت أكثر انغماسا فيما هو غريب وعجيب. ولكن، لماذا الدادائية والسريالية؟ ما السر وراء ارتباط كل منهما بالأخرى؟ إنهما حركتان منفصلتان، ومع ذلك دائما ما يخلط الناس بينهما. وجد مؤرخو الفن أنه من الملائم تبني التعميم القائل بأن الدادائية «مهدت الطريق» أمام السريالية، ولو أن هذا المفهوم لم يكن ينطبق إلا على مكان واحد حقا من الأماكن التي شاعت فيها الدادائية، ألا وهو باريس. لا شك أن هذا الكتاب سيتناول هذه المسألة مجددا، لكنه سيعرض هاتين الحركتين على اعتبار أنهما مختلفتان بشكل متمايز بحيث يمكن وضع الواحدة منهما في مواجهة الأخرى؛ على سبيل المثال: عادة ما استمتعت الدادائية بفوضى الحياة العصرية وتشظيها، بينما أخذت السريالية على عاتقها مهمة أكثر إصلاحا؛ حيث حاولت خلق منهجية جديدة، وجعلت الإنسان العصري يتواصل مجددا مع قوى اللاوعي. ومثل هذه الاختلافات تتصل بتمايزات مهمة سعيت إلى إيضاحها قدر الإمكان.
تشيع الدادائية والسريالية الآن أكثر من أي حركة أخرى من الحركات الفنية المنتمية إلى القرن الماضي في ثقافتنا إجمالا، والسريالية تحديدا دخلت إلى لغتنا اليومية؛ فنحن نتكلم عن «الدعابة السريالية» أو «الحبكة السريالية» لفيلم ما؛ وتعني هذه الاستمرارية تحديدا أنه من الصعب وضعهما على مسافة واحدة منا في «التاريخ». لقد أصبحت الروايات النقدية والتاريخية للحركتين أكثر تعقيدا بلا شك؛ فالدادائية، التي ربما ينظر إليها على اعتبار أنها مناهضة للفكر الأكاديمي، تدرس الآن بالجامعات على نطاق واسع. وبالمثل، أمست الدراسات المعنية بالفنانين المشاهير السيئي السمعة، مثل دالي ورينيه ماجريت، موجودة في كل مكان؛ لكن كثيرا ما تكون وفرة المعلومات مثيرة للحيرة، فنفقد المسافة الحرجة الفاصلة.
ولما كنت على دراية بهذه المشكلة، فقد أقمت بنية هذا الكتاب استنادا إلى قضايا موضوعية أساسية. يرسم الفصل الأول التطور التاريخي للدادائية والسريالية، ويتعامل مع الفرضيات المتعلقة بالتعامل معهما معا. أما الفصل الثاني فيبحث بتفصيل الطريقة التي نشرت بها الحركتان أفكارهما، لا سيما فيما يتعلق بالأحداث العامة والمنشورات؛ وخلال هذه العملية، يتضح أن الحركتين أقامتا حوارا بين الفن والحياة. يمحص الفصل الثالث عن كثب مسائل جمالية، مع التركيز على الشعر وتجميعات الصور (الكولاج) ومونتاج الصور الفوتوغرافية، والرسم، والتصوير، وصنع الأشياء، والأفلام. إن القضايا المتعلقة بمعاداة الفن السائد ووضع كل حركة منهما في سياق النقاشات الجمالية الحداثية مهمة جدا هنا. ويسلط الفصلان الأخيران الضوء على الأبحاث الأخيرة التي أجريتها أنا وغيري بما يتسق مع المنظورات التاريخية الحالية الخاصة بالحركتين، وسوف أفحص التوجهات الدادائية والسريالية نحو مجموعة من الموضوعات الرئيسية، بداية من اللاعقلانية وحتى الغريزة الجنسية، وسينصب تركيزي على جوانبهما السياسية. ويختتم الكتاب ببعض التأملات الخاصة بالحياة الآخرة للحركتين، لا سيما في سياق علاقتهما بالفن الحديث.
كان اهتمامي الرئيس ينصب على طرح الأسئلة الخاصة بالدادائية والسريالية المتوافقة مع انشغالاتنا الثقافية المعاصرة؛ على سبيل المثال: تعتبر الهوية - سواء أكانت العرقية أم الجنسية - مسألة ذات أهمية محورية لكثير منا، وكان الفنانون السرياليون، أمثال المصور الفرنسي كلود كاهون والرسام الكوبي ويفريدو لام، رائدين في تعاطيها، لكن من أجل تقدير قوة اهتمامهم، من الضروري إعادة خلق السياقات التي استجاب هؤلاء الفنانون لها. وبالمثل، بالنظر إلى الشهرة الحالية للسريالية في الثقافة عموما (على سبيل المثال: الانتشار الشاسع لأعمال دالي على الملصقات)، من الآمن الافتراض أن الجوانب الأكثر «ظلمة» اللاواعية لحيواتنا النفسية التي احتفت بها الدادائية والسريالية؛ تعتبر حاليا على نطاق واسع أشياء «إيجابية». ولكن، في الثقافات التي كانت الفاشية فيها قوية في فترة من الفترات، يشكك كثيرون في فضائل الاستسلام للاعقلانية، بينما ذهب النقاد الحداثيون إلى أنه مهما اعتبر أتباع الدادائية والسريالية أنفسهم معادين للبرجوازية، فقد ساعدوا ببساطة في بسط نطاق الخبرة، التي استطاعت الثقافة البرجوازية استيعابها، على منظومة القيم الخاصة بهما. في «ثقافتنا ما بعد الحداثية»، نسارع جميعا بإضفاء طابع جمالي على دوافعنا ونوازعنا الأكثر إظلاما، ويمحص هذا الكتاب الجذور التاريخية لمثل هذه التوجهات، ويوضح السبب في أنها كانت «راديكالية» في فترة من الفترات، كما يوضح السياقات التي كانت فيها كذلك. وخلال هذه العملية، ستثار أسئلة عن دوافعنا الشخصية لا محالة .
إن هذا الضرب من الاستقصاء الذي لا يضفي المثالية على الدادائية والسريالية بضرورة الحال، لكنه يسعى إلى بيان علة كونهما إلى الآن قوتين فاعلتين في ثقافتنا؛ يبدو ملحا تحديدا بالنظر إلى مدى التأثر البالغ للفن المعاصر بهاتين الحركتين. ومن الممكن بيان ذلك بالنظر إلى أي عمل من أعمال سارة لوكاس، واحدة من أبرز الفنانين البريطانيين في تسعينيات القرن العشرين.
تكشف أعمال لوكاس استمرار الرغبة في الإذهال، التي كانت في فترة من الفترات سمة مميزة للدادائية. في الوقت نفسه، تستخدم لوكاس بدائل أو إزاحات للصور الجسمانية التي كانت من قبل عملة للسريالية. تعول أعمالها ضمنا على إنجازات أتباع الدادائية والسريالية أمثال مارسيل دوشامب ومان راي ورينيه ماجريت. ولكن، أتؤكد أعمال لوكاس ببساطة على أن الصدمة المميزة للدادائية أمست راسخة؟ أم إن أعمالها تبنى على هذا التقليد بطريقة مهمة من المنظور الثقافي؟
يبدو لي أن هذا هو نوع الأسئلة الذي يمكن أن يثيره الانخراط المعاصر في تداعيات الدادائية والسريالية. وفي نهاية هذا الكتاب، من المفترض أن نكون قادرين على الإجابة عنها. وعلى الرغم من ذلك، فالمهمة المحورية للفصول التالية هي بيان الخطوط التاريخية والموضوعية الأساسية للدادائية والسريالية.
الفصل الأول
الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
كانت بدايات القرن العشرين فترة تغير عنيف؛ إذ غيرت الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية فهم الناس لعوالمهم على نحو جذري، وحولت اكتشافات فرويد وأينشتاين والابتكارات التكنولوجية لعصر الآلة الوعي البشري بشكل عميق. ومن وجهة نظر ثقافية، سجلت روايات جيمس جويس وأشعار تي إس إليوت - وأقصد تحديدا رواية «عوليس» للأول، وقصيدة «الأرض الخراب» للثاني، اللتين نشرتا عام 1922 - أنماطا «حداثية» جديدة بشكل مميز للشعور والإدراك، تتسم بإحساس واضح بالانقطاع؛ ولذا يرى المنظر مارشال بيرمان أن الإحساس المتزامن بالبهجة والكارثة الوشيكة، الذي يعكس الظروف المضطربة للحياة آنذاك، هو المحدد للوعي الحداثي.
تعكس الحركات الفنية في أوائل القرن العشرين بقوة هذه العقلية الجديدة. وإذ كانت حركات مثل التكعيبية والمستقبلية - اللتين بلغتا ذروتهما خلال الفترة ما بين عامي 1910 و1913 - مبتكرة بجرأة نادرة من الناحية الفنية ، فقد انتقلت إلى ما وراء المظهر الساكن للرسم التقليدي، وصولا إلى استكشاف بنية الوعي نفسها. ولكن، يشاع أننا يجب أن ننظر إلى الدادائية والسريالية بحثا عن الاستكشافات الأكثر أثرا للنفس الحداثية، لا سيما أن الحركتين شددتا بقوة على الاستقصاء العقلي. لقد رأت الدادائية نفسها تحديدا معنية بإعادة تمثيل الاضطراب النفسي الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بينما يمكن النظر إلى اللاعقلانية التي تحتفي بها السريالية كقبول تام للقوى الفاعلة وراء كواليس الحضارة. يوجز هذا الفصل السجلات التاريخية المتضاربة لكلتا الحركتين، ولكن لنطرح السؤال التالي أولا: ما التوجه الذي يربط بينهما وبين الحركات الفنية الأخرى التي ظهرت في أوائل القرن العشرين؟
الطليعية
كانت الدادائية والسريالية حركتين فنيتين «طليعيتين» بالأساس، وكان لاصطلاح «الطليعية» - الذي وظفه أول مرة الاشتراكي الفرنسي اليوتوبي هنري دي سان سيمون في عشرينيات القرن التاسع عشر - دلالات عسكرية، لكنه ما لبث أن دلل على الوضع الاجتماعي-السياسي وكذلك الجمالي الذي ينبغي أن يصبو إليه الفنان الحداثي. بصفة عامة، كان الفن في القرن التاسع عشر مرادفا للفردية البرجوازية، وإذ كانت الطبقة البرجوازية تملكه، أو كان يعرض في مؤسسات برجوازية؛ كان الفن وسيلة يستطيع بها المنتمون إلى تلك الطبقة الفرار مؤقتا من القيود والتناقضات المادية للحياة اليومية. لكن في خمسينيات القرن التاسع عشر تحدت واقعية الرسام الفرنسي جوستاف كوربيه هذا الوضع؛ ويقال إن جوستاف كوربيه بمزجه بين الأجندة الاشتراكية والعقيدة الجمالية المضاهية لها يمثل أول اتجاه طليعي واع لذاته في الفن. بحلول بداية القرن العشرين، التزم العديد من الحركات الفنية الرئيسية - كالمستقبلية في إيطاليا، والبنائية في روسيا، أو الفن التشكيلي الجديد (دي ستايل) في هولندا، علاوة على الدادائية والسريالية - بالطعن في أي فصل بين الفن والتجربة العارضة للعالم الحداثي؛ وكانت الأسباب التي دعتها إلى ذلك سياسية من عدة أوجه؛ على سبيل المثال: كان البنائيون يستجيبون مباشرة للثورة البلشفية في روسيا، لكنهم نزعوا إلى التشارك في الاعتقاد بأن الفن الحديث بحاجة إلى إقامة علاقة جديدة بجمهوره؛ بحيث ينتج أشكالا جديدة راسخة لموازاة التحولات في التجربة الاجتماعية. بالنسبة إلى المنظر الثقافي بيتر بيرجر، فقد كتب في سبعينيات القرن العشرين أن مهمة الطليعية الأوروبية في أوائل القرن العشرين كانت تتمحور في مجملها حول تقويض فكرة «استقلالية» الفن (الفن لأجل الفن)، لصالح إدراج جديد للفن فيما يطلق عليه اسم «التطبيق العملي للحياة».
وبهذا تشترك الدادائية والسريالية في المعتنق الطليعي المحدد القائل بأن الراديكالية الاجتماعية والسياسية ينبغي أن ترتبط بالابتكار الفني. كانت مهمة الفنان أن يتجاوز المتعة الجمالية ويؤثر على حياة الناس، وأن يحملهم على رؤية وتجربة الأشياء بشكل مختلف؛ إن غاية السريالية مثلا لم تكن تقل عن دعوة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو ل «تغيير الحياة».
وكما ذكرنا آنفا، مثل الفن الحديث في أوائل القرن العشرين - التشظي التصويري لتكعيبية بيكاسو وبراك على سبيل المثال - خروجا مذهلا على التقاليد الفنية التقليدية. والطريقة الفنية-التاريخية القياسية لفهم هذا الخروج تنحصر في رؤيته على اعتبار أنه يمثل إرث فناني المدرسة «الفرنسية» في أواخر القرن التاسع عشر، أمثال جوجان وسورا وفان جوخ وسيزان، كما يمثل تحولا عاما في الوعي تأثر بالرمزية الأوروبية في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته. في رسوم سيزان وجوجان مثلا نجد أن الفضاء منبسط والألوان مشوهة، في خروج جذري عن المذهب الطبيعي؛ ولقد مهدت تلك الظروف الطريق أمام التخلي عن التقاليد التصويرية المنتمية لعصر النهضة، كالمنظور الخطي المتجلي في لوحة بيكاسو «آنسات أفينيون» التكعيبية النموذجية عام 1907، التي تمثل منعطفا في تاريخ الفن. في الوقت نفسه، جربت التعبيرية الألمانية والوحشية الفرنسية الاستخدامات المعبرة وغير الطبيعية للألوان بدرجة أكبر.
لا شك أن الدادائية والسريالية كانتا مدينتين بلغتهما التصويرية للحركات التكعيبية والتعبيرية، وكذلك المستقبلية؛ فالكولاج التكعيبي، على سبيل المثال، أفضى مباشرة إلى ابتكار أتباع الدادائية «تجميع الصور». لكن أتباع الدادائية والسريالية كانوا سيضيقون كثيرا بالفكرة الضمنية في الكثير من الأعمال التكعيبية، القائلة بأن الابتكار الرسمي وحده يوفر أساسا منطقيا للفن. فبقدر ما كان الفن التكعيبي يهدف إلى أن يصدم المشاهد أو يربكه فيعيد النظر في علاقاته بالواقع، كان فنا «مستقلا » في نهاية المطاف؛ أي فنا لأجل الفن. بالنسبة إلى الدادائية والسريالية، كان الفن يتعلق بما هو أكبر من ذلك بكثير. وشأنهما شأن غيرهما من الحركات الفنية بالقرن العشرين، كالمستقبلية التي عكست العالم المتسارع الوتيرة المتعدد الحواس الذي كان الناس يعيشونه في العقد الأول من القرن العشرين؛ كانت الدادائية والسريالية ملتزمتين باستكشاف التجربة نفسها.
كان الالتزام بالتجربة المعيشة يعني أن الدادائية والسريالية تحملان رأيا متضاربا بخصوص فكرة الفن باعتباره شيئا مقدسا أو منفصلا عن الحياة؛ وهذه نقطة محورية، وهي السبب في أنه من غير الملائم التعامل مع الدادائية والسريالية باعتبارهما «منهجين» أسلوبيين مميزين في تاريخ الفن. في الواقع، كان هناك تشابه أسلوبي محدود نسبيا بين الفنانين المنتسبين لهاتين الحركتين، وكان الأدب مهما بالنسبة إليهم أهمية الفن البصري. من الأدق أن نصف هاتين الحركتين بأنهما توجهان مشكلان للحياة مدفوعان بالأفكار، بدلا من كونهما مدرستين للرسم أو النحت؛ فأي شكل - بداية من النصوص، ومرورا بالأعمال الفنية «الجاهزة» وحتى الصور الفوتوغرافية - يجوز استخدامه لتجسيد الأفكار الدادائية والسريالية. في الدادائية، يترجم الشك الأساسي في ضيق أفق الفن كثيرا إلى عداء صريح تجاه قيمه ومؤسساته؛ ولذا ينبغي علينا عند هذه النقطة أن نطرح التعميمات جانبا، ونفحص الخطوط العريضة التاريخية الكلية للدادائية، ومن ذلك الفحص سينشأ بعد ذلك النقاش الخاص بالسريالية.
أصول الدادائية: زيوريخ ونيويورك
تتمحور «أسطورة أصول» الدادائية حول رجل واحد، ألا وهو الشاعر والمنظر هوجو بال، والملهى الليلي المعروف باسم «كباريه فولتير»، الذي افتتح في شبيجل جلاسيه بزيوريخ في فبراير 1916.
شكل 1-1: مارسيل يانكو، «كباريه فولتير»، زيت على قماش، (صورة فوتوغرافية لعمل مفقود)، 1916.
صمم الملهى الليلي بداية اقتداء بنماذج مبدئية في المدن التي عاش فيها الرحالة بال من قبل، وتحديدا مدينتي ميونيخ وبرلين. وشأنه شأن الملاهي الليلية هناك، قدم كباريه فولتير برنامجا متنوعا من الفقرات التي تتراوح ما بين إنشاد الأغاني الشعبية وإلقاء الشعر بالأسلوب التعبيري السائد، ومن بين معارف بال الأوائل بالملهى الليلي - وكانوا جميعا وافدين مثله - صديقته إيمي هنينجز التي كانت تؤدي فقرة في الملهى ، والرومانيان الشاعر تريستان تزارا والفنان مارسيل يانكو، والشاعر والفنان الألزاسي هانز/جان آرب (ويعكس اسمه جنسيته الفرنسية/الألمانية المزدوجة)، وشريكة آرب، مصممة الأزياء السويدية المولد والراقصة صوفي تاوبر، وسرعان ما انضم إليهم الشاعر الألماني ريتشارد هيولسنبك، ومن بعده انضم إليهم آخرون أمثال الكاتب الألماني فالتر سيرنر وصانعي الأفلام التجريبيين هانز ريشتر من ألمانيا وفايكنج إيجلينج من السويد.
وعلى الرغم من أن العروض التي قدمتها المجموعة في كباريه فولتير كانت في بداية الأمر تقليدية إلى حد كبير، فإنه سرعان ما تحولت إلى عروض استفزازية. استرجع تزارا عرضا سيئ السمعة تحديدا قدموه في يوليو 1916 قائلا:
في حضور عدد محدود من المشاهدين ... طلبنا أن نعطى الحق بأن نبول بعدة ألوان مختلفة ... صرخ بويم - صراخ وعراك في القاعة، ووافق الصف الأول على منح الحق، وأعلن الصف الثاني عجزه، وصاح البقية الباقية: من الأقوى؟ وجيء بالطبلة الكبيرة، هيولسنبك في مواجهة 200.
إلى حد ما، جاءت تلك الإجراءات الصدامية في أعقاب سلسلة من العروض التي قدمها في إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية أتباع المستقبلية الإيطاليون، في الفترة بين عامي 1909 و1913. وعلى الرغم من أن معرفتهم بالمستقبلية كانت جزئية، فإن مقدمي عروض كباريه فولتير أمثال بال وهيولسنبك كانوا على دراية بالأشعار التجريبية لقائد تلك الحركة مارينيتي، أو «الشعر الحر»، وباستخدام المؤدين المستقبليين الصدامي لسيل متنافر أو «وحشي» من الضوضاء. طور بال شكلا من الشعر «الصوتي» زاحمت فيه كلمات مختلقة أجزاء لغوية بدائية؛ فقصيدته التي سماها «كاراوان» (القافلة) عام 1916، والتي يبدو أنها تحاكي الأصوات الصاخبة والحركات الوئيدة لقطيع من الأفيال، تبدأ بالبيت التالي:
Jolifanto bambla ô falli bambla.
تضافرت جهود شعراء ومؤدين آخرين تابعين للدادائية بغية إلقاء «أشعار متزامنة»؛ إما تقرأ نصوصها بصوت عال، وإما تنشد بشكل متزامن. إلى حد ما، كانت مثل هذه الأساليب استقراءات من نماذج أولية مستقبلية. ولكن، كان الشعر الصوتي الدادائي عادة أكثر «تجريدا» بشكل واضح من سوابقه الإيطالية، ولم يكن لدى أتباع الدادائية أنفسهم سوى القليل من إيمان المستقبليين بالتقدم التكنولوجي، ولم يكن لديهم أي من حماس المستقبليين المؤيد للأعمال العسكرية.
استعارت العروض الدادائية أيضا عناصر من التعبيرية، وتحديدا الأسلوب الذي ساد في الفن الألماني حتى تلك الفترة، وهو نفسه الأسلوب الذي بادر المشاركون الألمان المولد في كباريه فولتير تدريجيا بالانحراف عنه. كانت هناك طائفة مناصرة للفن الأفريقي في أوساط التعبيريين، وكانت هناك طائفة مماثلة في أوساط التكعيبيين الفرنسيين والمؤدين في كباريه فولتير، ممن يشاركون بين الحين والآخر في «رقصات للسود». ويمكن العثور على خلفيات بدائية في قرع الطبول المتواصل، الذي شاع أن هيولسنبك كان يزعج به الجمهور بالملهى الليلي.
كانت الأنشطة الفنية بكباريه فولتير متنوعة؛ فقد تجاوزت الإلقاء الشعري والرقص، وامتدت إلى رسوم الكولاج الهندسية المبسطة بشكل جذري لهانز آرب، التي عادة ما كانت تتخلل العروض؛ ويدلل ذلك على المساواة التي منحها الدادائيون للإنتاج البصري والأدبي، وهو التوجه الذي كان في جوهره إرثا من الحركات الثقافية بالقرن التاسع عشر مثل الرومانسية والرمزية، وكذلك المستقبلية والتعبيرية. لكن عدم التزام المجموعة بأي حس فني محدد، وروح تابعيها الصدامية، تحددا في نهاية المطاف بالوقائع الاجتماعية والسياسية أكثر من أي شيء آخر. كان سبب وجودهم نفسه في زيوريخ موقفها الحيادي في الفترة التي كانت فيها أوطانهم منخرطة في معترك الحرب العالمية الأولى. وهناك طريقة مهمة ساوى بها أتباع الدادائية في زيوريخ بين الحرب التي كانت رحاها تدور في مكان آخر، وبين قناعة مفادها أن القيم المرتبطة بفن ما قبل الحرب كانت إلى حد كبير قيما فاسدة. إذا كان الرسم بالزيت والنحت بصب النحاس مرادفين لبيوت أبهاء الطبقة الأرستقراطية من الداخل، فسيجمع أتباع الدادائية بنى جديدة من قصاصات ورقية أو أغراض موجودة سلفا. وإذا كان الشعر مرادفا للوعي المصقول، فسيلوون ذراعه ويفككونه ويعيدون توجيهه إلى شكل من أشكال الثرثرة والتعاويذ. لقد كانوا كمجموعة متحدين في كرههم إضفاء الصبغة الاحترافية على الفن، فكانوا ينظرون لأنفسهم باعتبارهم مخربين ثقافيين، لكنهم لم يكونوا يرفضون الفن بحد ذاته بالضرورة، بل يرفضون الطريقة التي خدم بها الفن تصورا بعينه للطبيعة البشرية. في كتابات آرب، كان يساوي تحديدا بين الفن قبل الحرب والغرور والتقييم المبالغ فيه بشدة للبشرية، وكتب آرب لاحقا معبرا عن مشاعر دادائية شائعة:
لما شعرنا بالاشمئزاز من وحشية الحرب العالمية التي اندلعت عام 1914، كرسنا أنفسنا في زيوريخ للفنون. وبينما كانت أصوات المدافع تدوي بعيدة، طفقنا ننشد ونرسم ونصنع لوحات من الكولاج ونكتب الشعر بكل ما أوتينا من قوة؛ كنا نبحث عن فن يستند إلى الأسس لنداوي به جنون هذا العصر، كنا نبحث عن نظام جديد للأشياء من شأنه أن يعيد لنا التوازن ما بين الجنة والنار.
من المثير أن ثمة ملاحظة بناءة جوهرية أعرب عنها آرب في حديثه عن الدور الشافي للفن، وعن «النظام الجديد للأشياء» هنا؛ فغيره من أتباع الدادائية كانوا أكثر سلبية بمراحل؛ حيث إنهم سعوا إلى هدم الفن كمبدأ من الأساس. كان لدى آرب نفسه إحساس مسيحي تقريبا بأنه يمكن إعادة ابتكار الفن من جديد. ولكن، ماذا يمكن أن يمثل مجيء الدادائية؟ بالالتفات إلى أصول كلمة «دادا» - وهي أصول مربكة جدا؛ حيث زعم الكثير من أعضاء الحركة أنهم اكتشفوها في ظروف مختلفة - يبدو أن قابلية الكلمة المحضة للتوسع جذبتهم إليها. سجل هوجو بال في مذكراته عن سنوات الدادائية المعنونة «الفرار من الزمن» - التي تعد حاليا أحد أبرز مصادر المعرفة عن حركة زيوريخ - أنه بعد أشهر قليلة من الأنشطة في كباريه فولتير، بدأت المجموعة ترى أن ثمة حاجة ماسة إلى إصدار منشور جمعي، ومن ثم دعت الحاجة إلى شكل من أشكال العلامات المميزة:
لا ينفك تزارا يعرب عن قلقه بشأن النشرة الدورية. قبل اقتراحي بتسميتها «دادا» ... والكلمة تعني بالرومانية «نعم، نعم»، وبالفرنسية «الحصان الخشبي الهزاز». وبالنسبة إلى الألمان، تعتبر الكلمة علامة على السذاجة الشديدة ومتعة التناسل، والانشغال بعربة الأطفال.
في المقابل، تذكر هيولسنبك أنه اكتشف الكلمة بينما كان هو وبال يتصفحان قاموسا، ووجد نفسه يعلن أن «أول صوت يصدر عن الطفل يعبر عن البدائية، والبداية من الصفر، وكل ما هو جديد في فننا.» المهم هنا أن بال يشدد على الشيوع العالمي للمبدأ؛ حيث يراه ضربا من اللغات الثقافية العالمية، بينما يشدد هيولسنبك على أفكار الهدم والتجديد. كان التوجهان مكونين أساسيين للدادائية. وبخلاف ذلك، نجد أن الكلمة تمثل - بشكل يشي بالمفارقة - كل شيء ولا شيء في آن واحد؛ لقد ارتقت إلى مزيج عبثي من التأكيد والنفي، وضرب من الصوفية الزائفة. كان الفن عقيدة ميتة، وولدت الدادائية.
ولكن، من الأمور المعقدة هنا أن الدادائية ولدت في مكان آخر في الوقت نفسه؛ ففي عام 1915، بلغ وافدان فرنسيان - مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا - مكانة شبيهة على مسافة أكبر بعض الشيء من الحرب الأوروبية، وتحديدا في نيويورك. كان الفنانان بارزين في الدوائر الفنية الفرنسية قبل الحرب، لكنهما انجذبا إلى أمريكا؛ إذ أحسا أنها ستكون أكثر تقبلا للأفكار الجديدة. لم تلق لوحة دوشامب «عارية تهبط الدرج رقم 2» المتأثرة بالتكعيبية نجاحا كبيرا لدى طليعية باريس، لكنها نقلت إلى نيويورك وحققت نجاحا مدويا بمعرض الأسلحة عام 1913. بحلول عام 1915، كان دوشامب قد صاغ ما وصفه بأنه موقف معاد للبصر فيما يتعلق بالابتكارات البصرية التي استحدثها في الفن الفرنسي ماتيس من ناحية، والتكعيبية من ناحية أخرى. وقد لازمت كراهية دوشامب للفن الذي يستميل العين وحدها دون العقل، سخرية من الآثار التي تركها عصر الآلة على النفس البشرية. ظل الخطاب الإنساني يدعم أفكار الروح والحب الرومانسي، ولكن بعد أن رأى دوشامب وبيكابيا في هذا التوجه خداعا للذات في مواجهة الميكنة المتزايدة للمجتمع، بدآ حوالي عامي 1915 و1916 في ابتكار لغة ساخرة من مزيج من الأصوات الآلية/البشرية، وتجلت أكثر من أي شيء آخر في لوحة دوشامب على الزجاج المسماة «عروس جردها خطابها من ثيابها» (أو «الزجاجة الكبيرة»)، وهو العمل الذي هجر باعتباره «غير مكتمل بشكل حاسم» عام 1923.
إن نفور دوشامب من ارتباط «الصنعة» بالفن البصري، وإيمانه الملازم بأن الأفكار ينبغي أن تحل محل المهارة اليدوية باعتبارها المكونات الأساسية للأعمال الفنية؛ هما اللذان أفضيا إلى اختياره عناصر «جاهزة» باعتبارها أغراضا فنية بداية من عام 1913 فصاعدا؛ ومن أشهر أغراضه السيئة السمعة تلك المبولة التي سلمها - ووقع عليها مازحا باسم «آر مات »، وأطلق عليها اسم «النافورة» - لمعرض جمعية الفنانين المستقلين بنيويورك في أبريل 1917.
شكل 1-2: مارسيل دوشامب، «النافورة»، عمل فني جاهز، تصوير ألفريد شتيجليتس كما ظهرت في دورية «الأعمى»، العدد الثاني (مارس، 1917).
وإن رفض هذا العمل من قبل لجنة اختيار اللوحات الفنية بحد ذاته، على الرغم من السياسة التي تفيد بأن سداد العضو لرسومه يضمن له حقوق العرض؛ قد أمسى بيانا للدادائية.
في هذه المرحلة، بدا أن هناك معرفة ما بأنشطة الدادائية من جانب دوشامب وبيكابيا، لكن العلامة نفسها لم تستخدم إلا بالكاد في نيويورك حتى أوائل عشرينيات القرن العشرين؛ ولهذا السبب نجد أن أنشطة دوشامب وبيكابيا خلال الفترة بين عامي 1915 و1917 تصنف عادة تحت اسم «الدادائية البدائية». لا شك أن ثمة شبكة طليعية كبيرة سرعان ما تطورت وأحاطت بالأوروبيين، وتضمنت أعضاء من «دائرة شتيجليتس» المزعومة، كانوا شركاء للمصور الأمريكي ألفريد شتيجليتس المؤيد المهم للفن الطليعي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال معرضه 291 في نيويورك، وأعضاء من «دائرة أرنسبرج» التي سميت تيمنا بجامعي القطع الفنية الثريين وولتر ولويز أرنسبرج اللذين تعهدا دوشامب بالرعاية. وعلى الرغم من ذلك، كانت الشخصيات الرئيسية هي المصور الأمريكي مان راي، الذي شارك دوشامب في عدد من المشروعات اللاحقة، وآخرين قدر لهما أن يصبحا جالبي الحظ للدادائية نظرا لغرابتهما الفطرية؛ وهما: آرثر كرافان المتقلب المزاج، والكاتبة الألمانية المنشأ البارونة إلسا فون فريتاج-لورينجهوفن.
الدادائية الألمانية
في عام 1918، امتدت الدادائية إلى برلين نتيجة للحماس الجدلي لريتشارد هيولسنبك الذي وصل إلى برلين من زيوريخ العام المنصرم. في برلين، فت في عضد صحة توجهات الفن لأجل الفن بشكل واضح، الوقائع الاجتماعية الصارخة التي تمكنت من المدينة. كانت ألمانيا في تلك المرحلة قد خسرت الحرب، وكانت تشهد انهيارا اقتصاديا نتيجة للتعويضات التي طالبت بها فرنسا وبلجيكا. وعلاوة على اختلال توازناتها الاقتصادية، كانت ألمانيا تتأرجح على شفير ثورة اجتماعية في أعقاب الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. واجهت الحكومة الاشتراكية المحافظة نسبيا معارضة قوية من الشيوعيين، وخاصة مجموعة سبارتاكوس، واستجابت بعمليات قمع وحشية؛ وليس من العجب إذن أن أتباع الدادائية في برلين تم تسييسهم بقدر كبير. وعلى الرغم من أنهم اجتمعوا جميعا تحت اسم «نادي الدادائية»، فإنهم انقسموا إلى مجموعتين من الأصدقاء. كانت واحدة من المجموعتين - تضمنت فالتر ميرنج وفيلاند وهيلموت (عرف لاحقا باسم جون) هارتفيلد، وجورج جروز - تتألف من المتعاطفين مع الشيوعية (وكان آخر ثلاثة ممن سبق ذكرهم أعضاء رسميين بالحزب). أما المجموعة الثانية - وقد تضمنت راءول هاوسمن، وهانا هوخ، ويوهانس بادر - فكانت أكثر نزوعا للاسلطوية (الأناركية).
تجلت مناوأة الفن في برلين في المعارضة الصارخة للاتجاه الجمالي الأساسي في ألمانيا، ألا وهو التعبيرية؛ فلقد تحول النفور الدوشامبي (نسبة إلى دوشامب) من فن الصور الإنسانية والانغماس الحسي ل «الفني البصري» في برلين، إلى تأفف من «الاستبطان» واللمحة التعبيرية المصبوغة بصبغة روحانية. وعلى الرغم من أن فناني برلين أمثال جروتس وهاوسمن عملوا آنفا بأساليب تصويرية متناغمة مع التعبيرية، فإن ريتشارد هيولسنبك قد انتقد الجيل الفني السابق في بيان جوهري عام 1920، مشددا على أنه: «تذرعا بتنفيذ دعاوى للروح، وجد أبناء هذا الجيل، في صراعهم مع المذهب الطبيعي، طريقهم مجددا إلى اللمحات التجريدية والمثيرة للشفقة التي تفترض مسبقا حياة مريحة خالية من المحتوى أو الصراع.» ذهب هيولسنبك، في المقابل، إلى أن ثمة فنا جديدا - ألا وهو فن دادائيي برلين - «سيتصدع بشكل واضح بفعل تفجيرات الأسبوع الماضي ... وسيحاول إلى الأبد أن يجمع شتات نفسه بعد صدمة الأمس.»
ليس من العجب أن مجموعة دادائية برلين رفضت الرسم التقليدي وفضلت عليه الشعر الصوتي لهاوسمن، أو التوزيع الأصلي جدا لتقنيات المونتاج الصوري لهاوسمن وهوخ وجروتس وهارتفيلد. إن الشظايا المفتتة للصور الفوتوغرافية في توليفاتها الصورية المبكرة، التي تصور الآلات بطريقة شبيهة عموما بأتباع الدادائية في نيويورك، مهدت الطريق في نهاية المطاف للسطوح السلسة ظاهريا التي تخصص فيها جون هارتفيلد. استغلت التوليفات الصورية البارعة تقنيات سريالية أساسا من التجاور لأغراض ساخرة بشكل وحشي. بعد زوال دادائية برلين مباشرة في أعقاب ظهورها العام في «معرض الدادائية» ببرلين، الذي أقيم في يونيو 1920، أمسى هارتفيلد معلقا قاسيا على صعود نجم النازية في ألمانيا، وظهرت توليفاته الصورية بانتظام على أغلفة الدوريات الشيوعية مثل صحيفة العمال المصورة.
في أماكن أخرى بألمانيا، كان هناك المزيد من مراكز الدادائية؛ فكانت مدينة هانوفر - الأكثر تحفظا ورصانة بشدة من برلين - موطنا لكورت شفيترز. كان شفيترز صديقا لفناني برلين أمثال هاوسمن وهوخ، لكنه رفض عضوية «نادي الدادائية» التي قدمها له هيولسنبك نظرا لافتقاره للالتزامات السياسية، وسلوكه «البرجوازي» المفترض، وشق شفيترز طريقه المميز بنفسه؛ حيث كان رائدا لشكل من أشكال الكولاج أعيد فيه ضمنا تقييم بقايا المناطق الحضرية (كتذاكر الحافلات المهملة، وأغلفة الحلويات ... إلخ) بواسطة حشدها في بنى بصرية تجريدية. تبنى شفيترز التسمية (ميرتس)
Mertz
المأخوذة من كلمة
Commerzbank (بمعنى «البنك التجاري») في واحدة من تجميعاته الصورية لوصف أنشطته وتمييزها، تلك الأنشطة التي توسعت بحلول منتصف عشرينيات القرن العشرين، وصولا إلى خلق تجميعة مبدئية ضخمة تعرف باسم
Merzbau
طورت أساسا في العديد من غرف بيته. في أوائل عشرينيات القرن العشرين، أقام شفيترز علاقات وطيدة بفنانين منخرطين في الحركة البنائية الدولية؛ حيث نفذت مبادئ التجريد الهندسي الخاصة بها إلى ألمانيا وهولندا. وشارك المؤسس المشارك لحركة ستيل الهولندية؛ ثيو فان دويسبورج، بشكل غير مباشر إلى حد ما في الدادائية خلال تلك الفترة تحت الاسم المستعار «آي كيه بونسيت»، وحضر هو وشفيترز وآرب وريشتر وهاوسمن وتزارا «مؤتمر الدادائية-البنائية» في فايمار في سبتمبر 1922؛ حيث أقاموا علاقات مع أتباع بارزين للبنائية في ألمانيا أمثال لازلو موهولي-ناجي وإل ليسيتزكي. وعلى مدار سنوات قليلة، تآزر أعضاء كل جماعة فيما بينهم من ناحية، وبينهم وبين غيرهم من أعضاء الجماعات الأخرى بشكل متفرق. بصورة ما، تقع تلك الحقبة خارج طقوس الدادائية، على الأقل بقدر ما كانت الدادائية معارضة للتجريب الجمالي المحض؛ لكن آرب وشفيترز، في ظل اهتماماتهما التجريدية، كانا استثناءين لهذه القاعدة، وتضمن خطاب دادائية زيوريخ على أي حال دعوات ل «نظام جديد».
مثلت كولونيا، المدينة الأقل اضطرابا من برلين، التي وقعت تحت الاحتلال البريطاني بعد الحرب مباشرة؛ البيئة المثالية لشعبة جديدة من الدادائية خلال فترة ما بين عامي 1918 و1920. هنا كان أبرز رجالات الدادائية ماكس إرنست ويوهانس بارجلد، وهو الاسم المستعار الذي تبناه ألفريد جرونيفالد، وتعني كنيته «حقائب المال»، في إشارة غير مباشرة إلى المصرفي والد جرونيفالد. وامتدت عضوية دادائية كولونيا إلى مجموعة مسيسة بقدر أكبر، من بينهم فرانس سايفيرت وهاينريتش وأنجيليكا هويرل، لكن هذه المجموعة تجمعت في واقع الأمر حول حدث وحيد فحسب، ألا وهو «معرض دادائية كولونيا» اللاسلطوي المقام في أبريل 1920 (انظر الفصل الثاني). وخلاف ذلك، نجد أن التجميعات الصورية اللاسياسية في جوهرها ولكن العبثية جدا لإرنست، والمتسمة بتصادمات مذهلة للصور، مهدت الطريق لتشكل الدادائية. وكما هو الحال بالنسبة إلى أعمال دوشامب وبيكابيا في أماكن أخرى، يمكن العثور على إدانة وحشية للفنون السابقة في إعادة صياغات إرنست للأيقونات الدينية التقليدية.
الدادائية الفرنسية
كانت كولونيا تقع من الناحية الثقافية بين ألمانيا وفرنسا، ومن ثم مال إرنست إلى التطلع إلى باريس بدرجة أكبر بكثير من غيره من الدادائيين الألمان، وفي نهاية المطاف، انتقل إلى باريس عام 1922. إن الدادائية في باريس مسألة معقدة من حيث روادها المتحولون وانتماءاتهم المتبدلة. ولدت الدادائية الفرنسية في أوائل عام 1919 مع وصول بيكابيا، سفير العدمية لدى الدادائية الذي نصب نفسه في هذا المنصب، وكان قد أمضى لتوه فترة في سويسرا، ظهر خلالها في زيوريخ حيث مثل بالنسبة إلى مؤرخ الدادائية هانس ريشتر «تجربة احتضار». كانت دادائية زيوريخ في مرحلتها الأخيرة عدمية على أي حال؛ حيث ألقى فالتر سيرنر على أسماع الناس «بيانا محررا أخيرا» كئيبا أثناء المسيرة العامة الأخيرة للحركة في أبريل 1919. وفي باريس، استضاف بيكابيا دوشامب الذي كان في زيارة جديدة لبلده الأم، وسرعان ما لاقت شخصية دوشامب الغامضة - والمتجلية في لمحات مثل العمل الفني المتمرد
LHOOQ ، الذي يتكون من تلك الأحرف (وتعني في الفرنسية «إنها تتمتع بمؤخرة رائعة» عندما تقرأ بصوت عال)، المكتوبة أسفل نسخة للوحة الموناليزا ذات شارب ولحية مرسومين بقلم رصاص - إعجاب مجموعة من الشعراء الباريسيين المجتمعين حول دورية «الأدب». وكان «قائد» تلك المجموعة باقتدار أندريه بريتون، وأبرز أعضائها : لويس أراجون، وثيودور فرانكل، وبول إيلوار، وفيليب سوبو.
كان بريتون ذو الشخصية الجذابة يتأثر بشدة بالآخرين، وكان الشاعر الفرنسي جيوم أبولينير - شريك بيكاسو والمؤيد الشديد للتكعيبية، الذي توفي عام 1918 - مهما لبريتون بشكل محوري؛ فمن أوجه عدة، قدر لبريتون أن يرث دور أبولينير كمحفز طليعي. وثمة أثر آخر كان يتمثل في صديق بريتون، ويدعى جاك فاشيه؛ وكان شخصا متأنقا أفضى به حسه الفكاهي اللاذع (حتى إنه أطلق على نفسه اسم «الفكاهي») وإحساسه بالعبثية، إلى الانتحار بجرعة أفيون زائدة بعد توقيع الهدنة عام 1919. في ظل تلك السوابق في ذهنه، علاوة على دوشامب، قام بريتون بابتكار نسخته الذهنية الخاصة من الدادائية.
في أوائل عام 1919، درس بريتون نموذج تريستان تزارا الذي ظهر بيانه القوي عام 1918 في الطبعة الثالثة من مجلة «الدادائية» التي نشرتها مجموعة زيوريخ. «إن مبدأ «حب جارك» محض نفاق، و«اعرف نفسك» مبدأ مثالي، لكنه مقبول بقدر أكبر؛ لأنه ينطوي على شيء من الدهاء. لا للشفقة. بعد المذبحة، لا يبقى لدينا سوى الأمل في إنسانية مطهرة.» هكذا كتب تزارا متحولا من خطاب العدمية إلى خطاب الفداء بأسلوب زيوريخ المألوف. وصل تزارا نفسه إلى باريس في يناير 1920، ولكن على مدار العامين التاليين، تولى بريتون - الذي أدى به نزوعه إلى البحث عن انسجام النظرة الاستشرافية إلى الاغتراب عن بيكابيا اللاسلطوي وكذلك عن تزارا - ريادة الطليعية في نهاية المطاف.
كانت الدادائية الباريسية سلبية صراحة في نبرتها، وعلى الرغم من أنها كانت معارضة للحكومة اليمينية التي تولت مقاليد الأمور في فرنسا إثر الحرب، فإنه نادرا ما كانت سياسية علنا كالدادائية في برلين، كما كانت بعيدة جدا عن الروح البنائية البدائية التي اتسمت بها المرحلة الأولى للدادائية في زيوريخ. وكانت تجلياتها الأساسية سلسلة من الاستفزازات العلنية التي قرأ بيكابيا واحدة منها على الملأ في مارس 1920، في بيانه المسمى «البيان الوحشي»:
ما الذي تفعلونه هنا، وأنتم جالسون على مؤخراتكم كمجموعة من الحمقى؟ ... ... أنتم أيها الجادون، تفوح منكم رائحة أسوأ من رائحة روث الأبقار .
أما بالنسبة إلى الدادائية، فلا تفوح منها أي رائحة؛ فهي لا شيء، لا شيء، لا شيء.
إنها مثل آمالكم: لا شيء.
مثل فردوسكم: لا شيء ...
مثل ساستكم: لا شيء ...
مثل فنانيكم: لا شيء ...
أساسا، شنت الدادائية الباريسية، شأنها شأن تجليات الدادائية في أي مكان آخر، حربا على الخطاب الفني المهترئ. وفي الحدث نفسه، قدم بيكابيا لوحة من القماش تحوي دمية على شكل قرد وتحيط به الكلمات التالية: «صورة لسيزان، صورة لرامبرانت، صورة لرينوار ...»
السريالية: البدايات
بحلول منتصف عام 1922، أمست الدادائية الباريسية، في شكلها النهائي المتجسد بالكامل، موصومة بسلبيتها الشخصية، ومن مؤشرات زوالها تنظيم بريتون ل «مؤتمر باريس» الذي أكد ضمنا، في مسعاه إلى تحديد الاتجاه الكلي للنشاط الطليعي، على أن ما كانت الدادائية تسعى لتفاديه بالضبط هو: مجرد حركة فنية في تاريخ الفن. يتجلى هنا ولع بريتون بالسياسة الثقافية؛ فإذ اتهم الدادائية ب «النفي المتغطرس» والميل إلى «الفضيحة من أجل الفضيحة»، فقد استغل الفرصة وأعاد ترتيب أولويات الطليعية؛ وكان الطريق ممهدا أمام السريالية.
وصل ماكس إرنست من كولونيا في نهاية عام 1922؛ حيث كان حلقة الوصل مع أنشطة الدادائية الألمانية، على الرغم من أنه لم يكن حلقة الوصل مع أكثر تلك الأنشطة تسيسا. لعامين كاملين، وتحديدا في الفترة بين عامي 1922 و1924، كانت هناك فجوة نوعا ما بين الدادائية والسريالية، وهي المرحلة التي أطلق عليها أعضاء تلك الحركة «الحركة الغامضة». وخلال تلك الفترة، انخرط بريتون وأراجون وإيلوار، إضافة إلى مستجدين أحدث عهدا بحركة الأدب مثل روبرت ديسنوس ورينيه سريفيل، في مجموعة متنوعة من الأنشطة التجريبية. من أكثر تلك الأنشطة إثارة «جلسات تحضير الأرواح» التي أجابت فيها مجموعة من أعضاء الحركة، وأبرزهم ديسنوس، بشكل غريب الأطوار عن أسئلة طرحت عليهم أثناء انغماسهم في حالات غيبوبة ذاتية التحريض؛ جرى آنذاك بشكل منظم استكشاف الاهتمام بكل ما هو غير عقلاني، الذي تجلى في حد ذاته في الدادائية باعتبارها حركة حرة روحية مناوئة للبرجوازية. بينما كان بريتون يخدم كممرض في صفوف الجيش الفرنسي خلال فترة الحرب ، تعرف على نظريات سيجموند فرويد الخاصة باللاوعي. ترجمت أعمال ذلك المحلل النفسي لأول مرة للفرنسية خلال أوائل عشرينيات القرن العشرين، وسرعان ما استوعب بريتون وأصدقاؤه الفكرة العلمية للاوعي ودمجوها بما يخدم مصالحهم الشعرية؛ حيث قاموا بتطوير تقنيات «الكتابة التلقائية» التي بموجبها - نوعا ما على غرار نموذج فرويد ل «التداعي الحر للمعاني» - أسهبوا في الكتابة السريعة دون وجود أي فكرة سابقة التصور. ولكن، أثبت اجتماع تم بين بريتون وفرويد في فيينا عام 1921 بما لا يدع مجالا للشك، أن فرويد لم يتعاطف كثيرا مع مثل هذه المواءمات الفنية لتقنياته العلاجية.
بحلول عام 1924، رأى بريتون أنه من الملائم أن يوحد تلك النزعات تحت اسم واحد، وبعد فترة ولادة طويلة خرجت السريالية إلى النور بنشر بريتون أول بيان عام للسريالية.
كان أبولينير، المثل الأعلى لبريتون، هو أول من سك كلمة السريالية عام 1917، لكن محاولة أبولينير الغامضة نوعا ما لتمييز روح جديدة متجاوزة للمنطق في الفنون، اتسمت بدقة أكبر في «البيان العام» لبريتون عام 1924؛ حيث وصفت السريالية بأنها «قائمة على الإيمان بالحقيقة الأسمى لارتباطات مهملة مسبقا بعينها، وبالقدرة الكلية للأحلام، وبالتلاعب العقلي بالأشياء بلا مبالاة.» كان البيان العام بالأساس ميثاقا لشاعر؛ فلم تكن فيه عناية بالفنون البصرية في هذه المرحلة، ومنحت الأولوية ل «التلقائية النفسية ... بواسطة الكلمة المكتوبة، أو بأي طريقة أخرى.» وحقيقة أن ممارسة هذا البيان «في غياب أي نوع من رقابة العقل، وبعيدا عن أي هموم جمالية»، أوضحت أن السريالية ورثت واحدا من المبادئ المحورية للدادائية، الأمر الذي يرجع بنا إلى قلب النقاش السابق؛ نقد الفن المستقل الذاتي الإحالة. كانت السريالية شأنها شأن الدادائية مكرسة لمحو الفروق بين مزاعم «الفن» ومزاعم «الحياة»، وإذ وصف بريتون فرويد بالنور الهادي للمشروع السريالي، لم يتكلم بريتون كثيرا عن المنتج الجمالي بقدر ما تحدث عن «الإنسان المستكشف» الذي يجري «تمحيصاته». رأى الناس فيها ثورة جديدة، لا أقل، وأكد أحدهم أنه: «لعل الخيال على وشك أن ... يسترجع حقوقه.»
بدأت السريالية كحركة أدبية، وكان أوائل طلائعها شعراء وكتابا فرنسيين ، أمثال: آرثر رامبو، وإيزيدور دوكاس (الكونت لوتريامون)، وريمون روسيل، وألفريد جاري. وبمرور عشرينيات القرن العشرين، دار تدريجيا الفنانون البصريون، لا سيما الرسامون، في مدار السريالية منجذبين بنموذج «رسم الشعر»، وكان ماكس إرنست رائدا - بأسلوبه الفني الذي تأثر بلا شك بمصادفته نسخا لأعمال الرسام الإيطالي جورجيو دي شيريكو - لما يمكن أن نصفه جوازا ب «الرسم الحالم».
على الرغم من كون الأحلام محورية كموضوع أساسي للفنانين السرياليين، فإن عملية تدوينها بصريا قد كانت تستوجب تمهلا واعيا جدا. وكما أوضح كثير من المعلقين، كانت تلك الفكرة مناقضة لنموذج تجاوز رقابة العقل. إن تدخلات نقدية كهذه، التي تتطلب إعادة تقييم مستمرة للمبادئ، أمست القاعدة المعمول بها إلى حد كبير في السريالية. وحقيقة الأمر أن الهجوم على «الرسم الحالم» حمل الفنانين آندريه ماسون وخوان ميرو على إنتاج معادلات بصرية للعفوية التي لطالما مارسها شعراء الحركة. ومن بين جوانب النقص الأخرى ل «الرسم الحالم» أنه كان بالإمكان استيعابه مرة واحدة، في الوقت الذي تتكشف فيه الأحلام بطبيعة الحال في الوقت المناسب؛ ولذا، كان الطريق ممهدا للأفلام للاستجابة إلى المتطلبات السريالية، وفي أواخر عشرينيات القرن العشرين، تم إنتاج فيلمين غاية في الأهمية: «كلب أندلسي» و«العصر الذهبي»، وكان الفيلمان ثمرة تعاون بين الإسبانيين اللذين استقطبتهما باريس؛ لويس بونويل وسلفادور دالي.
إن انجذاب دالي نحو السريالية في عام 1929 يثبت كيف نجحت الحركة في استقطاب مواهب جديدة. وفي الوقت نفسه، قدمت شخصيات بارزة بالفعل دعمها بين الحين والآخر؛ فقد سمح بيكاسو بنسخ العديد من الأعمال الحديثة في الدورية السريالية «ثورة السريالية» في منتصف عشرينيات القرن العشرين، دون أن ينضم رسميا للمجموعة قط، وأمست شخصيات بعينها دعامات أساسية للحركة، كالرسامين إرنست وإيف تانجي مثلا. ومن الدعامات الرئيسية للحركة أيضا المصور مان راي الذي أمسى المصور الرسمي إلى حد كبير للسريالية الرسمية، بعد أن كان مساعدا لدوشامب أيام دادائية نيويورك، بينما أنتج في الوقت نفسه «صوره الفوتوغرافية من دون كاميرا» (صورة تنتج من دون كاميرا عن طريق وضع جسم بشكل مباشر على ورق خاص وتعريضه للضوء)، ودراسته للعرايا في الاستوديو. حصل أشخاص آخرون على مباركة بريتون المتفاقم استبداده، بينما سقط آخرون من حساباته، واستبعد كثيرون سريعا لإخفاقهم في الوفاء بتوقعات النقاء المذهبي أو الأيديولوجي. كان العام 1929 حدا فاصلا في هذا الصدد؛ إذ استنكر بريتون علانية في «البيان العام الثاني» للسريالية شخصيات مثل: جورج ريبيمون-دوسينييه، وروبرت ديسنوس، وروجر فيتراك، وآندريه ماسون، وفيليب سوبو، وأنطونين أرتو، والكاتب المتمرس في علم الأعراق ميشيل ليريس؛ في أعقاب اجتماع خاص اتهموا فيه بالإخفاق في الالتزام ببروتوكولات الجماعة.
شكل 1-3: ماكس إرنست، «الرأفة/الثورة ليلا»، زيت على قماش، 1923، معرض تيت، لندن.
والواقع أن ثمة جفوة حدثت لبعض الوقت بين سرياليي «شارع فونتين»، الذين تمت تسميتهم بهذا الاسم تيمنا بالشارع الذي قطن فيه بريتون وعقد اجتماعات المجموعة فيه، وسرياليي «شارع بليمو»، الذين كان من بينهم ماسون وميرو وليريس وغيرهم. ولطالما أبعد ميل المجموعة الثانية لفلسفة نيتشه أفرادها عن بريتون، وعندما شرع جورج باتاي - الإثنوغرافي والكاتب الذي بزغ نجمه كمنافس فكري أساسي لبريتون في أواخر عشرينيات القرن العشرين - في التودد إليهم أساسا من خلال دوريته «وثائق»، أحس بريتون بالحاجة إلى التصرف بحسم، وكان بيانه العام الثاني يهدف في جزء منه إلى تقويض جاذبية جورج باتاي. من وجهة نظر باتاي، تعيب فكر بريتون فرضياته المثالية المسبقة. إن جماليات بريتون، التي كانت متجذرة في الجدلية الهيليجية، ارتدت دوما إلى فكرة الواقع الجديد الذي ينشأ نتيجة لتصادم صورتين متنافرتين، وكان التمثيل المقتبس كثيرا لتلك الظاهرة بالنسبة إلى السرياليين هو تشبيه لوتريامون الممتد «جميلة كفرصة لقاء عارض على طاولة تشريح لآلة حياكة ومظلة.» وفي مقابل مثل هذا الكشف الجمالي، أيد باتاي ما أسماه «مادية أساسية»، الذي بواسطته سعى الفن إلى مواجهة أحط جوانب البشرية أو أكثر تلك الجوانب بهيمية؛ ولذا مال الفنانون، أمثال ماسون، تعاطفا مع باتاي إلى إنتاج صور مجازية يمكن أن تبدو لبريتون مسيئة دون مبرر. وثمة هجوم مباشر بقدر أكبر نشره معسكر باتاي عام 1930 على هيئة منشور تحت عنوان «جثمان »، وقد تعرض بريتون، إذ تم تصويره على أنه مسيح شهيد، لسخرية شديدة من أحكامه الميالة للنقد واغتراره بذاته.
كان «البيان العام الثاني» لبريتون على أي حال بمثابة تحول في الاتجاه الفلسفي للسريالية؛ ففي السابق كان التركيز داخل الحركة ينزع إلى محتويات العقل، أو ما أسماه بريتون «النموذج الباطني»، أما الآن فقد تحول التركيز إلى التفاعل ما بين عالم الباطن والواقع الخارجي في علاقة جدلية. وقد كان لهذا التوجه الجديد تداعياته فيما يختص بالإنتاج البصري؛ فمن عدة طرق، استند صعود نجم دالي بسرعة البرق إلى إحياء «الرسم الحالم»، لكن دالي، الذي لطالما كان يحدد خيارات حياته المهنية على نحو استراتيجي، أحال ركيزة أعماله ببراعة وعبقرية بعيدا عن حلم اليقظة الباطني، وانتقل بها إلى ما وصفه ب «هذيان التفسير» الشبيه بجنون الاضطهاد بالنسبة إلى الواقع الخارجي. وفي الوقت نفسه، ظهرت طائفة حقيقية للغاية السريالية حوالي عام 1930، بقيادة دالي والفنانين السويسريي المولد ألبرتو جياكوميتي وميريت أوبنهايم؛ هناك كان التشديد على عثور الفنان على غرض في العالم الخارجي ينسجم مع المتطلبات اللاواعية، ومن ثم كانت إعادة العلاقات بين الواقع الداخلي والخارجي. وظهرت بالتزامن مع تلك الفرقة طائفة «اللقاء» التي ارتدت إلى الأيام الأولى للسريالية. وإذ يسيح السريالي الهائم على وجهه في باريس التي تكتنفها شبكة خفية من المعاني، فإنه يجعل نفسه متاحا لإملاءات «المصادفة الموضوعية»، وعلى الرغم من أن هذا الانشغال الجديد بالعالم الخارجي كان مخلصا للروح الطليعية الأساسية للسريالية، فإنه تجسد - بقدر أكبر من الحرفية - في السياسة.
السريالية: السياسة والنزعة الدولية
بدأ انشغال السرياليين بالسياسة في عام 1925، عندما عارضوا الحرب الفرنسية الاستعمارية في المغرب، وبحلول عام 1927 أفضت معارضتهم الشديدة ليس لحكومة اليمين الفرنسية فحسب، بل وللرأسمالية عموما؛ إلى انضمامهم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكن ثبت لهم من البداية أنه من الصعب التوفيق بين ميولهم السياسية وغاياتهم الفنية. كيف للروح الجماعية السياسية، حسبما تساءل نقاد النزعة الباطنية أمثال بيار نافيل، أن تنسجم مع الفردية المتطرفة للشعر والفن السرياليين؟ هل ينبغي أن تسبق ثورة العقل الثورة الاجتماعية؟ أم العكس هو الصحيح ؟ بعد عمليات التطهير التي شهدتها جماعة بريتون عام 1929، والتي كانت عينها تستند جزئيا إلى المزاعم النسبية المتعلقة بتضامن الجماعة وفرديتها، أمست تلك الأسئلة تحديدا ملحة. لقد صار السرياليون الآن مجبرين على الاستجابة لمتطلبات نظام ستاليني جديد في روسيا، وتأزمت الأوضاع عام 1932 عندما تخلى لويس أراجون رسميا عن السريالية مفضلا عليها الحزب الشيوعي، وبمرور الوقت في ثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت «الواقعية الاشتراكية» - وهو فن واقعي مقروء للعامة - الفن المعترف به رسميا لدى الشيوعية، وقد أدى التزام بريتون التروتسكي (نسبة إلى ليون تروتسكي) بثورة ثقافية-سياسية، إلى إبعاد السرياليين بشكل حاسم عن التقليد السوفيتي المتشدد.
بالرغم من هذا الاضطراب الأيديولوجي، استقطبت السريالية في الثلاثينيات عددا من الوافدين الجدد؛ كثير منهم كانوا نساء، بداية من الرسامة والكاتبة الإنجليزية ليونورا كارينجتون التي استكشفت أفكارا أسطورية على نطاق واسع، وانتهاء بالكاتبة والمصورة الفرنسية كلود كاهون التي أنتجت صورا ذاتية تتشكك بها في هويتها الجنسية. في سياق الفن السريالي الذكوري، كانت اليد العليا دوما للتعبير عن الرغبة الجنسية التي تم تصويرها عادة بطرق مغايرة للجنس، وشهدت ثلاثينيات القرن العشرين صعود نجم الأعمال المثيرة جنسيا للألماني هانز بيلمر. وثمة طائفة في السريالية التفت حول أعمال الروائي الإباحي الفرنسي ماركيز دو ساد بالقرن الثامن عشر، باعتباره رائدا للحرية، رخصت لخيالات عنيفة ومحرمة أخلاقيا.
شهدت السنوات التالية من الثلاثينيات انتشار السريالية، كمجموعة من المذاهب، في دول أوروبية أخرى وقارات أخرى أيضا. في العشرينيات، اجتذبت السريالية شخصيات بارزة من دول مثل إسبانيا وألمانيا وباريس، وبينما أمسى العالم أكثر اضطرابا من الناحية السياسية في الثلاثينيات - حيث تأثرت عدة دول بدرجات متفاوتة بالاستقطابات السياسية للشيوعية والفاشية - راقت مبادئ الحركة وقيمها لفنانين وكتاب يساريين ومناوئين للفاشية في مجموعة من السياقات الجديدة. من هذا الجانب، عادة ما حققت الحركة في أماكن أخرى قوة سياسية لم تستطع تحقيقها في فرنسا. تألفت المجموعة الفرعية الكبيرة الأولى في بلجيكا عام 1926 بمعرفة الكاتب بول نوج، وشملت فنانين أمثال إيه إل تي ميسينز ، ورينيه ماجريت، ولاحقا بول ديلفو والمصور الفوتوغرافي راءول أوباك، وبحلول منتصف الثلاثينيات، كانت السريالية قد أمسى لها موطئ قدم في شرق أوروبا. وكان الرومانيان فيكتور برونر وجاك هيرولد إضافتين عظيمتين لمجموعة باريس في أوائل الثلاثينيات، لكن الأهم تحديدا في تلك المرحلة كان تشكل مجموعة براغ في عام 1934، وأبرز رجالاتها كاريل تيج، ورسام الكولاج جيندريش ستيرسكي، والرسامان جوزيف سيما وتوين (ماري سيرنونوفا). وكانت علاقات الجماعتين، البلجيكية والتشيكوسلوفاكية، أكثر ودا بحزبيهما الشيوعيين الوطنيين من علاقاتهما بجماعة باريس.
في عام 1936، انعقد «المعرض الدولي للسريالية» المهم في لندن؛ حيث كان نقطة التقاء مجموعة متباينة من المواهب الإنجليزية، أمثال الكاتب ديفيد جاسكوين والرسامين رولاند بنروز وإيلين آجر، والمخرج همفري جينينجز. لقد وفرت المعارض الدولية الكبرى إلى حد كبير الموقع الرمزي للسريالية بحلول تلك الفترة، وكانت العروض الدراماتيكية دوما جانبا مميزا للسريالية (على سبيل المثال: أقيم عرض صغير، ولكنه مذهل، لبعض الأغراض بمعرض باريس لتشارلز راتون عام 1936)، ولكن العام 1938 شهد أقوى عروض السريالية وأكثرها صراحة على الإطلاق في «المعرض الدولي للسريالية»، الذي أقيم في معرض الفنون الجميلة في باريس؛ حيث تم تعليق سقف الغرفة بأكياس فحم محشوة بالصحف.
في العام نفسه، سافر بريتون إلى المكسيك ليوطد علاقاته الأيديولوجية بتروتسكي والرسام الجداري دييجو ريفيرا، وقد أرست تلك الزيارة أسس الوجود السريالي في أمريكا اللاتينية برعاية رموز كالمصور الفوتوغرافي مانويل ألفاريز برافو، والرسامة فريدا كاهلو، اللذين نالا حفاوة عظيمة باعتبارهما سرياليين، ولو أن كثيرا من أعمالهما تناولت التقاليد والمشاغل «المحلية». كان السرياليون دوما نهمين للارتباط ب «آخرين» على المستويين الثقافي والاجتماعي، ورأوا أن أعمالهم موازية لفن الجنون، وغالبا ما وضعوا أعمالهم في مكانة موازية لأغراض كالأقنعة المحيطية، وأحيانا ارتقى ذلك إلى استحواذ تعوزه الحساسية لأنماط للفهم متباينة تمام التباين، ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية والتشرذم الحتمي للنواة الباريسية للجماعة، اضطرت السريالية كظاهرة فرنسية الهوية إلى التأقلم مع معطيات ثقافية قهرية.
في عام 1941، ترك بريتون وفنانون أمثال ماسون وإرنست، فرنسا التي احتلتها ألمانيا عبر مارسيليا، على الرغم من أن بعض حلفائه القدامى مثل إيلوار اختاروا البقاء في باريس. اتضح أن منفى بريتون كان حافزا من عدة أوجه؛ فمن ناحية، أتاحت له زيارته إلى جزيرة مارتينيك، في طريقه إلى الولايات المتحدة، فرصة التعرف إلى حركة «الزنوجة» التي كانت لبناتها تتشكل في المستعمرات الفرنسية، وأتاحت له بشكل أكثر تحديدا أن يلتقي بالشاعر إيمي سيزير؛ ومن ثم، أمست السريالية حقا لغة للمهمشين ثقافيا. ومن ناحية أخرى، كان وجود بريتون في نيويورك من عام 1942 وحتى نهاية الحرب، يعني إرساء أسس استجابة أمريكية للسريالية، على الرغم من حقيقة أن بريتون نفسه ظل فرنسيا بشكل واضح، ورفض أن يتعلم الإنجليزية.
قبل الحرب، انحصر تبني أمريكا للسريالية في أحداث منفصلة، مثل أعمال جوزيف كورنيل الذي أنتج لوحة موحية بشكل شعري في صناديق خشبية مفتوحة من الأمام، بداية من أواخر الثلاثينيات وما بعدها. ومع وجود بريتون والكثير من الرسامين الرواد في الولايات المتحدة، بدأت السريالية الآن تصب في الرسم التجريدي الذي كان سائدا في نيويورك، وبدأ العديد من الرسامين الأكبر سنا في نيويورك، وعلى رأسهم روبرتو ماتا المولود في شيلي وأرشيل جوركي الأرميني المنشأ، في أن يدمجوا عناصر من رسم السرياليين أمثال ميرو وماسون (على غرار استخدام الأشكال العضوية نصف المجردة) والعفوية في أعمالهم؛ وثبت في نهاية المطاف أن تلك التجارب محورية في تطور تنويعة جاكسون بولوك للتعبيرية التجريدية. ساد التجريد، الذي أكده الإيمان السريالي في إملاءات اللاوعي أو البدائي من الأشياء، فترة ما بعد الحرب العالمية مباشرة في الولايات المتحدة، ولكن بحلول الخمسينيات، بدأ الفنانون في إعادة اكتشاف تبعات الدادائية. آنذاك اعتبر دوشامب - الذي انتقل من فرنسا إلى نيويورك بعد بريتون، ولكن كان أثره في بداية الأمر أكثر «سرية» - شخصية بارزة وحاسمة، وبدا أن مفهومه المتعلق بالأغراض «الجاهزة الصنع»، واهتمامه بثقافة العامة، يتماشيان مع الوعي الأمريكي بقدر أكثر انسجاما بكثير، ويمثلان واحدة من نقاط المرجعية للفن الشعبي. وبالنظر إلى أن مفهوم الأغراض الجاهزة كان اختراعا خاصا بالدادائية، من السهل الزعم بأن الدادائية، لا السريالية، هي التي مهدت الطريق للفن فيما بعد عام 1945 في أمريكا.
عاد بريتون إلى فرنسا بعد الحرب، لكن السريالية لم يعد باستطاعتها فرض الهيمنة الفكرية التي كانت تتمتع بها في فترة من الفترات، وبدت الوجودية أكثر اتساقا مع الأزمنة المتغيرة. ويزعم أن السريالية لم تظهر مجددا كأثر ثقافي حتى الستينيات، ومرة أخرى كانت عناية الدادائية بالأعمال الفنية الجاهزة أو بعمليات التجميع، هي التي داعبت خيال أغلب الفنانين الفرنسيين المرموقين في الخمسينيات، أمثال إيف كلاين أو أرمان. لا شك أن السريالية كحركة استمرت حتى بعد وفاة بريتون عام 1966، وخرجت علينا بشكل دوري بطفرات دراماتيكية؛ ففي معرض إيروس الذي عقد في باريس عام 1959 على سبيل المثال، كان سقف النفق، المعروف باسم «مختلى العشاق»، «يتنفس» بفعل أنابيب هواء خفية. لكن الأدوات المميزة للحركة الآن يزعم أنها تكاد تميل إلى «الفن الهابط»، ولا تمت بصلة للمكانة التي كانت تحتلها من قبل. ولكن، من المفارقة أن أثرها أمسى نافذا في العالم ككل. وإذا كانت اتفقت في فترة من الفترات مع الشيوعية، فقد كانت تقنياتها الفنية الخاصة بالتجاور واضطراب التوجه محورية للاستراتيجيات الدعائية للرأسمالية المتأخرة.
الدادائية والسريالية
الغرض من ملخصات الدادائية والسريالية المذكورة أعلاه، هو تقديم «خريطة» للقارئ يمكن الرجوع إليها أثناء قراءته بقية الكتاب، والسرد الوارد هنا يستند إلى فكرة أن الدادائية والسريالية «مقترنتان» نوعا ما. لقد تكرر نموذج الدادائية-السريالية هذا على نحو متوقع في الثقافات الناطقة بالإنجليزية خلال القرن الماضي، وقد استخدم ليكون أساسا للدراسة التاريخية الكبيرة الأولى للحركتين الممثلة في معرض ألفريد بار، تحت عنوان «الفن الخيالي والدادائية والسريالية» بمتحف الفن الحديث، نيويورك، عام 1936. ولاحقا، استرشد بذلك النموذج كتاب مهم ألفه أمين آخر لمتحف الفن الحديث يدعى ويليام روبن بعنوان «فن الدادائية والسريالية» عام 1968. وتم ترسيخ ذلك النموذج بقدر أكبر في إعادة التقييم البحثية المهمة للحركتين المسماة «إعادة النظر في الدادائية والسريالية» بمعرض هايوورد، لندن عام 1978. ولكن، كيف تنسجم هاتان الحركتان معا بطبيعة الحال؟
قد يذهب البعض إلى أن «الدادائية والسريالية» كمفهوم مقترن ينم في حقيقته عن تحيز تاريخي للفرنسيين ، وحقيقة الأمر أنه من وجهة نظر أنصار الثقافة الألمانية الملتزمين، قد يبدو هذا المفهوم مضللا. وكما سنرى لاحقا، ربما تعد «التعبيرية والدادائية» وصفا تاريخيا صحيحا لأي شخص معني في المقام الأول بالثقافات الناطقة بالألمانية.
وللتصدي لهذا الاعتراض، علينا الإقرار بأن الحركتين كانتا دوليتين صراحة. وهناك شخصيات بعينها انتقلت حرفيا من الدادائية إلى السريالية، مثل بيكابيا وتزارا وإرنست وآرب، وتنقلت أيضا بحرية من ثقافة أوروبية إلى أخرى، وكانت ثنائية أو متعددة الألسنة. لأسباب سياسية، مقتت الدادائية والسريالية المشاعر القومية، ونزعتا إلى النظر إلى أنفسهما على اعتبار أنهما تخاطبان البشرية عموما، ولو أنه ينبغي ملاحظة أن الخطاب «التعميمي» للطليعية في أوائل القرن العشرين مشكوك فيه إلى حد كبير في أيامنا هذه، خاصة بسبب الاعتقاد بكون فرضيات أوروبية محددة «عالمية». ولكن، حقيقة الأمر أنه بسبب وجود نقلة واضحة وضوح الشمس - وإن كانت تدريجية - من الدادائية للسريالية حدثت في باريس؛ أمسى من المعتاد إنتاج نموذج للدادائية- السريالية استنادا لما حدث في باريس وحدها؛ حيث نشأت السريالية بشكل حتمي ك «مصير» للدادائية.
الواقع أن الدادائية لم تفض إلى أي شيء قريب من السريالية في ألمانيا نفسها؛ فتمشيا مع مدن ألمانية كبرى أخرى، كان هناك ميل نحو «الموضوعية الجديدة» في برلين وكولونيا في بداية العشرينيات. يمكننا أن نرى الفنان جورج جروتس قد استخدم عناصر من الواقعية المكثفة في الأعمال الدادائية الأخيرة، مثل «يوم رمادي» عام 1921؛ حيث نزع إلى هذا التوجه الجديد، لكن الموضوعية الجديدة لم تتقاطع مع السريالية إلا فيما ندر؛ فتوجهها خارجي لا «باطني» حيث تميل إلى السخرية الاجتماعية. والسمات التي تشترك فيها مع السريالية تتمثل في العناية بالواقعية المتصاعدة (استخدم النقاد الألمان اصطلاح «الواقعية السحرية»)، كما في أعمال بعينها لدالي وماجريت، وإعادة تقييم الرسم نفسه كنشاط. وإذا تعين علينا البحث عن شريك للدادائية في برلين، أو زيوريخ في هذا السياق، فسيتعين علينا أن نرتد على أعقابنا، إذا جاز التعبير، لا أن نمضي قدما وأن ندرس كيف تحالفت الدادائية عن قرب في هاتين المدينتين في بداية الأمر مع التعبيرية. باعتراف الجميع، كان هذا التحالف أغلب الظن سلبيا بالنسبة إلى كثير من أبناء برلين، لكن الأقنعة التعبيرية الأسلوب مثلا تجلت بشكل بارز في عروض دادائية زيوريخ، وعلى الرغم من أن عروض الأشعار المتزامنة وما شابهها بكباريه فولتير كانت إيذانا بانحراف واضح عن السوابق التعبيرية، فقد كانت عادة تلازم إنشادا للأغاني أو سردا للأشعار يستدعي الأسلوب الأقدم.
ثمة نقاط شبيهة متعلقة بالدادائية في نيويورك يمكن إثباتها؛ فقد استوعب الفنانون الأمريكيون أمثال مورتون شامبرج الأعمال الميكانيكية الساخرة لدوشامب وبيكابيا، إضافة إلى تقليد تصوير فوتوغرافي محلي مثله فنانون أمثال ألفريد شتيجليتس وبول ستراند احتفوا فيه عادة بالآلات. وأمست أيقنة الآلة عنصرا من عناصر الانطلاق باتجاه خلق فن «أمريكي» بشكل مميز بحلول العشرينيات، كما أمست توجها واقعيا أكثر صراحة بكثير نحو الآلات، كجزء من الاتجاه «التدقيقي» المزعوم الذي ساد في لوحات تشارلز شيلر مثلا، قبل أن يغادر دوشامب نيويورك عام 1923 بفترة طويلة.
ينبغي أن يكون واضحا من كل ما سبق أن «الدادائية والسريالية» ليست بأي حال من الأحوال تركيبة بديهية، لو وضعت التطورات في جميع المراكز المرتبطة بالدادائية في الاعتبار. وهي تشوه الدادائية إلى حد ما؛ فلو دققنا النظر إلى هذه التركيبة بوصفها بناء تأريخيا حتى، فلربما اعتبرت «الدادائية والسريالية» مبنية، مثلا، على معرض بار المذكور آنفا بمتحف الفن الحديث بنيويورك، أو نشر الدراسة المهمة للعالم الفرنسي ميشيل سانوليه المسماة «الدادائية في باريس»، التي ذهب فيها إلى أن السريالية هي الشكل الذي تبنته الدادائية في باريس. وكبديل لتلك الفكرة، يمكن أن ينظر إلى هذه التركيبة باعتبارها مبنية على عناصر جذب شخصية دولية مثل ماكس إرنست، الذي انتقل من كولونيا إلى باريس عام 1922، وربما أقام بذلك أقوى الجسور بين الدادائية الألمانية والسريالية الفرنسية.
ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة جدا للنظر إلى الحركتين جنبا إلى جنب؛ خاصة لأن همومهما يمكن عادة المقارنة بينها بطريقة موحية وكاشفة بشكل عجيب. وضعت الحركتان ضمن أولوياتها المبدأ الشعري، وقللتا من شأن مفهوم الفن؛ حيث دعمتا الأمنية الطليعية بالمزج ما بين الفن والحياة. وقدمت كل حركة منهما نفسها باعتبارها «دولية» في روحها، وكانت السريالية في مراحلها اللاحقة عالمية فعليا، كما كانت الحركتان غير عقلانيتين أساسا في توجهاتهما.
فيما وراء ذلك، ثمة أوجه اختلاف دقيقة ومهمة بين الحركتين؛ فقد كانت الدادائية لا سلطوية في روحها إلى حد كبير، وكان الذين يمسكون بتلابيبها ويحافظون على تماسكها، على الرغم من وهن أواصرها - وهم: بال، وهيولسنبك، وتزارا، وبيكابيا - متناقضين إلى حد كبير حيال ما هم بصدده؛ حيث عرفوا الدادائية باعتبارها توكيدية وهدامة في آن واحد. وفي المقابل، كانت السريالية المسيرة بالميول التنظيمية لأندريه بريتون «حركة» متكاملة الأركان بقدر أكبر، بمعنى أن اسمها يوحي بتوجه ما. كان الدادائيون غير معنيين إلى حد كبير بإنتاج أغراض فنية قابلة للبيع على نحو تقليدي، بينما تخصص الفنانون السرياليون أمثال دالي وماجريت في أساليب أكثر تقليدية وقابلية للبيع، ألا وهي الرسم بالزيت. وباعتراف الجميع، انتقد بريتون الانشغالات التجارية لفنانين بأعينهم، لكن السريالية ربما كان من السهل وصفها بال «رجعية» إذا أردنا الحكم عليها بمعايير مكافحة الروح التجارية الدادائية والإبداع الفني. كان الدادائيون متخبطين بشأن قيم العقل؛ حيث وجدوا العقلانية المبالغ فيها جزءا من سقوط الإنسان، لكن السرياليين، في كتاباتهم النظرية على الأقل، وظفوا سبلا عقلية جدا، بشكل فيه مفارقة، لتمحيص الظواهر اللاواعية.
بالطبع هذه تعميمات، وستظهر المقارنات التفصيلية من دراسات الحالة والنقاشات المركزة في الفصول التالية. إن منهجي على الدوام، كما سبق أن أكدت في المقدمة، سيعنى بدراسة الكيفية التي التقت بها الدادائية والسريالية أو تشعبتا حول مجموعة من الأفكار الرئيسية. لقد تفاديت الربط بينهما قدر الإمكان، لكنني مع ذلك وجدت تلك الأفكار تستقر في لحظة ثقافية مشتركة تحاصرها حربان عالميتان. ثمة شيء واحد ينبغي أن يكون واضحا من الموجزات التاريخية المذكورة أعلاه؛ ألا وهو التأكيد الذي أولته كلتا الحركتين لجذب الانتباه لهما باعتبارهما بنيتين طليعيتين. لقد ذكرت البيانات العامة، وتحولات الوجهات التي ألمحت إليها مقالات نشرت في دوريات، وأهمية العروض الحية، وما إلى ذلك. إن هذا التركيز على التعميم سمة بارزة للغاية لهاتين الحركتين، ومن ثم فهو يعد الأساس الفكري للفصل التالي.
الفصل الثاني
«الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
في قصيدة نشرت عام 1923، أكد رائد السريالية أندريه بريتون على إعلاء الحياة على الفن؛ حيث اختتم قصيدته قائلا: «وبما أن الكلمات أمست مشحونة/فالحياة أفضل.» رفض الكتاب والشعراء المرتبطون بالدادائية والسريالية إخضاع التجربة الحياتية للتجربة الفنية؛ ربما كانوا مثاليين أو سذجا إذ حاولوا التوفيق بين تلك المبادئ، لكن هذا هو مستوى الطموح الذي يميز الدادائية والسريالية باعتبارهما بنيتين ثقافيتين طليعيتين في جوهرهما. كيف نفذت إذن هاتان الحركتان إلى نسيج الحياة اليومية؟ وكيف حاولتا التسلل إلى العالم الذي يتجاوز المعارض الفنية؟ وكيف روجتا لأنفسهما؟
في هذا الفصل، سأركز على ميل الدادائيين والسرياليين إلى «العروض» - سواء أكانت عروضا عابرة في مكان مغمور، أم أحداثا عامة تحظى بالترويج المناسب - وقدرتهم على إقامة عروض مثيرة للألباب متى شاركوا في معارض فنية. وسأمعن النظر أيضا في دورياتهم واستخداماتهم للتصوير الفوتوغرافي.
بصرف النظر عن الكيفية التي طرحت بها كل من الدادائية والسريالية نفسها على العالم الخارجي، كيف تخيل المشاركون في تلك الحركتين علاقتهم بذلك العالم؛ أي علاقتهم بظاهرة الحداثة الاجتماعية؟ للمساعدة في تسليط الضوء على هذه المسألة، سأمعن النظر في علاقتهم بالثقافة الشعبية، وكيف استوعبوا المدينة نفسها، وبناء على السرد الأساسي السابق طرحه في الفصل السابق، سنركز على «لحظات» محورية بعينها بغية بناء مجموعة مصورة من «اللقطات» للدادائية والسريالية.
الأسقف الساحر ومعرض الدادائية
لنبدأ بإعادة بناء لحظة دادائية تأسيسية؛ لو كنا قد قمنا بزيارة لكباريه فولتير ليلة الثالث والعشرين من يونيو عام 1916، لوجدنا أنفسنا داخل غرفة تحوي مسرحا وبيانو وطاولات ومقاعد تسع حوالي 50 شخصا. وتوضح صورة فوتوغرافية للوحة فقدت الآن لمارسيل يانكو (انظر الشكل
1-1 ) أنه لم تكن هناك مسافة تقريبا بين المؤدين والجمهور. تؤكد روايات شهود العيان على الدخان الذي كان يملأ القاعة، وصخب الجمهور الذي كان قوامه طلبة ومفكرين اشتراكيين وهاربين من الحربية وصعاليك سكارى ، حيث كان الكباريه يقع في «منطقة الترفيه» في زيوريخ.
يحمل الشاعر الدادائي هوجو بال إلى خشبة المسرح، وبحسب مذكراته:
كانت قدماي داخل أسطوانة من الكرتون الأزرق اللامع بلغت وركي، فبدا شكلي أشبه بالمسلة ... وأعلاها ارتديت سترة ذات ياقة عالية مصنوعة من الكرتون، قرمزية من الداخل وذهبية اللون من الخارج ... وارتديت أيضا قبعة ساحر طويلة مخططة بالأزرق والأبيض.
وما أن استقر قبالة مجموعة من حوامل النوتات الموسيقية التي تحمل نصوصا مكتوبة بقلم رصاص، شرع يتحدث بطريقة خطابية وبشكل رسمي:
gadji beri bimba
glandridi lauli lonni cadori
gadjama bim beri glassala ...
كيف لنا أن نستجيب لذلك؟ ربما سخر الجمهور منه. وفي مناسبة أخرى، أهبهم بال إذ قال: «في هذه القصائد الصوتية، نشجب بالكامل اللغة التي أساءت الصحافة استغلالها ... يجب أن نرجع إلى الخيمياء الأعمق للكلمة.» وهو التصريح الذي يفسر نوعا ما العبثية المحضة لتعويذته. كان بال نفسه مرتبكا؛ وإذ وجد نفسه ينشد في مرحلة ما بأسلوب شعائري ينتكس به إلى طفولته الكاثوليكية، حمل بعيدا عن خشبة المسرح «وهو يتصبب عرقا وكأنه أسقف ساحر.» وبعدها بفترة وجيزة، تخلى بال عن الدادائية إلى الأبد؛ حيث كرس نفسه في نهاية المطاف إلى الدراسات الدينية.
بلغت عروض دادائية أخرى بكباريه فولتير ذروتها خلال تلك الفترة تقريبا؛ فقد أطلق الدادائيون - إذ بادروا بإعادة تمثيل الآثار الأليمة والمدمرة للحرب التي كانوا معارضين لها - قوى وجدوها هم أنفسهم مثيرة للزعزعة والاضطراب. وكنتيجة لذلك كانت هناك فترة ركود في تقدم الدادائية، من منتصف عام 1916 وحتى بداية عام 1917.
بعد ذلك، أمست دادائية زيوريخ تدريجيا «محترمة»؛ فالجماعة انتقلت إلى الضفة الأخرى لنهر ليمات، وأقامت سهرات في بنايات مدنية برجوازية لا تشوبها شائبة. وصف هيولسنبك في نهاية المطاف معرض الدادائية الذي استضاف عددا من الأحداث في قاعات أعلى محل سبرونجلي للحلويات؛ بأنه «صالون فنون جميلة لتدريم الأظافر، ترتاده سيدات عجائز يحتسين الشاي، ويحاولن إحياء قواهن الجنسية المتلاشية بمساعدة «شيء مجنون».» كانت رسوم الدخول عالية جدا، وثمة قائمة بالحضور. من الواضح استنادا إلى ذلك أن الدادائية، مهما اعتبرناها بوهيمية الطابع، أصبحت سريعا متماشية مع الأعراف البرجوازية. ويفيد السياق الأوسع، بطبيعة الحال ، أن الدادائيين وجدوا، من سخرية القدر، أنه من الضروري أن يستميلوا جمهورا مثقفا ليبراليا كي «يفهموا»؛ وهي مفارقة ستظل فكرة محورية متكررة طوال فترة النشاط الدادائية والسريالية الطليعية.
لقد نبعت الفضيحة الأولى للدادائية من أحداث حضرها قليل من الناس، ومن ثم استندت الدادائية من البداية إلى عملية صنع أساطير ذاتية. هناك طريقة أخرى روجت بها الجماعة لنفسها من البداية، وكان ذلك عبر منشورات الجماعة إبان صدور منشورات طليعية سابقة مثل المجلة المستقبلية الإيطالية «لاسيربا»، أو الدورية البريطانية الدوامية «بلاست». كان «كباريه فولتير»، المنشور الأول لجماعة زيوريخ، الذي صدر عام 1916، منشورا جادا نسبيا؛ حيث أورد نسخا لأعمال لشخصيات طليعية مرموقة أمثال بيكاسو، إضافة إلى أعمال الدادائيين، بل إن هذا المنشور صدر في طبعة فاخرة في قوالب خشبية أصلية. صدرت مجلة دادائية زيوريخ التالية، وسميت «الدادائية»، في الفترة بين عامي 1917 و1919، وكانت جريئة في تصميمها؛ حيث استغلت الخطوط الطباعية المتنافرة، خاصة في طبعتها الثالثة. وكانت تلك المجلة أيضا «دولية» الطابع بشكل توكيدي؛ حيث احتوت على أشعار لأتباع الدادائية من أماكن أخرى، مثل فرانسيس بيكابيا ولويس أراجون.
بعروضها الأسطورية بالكباريه، ومجلاتها المطبوعة يدويا في أجزاء منها، كانت دادائية زيوريخ، ولو إلى حد ما، «محلية الصنع»؛ وهي لم تبذل جهدا كبيرا في واقع الأمر من أجل تسخير تقنيات الدعاية الحديثة. يمكننا أن ننظر إلى معرض الدادائية التالي الذي أقيم في برلين، وسنرى العملية المعاكسة تماما تحدث.
هذا الحدث الذي تم تصميمه تأسيا، دون انضباط - وعلى نحو ينطوي على مفارقة شديدة - بمعرض تجاري، كانت له سابقة مشهورة في معرض الدادائية بكولونيا الذي أقيم في العشرين من أبريل عام 1920، وصمم بحيث يتسبب في أكبر قدر من الإزعاج لجمهوره؛ إذ دلف الناس إلى معرض كولونيا عبر مبولة عامة لقاعة الخمر، وفي افتتاح المعرض ألقت عليهم فتاة صغيرة ترتدي فستانا لأحد الكوميونات أشعارا فاضحة، وتضمنت الأعمال المعروضة منحوتة لماكس إرنست، وألحق بها فأس لتكسير المنحوتة. كان حدث برلين - الذي أقيم في معرض تجاري خلال الفترة من 30 يونيو إلى 25 أغسطس عام 1920، وعرف باسم «المعرض الدولي الأول للدادائية»، وحوى حوالي 200 عمل فني اتخذت شكل العديد من الوسائط - صداميا بالقدر نفسه، لكنه كان مبنيا من البداية تلبية لغاية الحصول على أكبر قدر من الدعاية. واستنسخت على نطاق واسع الصورة الفوتوغرافية الشهيرة الموجودة بالقاعة الرئيسية للمعرض (شكل
2-1 )، التي تضمنت زيا رسميا محشوا لضابط بروسي مثبتا عليه رأس خنزير ومعلقا في السقف؛ وتمثالا لعرض الأزياء من تصميم جورج جروتس وجون هارتفيلد، رأسه على هيئة مصباح مضيء. ونشرت الصحف على مستوى العالم - من باريس وحتى بينويس أيريس - مقالات تتناول الحدث.
شكل 2-1: عرض لمكونات معرض الدادائية الدولي الأول، برلين، يونيو 1920.
كان المعرض الدولي للدادائية، شأنه شأن كباريه فولتير، تجربة مثيرة للاضطراب بشدة. وكما يتضح من الصورة، تضمنت جدران المعرض تجميعات صورية لهاوسمن وأمثاله، ولوحات لجروتس وأوتو ديكس، لكنها تنافست على اهتمام الجمهور مع ملصقات تحمل شعارات مثل «الدادائية تميل إلى البروليتاريا الثورية»، و«كل إنسان يستطيع أن يتبنى الدادائية»، و«مات الفن: فليحي عصر فن الآلة الجديد لتاتلين». كان من الصعب على المشاهد الفصل بين الفن (المناقض) المعروض والحاجز الجدلي؛ وبالطبع هذا هو تحديدا الأثر المنشود. إن الشعار الداعم لتاتلين كاشف تحديدا عن الاستراتيجية الكلية لجماعة برلين؛ فقد كان تاتلين - الشخصية الرائدة البارزة في البنائية الروسية الذي لم يعرفوا أعماله كلها - يعتبر تجسيدا لاتجاه مادي جديد للفن، ومن ثم جاء تناقض الروحانية الزائفة الممثلة بالنسبة إليهم في جيل التعبيرية. لكن النقطة المحورية المتعلقة بهذا الحدث هو أن الشعارات التي رفعها كشفت عن وعي دادائيي برلين بالقوة المتزايدة للإعلان في الحياة اليومية؛ فبدلا من النأي عن عمليات العالم التجاري، سلبوه استراتيجياته لنشر رسالتهم.
المحاكمة الصورية وشارع تماثيل عرض الأزياء
حمل نوعا تجليات الدادائية اللذان تعرضنا لهما - الدادائية «المحلية الصنع» ولكن السريعة التحول إلى أسطورة، والدادائية الأخرى الميالة بشكل واضح نحو الدعاية الجماهيرية - معالم رغبة الحركة في الإطاحة بالقيم الحالية أو إحداث ثورة فيها. وبالالتفات إلى حدثين آخرين مناظرين - أحدهما سريالي بدائي، والآخر سريالي متكامل الأركان - سيسهل علينا تحديد بعض الفروق المحورية بين الدادائية والسريالية. يكشف الحدث الأول عن التحول من الدادائية إلى السريالية، الذي وقع في باريس كجزء من «الحركة الغامضة» خلال الفترة بين عامي 1921 و1924.
في الثالث عشر من مايو عام 1921، شارك أندريه بريتون ومجموعة من حلفاء الدادائية، إضافة إلى عدد من الشخصيات الأدبية والسياسية، في «محاكمة صورية» عجيبة، أقيمت لاختبار مدى إيمان بريتون بأن موريس بارس، المؤلف اليميني المشهور، مدان ب «جرائم ضد أمن العقل». بالنظر إلى صورة فوتوغرافية للحدث، يمكننا أن نرى أنه كان ينطوي على درجة من العبثية اللحظية. ارتدى الدادائيون أنفسهم لباس المحكمة العليا بشكل متقن، بينما مثل بارس - الذي لم يتنازل ويدافع عن نفسه - على هيئة دمية. وعلى الرغم من ذلك، كان الحدث مصمما بعناية وهادئا في نبرته؛ حيث تخلى عن عفوية التجليات الدادائية السابقة مثل كباريه فولتير السابقة مناقشته.
من عدة أوجه، صورت المحاكمة من البداية على اعتبار أنها «بيان موقف» من جانب بريتون، علاوة على كونها فرصة للتصوير (وهي الاستراتيجية التي سنناقشها لاحقا). دفع قليل من الناس رسما لقاء حضور المحاكمة، لكن التركيز كان موزعا بالتساوي على المشاركين ووجهات نظرهم الأيديولوجية. جدير بالذكر أن المشاركين لم يكونوا أتباع الدادائية فحسب، بل إنهم دعوا «شهودا» لحضور الحدث، وتراوح الشهود ما بين الروائية القومية راشيلد وجورج بيوش، وهو الشيوعي الذي دافع عن المجرمين السياسيين في المحاكم. عقد الاجتماع في بنايات سبق أن استخدمها نادي فوبورج، وهو عبارة عن جمعية لتطوير الخطابة الارتجالية تأسست خلال الثورة الفرنسية، ودعي للاجتماع لفيف من الشخصيات العامة البارزة لمناقشة الأمور السياسية قبل إقامة تلك المحاكمة البوهيمية. (في مرة من المرات، حرض اجتماع للنادي على الهجوم على سجن الباستيل.)
آمن بريتون وزملاؤه «القضاة» بأن بارس - الذي أعجب به تحديدا أراجون ذات مرة - خان التزامه نحو الضمير الفردي الواضح في رواياته في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر؛ وبذلك فقد استسلم إلى التحول إلى اليمين في السياسة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى ؛ ولذا استغل بريتون المحفل الدادائي لا للتشتيت ولكن للتمحيص في مجموعة متجانسة من الأفكار، ولو أنها أفكار تعدت بشدة على الاهتمام الوليد للجماعة السريالية بحقوق الهجرة. كان هذا الحدث أيضا تمرينا على السياسة الثقافية. ومما أثار ازدراء تريستان تزارا، الذي أصيب بالذعر من أن الدادائية يمكن أن تتبنى موقفا انتقاديا؛ أن بريتون يمهد للانتقال إلى برنامج طليعي متكامل، وهي العملية التي ستفضي في نهاية المطاف إلى انعقاد «مؤتمر باريس»، السالف ذكره في الفصل الأول، ومنه إلى السريالية.
شكل 2-2: صورة فوتوغرافية للمحاكمة الصورية لموريس بارس في 13 مايو 1921. من اليسار إلى اليمين: لويس أراجون، شخص مجهول الهوية، أندريه بريتون، تريستان تزارا، فيليب سوبو، ثيودور فرانكل، الدمية التي تمثل بارس، جورج ريبيمون-دوسينييه، بنجامين بيريه، وغيرهم من رفاقهم في الدادائية.
إذا كانت «المحاكمة الصورية» السريالية البدائية ترتبط بعلاقة متنافرة بعفوية كباريه فولتير الدادائي، فثمة حدث أكثر حداثة، وهو هذه المرة معرض للحركة السريالية المتكاملة الأركان، يقدم لنا تباينا صارخا مع معرض الدادائية الذي أقيم في برلين. إجمالا، كانت تجهيزات المعارض تقليدية إلى حد كبير في السنوات الأولى للسريالية، ولم تشرع الجماعة في تجربة تصميم المعرض كما فعل الدادائيون، إلا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر - إلى حد كبير بغية استعراض دولية الحركة. وكان المعرض الدولي للسريالية، الذي عقد في معرض جورج ويلدينشتاين للفنون الجميلة بباريس عام 1938، نقطة تحول محورية.
التمس بريتون مواهب الدادائي السابق مارسيل دوشامب لتجهير هذا المعرض، وأصدر دوشامب أوامره بتعليق 1200 كيس من الفحم المغبر المحشو بالصحف بشكل مشئوم، أعلى المساحة الرئيسية للمعرض التي أضيئت بواسطة مبخرة مشتعلة فحسب؛ ومن ثم كان من الصعب رؤية الأعمال المعروضة، وفي الافتتاح تم تزويد الزائرين بمصابيح كاشفة. وعزز من الجانب الليلي لمساحة العرض وجود سريرين ضخمين؛ كل واحد منهما في زاوية من زوايا القاعة.
كانت هناك نقاط مضيئة دراماتيكية أخرى؛ ففي فناء البناية، استطاع الزائرون أن يختلسوا النظر إلى عمل سلفادور دالي «سيارة أجرة مطيرة»، ليجدوا أمام أعينهم تمثال عرض أزياء على هيئة أنثى شبه عارية تعج بالحلزونات، وتستقر على المقعد الخلفي في شلال من الماء. وعندما يدلف الزائرون إلى المعرض، يضطرون إلى المشي بطول «شارع تماثيل عرض الأزياء»، ومن ثم يسمح لهم افتراضيا «بالاختيار» من بين 16 تمثال عرض أزياء، كل منها يرتدي زيا مثيرا جنسيا، يفهم منه أنها ل «بائعات هوى»، وأن كلا منها نتاج خيالات فنان سريالي مختلف.
شكل 2-3: عرض لتجهيزات المعرض الدولي للسريالية بمعرض الفنون الجميلة بباريس، 1938.
تتباين هذه المؤثرات تباينا شاسعا عن تلك التي استخدمها دادائيو برلين بمعرضهم. كلتا الجماعتين شرعتا في بث الاضطراب والتشويش، لكن السرياليين كانوا كما هو واضح معنيين بإغراءات فانتازيا اللاوعي بدلا من الصدمات المادية التي يفضلها الدادائيون. من الواضح أن الأحلام كانت تستدعيها الزخارف الليلية للقاعة الرئيسية للمعرض المقام عام 1938، بينما استثار «شارع تماثيل عرض الأزياء» حلم يقظة مثيرا جنسيا بطريقة غريبة على الغرائز الساخرة الدادائية. وشأنهم شأن الدادائيين، استغل السرياليون ديكور المعرض كوسيلة لاستقطاب الدعاية، لكن انشغالهم بعالم الأزياء تجاوز إلى حد كبير انشغال أسلافهم؛ فقد استعيرت تماثيل عرض الأزياء مثلا من بيوت أزياء رائدة، ولم يكن من قبيل المصادفة أن شرع سلفادور دالي في التعاون مع إلسا شياباريللي في العام السابق فيما يختص بتصميم الأزياء. وفي الوقت الذي سخر فيه الدادائيون من التجارة بمعرض الدادائية، يمكننا أن نرى أن السرياليين متواطئون معها نوعا ما. وباعتراف الجميع، ارتبط ذلك ارتباطا وطيدا بالشكل الدولي الذي كانوا مصرين على ترسيخه؛ حيث أقيم معرضان سرياليان دوليان في براغ ولندن عامي 1935 و1936 على الترتيب؛ وحقيقة الأمر أن معرض الدادائية ببرلين يكاد يبدو ضيق الأفق بالمقارنة. ولكن، إلى حد ما، خاطر السرياليون «ببيع» منتجاتهم للعالم التجاري. لو كانت «المحاكمة الصورية» التي عقدت عام 1921 استعراضا للحزم الأيديولوجي للجماعة، فقد كشف المعرض الذي أقيم عام 1938 كيف أن نزعته إلى الدعاية يمكن أن تهدد آراءها السياسية، وستظهر هذه الفكرة مجددا لاحقا.
أن تكون دادائيا، وأن تكون سرياليا
إلى الآن، استعرضنا الأحداث، فلنتحول بعد ذلك إلى الأشخاص أنفسهم. لو أن المبادئ الدادائية والسريالية روجت بأقوى نزعة استراتيجية ممكنة في عروضهم ومعارضهم، وغالبا مع الوضع في الاعتبار الممارسات التجارية، فإلى أي مدى انصب تركيز شعراء وفناني الحركتين على بناء السمعة الشخصية؟ علام كان ينطوي كون المرء دادائيا أو سرياليا؟
إننا نميل بشكل عام للنظر إلى الدادائية والسريالية باعتبارهما مترادفتين تسلكان سلوكا عجيبا، وهناك العديد من الأمثلة داخل الدادائية تحديدا تدعم هذه الفكرة، ولعل أقوى الروايات تلك المتعلقة بآرثر كرافان. ولد كرافان في سويسرا عام 1887، وكان ابن أخت أوسكار وايلد، وعاش عيشة الترحال في العديد من الأماكن الأوروبية. في باريس، بين عامي 1912 و1915، نشر مجلة أدبية فاحشة بعنوان «الآن»، وكرسها لإهانة أعضاء حركة الطليعية الفنية، وبحلول عام 1916، ارتحل إلى برشلونة حيث تحدى بطل العالم في الملاكمة في الوزن الثقيل جاك جونسون للقتال. كان كرافان ببنيته القوية ملاكما هاويا، واعتاد أن يعلن عن نفسه قبل اشتباكاته بقائمة لا يصدقها عقل من بيانات الاعتماد على غرار: «لص الفنادق، والداهية، والحاوي، والسائق»، وغير ذلك من الأسماء؛ وأيا كانت مؤهلاته، لم يكن أهلا لجونسون الذي أطاح به في الجولة السادسة. ومن غير المدهش أن الدادائي فرانسيس بيكابيا، الذي كان بصدد نشر دوريته «391» أثناء تجواله في برشلونة، أمسى مؤيدا متحمسا لكرافان. وعندما ظهر كرافان عام 1917 في أمريكا، طلب إليه مارسيل دوشامب أن يلقي محاضرة أمام «جمعية الفنانين المستقلين» (التي سنتناولها بإسهاب لاحقا). قدم كرافان عرضا دادائيا ملائما؛ حيث وصل سكران، وخلع ملابسه، وأخيرا اعتقلته شرطة نيويورك، بعد ذلك اختفى كليا عام 1918، وساقته شهوة حب السفر والتجوال إلى المكسيك؛ حيث من المعتقد أنه انطلق في قارب تجديف إلى بوينس آيريس، ولم يره أحد بعدها قط.
إن إقدام كرافان على ارتكاب شكل رمزي من أشكال الانتحار الدادائي من عدمه، يظل أمرا مفتوحا للنقاش، لكن ازدراءه للتقاليد ضمن له الشهرة الباقية. ومن هذا المنطلق، فإنه يجسد المعتقد الدادائي بأن أسلوب حياة المرء يمكن بحد ذاته أن يكون بمنزلة فئة من فئات الدادائية. من بين الخصال الدادائية الجوهرية في شخصية كرافان ولعه بالهويات الزائفة (كلص الفندق، وما إلى ذلك)، وكثيرا ما ابتكر المشاركون في الحركة أسماء مستعارة لأنفسهم؛ ففي برلين، عرف ريتشاد هيولسنبك ب «الدادائي العالمي»، وراءول هاوسمن باسم «دادازوف»، وأطلق يوهانس بادر على نفسه اسم «الدادائي الخارق». طور بادر بشكل عارض نزعته المتسمة بجنون العظمة إلى ذروة ساخرة تنافس كرافان من حيث تبجحه المحض؛ ففي فبراير 1919، بعد أن أعلن نفسه في السابق «رئيسا للكرة الأرضية» في بيان دادائي، عطل الاجتماع الافتتاحي للجمعية الوطنية في فايمار، حيث طالب بتسليم الحكومة إلى الدادائيين. وفي مكان أبعد، أمسى ماكس إرنست في كولونيا «داداماكس»، بينما طلب دوشامب في نيويورك من مان راي تصويره فوتوغرافيا وهو يرتدي ملابس نسائية عصرية، مجسدا شخصية روز سيلافي الغامضة، في تورية تفتقر إلى الجانب الفني عمدا إذا نطق الاسم بالفرنسية؛ حيث يعني «إيروس هذه هي الحياة».
بابتكارهم شخوصا بديلة، ألمح الدادائيون إلى أن الهوية ليست ثابتة، وأنها في حالة تقلب باستمرار؛ لقد شككوا ضمنا في فكرة أن الشخصية البشرية ذات جوهر ثابت أو «طبيعة بشرية» جوهرية، وهي الفكرة التي تعد في حد ذاتها جزءا من الأيديولوجية البرجوازية، وامتدت هذه الفكرة بقدر أكبر في التقلبات الجنسية لدوشامب، بحيث ألقي بظلال الشك على فكرة أن الهوية الجنسية يحددها علم البيولوجيا. وفي سياق نقاشنا المتعلق ب «صورة» الفنان، يوحي ذلك بأن الصورة المحكمة أو المحدودة كانت تحديدا شيئا يتفاداه الدادائيون؛ ولذا فقد أعجبوا بالمواقف الاجتماعية الفاضحة لشخصية مثل كرافان. وكما تجلى لنا من معرض الدادائية ببرلين، يتضح أنهم كانوا متأرجحين حيال هوس العصر الحديث بالدعاية والعروض العامة؛ حيث أيدوها وقللوا من شأنها في آن واحد.
وبالالتفات إلى الشخصيات العامة للفنانين السرياليين، فمن المدهش - ما إذا نظرنا إلى الانشغالات التحليلية النفسية للحركة - أن الهويات البديلة كانت متبناة على نطاق أضيق. كانت الشخصية البديلة لماكس إرنست «الطائر الفائق» لوبلوب استثناء واضحا. لقد فضل الفنانون عموما الاستعراض الخارجي على الإذعان، وامتد ذلك إلى إعادة توكيد لقواعد السلوك الراقية المتأنقة لأواخر القرن التاسع عشر، التي كان يعتبر الاستعراض المفرط بموجبها بذيئا. ارتدى العديد من السرياليين الرواد النظارة المتأنقة المخصصة لعين واحدة (وكذا الكثير من الدادائيين)، بينما كبت الرسام البلجيكي ماجريت علانية أي دلالة على نفسه واسعة الخيال بتبنيه القبعة المستديرة السوداء وشمسية نبلاء المدينة. وعندما انغمس السرياليون في افتنانهم بالملابس الفاخرة أو التحولات المثيرة للاضطراب للهوية، فعلوا ذلك عادة في السياق المقبول اجتماعيا للحفلات التنكرية للطبقات الأرستقراطية. وهناك بعض الصور الفوتوغرافية التي لا تنسى لماكس إرنست، على سبيل المثال، وهو متقمص شخصية لوبلوب في محفل عام 1958؛ وكان سلفادور دالي الاستثناء الواضح لهذه القاعدة.
إن حب الظهور الصارخ لدالي - الممثل رمزيا بشاربه المعقوف الذائع الصيت - سيئ السمعة، ولكن ظاهرة دالي تستدعي المزيد من العناية تحديدا؛ لأن طلاب الحداثة يجدون ترويج الفنان لذاته أمرا مزعجا جدا. لقد مثل دالي صعوبات للسرياليين أنفسهم، وكان يحظى بقبول أندريه بريتون الكامل فحسب خلال فترة ما بين عامي 1929 و1934، وبعدها تميزت العلاقة بين الاثنين بالجفاء إلى حد كبير؛ فقد استهان دالي بالبروتوكولات الأيديولوجية للسريالية؛ وبمرور ثلاثينيات القرن العشرين، أيد دالي المشاعر الملكية والفاشية على حد سواء. نما لديه أيضا ولع فطري بالفن الهابط؛ حيث أمسى منبهرا بالتجليات الأكثر تجاوزا للفن الحديث، وكتب مقالة مبتكرة في الدورية السريالية «المينوتور» عام 1933 عن المصنوعات الحديدية الفنية الشبيهة بالنباتات اللولبية لمداخل هيكتور جومرد لمترو باريس. صممت لوحاته الصاخبة الألوان المنفذة باستعراض من البداية بحيث تكون معادية للجمالية، ووصفها بأنها «تصوير فوتوغرافي بألوان لحظية أنجزته يد المصور الرقيقة والمسرفة ... والفائقة التصوير واللدونة والمضللة والمفرطة السوء والواهنة للاعقلانية الملموسة.»
إن هوس دالي المستمر بنفسه، وعشقه لكل ما هو غير لائق سياسيا وغامض بشكل جمالي؛ يمكن أن ينظر إليه كقرار مقصود بأن يلعب دور السوقي في عيني أندريه بريتون. وقد حدث أن أعاد السريالي الرائد بريتون ترتيب أحرف اسم دالي فأصبح «أفيدا دولارز» (بمعنى «الساعي وراء المال»)؛ حيث أظهر دالي في المرحلة اللاحقة كل الدوافع التجارية التي أنكرتها السريالية الرسمية. ومع ذلك، كما أوحينا أعلاه، بحلول عروضها العامة أواخر الثلاثينيات، أمست السريالية مرتبطة بالرأسمالية، ولو بشكل غير مريح، وأقر دالي ببساطة بتلك الحقيقة. لم يستحي السرياليون أيضا من إدراك قيمة دالي كوسيلة للدعاية والإعلان، ومن ثم جاء حضوره لمعرض عام 1938، في الوقت الذي كان فيه يفقد حظوته لديهم رسميا. لقد كانت عبقرية دالي في الذوق السيئ هي التي استخلصت من جورج أورويل واحدا من ردود الأفعال الأدبية القليلة تجاه السريالية خلال الثلاثينيات. وعلى الرغم من أن أورويل قرر أن دالي كان «معاديا للمجتمع معاداة البرغوث له»، وأن أعماله «مريضة وباعثة على الاشمئزاز»، فإن أورويل انشغل بالتحدي الأخلاقي لتلك الأعمال باعتبارها شكلا من أشكال الفن. ويجوز أن نستنبط من ذلك أن دالي وحده من بين السرياليين صاغ لنفسه صورة عامة تتسق مع معايير الدادائية الخاصة باللاعقلانية.
انتشار فكر دوشامب: مراجعات الدادائية
درسنا كيف عمد الدادائيون والسرياليون بمثابرة إلى تطوير سمعتهم، ولكن كيف أمست تلك السمعة راسخة تحديدا؟ على أي حال، كان جمهور الفن الطليعي آنذاك محدودا. في نهاية دورة حياة أول دورية سريالية - كانت تعرف باسم «الثورة السريالية»، واستمرت لخمس سنوات - بلغ عدد المشتركين فيها ألف مشترك فحسب، وكان من المستحيل أن يكون جمهور السريالية أكبر بكثير.
في حالة دالي، انتشرت أنباء أنشطته غير العادية بسرعة؛ ففي المعرض الدولي للسريالية بلندن عام 1936 على سبيل المثال، ارتدى دالي لباسا لغواصي أعماق البحار، فلفت انتباه الكثيرين، لكن السمعة تبنى غالبا بسبل أكثر دهاء. يعد اسم دوشامب مرادفا لبعض الأعمال المتمردة للدادائية والسريالية، وعلى الرغم من ذلك فإن الرجل نفسه كان عاشقا للخصوصية وغامضا (عن عمد)؛ كيف إذن أمست طائفة دوشامب راسخة؟
ثمة رواية مختصرة وردت عن إنكار مبولة دوشامب ورفضها بمعرض الفنانين المستقلين بنيويورك في أبريل عام 1917. بعد شهر من المعرض، ظهرت دورية دادائية بدائية صغيرة بعنوان «الأعمى»، واحتوت على صورة فوتوغرافية للغرض المثير للحفيظة، ومقالة موجزة لكاتب مجهول، تتبنى أسلوبا غاضبا زائفا، استجابة لإنكار المبولة ودفاعا ضد تهمة انتحال الملكية المفترضة:
ليس من المهم معرفة ما إذا كان السيد مات قد صنع النافورة بيديه أم لا، المهم أنه اختارها؛ فقد اختار غرضا حياتيا عاديا، ووضعه بحيث ذوت أهميته النافعة تحت العنوان الجديد ووجهة النظر الجديدة، وابتكر فكرة جديدة لذاك الغرض.
لا شك أن دوشامب كان وراء هذه المقالة - لعله أقنع إحدى صديقاته، ربما بياتريس وود، بكتابتها - ما دام أنها تقدم المبرر الفلسفي لأعماله الفنية «الجاهزة» (الأمر الذي سنسهب في مناقشته في الفصل الثالث). لكن السبب الأكثر إلحاحا لهذه المقالة كان يكمن في إثارة الجدل الذي لم يكن ليثار لولاها؛ فالأحداث الفعلية المحيطة بإنكار «النافورة» غير معلومة تقريبا، وحتى الغرض الأصلي يبدو أنه قد اختفى في مرحلة ما أثناء معرض الفنانين المستقلين. وسبب تحوله إلى أيقونة دادائية يرجع إلى الصورة الفوتوغرافية التي ظهرت بدورية «الأعمى» التي التقطها المصور الحداثي ألفريد شتيجليتس (شكل
1-2 )، ولو أن دوشامب - في مرحلة لاحقة من حياته - طلب، بطريقة يشوبها الضيق، إنتاج «نسخ» من تلك الصورة.
كل ذلك يؤكد إلى أي مدى كانت «النافورة» و«الفضيحة» التي ارتبطت بها شأنين مدبرين. وفي الوقت نفسه، تسلط تلك الواقعة الضوء على فكرة تستحق الآن أن تحظى بأهمية محورية؛ ألا وهي الطريقة التي كانت تعمل بها المنشورات الدادائية والسريالية.
كانت دورية «الأعمى» واحدة من أوائل سيل مفاجئ من الدوريات التي نشرها الدادائيون في المواقع المختلفة للحركة، والأرجح أن أكثر تلك الدوريات وأوسعها أثرا، وأطولها عمرا، هي دورية فرانسيس بيكابيا «391»، التي نشرها بشكل متقطع خلال فترة ما بين عامي 1917 و1924، من أي مكان صادف أن كان فيه، سواء أكان برشلونة أم نيويورك أم باريس. أوحى اسم الدورية بنوع من التطور الثوري من مجلة المصور الأمريكي ألفريد شتيجليتس السابقة والمسماة «291»، والتي سميت بهذا الاسم تيمنا بعنوان معرضه بالشارع الخامس في نيويورك.
في عدد صدر عام 1920 من دورية «391»، أسهم بيكابيا بقدر أكبر في نشر أسطورة دوشامب؛ فقد انتقى موناليزا دوشامب المستفزة المناوئة للفن، وهي اللوحة «الجاهزة الصنع» التي استعرضها عام 1919، وهي عبارة عن موناليزا مطبوعة ومضاف إليها شارب ولحية، ونسخها بيكابيا (دون اللحية التي من الواضح أنه غفل عنها ) فأمست قريبة الشبه جدا بنسخة للوحة من لوحاته الخاصة قوامها حبر مرشوش ، وعنوانها «العذراء المقدسة»، وبذلك تأكدت سمعة العملين السيئة. وفي أكتوبر عام 1922، في صفحات مجلة دادائية أخرى تعرف باسم «الأدب»، وهي لسان جماعة باريس، عززت من أسطورة دوشامب مقالة رئيسية أخرى عنه بقلم أندريه بريتون؛ وهنا أعطى بريتون دفعة لمفهوم دوشامب الذهني الأكثر عناية باللفتات والإيحاءات من خلق أعمال فنية، الأمر الذي من شأنه أن يؤمن له سمعته بين أعضاء الجماعة السريالية الوليدة: «هل يحتمل أن مارسيل دوشامب يصل إلى النقطة الحرجة للأفكار أسرع من غيره؟»
من الواضح أن أسطورة دوشامب بنيت من خلال المجلات والصور الغامضة بقدر ما استندت إلى عرض إنتاجه الشحيح نسبيا؛ فهو لم يقم معرضا مناسبا لأعماله وحدها سوى معرضه الاستعادي عام 1963. وحتى سمعة أعظم أعماله «عروس جردها عزابها من ثيابها» اعتمدت في تشكلها على توصيفات تقديرية وتعليقات عارضة في الدوريات السريالية، وأبرزها مقالة بريتون «منارة العروس» المنشورة بالدورية السريالية «المينوتور» عام 1934-1935، بدلا من أن تعول على مشاهدة الجمهور للعمل الفني فعلا. إن مسألة كيفية تخطيط دوشامب نفسه لبناء سمعته مدهشة، ولكن لا يسعنا مناقشتها هنا، ومن الواضح أن بنية النشر التحتية للدادائية بذلت أغلب الجهود نيابة عنه. ولكن، من الضروري الآن أن نتعقب طريقة عمل الدوريات من السياق الدادائي وصولا للسياق السريالي لاستكشاف نقاط الاتصال وأوجه الاختلاف بقدر أكبر بين الحركتين. لقد كانت للدوريات أهمية أكبر للسريالية من الدادائية؛ وبالمثل، إذا كان التصوير الفوتوغرافي قد لعب دورا مهما في الترويج لدوشامب، كما رأينا في حالة «النافورة»، فقد أمسى أداة محورية مطلقا في المنشورات السريالية.
إهانة رجال الدين في الشارع وفرص التصوير الفوتوغرافي الأخرى: المراجعات السريالية
تحوي نسخة من الدورية السريالية «الثورة السريالية» الصادرة في ديسمبر 1926 صورة فوتوغرافية حميدة في ظاهرها لحوار بين شخصين، وثمة تعليق جذاب مطبوع تحتها «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين» (شكل
2-4 ).
شكل 2-4: «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين.» نسخت الصورة في دورية «الثورة السريالية»، العدد الثامن (ديسمبر، 1926).
تبدو الصورة وثيقة فوتوغرافية عارضة وجامدة، لكنها محاطة بقصائد للشاعر السريالي بنجامين بيريه، تسخر واحدة منها من «مؤتمر شيكاجو القرباني» الذي «يسارع فيه الجميع نحو الفضلات الإلهية والبصاق المقدس.» والجلي أن الصورة، بدلا من أن تكون لقطة عابرة، تمثل مشهدا مفصلا الغرض منه تعزيز الرسالة التجديفية للقصيدة. والحقيقة أنها تسجل ضربا من «الحدث الأدائي»؛ فمن الواضح أن ثمة صديقا لبيريه على مقربة منه لتصوير تصرفه.
وهذا مثال جيد على الطريقة التي يتم بها توظيف التصوير الفوتوغرافي في المجلات السريالية. كانت الدوريات الرئيسية المعنية هي: «الثورة السريالية» (1924-1929)، و«السريالية في خدمة الثورة» (1930-1933)، و«المينوتور» (1933-1939)، وإن كنت سأشير كذلك طوال هذا الكتاب إلى دورية «وثائق» (1929-1930) التي تعد لسان السرياليين المنشقين الذين أحاطوا بجورج باتاي. ترواحت ضروب الصور الفوتوغرافية التي وظفتها تلك الدوريات ما بين الصور الفوتوغرافية المظهرة في الاستوديو، التي يلتقطها مصورون سرياليون أمثال مان راي أو جيه-إيه بويفارد، والصور المستولى عليها ببساطة من مصادر أخرى. كانت هذه الصور توضع في سياق المقالات العلمية، والمقالات الأدبية، وروايات الأحلام، وما إلى ذلك، وكثيرا ما كانت تتنافس على نيل الاهتمام مع النسخ المطابقة للأصل من اللوحات السريالية. وكان تصميم المجلات أكثر جدية من الدوريات الدادائية مثل دورية بيكابيا «391» التي جربت بحرية العديد من الخطوط الطباعية. والواقع أن النموذج الذي احتذت به دورية «الثورة» هو دورية «الطبيعة»، وهي دورية علمية جادة بالقرن التاسع عشر.
لقد أعلن السرياليون باستخدامهم أسلوبا تقديميا «جافا» جعل أغراضا كالصور الفوتوغرافية تظهر كأنها وثائق أو أدلة مادية؛ عن التزامهم بمشروع استقصائي، ومحاولة منظمة للتمحيص في حظ الإنسان في مواجهة «مبدأ الواقع»؛ ولذا ينبغي أن تفهم الدوريات باعتبارها المكامن المميزة للأيديولوجية السريالية.
شكل 2-5: غلاف دورية «الثورة السريالية»، العدد الأول (1924).
في حالة صورة بيريه، من الواضح أن الصورة ارتبطت بمناوأة السرياليين الشديدة للكاثوليكية؛ فكثير منهم نشأ بحسب تعاليم الدين، وعلاوة على معارضة نزعته الأخلاقية، فقد أصيبوا بالفزع بسبب الحلف الذي تشكل في أوائل العشرينيات بين أحزاب اليمين السياسي والمؤسسات الكاثوليكية في فرنسا، بداية تحت مظلة حكومة «كتلة وطنية»، ومن بعدها - تحديدا منذ عام 1924 - تحت لواء حلف حاكم بين الراديكاليين والاشتراكيين. ومما أثار حنقهم أكثر من غيره التوجه المؤيد للكاثوليكية بين المفكرين الفرنسيين في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وفيهم رموز أمثال جان كوكتو. وموقفهم من هذا التوجه مسجل في صورة على غلاف عدد يونيو 1926 من دورية «الثورة السريالية»، وفيها يتجلى جمع من الناس يتطلعون إلى السماء، وسميت ب «الهدايات الأخيرة». والواقع أن الصورة اقتبست من مصور مغمور آنذاك ومشهور حاليا يدعى يوجين أتجيت، وهو متخصص في السجلات الوثائقية لباريس، «اكتشفه» مان راي في كبره إذ كان يعيش على مقربة منه. وكانت صورة أتجيت التي التقطت عام 1912 ببساطة سجلا لخسوف، لكن السرياليين، كما هي عادتهم، أعادوا استثمار الصورة بمعانيهم الخاصة.
من الواضح أن التصوير الفوتوغرافي أسلوب وظفه السرياليون للتشديد على رسائل سياسية أو اجتماعية، وهناك حالة لافتة للنظر تحديدا أعيد فيها تخصيص صورة، ولكنها لم تكن حتى من مصدر معلوم؛ فكانت الصورة تتألف ببساطة من صورتين فوتوغرافيتين مجهولتين للشقيقتين بابين تسميان «قبل» و«بعد»، وأعيد نشرهما في دورية «السريالية في خدمة الثورة» في مايو 1933.
لقد ارتكبت الشقيقتان واحدة من أبشع الجرائم التي وقعت في أوائل الثلاثينيات بباريس وأكثرها إثارة للجدل، وقد سرد نص نشر في الدورية السريالية نفسها، وتحديدا في قسم مخصص ل «القصص الإخبارية» أو الأخبار الغريبة، كيف نمت لدى هاتين الشابتين البرجوازيتين بشكل لا يداخله شك - بعد أن أودعتهما أمهما للخدمة ببيت من البيوت المحترمة بمدينة لومان - كراهية شديدة لربتي عملهما، فانتهى بهما الأمر إلى قتلهما بدقة طقسية؛ حيث اقتلعتا أعينهما وهشمتا رأسيهما.
شكل 2-6: «الشقيقتان بابين: قبل وبعد»، من دورية «السريالية في خدمة الثورة»، العدد الخامس، (مايو 1933).
على مستوى واحد، ناظرت الصورة المزدوجة للشقيقتين - التي سجلت تحولا مذهلا في ملامحهما - افتنان السرياليين ب «الجمال الاختلاجي»؛ وهو ضرب من الصدمات الفعلية فيما يتعلق بالظواهر البصرية الاستثنائية. وعلى الرغم من ذلك، تعاطف السرياليون أيضا مع ردة الفعل العنيفة تجاه الاسترقاق الممثل في الفعل الذي أقدمت عليه الشقيقتان. وإذ آمن السرياليون بأن الأخلاق المقبولة عادة ما تساعد في التستر على الجبن الأخلاقي، فقد وقروا المجرمين في حالات أخرى؛ ففي العدد الأول نفسه من دورية «الثورة السريالية»، على سبيل المثال، وضعوا لقطات فوتوغرافية مقربة لأنفسهم حول صورة لجيرمين بريتون، اللاسلطوية التي اغتالت ماريوس بلاتو، قائد إحدى المنظمات اليمينية المتطرفة. وبهذا استدعت صورة الشقيقتين بابين نطاقا كاملا من المشاغل السريالية (وكذلك الدادائية) المرتكزة حول العلاقات بين الإجرام والأخلاق.
وإذ استخدم السرياليون الصور، إلى جوار النصوص، في دورياتهم، فقد أقاموا علاقة معقدة وساخرة بقضايا عصرهم، ويعزز ذلك بقدر أكبر النقطة التي مفادها أن السريالية - وبقدر أكبر حتى من الدادائية - كانت منشغلة بالحياة بأبعادها العامة والأخلاقية، بالقدر الذي انشغلت فيه بالجماليات؛ ولكن لم ير الدادائيون والسرياليون اهتماماتهم الاجتماعية محصورة فحسب في البعد «الرسمي» للحياة العامة. وكما تجلى لنا من اهتمام السرياليين بالشقيقتين بابين، أو عبث الدادائيين الساخر بالتجارة، كانت هناك رغبة في الانخراط في الطيف الكامل للمعرفة والتمثيلات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن أغلب الدادائيين والسرياليين انتسبوا إلى الطبقة الوسطى، فقد كان لديهم افتنان شديد بثقافة العامة، أو بما يشتهر في فرنسا باسم «الشعبي».
متع شعبية
في واحدة من أروع وأعمق المقالات التي كتبت عن السريالية، طرح الكاتب الألماني الماركسي والتر بنيامين السؤال التالي: «ما الشكل الذي تقترح أن تتخذه الحياة إذا حددته في لحظة فارقة أنشودة عامة تجري على ألسنة الجميع؟» وإذ استدعى الناقد بذلك الإمكانات الثورية للمواد الثقافية المفترض كونها «هابطة»، فقد كان يعبر عن فكرة شائعة خلال أوائل الطليعية في القرن العشرين؛ فقد اعتنت حركات كالتكعيبية بشدة بهدم التمايز ما بين الثقافة «الراقية» و«الهابطة»، الأمر الذي يتجلى، على سبيل المثال، في استحداث الرسام الفرنسي ليجيه أفكارا دعائية متكررة في الرسم التكعيبي. لقد أضفت الالتزامات اليسارية لكل من الدادائية والسريالية انحرافا معينا للفتاتهم التآزرية مع «الشعبي»، ولو أنه في بداية القرن العشرين كانت الثقافة العامة عادة شيئا مصنوعا من أجل الشعب لا نابعا من الشعب نفسه. فهم بنيامين التزامهم بشاعرية «كل يوم» فهما شاملا. وإذ ناقش رواية أندريه بريتون المسماة «ناديا» (1928) - وهي تناقش العلاقة العاطفية التي ربطت بين الكاتب وصاحبة اسم الرواية - يكتب بنيامين:
بريتون وناديا هما الحبيبان اللذان يحولان كل شيء شعرنا به خلال رحلاتنا الحزينة بالقطار ... خلال فترات ما بعد الظهيرة الكئيبة، يوم الأحد، في أحياء البلوريتاريا بالمدن الكبرى، في النظرة الأولى خلال النافذة المغبشة بفعل الأمطار، في شقة جديدة؛ إلى تجربة ثورية. إنهما ينتقلان بالقوى المهولة «للجو» المستتر في تلك الأشياء إلى درجة الانفجار.
في هذا القسم وفي القسم التالي له، أود أن أرسم الخطوط العريضة لبعض السبل التي من خلالها ارتبط بها السرياليون، والدادائيون من قبلهم، بكل ما هو «يومي»؛ وبذلك ستتحول المناقشة في هذا الفصل من الطريقة التي أدرجت بها الدادائية والسريالية رسائلهما في العالم الاجتماعي، إلى الدرجة التي يتشبع بها إنتاجهم وأسلوب حياتهم بهذا العالم.
بداية من الدادائية، سنجد الكثير من الأمثلة لفنانين يستخدمون تحديدا اصطلاحات دارجة للتقليل من شأن «فنية» إبداعاتهم؛ ومن ثم توظف لوحة بيكابيا «صورة فتاة أمريكية في حالة عري» (شكل
2-7 ) أسلوبا من الصور التجارية موجودا في الإعلانات الرخيصة أو الأدلة التجارية المصورة. لقد تكلمت بالفعل عن الدادائيين وسخريتهم من العالم التجاري، ويمكن التشديد على ذلك بحقيقة أن كلمة «دادا»، بعيدا عن أي اشتقاق معجمي (انظر الفصل الأول)، استخدمتها شركة من شركات زيوريخ، وتعرف باسم بيرجمان آند كو، قبل ظهور الدادائية، للإعلان عن مستحضرات تجميل. لكن أفضل طريقة للتدليل على محاكاة الدادائية للثقافة الشعبية تكمن في النظر إلى مثال آخر لدورية دادائية، وأصدرتها هذه المرة مجموعة برلين بعنوان «كل إنسان كرته الخاصة» في فبراير 1919، بغلاف يحمل واحدا من أوائل أمثلة التجميع الصوري الدادائي لجون هارتفيلد.
شكل 2-7: فرانسيس بيكابيا، «صورة فتاة أمريكية في حالة عري»، رسم خطي نشر في دورية «291»، العددين الرابع والخامس (يوليو-أغسطس 1915).
على العكس من دوريات الدادائية الأخرى ببرلين - مثل «الدادائية» حيث تم توظيف العديد من الخطوط الطباعية والتصاميم المتعددة الاتجاهات - يعمل التصميم في هذه الدورية كمونولوج على مخطط تقليدي. وما وراء ذلك، كما هو حال دادائية برلين عامة، من المهم أن يقيم المرء وزنا للخلفية السياسية للمونولوج. وخرجت الدورية، التي تعتبر واحدة من سلسلة من الدوريات التي أنتجها فصيل هارتفيلد-هيرتسفيلده-جروتس الشيوعي المتحمس التابع لدادائية برلين، بعد أسابيع قلائل من قمع الثورة الشيوعية في برلين بقيادة الثائرين كارل ليبكنيشت وروزا لوكسمبورج، قمعا وحشيا على يد الفيلق الحر المؤتمر بأمر وزير الدفاع جوستاف نوسكه.
شكل 2-8: «كل إنسان كرته الخاصة»، غلاف دورية، إصدار وحيد (15 فبراير 1919).
يهاجم الغلاف ببراعة الحزب الاشتراكي الحاكم الجديد؛ حيث اصطفت رءوس رموز الحزب والمروجين له، وفيهم نوسكه، حول مروحة دوارة وأعلاهم طرح السؤال التالي: «مسابقة وجائزة: من منهم الأجمل؟» هذه إشارة مباشرة إلى المسابقات ذات الجوائز المعروضة على تصاميم الإعلانات التي كانت الأحزاب السياسية تضعها في الصحف. سبقت الصورة عن عمد أيضا مقالة لشقيق هارتفيلد، ويدعى فيلاند هيرتسفيلده، يتساءل فيها حول ما إذا كان بالإمكان اعتبار الانتخابات التي فاز بها الحزب الشيوعي ديمقراطية، وخاصة بالنظر إلى حقيقة أن دعاياته الانتخابية مولها أناس ذوو مصالح مؤيدة للحزب الشيوعي. يتلاعب التصميم ككل إذن بالدعاية الجماهيرية، وينتقد دورها في اختلاق الموافقة السياسية. لقد كان التجميع الصوري للرجل المرتدي قبعة سوداء مستديرة إلى جوار عنوان الدورية - الذي يرجع أيضا لهارتفيلد - تعزيزا بصريا بالتبعية للنصيحة المدمجة في العنوان، التي مفادها ألا يسمح الإنسان لنفسه بأن يتحكم فيه الآخرون، بل يتحكم هو في نفسه.
والتماسا للتوازن، يمكن القول بأن تصميم غلاف هارتفيلد ينتقد الثقافة الشعبية - وتحديدا في هذه الحالة الدعاية السياسية - بدلا من أن يؤكدها. ومرة أخرى، يرسخ ذلك التباين بين الدادائية والسريالية؛ لأن السرياليين عادة ما يغرسون توجها احتفاليا أكثر صراحة تجاه الثقافة الشعبية؛ يتجسد ذلك في موقفهم من شخصية «فانتوماس»، وهي الشخصية الفرنسية المشهورة جدا في سلسلة «مذكرات البنس المرعب» التي نشرها فويارد، بداية من عام 1911 وما بعده. كان السرياليون يجلون شخصية فانتوماس الخيالية، وهو مجرم عتيد الإجرام شديد المراوغة، ارتكب جرائم قتل مروعة منتحلا العديد من الشخصيات، وأجله السرياليون نظرا لشخصيته الغامضة الخارجة على القانون . وفي الثالث من نوفمبر عام 1933، قرأ الشاعر السريالي روبرت ديسنوس على الملأ قصيدته الملحمية «رثاء فانتوماس» في الإذاعة الفرنسية والبلجيكية، التي كدس فيها صورا رهيبة أغلبها مستوحى من أغلفة كتب فانتوماس: فانتوماس يرتدي قبعة عالية سوداء، وتتدلى منه ذيول، ويحوم بشكل منذر بالسوء والعاقبة الوخيمة فوق أسطح بيوت باريس، بندولات صافقة بشرية من أولها إلى آخرها داخل جرس عملاق، والدم يتدفق لأسفل منها وكذلك المجوهرات ... وما إلى ذلك. وبالمثل، قدم الرسام البلجيكي رينيه ماجريت - الذي تدين واقعيته التصويرية المتكلفة عمدا بالكثير للصور المشهورة (مثل أغلفة مجلات نيك كارتر البوليسية) - فروض الطاعة والولاء صراحة إلى نسخ فيلم فانتوماس التي ظهرت بين عامي 1913 و1914، وأخرجها لويس فيولاد. واستخلصت واحدة من أشهر صور ماجريت، وتعرف باسم «السفاح المقتول» (1927)، من الناحية التكوينية، من لقطة لإحدى تلك النسخ.
إن ما أبهر السرياليين هو الطريقة التي استحضرت بها مآثر فانتوماس أسطورة مدنية حديثة تتفق مع الاحتياجات التخيلية لآلاف الباريسيين. وإذ افتتن السرياليون بالحياة اللاواعية للثقافة الشعبية، فقد تبنوا التمثيلات الشعبية بدرجة أقل من الانتقاد مقارنة بالدادائيين؛ ولكن المدينة بحد ذاتها كانت، أكثر من أي شيء، هي التي صنعوا منها أسطورة، وتستدعي هذه الفكرة المهمة الآن مناقشة جديدة.
المدينة
إذا كنا بصدد البحث عن صور قوية للمدينة الحديثة، فسنجد أن لوحات وصور جورج جروتس المنتسبة إلى حقبة دادائية برلين تمثل خيارا واضحا؛ فقد صور جروتس - الذي نمت لديه رؤية تشاؤمية بشكل حاد للطبيعة البشرية بينما كان يخدم في الجيش الألماني خلال عامي 1914 و1915 - المدينة كدوامة جهنمية من القوى الجامحة. وفي خطاب كتبه عن لوحته «مهداة إلى أوسكار بانيتسا» (1917-1918)، وصف «أعدادا غفيرة من الوحوش البشرية الممسوسة»، مضيفا: «إنني مقتنع تماما بأن هذا العصر يبحر بنا إلى دماره؛ فردوسنا الملوثة ... فكروا فحسب: أينما تخطوا تفوح رائحة العفن.» وفي لوحاته اللاذعة بشكل حاد، التي ظهرت في منشورات دادائية برلين مثل «مفلس!»، أو ظهرت على هيئة صور بطريقة الطباعة الحجرية في ملفات نشرتها دار نشر ماليك فيرلاج المملوكة لفيلاند هيرتسفيلده، صور برلين خاضعة لهيمنة الذين انتفعوا من الحرب والذين عانوا ويلاتها؛ منتفعين منتفخين كبرياء، وكسيحين من جراء الحرب يستحقون الشفقة. وحتى الأعمال الأخف وطأة لجروتس، مثل لوحته «داوم تتزوج» (شكل
2-9 ) المرسومة بألوان الماء ممزوجة بتجميعات صورية، والتي أشارت نوعا ما إلى زواجه عام 1920؛ تستدعي صورة برلين وهي تعج ببائعات الهوى والآليين، وثمة لمحة لشارع عديم الملامح في الخلفية.
إن رؤية جروتس الدادائية لبرلين تبعد كثيرا عن التمثيلات السريالية في باريس، وهي ليست بالحقيقة المفاجئة إذا نظرنا إلى الموقف فيما بعد الحرب العالمية في المدينتين. بالنسبة إلى السرياليين، كانت باريس مدينة وحي، واكتسبت أماكن بعينها صفة المزارات الطليعية. في عام 1921، انطلق دادائيو باريس في رحلات قصيرة عجيبة لمناطق غير مبشرة مثل كنيسة سان جوليان لو بوفر. وباعتبارهم سرياليين، فقد بحثوا عن مواقع غريبة أو مثيرة للمشاعر تحديدا، وربما كان أكثر تلك المواقع إجلالا «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال الذي يبعد في واقع الأمر مسافة عن باريس، ويقع في قرية أوتيريف بالقرب من ليون، وبناء عليه فقد استدعى الوصول إليه شكلا من أشكال الحج. أقام شيفال «قصره»، بهيكله المغطى بقشرة صلدة، والمتضخم بشكل لافت - والشبيه بقصر برايتون بافيليون إذا نظر إليه شخص منتش بالأفيون - بأحجار غير عادية جمعها على مدار 33 سنة خلال جولاته كساعي بريد.
شكل 2-9: جورج جروتس، «داوم تتزوج إنسانها الآلي المتحذلق «جورج» في مايو 1920. جون هارتفيلد راض جدا عنها.» قلم رصاص، وقلم حبر، وألوان مائية، وكولاج، 1920.
شكل 2-10: «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال.
إن المنطق الهوسي الذي يضفي على «القصر» هيئته - وحقيقة أن الذي بناه لم يكن يتمتع إلا بالقليل من الادعاءات الفنية التقليدية - راق بشكل لا يمكن مقاومته للحس السريالي. كفلت لهم باريس نفسها العديد من المواقع الإضافية؛ كالمتحف المهجور من قبل الذي يحوي اللوحات الرمزية العجيبة لجوستاف مورو، ومتنزه بوت شومون المبتذل بشكل يبعث على الحزن، وبرج سان جاك المرتبط بالخيميائي الباريسي نيكولا فلاميل الذي يرجع للعصور الوسطى .
بدت هذه الأماكن وأمثالها جزءا من مدينة بديلة؛ مدينة مستترة عن السياح، أنقذها بمعجزة مخططو المدينة، ويحكمها منطق الرغبة اللاشعورية لا المنفعة اليومية. يجول المؤلفان في أعظم روايتين في بدايات السريالية - وهما: رواية «ناديا» لبريتون، ورواية «فلاح باريس» للويس أراجون (تحولت إلى سلسلة لأول مرة في الفترة خلال عامي 1924-1925) - في أرجاء باريس المسلم بأنها «غابة من المؤشرات» على حد تعبير بريتون، وشبكة من العلامات والمنذرات بالوحي والكشف. يمكن اعتبار السرياليين هنا ورثة طبيعيين لمفهوم الشاعر الفرنسي شارل بودلير عن الفنان العصري باعتباره «جوالا» مدنيا ملتزما بتجميل التدفق المدني. في رواية أراجون «فلاح باريس» التي وضعها تحديدا لتأكيد «الأسطورة العصرية»، يقدم المؤلف خط سير مفصلا لأماكن باريسية لها وقع شاعري عليه، وأشهر ما يجد فيه متعة بالغة المظهر المهجور لممر الأوبرا، وهو عبارة عن سوق على هيئة رواق مقنطر من المقرر هدمه قريبا كجزء من عملية التحديث الجارية تحت لواء الإمبراطورية الثانية برعاية البارون هاوسمن. وإذ يصف الجو العام باعتباره «متحفا مائيا بشريا»، يتمهل أراجون برفق عند العديد من منافذ المحلات؛ محل لطوابع البريد، وآخر للعصي، وثالث لتصفيف شعر السيدات، ويستدعي الأخير تيارا من الخيالات السريالية؛ حيث يتخيل أراجون المتع التي يحظى بها مصفف الشعر المبتدئ، الذي سيكون قوام عمله طوال الحياة «فك شفرات تلك التشابكات التي ألمحت منذ فترة وجيزة إلى التقلب أثناء النوم.»
سمح السرياليون بشكل منتظم للمدينة بأن تخترق أنفسهم، وأن تحدد أفعالهم أيضا. بحلول أوائل الثلاثينيات، كان هذا جزءا من عملية جدلية بشكل ذاتي الوعي، أمسى فيها الجزء الباطن الذي سبق أن ساد الكتابات والفنون السريالية، في طباق مع إملاءات الواقع الخارجي. إن الأحداث اليومية التي بدت نتاج المصادفة فحسب - كاللقاءات العارضة ظاهريا على قارعة الطريق - اعتبرت مناظرة للحاجة النفسية. كان مبدأ «المصادفة الموضوعية» هذا محوريا لأعمال سريالية بعينها في أوائل الثلاثينيات، مثل رواية بريتون المسماة «الأواني المستطرقة» (1932)، وقامت عليه «لقاءات» مع «أغراض عثر عليها بالمصادفة» غامضة ومهمة بذاتها؛ تلك اللقاءات التي عاشها السرياليون خلال زياراتهم المنتظمة لأسواق السلع المستعملة بباريس.
مثل هذه الأفكار المتعلقة بكيفية اجتياز مساحات المدينة، تعد - من عدة أوجه - بمنزلة تصور إيجابي للتجربة الحداثية، وهذا أمر تتفرد به السريالية. ومع ذلك، جدير بالملاحظة أنه استنادا إلى أفكار والتر بنيامين، شدد كتاب أمثال هال فوستر على أنه على العكس من تأييد فكرة «تقدمية» للحداثة أو التحديث، يمكن النظر إلى تأكيد السرياليين على «المهجور» - كما في إصلاح وترميم مواقع مثل «ممر الأوبرا» - باعتباره نقدا للرأسمالية، وكأن أطلال الماضي تعود إلى الحياة كي تسكنها. ومن هذا المنطلق، على الرغم من انغماس السرياليين في شبكة إشارات المدينة، يمكن القول بأنهم لا يلقون مرارة حيال تبعات المشهد المدني بقدر ما يفعل، مثلا، دادائيو برلين.
حدد هذا الفصل مكان كل من الدادائية والسريالية في العالم؛ إذ بين كيف اكتسبتا معاني حداثية للتشعب، وسمحتا «للحداثة» بالتغلغل في إنتاجهما وأساليب حياتهما. لقد رجحت كفة متطلبات الحياة دوما أمام متطلبات الفن، ولكن مهما حقرت الدادائية والسريالية من الفن، فقد حقق المشاركون فيهما شهرة واسعة أساسا كممارسين للفن؛ ولذا، آن الأوان لأن نستسلم ونلتفت إلى الجوانب الجمالية.
الفصل الثالث
الفن ونقيض الفن
قال أندريه بريتون وهو يناقش الجماليات ذات مرة من وجهة نظر سريالية، إن الطريقة التي ترسم بها الصورة غير ذات أهمية فعليا؛ فالمهم وحده هو الواقع الذهني الذي «تطل عليه» الصورة.
إن أفضل طريقة لتقييم تميز توجه بريتون هي الإشارة إلى الجماليات الحداثية للناقد كليمنت جرينبرج، التي هيمنت على النقد الفني بعد زوال السريالية في أواخر الأربعينيات. شدد جرينبرج على «النقاء» التخصصي؛ فالرسم ليس هدفه الإطلال على واقع آخر، بل يراد منه أن يلفت الانتباه لذاته كنظام فني، وأن يتعاطى مع المشكلات الجوهرية في الرسم، وقد أكد جرينبرج أن مشاق هذا المسعى من شأنها أن تفضي إلى نيل درجات من العزم الرسمي أو الجمالي.
كان النقاء التخصصي والرسمي لعنة على أغلب ممارسي الدادائية والسريالية؛ ففي إنتاجاتهم، تداخلت دوما تخصصاتهم الفنية؛ فظل النصي والبصري والأدائي عادة في حالة تخلخل حر. ومن المنطلق نفسه، يبدو «الجمال» الرسمي مسعى غير ذي صلة إذا نظرنا إلى العالم الذي كان الفنانون يعيشون فيه؛ لقد كانوا متخبطين على أي حال حيال الفن كمؤسسة؛ حيث تعهد الدادائيون دوما بهدمه. وبالنظر إلى كل من الإنتاج الفني والأدبي الدادائي والسريالي في هذا الفصل، يتعين علينا دوما أن نضع نصب أعيننا هذا التناقض الراسخ ما بين الفن التقليدي والنقاء الجمالي.
لا شك أن جرينبرج بذل قصارى جهده من أجل تشويه ما يمثله الدادائيون والسرياليون؛ ففي مقالة عن السريالية نشرت عام 1945، انتقد جرينبرج ما اعتبره الأساس «الأدبي» لما يمثلونه؛ وعلى الرغم من أن هذا التوجه يبدو الآن عتيقا نوعا ما، فإنه ما برح متماسكا بشكل مدهش. يوصم الفنانون السرياليون أمثال دالي أو ماجريت كثيرا بأنهم «أدبيون»، بينما ينظر إلى الدادائيين على أنهم غير جادين بالقدر الكافي؛ نظرا لانشغالهم بالمحتوى العابث أو الساخر، لكن بالنسبة إلى فناني الدادائية والسريالية، كان هذا النوع من النقد يخطئ المغزى من عملهم. كان هؤلاء يفتخرون بظهورهم بمظهر الأدباء، وبأن لديهم التزاما محددا تجاه كل ما هو شعري. استوعب الدادائيون والسرياليون كلمة «شعري» بصفة عامة بالطريقة التي كان الكتاب والفنانون الرومانسيون في القرن التاسع عشر استوعبوها بها؛ أي باعتبارها «حالة للروح» أو نمطا من أنماط الوعي لا شكلا من أشكال الممارسة. وإجمالا، فالطريقة المثلى لفهم الجماليات الدادائية والسريالية ليست عبر الأفكار التقليدية للجمال، بل من خلال فكرة «التوجه» الشعري تلك.
بالنظر إلى تفوق الشعر، فاللغة - أو بالأحرى الإشارة اللغوية - تدعم دوما أعمال ممارسي الدادائية والسريالية، وسيتجلى ذلك في الكثير مما يلي، لكن غايتي الأساسية هي تحديد سلسلة من الفروق المميزة فيما يختص بالسبل الفنية والإجرائية التي حقق بواسطتها ممارسو الحركتين نتائج شاعرية. سيوضع استغلال الدادائية للمصادفة في مواجهة مع الاستخدامات السريالية «للآلية»، وستوضع تقنيات الدادائية مثل الكولاج والتجميع الصوري في مواجهة مع تقنيات السريالية مثل الرسم والتصوير الفوتوغرافي، كما سيوضع فن القطع الفنية الجاهزة للدادائية في مواجهة مع الغرض السريالي، وهكذا دواليك. ولكن، المكان الواضح الذي يتعين البدء منه هو الشعر نفسه.
الشاعرية
بصفة عامة، يمكن تقسيم الشاعرية الدادائية بين التوجهات التي سادت في ألمانيا وسويسرا والتوجهات التي سادت في فرنسا. في القسم المتعلق ب «كباريه فولتير» بالفصل الثاني، ألقيت نظرة على ما قام به هوجو بال في زيوريخ من محاولة العودة إلى «خيمياء الكلمة» عبر أشعاره الصوتية؛ واستتر في ذلك السياق رفض للقدرات السميوطيقية للغة، وقدرتها على إيصال المعنى. ربما تدين عودة بال إلى الوحدات الأساسية للغة نوعا ما إلى وعيه بالشعر المستقبلي الروسي بتأكيده على الخصائص المستقلة للغة. ولكن، بدلا من أن يكون «مجردا» بالكامل في روحه - وهو التوصيف الذي ينطبق بقدر أفضل على الشعر الصوتي للدادائي البرليني راءول هاوسمن - عادة ما تنقل أشعار بال رغبة مبهمة في البحث عن أسماء أو كلمات جديدة للأشياء؛ كتب بال في مذكراته الشخصية: «لم لا نطلق على الشجرة اسم بلابلاش أو بلابلاباش عندما تمطر السماء؟» وفي هذا الصدد، يستجيب بال جزئيا إلى الفيلسوف الألماني نيتشه - الذي يعد عامل تأثير أساسيا في جيل بال من الفنانين - الذي كتب عن إحساسه بوجود تنافر بين الكلمات والأشياء التي تشير إليها تلك الكلمات، حيث رأى اللغة «جيشا متحركا من الاستعارات» أمسى باليا. ويكشف شعراء الدادائية الألمان الآخرون خيبة أمل مماثلة في القدرات الدلالية للغة؛ ففي هانوفر، أنتج كورت شفيترز تنويعاته الخاصة من الشعر الصوتي، المرتبطة بحميمية بتجريداته المعروفة باسم «ميرتس» في التجميع الصوري، لكنه أنتج أيضا نصوصا يتعايش بعضها مع بعض في مستويات مختلفة من اللغة، مدمرا بذلك أي إحساس كلي بالتجانس، وفيما يلي جزء من قصيدة له:
تحياتي، 260 ألف سنتيمتر مكعب.
أنا ملكك،
وأنت ملكي،
ونحن أنا.
والشمس واللاحدود والنجوم تضيء.
حزن وأحزان وندى.
يا لويلك مني!
إشعارات رسمية:
جائزة 5000 درجة!
في المقابل، يمكن القول إن شعر الدادائية الفرنسية - وتحديدا شعر الدادائيين الفرنسيين الذين أحاطوا بدورية «الأدب» - أكثر توافقا مع التقاليد الدلالية، ولو أنه كان بالمثل ملتزما بكل ما هو لا عقلاني. كان ذلك يرجع جزئيا إلى أن شخصيات مثل أندريه بريتون وبول إيلوار كانت لديهم مصادر «أدبية» أكثر سلاسة ومباشرة؛ على سبيل المثال: الأشعار الفرنسية الرمزية لرامبو أو بول رو الذي أسمى نفسه القديس بول رو. سنرى في القسم التالي أن «الكتابة العفوية» كانت ابتكارهم الفني الوحيد، لكن ما جمع بينهم أكثر من أي شيء كان مفهوما للصورة الشعرية، وسيثبت لنا أن هذه المسألة محورية فيما يختص بالجماليات السريالية التي طوروها بداية من عام 1924 فصاعدا.
اعتمد التوجه السريالي نحو الصورة على مبدأ التلاقي بين الوقائع غير المتوافقة. رأى بريتون في الشاعر الفرنسي التكعيبي بيير ريفيردي المؤيد النظري الأساسي لتلك الأداة، لكن يمكن العثور على أمثلة لتوظيفها في أعمال العديد من الرواد الأدبيين للسريالية، ومثال على ذلك رامبو الذي وردت في قصيدته «موسم في الجحيم» عام 1873 رؤى هذيانية مثل «غرفة معيشة في قاع بحيرة».
في الشعر السريالي المتكامل الأركان، ينهال علينا سيل من الصور الشعرية الصارخة، على غرار الصورة التي رسمها إيلوار عن «الشمس الزرقاء كالبرتقالة»، أو الابتهالات الجياشة في قصيدة بريتون «اتحاد حر» (1931):
زوجتي بقوامها الشبيه بالقندس بين أسنان النمر ...
زوجتي بصدغيها الشبيهين بأردواز سقف الدفيئة
بحاجبيها الشبيهين بحافة عش السنونو ... زوجتي بعينيها الخشبيتين
اللتين دوما تحت البلطة ...
وثمة أشعار سريالية أخرى تمزج بشكل مميز بين مقابلات مذهلة لصور شعرية وسخرية فوضوية، وفيما يلي مثال لذلك من جزء من قصيدة لبنجامين بيريه:
والنجوم التي تبث الرعب في قلب السمك الأحمر
ليست للبيع ولا للإيجار
في الواقع، هي ليست حقا نجوما، بل مجموعة من فطائر المشمش
التي خرجت من المخبز.
كانوا يبحثون دوما عن لمحة من «المدهش». مرارا وتكرارا استدعى بريتون مجازا كهربيا لشرارة كي يستثير صدمة الإلهام التي تتجلى على هيئة صور غير ذات رابط يصطدم بعضها ببعض.
من الواضح أن الدادائية الفرنسية - ومن ثم السريالية الفرنسية - كانت ملتزمة بشاعرية غنائية أكثر من الدادائية الألمانية/السويسرية؛ حيث كان هناك تفكيك معاد للرومانسية وأكثر شمولا للغة. وهناك استثناءات مهمة لذلك؛ فكثيرا ما أنتج هانز آرب - الذي رحل عن زيوريخ وقصد باريس والسريالية - قصائد تكشف عن طابع غنائي راسخ في الرومانسية الألمانية. ولقد أكد النقاد على أن الشعر الدادائي التفكيكي يعكس الفوضى فحسب، بينما تحقق السريالية، بالتوافق مع الاصطلاحات الشعرية التقليدية، نتائج أكثر ديمومة. لا شك أن أشعارا كتلك التي ألفها إيلوار يبدو لنا الآن أنها تتمتع بأناقة رسمية عظيمة، لكن الأشعار الدادائية الأصيلة، كقصيدة شفيترز الإبداعية
Ur Sonata
التي خطها في عامي 1922 و1932، أبعد ما تكون عن الفوضى فيما يتعلق بهياكلها الداخلية التجريدية. تتسم هذه القصائد أيضا بطابع الحياة الأخرى فيما يختص بتطور الشعر الملموس وجماليات الأداء في الفن الأوروبي فيما بعد عام 1945، وربما كان هذا الطابع أكثر أهمية من الشعر السريالي الذي كثيرا ما أنتج أسلوبا متكلفا وصورا نمطية مبتذلة.
تكمن الطبيعة الطباقية لشعر الدادائية في تماشيه مع الفلسفات النسبية التي اعتنقها مؤلفو هذا النوع من الشعر؛ فقد أكد تريستان تزارا في «بيان الدادائية» عام 1918 على أن «العمل الفني لا يكون أبدا جميلا، بموجب قاعدة محددة وبموضوعية، في أعين الجميع.» ولقد شكك السرياليون أيضا في الأفكار المعيارية للجمال، لكن أندريه بريتون كتب تنظيرا عن الصورة السريالية - في شكلها اللفظي والبصري على حد سواء - فيما يختص بفكرة «الجمال الاختلاجي» في مقالته الفلسفية-الذاتية «عشق جنوني» (1937). وإذ عمد بريتون بإصرار إلى تفادي معايير الجماليات التقليدية، خاصة أنه بدا مؤيدا ضمنا للأدب والفنون البصرية، فقد تحدث عن تجربة الجمال باعتبارها مقاربة لشكل من أشكال الاختلاج الجسماني المشوب بتيار قوي وشبقي. عرف بريتون، بغموض نوعا ما، ثلاثة أنواع من «الجمال الاختلاجي» السريالي: «الشبقي المستتر» الذي نشأ بشكل مميز من المزج بين المتحرك والثابت (كما في المرجان)، و«الثابت-الانفجاري» التي ينبع عندما تترجم الحركة إلى سكون (كما في صورة فوتوغرافية لعربة تنمو فوقها النباتات بشكل مفرط)، و«السحري-الظرفي» الذي انبثق من «مواجهة سحرية» مع عبارة أو موضوع عجيب ظاهريا.
هذه المحاولة لإنتاج فئات جمالية جديدة، التي تبدو على أي حال جزئية؛ تشي بالكثير عن الفارق بين الدادائية والسريالية. بالنسبة إلى الدادائيين، يستحيل أن تكون هناك تجربة جمالية معيارية؛ فالفن نفسه عرضة للتشكيك. وفي المقابل، تبنى السرياليون توقا يوتوبيا دائما لشاعرية/جماليات متحولة ومبدلة من واقع الخبرة.
العفوية في مقابل المصادفة
شكل الشعر أساسا للجماليات الدادائية والسريالية؛ ولكن كيف تولدت تحديدا اللغة الشعرية لهاتين الحركتين؟ ومن أين نشأت؟ بالنسبة إلى السرياليين تحديدا، كانت هناك إجابة واحدة جلية: اللاوعي. في «البيان السريالي الأول» الصادر عام 1924، وصف أندريه بريتون كيف خطرت له، في منامه ذات ليلة عام 1919، عبارة وكأنها «تطرق زجاج نافذته.» وسرعان ما استغل بريتون مثل هذه المادة العارضة بشكل عفوي لأغراض شعرية، ونشر بالتعاون مع الشاعر فيليب سوبول أول نص سريالي-بدائي (عفوي) تحت عنوان «الحقول المغناطيسية» في عام 1920. كانت العفوية ترتكز على الاعتقاد بأن سرعة الكتابة مكافئة لسرعة الفكر؛ وبالكتابة على وجه السرعة دون موضوع مسبق في العقل، أمسى الشاعر - بحسب تعبير بريتون - «جهاز تسجيل متواضعا».
بحلول عام 1922، وكجزء من حالة «غموض الحركة» المزعومة التي شهدت تحول الدادائية تدريجيا إلى سريالية، جرب بريتون وأصدقاؤه المزيد من السبل المؤثرة لتجاوز التحكم الواعي؛ فكان الواحد منهم لفترة من الوقت يستسلم بمحض إرادته لحالة من التنويم المغناطيسي، ويرد على أسئلة يطرحها عليه بقية أعضاء المجموعة. كان الشاعر روبرت ديسنوس تحديدا يخضع لتلك التجارب، وذات مرة استجاب بطريقة مثيرة للأعصاب لأسئلة عن الشاعر بنجامين بيريه:
س:
ماذا تعرف عن بيريه؟
ج:
سيلقى حتفه داخل سيارة مكتظة بالركاب.
س:
هل سيقتل؟
ج:
نعم.
س:
على يد من؟
ج: (يرسم قطارا، وثمة رجل يسقط من بابه) على يد حيوان.
س:
أي نوع من الحيوانات؟
ج:
شريط أزرق، يا متشردي العزيز.
في نهاية المطاف، كادت حالات الغفوة تخرج عن السيطرة؛ حيث حاول الشاعر رينيه سريفيل ذات مرة قيادة المجموعة إلى عملية انتحار جماعي، فتخلوا عنها. عدت العفوية بشكل متزايد ردة فعل لاكتشافات في الطب النفسي والتحليل النفسي. كان تعرض بريتون الأصلي لهذه التخصصات في عام 1916، عندما مارس تقنيات فرويد المتعلقة بالتداعي الحر للمعاني على مجموعة من الجنود المصابين بالاضطراب العصبي في أثناء خدمته العسكرية كمساعد تمريض. لكن، لم يقدم فرويد نموذج العفوية بقدر ما قدمه الطبيب النفسي الفرنسي بيير جانيت، الذي أورد كتابه «العفوية النفسية» الصادر عام 1889 بإسهاب شديد سيلا من المعلومات المستخلصة من المرضى الخاضعين للتنويم المغناطيسي. وعلى الرغم من ذلك، مال جانيت إلى التقليل من شأن الإرادة الإبداعية لمرضاه، وبحلول عام 1924، عندما جعل بريتون العفوية التقنية السريالية البارزة في «البيان الأول»، أعطيت الأولوية للتداعي الحر للمعاني لفرويد.
كانت العفوية السريالية ترتكز على كبت الوعي العقلاني، ولكن علينا التأكيد على أنها لم تستغل دوما في خلق الكتابة السريالية؛ فأغلب الأشعار السريالية المستشهد بها في القسم الأخير استغلت هذه التقنية استغلالا جزئيا فحسب. ويجب عدم الافتراض أن تلك التقنية كانت من اختلاقات السريالية بالكامل؛ فالأشعار الدادائية السابقة لبيكابيا وتزارا وآرب وشفيترز كثيرا ما انبثقت من عمليات مشابهة، ولو أن آرب اعتبر الجسد والعقل على حد سواء منبع تلك الأشعار: «ينبع الشعر العفوي مباشرة من أحشاء الشاعر، أو من أي عضو آخر فيه احتياطيات مخزونة ... وهو يهتف ويسب ويتلعثم وينشد متنقلا بين الطبقات الصوتية كما يحلو له.» ويمكن الزعم بأن العفوية وظفها الدادائيون بشكل روتيني، وحولها السرياليون في تاريخ لاحق ببساطة إلى نظرية باصطلاحات تحليلية نفسية. وحقيقة الأمر أنه إذا عدنا الآن إلى الطرق التي استوعب بها الدادائيون - وخاصة في زيوريخ - التخلي عن السيطرة الإبداعية، لا لمصلحة العفوية بقدر ما كان تماشيا مع المصادفة؛ فسيمكن تحديد بعض الفروق المهمة بين التوجهات الجمالية للدادائية والسريالية.
خلال الفترة ما بين عامي 1916 و1917 تقريبا، أنتج آرب - الفنان البصري الأساسي لدادائية زيوريخ - سلسلة من الأعمال التجريدية بالتعاون مع شريكته صوفي تاوبر، جمعت فيها قصاصات ورقية مربعة الشكل معا على هيئة شبكات دقيقة على صفحات من الورق. هذه الأعمال، باعتبارها تجريدات بصرية، ساهمت في بدايات مرحلة واسعة النطاق في الفن الأوروبي آنذاك تشمل شخصيات بارزة مثل موندريان وكاندينسكي؛ ولكن الأبرز من ذلك أن القليل من أعمال تجميعات الصور التي أنتجها آرب، تقف على النقيض تماما من تلك الأعمال المتناهية الدقة. في تلك الأعمال، أسقط آرب بعشوائية قصاصات من الورق على حوامل، وثبتها حيث سقطت (شكل
3-1 )، وزعم لاحقا أن هذا العمل أنتج «بحسب قوانين المصادفة».
قبلها بفترة وجيزة، أنتج مارسيل دوشامب - الذي كان آنذاك في باريس، ولكن سرعان ما انتقل إلى نيويورك وإلى نسخته الخاصة من الدادائية - عملا شبيها. وإذ شرع في العمل على لوحته «عروس جردها عزابها من ثيابها»؛ رائعته الفنية التي وضعها في زجاج وآل بها المآل إلى أن أمست تصويرا تخطيطيا للرغبة المحبطة، مقابلا بين مجموعة من «العزاب» الآليين بالأسفل و«عروس» بالأعلى؛ فقد أسقط ثلاثة خيوط و«ثبت» التكوينات التي تشكلت فيها، فأنتج قوالب منها لعبت دور تنويعات على مقياس معياري مقنن، وبعدها استخدم تلك «الوقفات المعيارية» (كما سماها) لمساعدته في تحديد وضع العزاب في «الزجاجة الكبيرة»، مما أوحى بأن عمله اتفق مع مجموعة بديلة ولا عقلانية من القوانين الفيزيائية لقوانين الواقع الخارجي.
شكل 3-1: هانز آرب، «مربعات متراصة بحسب قوانين المصادفة»، كولاج، 1916-1917، متحف الفن الحديث، نيويورك.
كان كل من آرب ودوشامب يجنحان بشكل جذري بعيدا عن نموذج سيطرة المؤلف السائد في صناعة الفن آنذاك. كان الاثنان أيضا رائدين للتوجه «الدادائي» المميز الذي قام عليه تقليد الفن الجزافي في القرن العشرين، وهو التقليد الذي ضم شخصيات مثل المؤلف الموسيقي جون كيج. والأهم بالنسبة إلى سياق نقاشنا الحالي أن كلا الفنانين كانا يستدعيان عمليات غير شخصية أو طبيعية بالمقارنة بالعمليات البشرية ذات التوجه النفساني، ولو أن ذلك يعتبر من قبيل المفارقة في حالة دوشامب. كان لدى آرب فهم صوفي لما كان يفعله؛ إذ كانت المصادفة بالنسبة إليه ترتبط بالطبيعة، وتمثل جزءا من «علة وجود مستغلقة ... ونظام لا سبيل للوصول إليه إجمالا.» وبينما كان السرياليون في المقام الأول معنيين بالنفس الفردية، اختار الدادائيون استدعاء قوى كانت مستقلة بالكامل عنهم؛ فقد كانوا لا يثقون بالغرور البشري والإعلاء المبالغ فيه للمنطق البشري؛ فثمة حرب عالمية نشأت من مثل هذه القيم. ولم يحترموا كذلك منهجة فرويد للاعقلاني؛ إذ وصف تريستان تزارا التحليل النفساني ب «المرض الخطير» الذي يحبط «ميولنا اللاواقعية»، ويساعد على تخليد المجتمع البرجوازي. لم يثق الدادائيون بفرويد؛ إذ عقد آماله على ترويض اللاوعي بدلا من أن يسمح بحرية الحركة فيما يتعلق بخدمة النقد الاجتماعي؛ ولذلك شككوا في الأساس الفرويدي للعفوية السريالية، ولو أنه يتعين التشديد على أن السرياليين أقاموا وزنا لفرويد بسبب سبره أغوار آليات اللاوعي، وليس بسبب «علاج» العلل التي أفضت إليها تلك الآليات.
وإذ نبين كيف يتعارض فهم الدادائيين للمصادفة مع فهم السرياليين للعفوية، تحولت نقاطنا المرجعية بضرورة الحال من النقاط الشاعرية إلى النقاط البصرية. ويتسق ذلك مع حالات العبور التبادلي ما بين الجماليات الأدبية والبصرية في الدادائية والسريالية السالفة الذكر. وإذا التفتنا الآن إلى الفن البصري للسريالية، فمن المثير أن نرى أنه في حين وجدت العفوية اللفظية مكافئا لها في الابتكارات الفنية لفنانين بأعينهم، كانت المصادفة الدادائية مدمجة أيضا خلسة في ثنايا السريالية.
شكل 3-2: أندريه ماسون، «ميلاد الطيور»، رسم عفوي، حوالي عام 1925، متحف الفن الحديث، نيويورك.
في الفترة بين عامي 1924 و1925، أنتج الرسام الفرنسي أندريه ماسون، في محاولة منه للبحث عن معادل بصري للعفوية التي دعا لها بريتون في «البيان الأول للسريالية»؛ سلسلة مهمة من «الرسوم العفوية»، وفيها امتزجت مجموعة من الصور الشخصية جدا - أجساد وحيوانات وعناصر معمارية شبقية الطابع - بشكل شعري معا بينما طفق يرسم بسرعة ودون تعمد. قد تبدو هذه «الرسومات» لأول وهلة تجريدية، لكن السرياليين لم يخطوا نحو التجريدية التي رأيناها لدى آرب بالكامل؛ ولذا، بشيء من الجهد، يمكن تفسير لوحة ماسون «ميلاد الطيور» التي خط خطوطها عام 1925، على اعتبار أنها تمثل جسد امرأة بشكل مباشر نسبيا، وتخرج من فرجها الطيور.
بعد ماسون بفترة وجيزة، استجاب الفنان ماكس إرنست - الألماني المولد الذي انتقل مؤخرا من كولونيا إلى باريس - على نحو مثيل للبيان ب «تدلاكاته» عام 1925، وهنا وضع الفنان صحائف من الورق على أسطح مرتفعة، كحبيبات الخشب، وطفق يمسدها، وبعدها سمح للأشكال المتكونة بالتعبير عن نفسها وإيصال الإيحاء الخاص بها، فعزل أو أعاد تأكيد أجزاء من الصور لاستدعاء حيوانات ونباتات مخصصة. نشر إرنست هذه الصور على هيئة نسخ طبق الأصل ضمن مجموعة فنية بعنوان «التاريخ الطبيعي»، ومن اللافت أن إرنست الذي كان في مرحلة من المراحل جزءا من حركة الدادائية، يكشف عن درجة أكبر بكثير من السلبية في طريقة عمله بالمقارنة بماسون؛ ولذا، فهو يرجع إلى مبدأ المصادفة الشخصي بحسب فهم الدادائية له، ولو أن إلهامه المباشر لم ينبع من أحد سوى ليوناردو دافنشي الذي أوصى في «أطروحة عن الرسم»، بأنه على الفنانين استخدام لطخات عديمة الشكل كمثيرات إلهامية للرسوم المركبة.
لقد سخر إرنست ببراعة المصادفة الدادائية لخدمة العفوية السريالية، فجعلها مسئولة أمام مقتضيات اللاوعي، وتكشف حالته كيف انتكست الجماليات السريالية كثيرا خلسة إلى الدادائية. كان السرياليون يبتكرون طرقا كثيرة لتفسير المصادفة تفسيرا نفسانيا، فكانوا يعيشون حياتهم بحسب مبادئ «المصادفة الموضوعية» كما ناقشنا في الفصل السابق. لكن المرء يتساءل: هل انتهى بهم الأمر، في التحليل النهائي، إلى تمدين أو ترويض ما كان، في الدادائية، مبدأ لا بشريا ولا سلطويا في جوهره؟
الكولاج في مقابل الرسم
وإذ ما زلنا نتحدث عن الفن البصري للدادائية والسريالية، يجدر بنا أن نرسخ المزيد من الفروق بين الحركتين فيما يختص بمنهجهما تجاه الوسائط والأساليب الفنية. يمكن عقد مقارنة مبدئية بالعودة إلى ماكس إرنست الذي أقام جسرا بين الحركتين على أي حال، وكذلك بالنقلة التي أقدم عليها من الاستخدام الدادائي للكولاج إلى نمط رسم سريالي بشكل مميز.
في عام 1921، ونزولا على دعوة دادائيي باريس الذين كانوا على دراية بأنشطته في كولونيا، أقام إرنست معرضا للوحات الكولاج خاصته بمعرض «أو سان باريل» في باريس. كان المعرض وحيا للباريسيين، وإذا كانت «الحقول المغناطيسية» لبريتون وسوبول قد بشرت بالسريالية النصية، فقد بشر هذا المعرض بالسريالية البصرية، وسرعان ما انضم إرنست إلى المجموعة وأنتج أعمالا فنية - مثل «التدلاكات» السابق ذكرها - اتسقت مع نظرياتهم.
فما سر أهمية أعمال الكولاج الدادائية لإرنست إذن؟ كان الكولاج راسخا بالفعل كأسلوب طليعي آنذاك؛ إذ استخدمت قطع من مشمع الأرضية وورق الحائط وما شابه ذلك، في لوحات بيكاسو وبراك في الفترة ما بين 1912 و1914، في المرحلة المسماة «التجميعية» من الحركة التكعيبية، وإلى حد كبير قد استخدمت بهدف إعادة إدخال تلميحات طريفة للعالم الحقيقي في لوحاتهم التجريدية بشكل متزايد. لكن إرنست جمع قصاصاته الصورية من شذرات لصور يمكن تمييزها؛ حيث جاور ما بين أجزاء من صفحات موسوعة وأدلة تجارية مصورة وأطروحات تشريحية وصور فوتوغرافية؛ بغية إنتاج وقائع نقيضة مزعجة. في العمل الفني «المحادثة المقدسة» الصادر عام 1921 على سبيل المثال، وضعت صور الطيور والقصاصات المستخلصة من الرسوم البيانية التشريحية، مع صور فوتوغرافية في فضاء صوري شبه مبهم. وإذ تشير ضمنا في عنوانها لأيقونة دينية - ألا وهي الفكرة التقليدية للسيدة العذراء والطفل، ويحيط بهما القديسون - تستدعي لوحة «المحادثة المقدسة» بطريقة فيها تجديف فكرة الحبل بلا دنس، بواسطة تصوير حمامة تعترش «رحما» على شكل حوض ينتمي للقوام الأساسي للمرأة الموجودة في الصورة.
فور أن انتقل إلى باريس، في ذروة «الحركة الغامضة»، طفق إرنست يترجم الكولاج إلى اصطلاحات تصويرية، وفي عام 1919، افتتن بشدة بصور لأعمال الرسام الإيطالي جورجيو دي شيريكو. خلال فترة خصبة في باريس فيما بين عامي 1911 و1915، طور دي شيريكو نمطا «ميتافيزيقيا» للرسم تخيل فيه الميادين الإيطالية المهجورة وقت الأصيل وثمة ضوء غير أرضي يكسوها، فتلقي التماثيل بظلال حزينة طويلة. إن الأسلوب الطفولي الطابع الذي رسم به شيريكو تلك الرؤى، والذي انطوى على استخدام منظورات متراجعة بشكل مثير للارتباك، والإحاطة المحكمة بالأشكال المرسومة أفقيا بخطوط سوداء، أتاح لإرنست المفردات الصورية التي استطاع بها إعادة تجسيد التجاورات المذهلة لتجميعاته الصورية. تحت تأثير دي شيريكو، أثمرت الإلماحات شبه المبهمة في أعمال كولاج بعينها اقتراحات بكون نفسي ملموس، وأمست سلسلة اللوحات التي أنتجها إرنست ما بين عامي 1922 و1924 - بما في ذلك «أوديب ملكا»، و«لن نعرف شيئا عن هؤلاء الرجال»، و«بييتا» (شكل
1-3 ) - ركائز للسريالية البصرية.
شكل 3-3: ماكس إرنست، «المحادثة المقدسة»، كولاج، 1921.
ولكن، يزعم أنه بترجمة كولاج الدادائية إلى مفردات الرسم السريالي، وجد أن ذلك الكولاج خضع لعملية مناظرة لتلك التي تعرضت لها المصادفة الدادائية؛ إذ تم ضمها للعفوية. وإذ وظفه إرنست في كولونيا، فقد استدعى الكولاج عالما كان معاديا بشدة للسيطرة البشرية؛ أنظمة كاملة للأفكار ولأساليب التمثيل بدت متعارضة. ولكن عندما كتب بريتون عن أعمال الكولاج لإرنست في الدليل المصور الخاص بمعرض «أو سان باريل» عام 1921، ربط الأسلوب بالشاعرية السريالية البدائية، موظفا مجازه المفضل الخاص بالشرارة المتولدة بفعل التقاء الوقائع المنفصلة للتأكيد على آثار إرنست. ولما أقدم إرنست على رسم لوحاته «السريالية» بالكامل في أوائل العشرينيات، تحت رعاية بريتون جزئيا، عاد إلى توظيف أسلوب - وهو الرسم بالزيت - حظره الدادائيون فعليا لما يحمله من مضامين النخبوية والتقليد.
التجميع الصوري في مقابل الرسم
يمكن تعزيز هذا الإحساس بتخفيف المبادئ الدادائية من خلال مقارنة أسلوب دادائي آخر، ألا وهو التجميع الصوري (المونتاج الفوتوغرافي) بالرسم السريالي. كان التجميع الصوري الابتكار البصري البارز لدادائية برلين، وقد زعمت جماعتا برلين، جماعة هاوسمن-هوخ وجماعة جروتس- هيرتسفيلده-هارتفيلد، أنهما «اكتشفتا» هذا الأسلوب؛ لكن لا ينبغي أن تعوقنا مثل هذه المشاحنات هنا. من المهم، على الرغم من ذلك، أن نميز في عجالة ما بين التجميعات الصورية لجماعة برلين، وبين قصاصات الصور (الكولاج) لإرنست التي وصفناها في القسم الأخير. نادرا ما استخدم إرنست إشارات اجتماعية صريحة؛ فقد أوحت أعماله بصدامات لا عقلانية بين الأفكار أو الأنظمة الفكرية، وتحقيقا لهذه الغاية قلل من شأن الطبيعة المادية لمواده؛ حيث أعاد تصوير تجميعاته الصورية فوتوغرافيا بغية خلق أثر سلس. وفي المقابل، كان التجميع الصوري البرليني مسيسا إلى حد كبير؛ حيث إن فعل قص الصور من الصحف والمجلات وإعادة المزج بينها، كان يحمل في حد ذاته دلالات تنم عن شق نسيج الواقع الاجتماعي. لقد جعل التجميع الصوري البرليني عملية إنشاء الصورة الفعلية - الطبيعة المتشظية لأجزاء الصورة، وتنافراتها فيما يتعلق بالتدرج الفوتوغرافي ... إلخ - تتجلى في العمل النهائي. يمكن أن نرى ذلك في صورة «عروسان برجوازيان - شجار» لهانا هوخ عام 1919؛ حيث يصير المحتوى الساخر للصورة - وهي عبارة عن محاكاة ساخرة للزواج البرجوازي، يخوض فيها زوجان صبيانيان مجهزان بعتاد رياضي غمار صدماتهما الخاصة بين أحدث الأجهزة المنزلية - تاليا في الأهمية للإحساس بأن هذه ما برحت شذرات مقتطعة من مادة مطبوعة.
بالتحول إلى الرسم السريالي، من الواضح أنه كأسلوب «توقيعي» - وبتعبير آخر: كأسلوب تشي فيه الخطوط والعلامات التي يصنعها الفنان بريشته ب «لمسته» - يكاد يكون من المستحيل القول بأن الرسم يشير إلى التفاعل أو التبادل الاجتماعي على غرار التجميع الصوري البرليني. وبينما تكلم هاوسمن في برلين ذات مرة عن زملائه الفنانين باعتبارهم «خبراء تجميع صور»، حيث درجوا على مواءمة صورهم معا شأنهم شأن البنائين؛ تحدث الرسم السريالي في المقابل عن الخيال الفردي وعبقرية الفنان. لقد افتقر في جوهره إلى الصبغة السياسية الدادائية.
لقد عومل الرسم السريالي بشك إلى حد ما من داخل الحركة السريالية نفسها؛ ففي عام 1925، وصف بريتون الرسم السريالي بأنه «حيلة مؤسفة»، وأنه يناط بالفنانين أنفسهم إقناعه بتطبيقاته. كان الرسم السريالي من بدايته تقريبا مستقطبا. من ناحية، كان هناك نمط واقعي فني من أنماط الرسم تم فيه تصوير الوقائع البديلة اللاعقلانية بدقة شبه أكاديمية. ترسخت هذه النزعة في أعمال جورجيو دي شيريكو، ولكنها تجذرت أيضا لدى الرسامين الرمزيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، أمثال أوديلون ريدون وجوستاف مورو. ولأغراض التيسير، تسمى تلك النزعة «الرسم الحالم»، ولو أن أمثلة تلك النزعة، التي أنتجها إرنست ودالي، كما سيتجلى لنا لاحقا، لم تستغل بضرورة الحال الأحلام الشخصية، بل كثيرا ما قامت على سجلات لحالات فرويدية.
شكل 3-4: هانا هوخ، «عروسان برجوازيان - شجار»، تجميع صوري، 1919.
من ناحية أخرى، كان هناك الرسم «العفوي» الذي اتسم بالإنتاج العفوي للعلامات أو اللطخات التصويرية للإيحاء بأشكال، والذي مارسه فنانون أمثال أندريه ماسون السابقة الإشارة إلى «رسومه العفوية» ذات الصلة. ويمكن الزعم بأن هذا الأسلوب أكثر «سريالية» حقا فيما يختص بتنظير بريتون.
شكل 3-5: خوان ميرو، «الصياد»، زيت على قماش، 1924، متحف الفن الحديث، نيويورك.
إلى جانب ماسون، يعتبر خوان ميرو أحد رموز تلك النزعة «العفوية»؛ فبعد أن رحل عن بلدته الأم كاتالونيا قاصدا باريس خلال عامي 1920 و1921، نمت لديه في بداية الأمر لغة صورية متفردة جدا في أعمال مثل «الصياد» (1923-1924) (شكل
3-5 ). في الجهة اليسرى أعلى هذا العمل، تم تصوير «الصياد» الذي يحمل العمل اسمه كرجل عصا، يتجلى حذره في أذنه المضخمة بشكل مهول، وقلبه الذي نراه «مشتعلا». وفي الجزء السفلي من القماش نرى محجره؛ وهو مزيج عجيب من سمك السردين وأرنب. وصفت الأعمال الكاملة لميرو لاحقا بهذا النوع من التحول الشاعري المتلون؛ حيث تخضع الإشارات البصرية إلى تحول مستمر من لوحة إلى اللوحة التالية لها. لقد واءمت العفوية التي وظفها منذ منتصف العشرينيات - أحيانا في تخطيط أعماله، وأحيانا كجزء من النتيجة النهائية كما في لوحته الشهيرة «ميلاد العالم» (1925) - أساليب عمله الانسيابية.
كما سلف وألمحنا، تعرض الرسم إلى فترة متأججة على أيدي المنظرين السرياليين؛ فبعد البيان الأول مباشرة، وضع الكاتب ماكس موريس مقالة تحت عنوان «الحملقة المسحورة»، عبر فيها عن شكوكه في «رسم الأحلام»؛ فبحسب موريس، لم تكن تلك الأعمال قادرة على التعبير عن الطبيعة المؤقتة أو المتكشفة للأحلام. كان الفيلم، كما سنرى لاحقا، أفضل جاهزية لهذا النوع من التعبير. كذلك كبحت «المراجعة الثانوية»، التي يشتمل عليها إنتاج تلك الأعمال، جماح اللاوعي؛ ففي أبريل عام 1926، أعلن بيير نافيل - وكان آنذاك محررا للدورية السريالية «الثورة السريالية» - بشكل أكثر تأثيرا، أن «كل الناس يعرفون أنه ما من شيء يدعى الرسم السريالي.» وحتى العفوية الصورية شابتها الشكوك، بما أن العادات الجمالية، كحس التوازن التركيبي على سبيل المثال، ربما أعاقت الوصول إلى التلقائية الكاملة.
انتفض بريتون يدافع عن الرسم، وكتب سلسلة من المقالات ومقدمات الأدلة المصورة في سنوات العشرينيات اللاحقة؛ حيث ناصر من الناحية الشعرية فنانين مثل الرسام الفرنسي إيف تانجي، الذي أعجب بلوحاته الطبيعية الحالمة الحافلة بأشكال عجيبة ذات بنية شبيهة بالأحياء. لكن بريتون لم يضع تبريرا نظريا قط للرسم السريالي؛ ولذلك كان الاسم المحدد لتلك الكتابات المجمعة في نهاية المطاف «السريالية والرسم». كان بريتون على اقتناع بأهمية طلائع السريالية أمثال دي شيريكو وبيكاسو، وقد حاول أن يخطب ود الأخير تحديدا لفترة طويلة دون أن ينجح في ذلك، ولا شك أن الرخصة التي منحت للخيالات الجنسية والعنيفة للسريالية ضخت حياة جديدة في إنتاج بيكاسو في العشرينيات والثلاثينيات. لكن بريتون تذبذب في دعمه لأمثال ميرو وماسون، وكان محور النقد عنده، بما يتسق مع الالتزامات الماركسية بشكل متزايد، هو أن الرسامين خضعوا بسهولة لإغراءات «مهنتهم»، وسرعان ما استغلوا المنافع التجارية التي عرضت عليهم؛ ولعل الأسلوب الأكاديمي نسبيا لوافد متأخر على السريالية نوعا ما - وهو الرسام البلجيكي رينيه ماجريت - هو الذي أفضى إلى بعض التنازلات، لكن الحرفية التي تعرض بها أفضل أعمال ماجريت من الظواهر الهذيانية أو المعضلات الفلسفية التي تضفي عليها حدة متعنتة. من ناحية أخرى، تؤكد البراعة الفنية لسلفادور دالي، الذي انضم بشكل درامي لجماعة باريس من موطنه كاتالونيا عام 1929، كافة مخاوف بريتون.
شكل 3-6: سلفادور دالي، «الوجه الارتيابي»، مخطط الصفحة كما ظهر في دورية «السريالية في خدمة الثورة»، العدد الثالث، (ديسمبر، 1931).
لقد كانت الرسوم السريالية الأولى لدالي - مثل «لعبة الحداد» و«المستحلم الأكبر» عام 1929 - إبداعية بشكل أصيل؛ حيث كان أسلوبها «الفائق الرجعية»، بحسب وصف بريتون، مناسبا تماما لتحقيق مجموعة من الخيالات المرضية النفسية - المجموعة عادة من مصادر أدبية مثل فرويد، أو «المتخصص في علم الجنس» في أواخر القرن التاسع عشر ريتشارد فون كرافت-إيبنج - التي حفلت بها تلك الأعمال. في بداية الثلاثينيات، بذل دالي أيضا جهدا عظيما لدعم الموارد النظرية للسريالية البصرية؛ حيث ابتدع «الأسلوب الارتيابي-النقدي»، واستعرض ذلك في مساهمة موجزة له في دورية «السريالية في خدمة الثورة» عام 1931، حيث نسخ بطاقة بريدية لمجموعة من الأفارقة الجالسين قبالة كوخ من القش، وتظهر هذه البطاقة عند قلبها جانبيا على هيئة نموذج لرأس (شكل
3-6 ). ومثلما انطوى جنون الارتياب السريري على إعادة تفسير قهرية للظواهر الخارجية، ملأ دالي لوحاته المرسومة على القماش في الثلاثينيات بصور مزدوجة مبتكرة ببراعة، وبذلك، كما قال حرفيا، فإنه «ينزع الثقة عن الواقع». ولكن، في نهاية المطاف، مالت تلك الأدوات إلى التصنع والتكلف، وبينما استقطب دالي حتما رعاة أثرياء، أمثال جامع التحف الإنجليزي إدوراد جيمس، تراجعت قدرته على الابتكار، وأمسى دالي «الساعي وراء المال»، بحسب الاسم الشهير الذي ابتكره بريتون بعد أن أعاد ترتيب أحرف اسم دالي.
انتهى المطاف بالرسم باعتباره وتر أخيل السريالية؛ فقد كان هناك عيبان يشوبانه؛ ففي شكله العفوي كان يتألف من اشتراطاته المسبقة الجمالية جدا؛ وفي أكثر أشكاله واقعية من الناحية الأكاديمية، يمكن أن ينظر إليه باعتباره حليفا للذوق البرجوازي. ويزعم أن السيناريوهات «السريالية» بشكل مثقل - للفنان الفرنسي بيير روي، أو البلجيكي بول ديلفو، على سبيل المثال - لا تتجاوز بكثير كونها جزءا من النزعة الأكاديمية.
التصوير الفوتوغرافي
إذا أخفق الرسم في مضاهاة الطموحات السريالية، فحري بنا أن نقارن ما بين حظوظه وحظوظ «التصوير الفوتوغرافي المباشر» (تمييزا له عن التجميع الصوري). في هذا الكتاب، نزعت إلى توظيف التصوير الفوتوغرافي، مثلما فعل السرياليون، لتوثيق آرائهم، وبالقدر نفسه للتأكيد على مكانته الخاصة كشكل من أشكال الفن؛ ولكن يمكن بسهولة التأكيد على أن هذا الفن مثل الوسط السريالي بامتياز. إن حقيقة كون التصوير الفوتوغرافي وسطا ميكانيكيا، اقتضت بحد ذاتها أنه يمثل «أداة تسجيل متواضعة» - إن شئنا استدعاء وصف بريتون للشعراء السرياليين - مؤهلة بشكل متفرد لنقل السريالية المدمجة في الواقع بشكل عفوي. من المهم أن نتذكر أن نموذج بريتون، الوارد في «البيان الثاني للسريالية»، كان دوما مزيجا بين الواقعي والسريالي، على العكس من دالي الذي سعى، بحسب ما جاء على لسانه، إلى «تنظيم الارتباك منهجيا».
إن التصوير الفوتوغرافي سريالي في جوهره، وكما قالت سوزان سونتاج: «تكمن السريالية في قلب مشروع التصوير الفوتوغرافي، وتحديدا في خلق عالم مزدوج، وحقيقة من الدرجة الثانية، أضيق أفقا ولكن أكثر دراماتيكية من المنظورة بالعين المجردة.» فالكاميرا كثيرا ما تلتقط تفاصيل عجيبة بمحض المصادفة، فتجعلنا على دراية بغرابة المألوف، وبالتأكيد استغل السرياليون ذلك؛ فقد طلب بريتون، على سبيل المثال، من المصور الفوتوغرافي جيه إيه بوفارد إنتاج صور فوتوغرافية لمواقع باريسية مملة ظاهريا لروايته «ناديا»، وكما قلنا سابقا، كانت تلك الرواية تحكي قصة حب تحفل فيها مشاعر العاشقين - فضلا عن الجنون المبدئي لناديا - باكتشافات عارضة من أشياء يومية.
لا شك أن السريالية كان لها نصيب من التصوير الفوتوغرافي «الفني» المعد له مسبقا؛ ثمة مثال بارز لذلك، هو تجهيزات الاستوديو المبتكرة ل «مان راي» الدادائي السابق بجماعة نيويورك - الذي انجذب إلى باريس، شأنه شأن ماكس إرنست - لحظة ميلاد السريالية تحديدا؛ فقد جلب مان راي أثر مهارات الاستوديو الرائعة إلى صور مغرية ومؤلفة تأليفا كلاسيكيا وشديدة الفيتشية لجسد المرأة (شكل
4-3 ). كان التلاعب الصوري الفوتوغرافي أيضا يمارس على نطاق واسع، ومرة أخرى نجد أن مان راي يمثل أهمية قصوى ب «صوره المساحية الضوئية»، التي توضع فيها الأغراض على ورق فوتوغرافي في غرفة مظلمة، ويتم جمع الأغراض الجاري تعريضها للضوء، بحيث تترك الأشكال «السلبية» بشكل شبحي في الخلفية؛ و«عمليات التشميس» التي كان يتم فيها إضاءة الغرفة المظلمة لفترة وجيزة أثناء عملية التظهير؛ مما يؤدي إلى ظهور هالة من الضوء تحيط بحدود الصور التي تم تصويرها.
امتد التلاعب الصوري أيضا إلى عمليات كالتعريض المزدوج والتراكب أو مزج الصور السلبية بغية إنتاج صور مشقوقة داخليا و«مزدوجة»، وقد اعتبرت مؤرخة الفن روزاليند كراوس هذه العمليات وأمثالها، التي قام بها مان راي أو المصور الفرنسي موريس تابارد، مناسبة بشكل عجيب للسريالية؛ من الواضح أنها توحي بأن الواقع الذي تسجله الطبيعة الميكانيكية للتصوير الفوتوغرافي بشكل متكلف فيه غير مستقر في جوهره، بل هو مجموعة من الإشارات القابلة للتنقل، شأنها شأن النص، وهذه النقطة قد تذكرنا مجددا بالأساس الشعري للجماليات الدادائية/السريالية. ولكن، على الرغم من رأي كراوس، فإنه عندما يكون التصوير الفوتوغرافي على أقل تقدير «متطفلا على الفن» بوعي ذاتي، كما ألمحنا آنفا، فلربما يعتبر سرياليا على نحو أصيل. فبينما كان الرسم السريالي يبدو ممتثلا للتقاليد بعض الشيء مقارنة بالكولاج والتجميع الصوري للدادائيين، فإن التصوير الفوتوغرافي يتجلى باعتباره وسطا سرياليا «عفويا» بشكل بارز، وبينما كان للرسم السريالي إرث محبط نسبيا، على الأقل في الدول الأوروبية التي نشأ فيها؛ حيث أنتج جحافل من المقلدين وقليلا من الوارثين الفعليين، فقد كان بعض أبرز الشخصيات في عالم التصوير الفوتوغرافي في منتصف القرن العشرين - وعلى رأسهم: هنري كارتييه-بريسون، وبراساي، وبيل براندت، وأندريه كيرتيز - متأثرا قطعا بالسريالية.
الأعمال الفنية الجاهزة في مقابل الأغراض
ربما وجد الرسم بعض المعاناة عند مقارنته بالتصوير الفوتوغرافي داخل السريالية، ولكنه صمد على الأقل. وفي المقابل، لعب فن النحت بمعناه التقليدي دورا متواضعا في كل من الدادائية والسريالية، واغتصب مكانه ضرب جديد من الإنتاج الثلاثي الأبعاد؛ ألا وهو الأغراض العادية المسبقة الصنع، ويعد مارسيل دوشامب وأعماله الفنية الجاهزة نقطة الانطلاق التاريخية هنا. سبق أن ناقشنا أشهر هذه الأعمال، ألا وهو «النافورة»، التي أنتجها في نيويورك عام 1917، لكنها لم تكن أول الأغراض المسبقة الصنع (ومن ثم جاءت تسمية «الأعمال الجاهزة») التي ينسبها دوشامب لنفسه. كان ذاك الغرض هو «دولاب الدراجة الهوائية» عام 1913، وقد أنتجه في باريس قبل انتقاله مباشرة إلى أمريكا، وكان في الواقع مزيجا من غرضين: دولاب والشوكة الأمامية لدراجة هوائية ومقعد خشبي. وقد وضع الدولاب والشوكة داخل المقعد رأسا على عقب لخلق «منحوتة» قابلة للحركة على «قاعدة».
من الواضح مما ورد أعلاه أن اصطلاح النحت ملائم - وإن كان بشكل فيه مفارقة - ل «دولاب الدراجة الهوائية». يسخر هذا الغرض خلسة من النحت التقليدي بقدر ما يطعن في الشقاق الهرمي بين القاعدة والغرض المنحوت؛ فالمقعد يعتبر غرضا نفعيا شأنه شأن الدولاب، ولذا فهناك مساواة بين العناصر الهيكلية للعمل الفني. لقد حرر دوشامب الأغراض من البنى الهرمية للفن، وأعاد إضفاء طابع جمالي لها بشكل فيه مفارقة في الوقت نفسه. وهذا الاستخدام للأغراض الحقيقية كي تحل محل الأشكال المنحوتة، قد مثل بلا شك تحديا مهولا للتقليد، على الرغم من أن بيكاسو أدمج قماشا زيتيا وحبلا في لوحته «حياة جامدة مع كرسي خيزران» عام 1912. وكما في التركيب الصوري لدادائيي برلين، كانت هناك محاولة لتطهير الفن من مواده المألوفة، والانخراط ماديا مع عالم الإنتاج الصناعي الواسع النطاق.
يحتمل أن أهم تحد يمثله العمل الفني «دولاب الدراجة الهوائية» كان على مستوى التأليف. وشأنه شأن سلسلة الأعمال الفنية الجاهزة لدوشامب التي تلته، يطرح هذا العمل سؤالا محوريا عن طبيعة الفن نفسها. إذا كان الفن، كما ذكر دوشامب من قبل، من الناحية الاشتقاقية، يعني «أن يصنع المرء شيئا»؛ فقد برأ دوشامب نفسه بالكامل من هذا الالتزام.
لم يحول دوشامب الأعمال الفنية الجاهزة إلى شكل من أشكال الاستفزاز المفاهيمي إلا عام 1917، بعد نشر صورة «النافورة» (شكل
1-2 ). قبل ذلك، اختيرت الأغراض أغلب الظن على اعتبار أنها «لعب فلسفية» خاصة، وكما في حالة «دولاب الدراجة الهوائية»، لم تكن الأعمال الفنية الجاهزة بضرورة الحال أغراضا فردية. وبحلول أوائل العشرينيات - وربما لتسجيل الانشغالات الأدبية لجماعة الدادائية الباريسية الوليدة - كان دوشامب بصدد إنتاج «أعمال فنية جاهزة مساعدة» مثل «الأرملة/النافذة الجديدة»
Fresh Widow (1920)، وهي عبارة عن زوج من النوافذ الفرنسية بمقاس مصغر نسبيا، يحوي مربعات من الجلد الأسود اللامع بدلا من ألواحها الزجاجية. إن التفاعل بين العنوان والغرض مهم هنا؛ حيث يذكرنا مجددا بالأساس اللفظي للجماليات الدادائية/السريالية؛ فعند لفظ كلمتي العنوان بصوت عال بالإنجليزية، ينطمس الحرف الفاصل
n
بين الكلمتين، فيستدعي مجموعة من التداعيات الحرة الانطلاق، بما في ذلك السادية- المازوخية. شارك مان راي - وكان آنذاك واحدا من شركاء دادائية نيويورك المنسوبة لدوشامب - صديقه دوشامب دعابته السوداء؛ فقد يكون عمله الفني «هدية» عام 1921 من حديد مسطح، عليه صف من حبال الأشرعة البارزة بشكل عنيف من القاعدة الحديدية. إن التجميعات الدادائية على مثل هذه الشاكلة شغلت مكانة أسطورية بين سرياليي باريس.
في عام 1924، كتب الزعيم السريالي بريتون مقالة مهمة تحت عنوان «مقدمة لخطاب عن قصور الواقع»، وفيها ناقش بريتون كتابا غامضا صادفه في حلم من أحلامه:
كان ظهر الكتاب يحمل شكل عفريت خشبي، لحيته البيضاء المشذبة على الطريقة الأشورية قد بلغت قدميه. كانت ثخانة التمثال عادية، لكنها لم تمنعني من قلب الصفحات المصنوعة من قماش أسود ثقيل.
إن إيمانه بأن هذه الأغراض ينبغي نشرها وبثها من أجل «التشكيك» في «إبداعات «العقل» ومنتجاته»؛ بشر بإنتاج «الأغراض الوظيفية رمزيا » داخل السريالية. وعلى الرغم من ذلك، كان على مرحلة النشاط هذه أن تنتظر حتى عام 1931.
كان الحافز الفوري لتلك المرحلة منحوتة نحتها الفنان السويسري ألبرتو جياكوميتي، وهو المثال التقليدي الوحيد الذي دار في مدار السريالية، واستقر في باريس عام 1922. كان لعمله الفني «بدون عنوان (كرة معلقة)» عامي 1930 و1931 - وهو عبارة عن بناء غامض علقت فيه كرة من الجص داخل هيكل قفصي الشكل، وثمة شق في محيطها السفلي يكشط الحافة الحادة لهلال جصي موضوع أسفلها مباشرة - أثر مهول على الجماعة السريالية عندما نشرت صورة له في دورية «السريالية في خدمة الثورة»، وامتدح بريتون تحديدا هالتها التي تشي برغبة غير محققة.
إن موجة إنتاج الأغراض التي تبعت هذا الكشف الجماعي قد ولدت بعض أجمل أعمال السريالية البصرية، وتفوق دالي على نفسه بمجموعة فتيشية معقدة وصفها على النحو التالي:
حذاء امرأة، وضعت داخله زجاجة من الحليب، في منتصف معجون لدن شكلا ولونه أشبه بالبراز. تتكون الآلية من غمس قالب سكر رسمت عليه صورة حذاء، بغية رؤية قالب السكر، ومن ثم صورة الحذاء وهي تذوب وتتفكك في الحليب.
بعد فترة من الوقت، أنتجت الجماعة أغراضا أقل تعقيدا، لعل أشهرها «إفطار مغطى بالفراء»، وهو عبارة عن كوب وصحن مغطيين بالفرو من إنتاج الفنانة السويسرية النشأة ميريت أوبنهايم - وهي واحدة من النساء المعدودات اللائي لعبن دورا بارزا في هذه المرحلة من السريالية - وكان هذا العمل عامل الجذب الأساسي بالمعرض الرئيسي للأغراض السريالية بمعرض باريس لتشارلز راتون عام 1936. لكن هذا العمل الفني «إفطار مغطى بالفراء» صار مألوفا أكثر من اللازم. ثمة عمل مهم آخر لأوبنهايم بعنوان «ممرضتي»، ويستغل هذا العمل أيضا الأشياء المشهورة بفتيشيتها، ألا وهي الأحذية. من المثير التفكر في السبل المختلفة التي يستخدم بها دالي وأوبنهايم تلك الأشياء، مع الوضع في الاعتبار أنه على الرغم من أن علماء النفس بصفة عامة كانوا عازفين عن الإقرار بوجود الفتيشية الأنثوية، فقد كانت تجميعات أوبنهايم تبدو وكأنها تنم عن النقيض. ذكرت أوبنهايم ذات مرة أن الأحذية تستدعي لديها فكرة «الوركين المضغوطين معا في متعة»، في إقرار متأخر منها ب «الجو الحسي» الذي كان ينضح من ممرضتها في طفولتها. لعلها تسخر من قضية الفتيشية الأنثوية بأسرها هنا؛ فالفتيشية الأنثوية، إن وجدت، ترتكز على الوظيفة النفسانية للفتيشية عند للرجال، والتي من المفترض أن تكون عادة مغايرة الجنس في أساسها. لا شك أن غرض دالي يعزز هذه الفكرة، وبالتأكيد هناك ما يتجاوز التلميح إلى خيال مثلي في تعليق أوبنهايم. يستطيع المرء بسهولة أن يرى الحذاء المربوط، الذي يلعب أيضا دور ديك تبل على صحن، باعتباره يشكل شكلا من خيالات الاستعباد الجنسي من ناحية الفنانة.
شكل 3-7: ميريت أوبنهايم، «ممرضتي»، صحن معدني، حذاء، رباط، وورق، 1936.
وإذا قمنا - بالعودة إلى التناقض بين الدادائية والسريالية - بمقارنة «ممرضتي» لأوبنهايم بأحد الأعمال الفنية الجاهزة لدوشامب مثل «النافورة» (شكل
1-2 )، فسيتضح لنا أن عرض أوبنهايم السريالي يصر صراحة على محتواه النفساني، بينما ينتظر العمل الفني الجاهز الدادائي في صمت تفسيرنا له. لقد فسرت «النافورة» في واقع الأمر باعتبارها شكلا ثنائي الجنس، بانحناءاتها والفجوة الكائنة في قاعدتها؛ حيث وشت بتحول «أنثوي» لوعاء «ذكوري» من وجه آخر. ومن قبيل المفارقة، أنه على الرغم من الاعتقاد بأن الأعمال الفنية الجاهزة قابلة للاستخدام - لو لم تكن مستخدمة مؤقتا باعتبارها شكلا من أشكال «الفن» - فإن الغرض السريالي يوضح عدم جدواه كشيء ذي قيمة ممكنة. تهكم جورج باتاي، الذي كان ناقدا بارزا للنزعات الرومانسية للسريالية في العشرينيات والثلاثينيات، ذات مرة على عقم الجماليات، معلنا: «أتحدى أي عاشق للفن أن يعشق قماشا عشق الفتيشي للحذاء.» في هذا السياق، يمكن النظر إلى «ممرضتي» على اعتبار أنها تخدم تحديدا الاحتياجات الفتيشية، لا الاحتياجات الفنية.
ترسي هذه المقارنة فارقا واضحا بين الجماليات الدادائية والسريالية؛ فالأعمال الفنية الجاهزة تعمل على هدم التمايز ما بين الفن واللافن، وهي تقر ضمنا بأن الفن شيء يتم تحديثه وفق شروطه الخاصة فحسب. في المقابل، يتسق الغرض السريالي مع تقاليد الفن، مهما تبدلت تلك التقاليد، بغية الوفاء بوظيفة تجريبية جديدة.
وما من شيء يوضح الدور المحفز المتخيل للغرض السريالي بقوة أكبر من واقعة اشتهر أندريه بريتون بروايتها في روايته «عشق جنوني» (1937)؛ إذ روى بريتون كيف أن ألبرتو جياكومتي كان يواجه عثرة نفسانية واضحة فيما يتعلق بإنهاء رأس واحدة من منحوتاته، عرفت لاحقا باسم «الغرض الخفي»؛ وقد وقع اختياره هو وبريتون على واحدة من شبكات الصيد السريالية المألوفة في سوق للأغراض المستعملة بباريس، واكتشفا أنهما منجذبان بلا سبب واضح إلى نصف قناع معدني عجيب أدركا لاحقا أنه قناع مبارزة. أدرك جياكومتي لاحقا أن شكل الغرض يطرح حلا بشأن كيفية الانتهاء من رأس منحوتته. لا يتحدث بريتون هنا كثيرا عن الغرض السريالي باعتباره شيئا أقرب إلى أحد أعمال دوشامب الجاهزة، ألا وهو «الغرض المعثور عليه» الذي يتوافق بشكل غامض مع إملاءات «المصادفة الموضوعية»، بل قصده أن الرغبات الدفينة في لا وعي جياكومتي هيأته فعليا للعثور على الغرض. كان بريتون يرى الحب الرومانسي يعمل بطريقة مناظرة، لكن مهمة الغرض السريالي كانت، نوعا ما، أن يجعل من مثل هذا البحث غير ضروري، وأن يخاطب رغباتنا بشكل مباشر. ونظريا على الأقل، يعمل هذا الغرض على الانتقال بنا إلى ما وراء الجماليات بالكامل.
الفيلم
بينما سعى الدادائيون إلى التشكيك في الفن أو إعادة تعريفه، وابتكروا أثناء ذلك - من قبيل المفارقة - أشكالا فنية جديدة (مثل الأعمال الجاهزة)؛ أولى السرياليون اهتماما أقل بالوسائط الفنية في حد ذاتها؛ حيث اقتنعوا بأن المحتوى الشعري سيجعل من قضايا الشكل أمورا غير ذات صلة، وقد سعوا إلى المزج بين الفن والحياة بالمعنى «الطليعي»، بالشكل المميز الذي تم تحديده في بداية الفصل الأول.
ومن سبل التأكيد على هذا التمايز الالتفات أخيرا إلى الطرق التي استغلت بها الحركتان الفيلم السينمائي. كوسط لم يظهر على مسرح الأحداث إلا في عامي 1895 و1896، عندما استعرض الأخوان لوميير اختراعهما، كان الفيلم، لا شك، «أحدث» وسيلة إعلام وظفوها. وقد كانت الأفلام الدادائية التي أنتجها هانز ريشتر وفاكينج إيجلينج في زيوريخ، أو رينيه كلير ومان راي في باريس، أو الأفلام السريالية لدالي وبونويل؛ جزءا من موجة مهولة من التجريب السينمائي في العقود الأولى من القرن العشرين، اعتمدت بشكل كبير على إنجازات حركات الفن الطليعي.
يتسم الفيلم الدادائي تحديدا بوعي ذاتي بخصوص طبيعته المادية كفيلم، وباهتمام بحمل جمهوره على تقدير هذه الحقيقة. إن ريشتر الألماني المولد وإيجلينج السويدي المولد، اللذين كانا عضوين متأخرين وثانويين نسبيا بجماعة دادائية زيوريخ، قد عملا معا من أجل احتلال ريادة الأفلام التجريدية خلال الفترة بين عامي 1919 و1921. أنتج إيجلينج، الذي وافته المنية عام 1925، بكد واجتهاد عملا كبيرا وحيدا، تحت عنوان «السيمفونية القطرية»، استدعت فيه أشكال تجريدية أنماطا ونوتات موسيقية. واستجاب عمل ريشتر بالمثل للموسيقى، لكنه كان أكثر ابتكارا من الناحية البصرية؛ ففي عمله «الإيقاع 23» (1923)، على سبيل المثال، تمتزج سلسلة من الأشكال المستطيلة معا، ثم ينفصل بعضها عن بعض؛ حيث تتمدد وتتراجع أثناء تلك العملية.
وكما في حالة الانقسامات الداخلية للدادائية عموما، تتناقض النزعات التجريدية لصناع الأفلام في زيوريخ، الذين ستفضي بهم في نهاية المطاف إلى التحالف مع البنائية العالمية، مع التأكيد الأكبر على المحتوى المناوئ للبرجوازية في الأفلام الدادائية التي أنتجت في باريس. ربما كان أبرز تلك الأفلام - وهو فيلم «فاصل» لرينيه كلير عام 1924 - يستغل تقاليد السرد، لكن مسار أحداثه يكاد لا يكون «متصلا» على غرار أفلام هوليوود المعاصرة الصامتة. تتعثر آثار السرد لفيلم كلير دوما بفعل اللقطات ذات الزوايا الحادة للغاية، والصور المتراكبة والتصوير السينمائي البطيء والسريع. تم توظيف تحرير المونتاج أيضا، وهو تقنية تنطوي على التجاور الصارخ بين اللقطات؛ بغية خلق آثار شعورية أو فكرية قوية لدى المشاهد، ولكنها لا تتم على غرار الطريقة العقائدية للأيديولوجيات الروسية المعاصرة لأفلام سيرجي آيزنشتاين على سبيل المثال. كانت المشاغل السينمائية الرسمية لكلير مكبوتة دوما بسبب زميله فرانسيس بيكابيا. إبان تلك الفترة، أمست الدادائية الباريسية منهكة تماما، وكان بريتون بصدد تدشين السريالية، ومن ثم كان إسهام الدادائي السابق بيكابيا في الفيلم يتمثل في مقاطعة الأجزاء التجريبية الصريحة لكلير بتتابعات هزلية حافلة بتوقير دادائي مبالغ فيه؛ على سبيل المثال: ينتهي تتابع مطول شبه تجريدي ، يتقاطع فيه بالتبادل انتفاخ تنورات راقصة باليه أثناء دورانها، مع صور كالخطوط الهندسية للبنايات، عندما يكشف أن راقصة الباليه هي في واقع الأمر رجل ملتح.
أنتج مان راي أيضا فيلما دادائيا مدته خمس دقائق في باريس العام السابق. كان فيلم «العودة إلى المنطق» أكثر تقيدا بشكل رسمي من فيلم كلير وبيكابيا «فاصل»، لكنه لم يكن أقل منه فوضوية؛ فقد بعثر الفنان أغراضا مثل الدبابيس ومسامير الخرائط على السيلولويد، ثم عرضها على غرار ما فعله مع «صوره المساحية الضوئية» الفوتوغرافية، وتجلت تلك اللقطات الثابتة في طباق مع غيرها من اللقطات التي عرضت فيها أشياء مثل جذع امرأة ودوامة خيل خشبية وهي تدور ببطء.
تقاوم كل الأفلام الدادائية المذكورة آنفا أي تدخل خيالي مباشر من المشاهد، لكن ثمة منطقا مختلفا تقوم عليه المجموعة الصغيرة من الأفلام السريالية التي أنتجها خلال الفترة ما بين عامي 1927 و1930 زوجان من المتعاونين: الكاتب الدرامي الفرنسي والشاعر أنطونين أرتو والمخرجة جيرمان دولاك من ناحية، والفنان الإسباني سلفادور دالي والمخرج لويس بونويل من ناحية أخرى. وفي تلك الأفلام، تستثير عناصر السرد والتأكيد على مشاعر الممثلين بحيوية الانخراط النفساني للجمهور، ولو أن ذلك ما برح يعترض كثيرا من قبل صور مزعجة أو صادمة أو تحرير المونتاج السريع المستلهم بالقدر نفسه من باستر كيتون في حالة بونويل، وكذلك من الأسلاف الطليعيين. كان الفيلم الذي أخرجه للنور أرتو/دولاك «صدفة ورجل دين» عام 1927 - وهو عبارة عن دراسة فرويدية للمنافسة الأوديبية بين رجل عجوز وآخر شاب على امرأة غامضة - أول فيلم سريالي تحديدا، لكن الأجواء «الشعرية» الأكثر رقة للفيلم طغت عليها العروض البصرية الصاخبة التي اتسمت بها أعمال دالي وبونويل.
كان أول هذه الأعمال فيلم «كلب أندلسي»، ومدته 17 دقيقة، الذي تم تصويره في أسبوع واحد في مارس 1929؛ أي قبل أن ينضم دالي مباشرة للسرياليين. في المشهد الافتتاحي الشهير، يظهر رجل (بونويل نفسه) وهو يشحذ موساه إلى جوار نافذة، وبينما يراقب خيطا من السحب يمرق من أمام القمر، إذا بالرجل يشق عين امرأة تجلس دون حراك إلى جواره (والواقع أن العين لثور لا لامرأة) (شكل
3-8 ).
فسرت هذه الافتتاحية بعدة طرق؛ فقد يكون إفقاد البصر هجوما مجازيا على رؤية الجمهور، وبناء عليه يكون هجوما على التقاليد السينمائية بحد ذاتها، ويمكن أيضا أن تفسر على اعتبار أنها «قطع» للفيلم ذاته. لكن مؤرخي الأفلام أمثال ليندا ويليامز فسروا المشهد تفسيرا فرويديا باعتباره إزاحة رمزية لقلق الخصاء؛ قال بونويل نفسه ذات مرة إن الطريقة الوحيدة لتفسير الفيلم هي التحليل النفساني، وتثبت ويليامز وجهة نظر مقنعة بالإشارة إلى مشاهد أخرى في الفيلم حيث يستثار قلق الخصاء لدى البطل عبر أجزاء مبتورة من الجسد. وفي واحد من تلك المشاهد، نتحرك عبر سلسلة دراماتيكية من اللقطات المقربة المربكة من صورة ليد يحاصرها باب، وثمة جرح شبيه بالندبة في كف اليد تتدفق منه أسراب من النمل؛ إلى صورة لامرأة من عل تلكز يدا مبتورة بعصا.
شكل 3-8: لويس بونويل وسلفادور دالي، مشاهد من فيلم «كلب أندلسي»، 1929.
إذا كانت الصور الشبيهة بالحلم لفيلم «كلب أندلسي» تستدعي التفكيك عن طريق التحليل النفساني، فسنجد أن الفيلم الثاني لدالي/بونويل - وهو بعنوان «العصر الذهبي»، وإنتاج عام 1930 - يتعاطى بطريقة مباشرة أكثر مع العالم الواقعي، ولو أن صوره ليست أقل ترويعا. شغل هذا الفيلم الشاغل، بأسلوب سريالي بشكل ملتزم، هو القمع الاجتماعي للرغبة، خاصة كنتيجة للعقيدة الكاثوليكية. وتتألف ذروة الفيلم من عنوان داخلي مطول يعلن عن الظهور الوشيك من قلعة سيليني للفجار الذين شاركوا في رواية ماركيز دي ساد «أيام سدوم المائة والعشرون». وبينما يفتح باب القلعة، نرى أن أول السدوميين هو المسيح نفسه.
إذا كان الفيلم الدادائي لفت الانتباه لذاته كفيلم، وعادة ما كان يضمر نية هدامة، فالفيلم السريالي كانت غايته أن ينسي المشاهد الوسط الفني بغية إحداث «تحول في الوعي». لقد كان إرث الدادائية فيما يتعلق بتاريخ الأفلام تقليدا طليعيا أو «سريا»، بلغ ذروته في الأفلام التجريبية التي أخرجها في الخمسينيات والستينيات صانعو أفلام أمثال ستان براكاج أو آندى وارهول. لكن كان للسريالية، من ناحية أخرى ، أثر أكبر على الأفلام السائدة حيث يكون الجمهور متأهبا للتحرر الخيالي، وقد حظي بونويل نفسه بمشوار فني لاحق خصب جدا؛ حيث أنتج أفلاما ذات حيثية ، بداية من «الملاك المبيد» (1962) وانتهاء ب «سحر البرجوازية الخفي» (1972)، بينما استمر صناع الأفلام الدوليون البارزون في مد جذور الإمكانات السريالية للوسط الإعلامي حتى يومنا هذا؛ ومن بين الشخصيات الرائدة هنا مخرج أفلام الرسوم المتحركة التشيكي يان سفانكماير والأمريكي ديفيد لينش الذي يوضح فيلمه «طريق مولهولاند» (2001) المدى الذي ترتقي به قيم الإنتاج الهوليوودي السخية بالآثار السريالية بقوة. إن هؤلاء ممارسون «سرياليون» بوعي ذاتي منهم، لكن الأفلام السائدة عموما، بتعطشها للتجاورات التي لا تفتأ تزداد إذهالا، استوعبت بلا عناء تقنيات السريالية.
إن المصير التاريخي للأفلام الدادائية والسريالية يثبت نقطة أكثر شمولا حيال جماليات الحركتين؛ ففي السريالية، كانت هناك نزعة للسماح للوسط الفيلمي بأن يؤدي وظيفته «بشفافية»؛ أي بألا يتطفل بشكل موغل في الإصرار على التوقعات الجمالية للمشاهد بغية إحداث تحول نفسي. كان هذا أسهل في الاستيعاب من طرف الثقافة الجماهيرية، من إصرار الدادائية على تشويش متعة المشاهد وإنكارها عليه؛ في هذا الصدد، يمكن للمرء الإشارة إلى الأثر المهول للسريالية على التصميم الجرافيكي والإعلانات حتى يومنا هذا. يمكن الاستشهاد بالعديد من الحالات، بيد أن سلسلة إعلانات سجائر بنسون وهيدجز السريالية بشكل عبثي، التي ظهرت في السبعينيات؛ تعد أمثلة ممتازة. وقد لاحظ نقاد أمثال فريدريك جيمسون أن العبادة السريالية للرغبة، إضافة إلى التقنيات البصرية المعززة للتعبير عن تلك الرغبة، تبناها نظام السوق بغية تلبية «حالات الرضا الزائفة» للنزعة الاستهلاكية الرأسمالية؛ ويعود بنا ذلك نوعا ما إلى سؤال طرح في المقدمة عن عجزنا عن أن تفصلنا أي مسافة حقيقة عن التبعات الجمالية للسريالية. قد يكون من المغري أن نتكلم باستسلام هنا عن الطريقة التي أخفقت بها حركتان فنيتان يساريتان بامتياز، إن شئنا الجمع بين الدادائية والسريالية، في مقاومة استيعاب الرأسمالية لهما؛ ولكن هذا كفيل بمصادرة النتيجة قبل أن ندرس بعناية الطموحات الثقافية والسياسية الأوسع نطاقا للدادائية والسريالية. كانت تلك الطموحات ، كما سيتجلى لنا، معادية بشكل عميق للقيم الرأسمالية، وهي أيضا أنسب عدسات يمكن من خلالها النظر إلى فن هاتين المدرستين.
الفصل الرابع
«من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
«كيف لأحد أن يعقد الآمال على تنظيم الفوضى التي تشكل هذا التنوع اللانهائي العديم الشكل؛ الإنسان؟» طرح تريستان تزارا هذا السؤال عام 1918 في بيانه الدادائي، وفي المقابل، بدأ أندريه بريتون روايته السريالية «ناديا» بالسؤال الأكثر تفاؤلا، ولكن الأكثر إثارة للقلق، ألا وهو: «من أنا؟» كانت الأسئلة المتعلقة بالهوية، أو بطبيعة الوعي أو بالعلاقات بين العقل والجسد، محورية للدادائية والسريالية، وأساسية أيضا للخلافات بينهما. أود فيما يلي أن أبحث كيف ظهرت هذه الأسئلة في كتابات الحركتين وفنهما، وكيف أن تلك الأسئلة تسلط الضوء على بعض النقاشات الأكثر إثارة بين المنظرين والفنانين المعنيين. إذا كانت كلتا الحركتين تعتنقان أسبقية اللاعقلاني على العقلاني، فكيف تخيلتا اللاعقلاني؟ إذا استوجب أمر السعي وراء اللاعقلانية، فكيف خالف ذلك القيم البشرية التقليدية؟ وإلى أي حد كان البرنامج المناوئ للبشرية مرغوبا؟ كانت الدادائية والسريالية على حد سواء معارضتين للعقيدة الدينية التقليدية، ويرجع ذلك أساسا إلى أن الكثير من أتباع الحركتين نشئوا تنشئة أخلاقية بشكل خانق. ولكن، كيف استطاعوا أن يضعفوا ازدواجية العقل-الجسد المتوطنة في الفكر الغربي؟
استندت بدائلهما، كما سنرى لاحقا، إلى العديد من الأنظمة الفلسفية والعقائد التي كثيرا ما ترتبط بفكر غامض أو مستغلق. وإذ عارضوا النظرة المتشككة لليهودية والمسيحية إلى الجسد، فقد انجذبوا إلى وجهة نظر احتفائية بكل ما هو جسدي وشبقي.
حتما كانت وجهات النظر هذه تحمل في طياتها ثقلها الأيديولوجي، وسيتجلى ذلك الموضوع أثناء المناقشة.
اللاعقلانية: أنصار فرويد ومعارضوه
أعلن تريستان تزارا في بيانه الدادائي عام 1918 أن: «المنطق دوما زائف؛ فهو يستقطب سلاسل المفاهيم والكلمات السطحية نحو استنتاجات وبؤر وهمية.» وإذ كان تزارا على قناعة بأن أي نظام شمولي للفكر إنما هو متحيز في جوهره، فهو يفضل - شأنه شأن الدادائيين عموما - أن يستقر رأيه على تبني النسبوية التامة:
إذا صحت:
مثالي، مثالي، مثالي
معرفة ، معرفة، معرفة،
بوم بوم، بوم بوم، بوم بوم
أكون قد سجلت بدقة لا بأس بها التقدم والقانون والأخلاق ...
لكي أقول، في نهاية المطاف ... إن الجميع رقصوا بحسب إيقاعهم الخاص ...
تعزى النسبوية في جزء منها إلى تأثير الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي أثر تقريبا في جميع المنظرين الأساسيين للدادائية. إن تفسير نيتشه للطبيعة البشرية باعتبارها شيئا يحكمه اللاعقلاني، وخاصة البواعث الأنوية؛ كان نقطة مرجعية مشتركة بينهم، وكذلك كان فكر الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، الذي أكد في كتب مثل «التطور الإبداعي» (1907) على أسبقية الحدس في فهم طبيعة الواقع. ثمة رمز آخر مشترك تحمسوا له؛ ألا وهو الشاعر الفرنسي رامبو الذي نادت وثيقته «رسالة الرائي» عام 1871 «بالإرباك المنظم الطويل الأجل لكل الحواس»، كي يتحول الشاعر الحديث إلى «متفرج».
وبخلاف تلك الشخصيات المحورية، من المفيد أن نميز ما بين المصادر الألمانية والفرنسية الدادائية للمذهب اللاعقلاني. وفر فكر نيتشه وبرجسون توجيها نفسيا-لوجستيا، لكن المذهب الفرويدي هو الذي أكد بشكل حاسم الأساس اللاعقلاني للحافز البشري في السنوات الأولى للقرن العشرين؛ حيث شدد على الطبيعة الممزقة داخليا لعلم النفس البشرية والأهمية الشكلية للجنسانية في التطور البشري. لا شك أن أعضاء جماعات الدادائية الألمانية قرءوا كتابات فرويد في فترة مبكرة نسبيا (ظهر كتاب «تفسير الأحلام» أصلا بالألمانية عام 1900)، ولكن، كما ذكرنا آنفا، كان أعضاء تلك الجماعات يشككون عموما في المضمون «البرجوازي» لفكر فرويد؛ حيث شعروا أن أهدافه العلاجية تساعد على تكيف الإنسان مع وضعه الاجتماعي، وكان ماكس إرنست في كولونيا استثناء مهما لهذه القاعدة. ولكن، مال دادائيو برلين تحديدا إلى التعاطف بقدر أكبر مع «الفرويديين المناوئين لفرويد» اليساريين أمثال الكاتب أوتو جروس، وكما أوضح ريتشارد شيبارد، فإن نقد جروس النفساني للمغالاة في تقدير العقلانية والكبت الخطير للعناصر اللاعقلانية للشخصية؛ كان ملائما للبرلينيين في مواجهة عنف الشارع اليومي. وقد ساعدتهم أيضا على تركيز معارضتهم البلاغة الواهنة «للروح» التي تبناها الكتاب التعبيريون اليساريون، أمثال لودفيج روبينر، في مواجهة التمزقات الجارية في اليسار الألماني. ومن المنطلق نفسه، كانت أفكار ألفرد أدلر زميل فرويد - الذي رأى أن البشر مدفوعون «بنزعة السيطرة والتحكم» النيتشوية، وشعر بأن ثمة تقديرا مبالغا فيه للمبدأ الذكوري مستقرا في صلب الاضطراب الحديث - أنسب بكثير للدادائيين في برلين، في ظل قبولهم العنيد للتعايش بين النزعات الهدامة والتأكيدية في الطبيعة البشرية.
في المقابل، كان المناخ في باريس أكثر مواءمة للفرويدية التقليدية. لقد ناقشت تناول دادائيي باريس لفرويد، مؤكدا على أن بريتون تعرف على أفكاره كجزء من تدريبه الطبي (وكان تأهيل لويس أراجون مطابقا لبريتون فعليا)، وأن فرويد هيمن رمزيا على «البيان السريالي الأول». لا شك أن فرويد كان أكثر جاذبية لبريتون من نيتشه؛ خاصة أن تأكيد نيتشه، بمرور عشرينيات القرن العشرين، على «الرغبة في السيطرة والتحكم» الفردية، لم يتفق مع الالتزامات الماركسية المتزايدة لبريتون. وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي الإفراط في التأكيد على أهمية فرويد للسريالية المبكرة. لقد كان بريتون أساسا على دراية بفرويد من خلال الملخصات التفسيرية للعالمين النفسانيين الفرنسيين إيمانويل ريجيس وأنجلو هيسنارد، وكان على دراية أكبر بعلماء الأعصاب الفرنسيين أمثال جوزيف بابينسكي. كانت أعمال فرويد قد بدأت ترجمتها تدريجيا إلى الفرنسية آنذاك، ومن أوائل الأعمال التي ظهرت عام 1922 «علم أمراض النفس في الحياة اليومية». ويمكن الاستدلال بقوة على انضمام ماكس إرنست إلى السريالية ذاك العام، باعتباره محفزا للمعرفة العميقة، بتفاصيل دراسات حالات فرويد؛ فقد قرأ إرنست أعمال فرويد منذ عام 1911 عندما درس علم النفس كجزء من درجته العلمية في جامعة بون، وخلال العامين 1922 و1923 - باعتباره سرياليا - رسم إرنست العديد من الأعمال المهمة استنادا لمعرفته تلك، وتعتبر لوحته «الرأفة/الثورة ليلا» (شكل
1-3 )، بعنوانها البديل الذي يضم المشروع الثوري للسريالية وتأكيد فرويد على الأحلام؛ مثالا يعضد هذه الفكرة.
ولكن، لم الإشارة إلى «الرأفة»؟ في دراسة الأيقونات المسيحية التقليدية تمثل «الرأفة» صورة للسيدة مريم العذراء، وهي تحمل المسيح الميت بين ذراعيها، ولكن يبدو هنا أن لدينا شكلا من «الرأفة» المعكوسة التي يظهر فيها أب، بدلا من الأم، يحمل ابنه. واستنادا إلى الكثير من الأدلة، وأبرزها شاربه، يجوز في واقع الأمر تحديد هوية «الأب» الموجود بالصورة على اعتبار أنه فيليب، والد إرنست نفسه. ذات مرة في طفولة إرنست، رسم فيليب الأب - الذي كان معلما كاثوليكيا تقيا جدا ورساما هاويا - ابنه على هيئة المسيح في مهده، ويمكننا استنادا إلى هذه الواقعة افتراض أن الشخص الذي يمسك به يمثل ماكس إرنست/المسيح؛ وبالنظر إلى منطق الرأفة المعكوس، تستدعي صورة فيليب بشكل تجديفي الإله الأب؛ وبالنظر إلى أن الابن قد تحجر، حيث رسم وجهه وكفاه باللون الرمادي، فالمعنى الضمني ينم عن أن الأب أحال ابنه إلى حجر.
كل ذلك يوحي بقوة بأن إرنست أخذ الآليات الأساسية «لأبحاث الأحلام» الفرويدية - لا سيما عمليتي «الإزاحة» و«التكثيف» اللتين يتم بموجبهما ترميز رغبات ومخاوف الحالم في «المحتوى الواضح» للحلم - كوسيلة يستطيع بواسطتها أن يمد نفسه بسيرة نفسية عجيبة، جامعا عناصر من سيرته الذاتية وجوانب من الأيقونات المسيحية معا. ويبدو أن نقطته المرجعية الكلية هي حجر الزاوية لرواية فرويد للتجربة الجنسية الطفولية، ألا وهي عقدة أوديب، المستندة إلى الخيال اللاواعي للطفل الذكر المتعلق بمنافسته لأبيه على حب الأم، والعقاب العنيف (المؤدي إلى الإخصاء) الذي يترتب على ذلك؛ ولذا «فالمحتوى الكامن» للوحة يمكن تفسيره على أن الوالد انتقم من الابن لانتهاكه الممثل في زنا المحارم. وبالطبع، لم يكن إرنست بصدد إعادة بناء واحد من أحلامه الخاصة، بل كان بصدد إنتاج شكل من أشكال التحليل الذاتي.
ولكن يجب أن نتوخى الحذر من الوصول على عجل إلى تفسير محدود؛ فتفسير لوحة «الرأفة» لا يقل صعوبة عن التعامل مع «عقدة أوديب معكوسة» التي قد تنطوي على تعلق مثلي الجنس بدائي بالأب، وفي لوحات إرنست خلال تلك الفترة، مثل «لن نعرف شيئا عن هؤلاء الرجال»، عمل المزيد من النقاط المرجعية المستترة مثل الخيمياء بشكل معارض للتحليل النفساني. وعلى الرغم من أن مؤرخي الفن بذلوا جهودا ليجدوا أفكارا فرويدية مثل «الخارق للطبيعة» متفشية داخل السريالية، فلربما كان فنان مثل إرنست أكثر سخرية بكثير حيال الفرويدية مما توحي به المخططات التأويلية الجادة. لا شك أن فرويدية إرنست كانت سابقة بالنسبة إلى السرياليين الآخرين، ولكنهم نادرا ما التزموا التزاما حرفيا بفرويد، ربما باستثناء دالي. إن الترجمة الفرنسية الصادرة عام 1930 لكتاب «النكات وعلاقتها باللاوعي» للمحلل النفساني، ربما وجدت لنفسها، على سبيل المثال، صدى في ولع السرياليين خلال تلك الفترة بالكوميديا السوداء، ولكن في عام 1928 كان لويس أراجون يسخر صراحة من شهرة فرويد في فرنسا، زاعما في «أطروحة عن الأسلوب» أن الرواية الرومانسية «بول وفرجينيا»، الصادرة في القرن التاسع عشر، «يمكن قبولها جوازا باعتبارها كتابا جديدا مذهلا في يومنا هذا، على شرط أن تدلي فرجينيا بالقليل من التعليقات عن الموز، وأن يخلع بول بغير عمد منه ضرسا بين الحين والآخر.» كان فرويد بدوره مشككا في السريالية؛ فعندما طلب إليه بريتون عام 1937 المساهمة في تجميعة لروايات بعض الأحلام، رفض؛ استنادا إلى أن النسخ المباشر للحلم من دون تداعيات المريض لا مغزى له بالنسبة إلى فرويد. كما كانت الاهتمامات الشعرية للسرياليين مختلفة تماما عن المشاغل الفعلية للتحليل النفساني.
ثمة سؤال أكثر شمولا يتعلق بالمكانة الكلية للاوعي بوصفه نموذجا للسرياليين، وهو: بم يشي اللاوعي عن الطبيعة البشرية إجمالا؟ إن فكرة اللاوعي تفترض مسبقا أن الإنسان محكوم ب «آخر» باطني، وإلى حد ما، أضفى السرياليون على هذه الفكرة طابعا رومانسيا ممثلا في ذات داخلية تيهية وربما متضاربة. بحسب التقليد الرومانسي، قام السرياليون بتأسيس جماعة للجنون؛ إذ كان بريتون جامعا نهما لأعمال الفنانين المضطربين عقليا أمثال جوزيف كريبين وهيكتور هيبولي، وعزز إرنست مجددا من السريالية البصرية؛ إذ جلب نسخة من كتاب هانز برينزورن «فنية المرضى العقليين» إلى باريس عام 1922 كهدية لصديقه بول إيلوار. وفي عام 1930، في نص مشترك تحت عنوان «الممتلكات»، حاول بريتون وإيلوار محاكاة حالات الذهان. ولكن السرياليين لم يحسنوا التكيف مع الجنون عندما اقتربوا منه أكثر من اللازم؛ فلم يفعل أحد سوى القليل لمساعدة ناديا، ملهمة رواية بريتون الأولى، بعد أن استسلمت للجنون الذي أسرت أماراته «الشعرية» المبكرة الكاتب. وبالمثل، يبدو أن بريتون فقد رباطة جأشه بسبب حالة أنطونين أرتو ؛ فهذا الشاعر اللاذع والمنظر اللاحق ل «مسرح القسوة» لفترة وجيزة، تولى مسئولية «مكتب الأبحاث السريالية» القصير الأجل عام 1925، لكنه هو وبريتون تشاجرا؛ حيث أمسى واضحا أن مفهوم أرتو وبريتون للثورة مختلفان اختلافا عميقا؛ فبالنسبة إلى بريتون، كانت الثورة في جوهرها موقفا فكريا، أما بالنسبة إلى أرتو، فقد كانت تتطلب استسلاما عميقا ومفجعا للجنون، وعندما أمسى مجنونا في نهاية المطاف، لم يساعده بريتون إلا قليلا.
على الرغم من أنه قد ثبت أن السرياليين ليسوا أهلا لمخاطر الانغماس الفعلي في اللاوعي، فقد كان ارتباطهم النظري باللاوعي يعني أنهم كانوا في موقف مناسب يؤهلهم لإجراء تشريح للعادات والأعراف البرجوازية، لا سيما ما يتعلق بالجنسانية. وسيعنينا المدى الذي استطاعوا به التغلب على فرضياتهم البرجوازية الخاصة بينما نتابع نقاشنا، ولكن سنضطر على الأرجح إلى الاتفاق مع أنصار الدادائية في التأكيد على أن تكيفا اجتماعيا من نوع خاص يستتر حتما وراء فهم بريتون للاوعي. لقد كان اللاوعي باعتباره مكانا تتحقق فيه الرغبات - في طباق جدلي مع أوجه قصور الوجود اليومي - بالنسبة إلى بريتون؛ دربا يفضي إلى تجربة حياتية متغيرة نوعيا. وفي الوقت نفسه، شعر بريتون بأن الحياة اليومية ينبغي أن تتغير استنادا إلى نموذج ماركسي. ومن وجهة نظر كثير من الدادائيين، فإن إيمانه بوجود عقد جدلي جديد بين الوعي واللاوعي، يرسخ بفعل فلسفة إنسانية شكوكية نوعا ما. وعلى النقيض من ذلك، دعمت الدادائية توجهات الفلسفة اللاإنسانية.
النزعة اللاإنسانية
من بين الفكر المحورية للدادائية في برلين ونيويورك فكرة الإنسان بوصفه آلة؛ فلما شعر الفنانون الدادائيون بأن البشرية ألقت نفسها بشكل حاسم في أحضان الميكنة، طوروا في كلتا المدينتين أيقونات شديدة التعقيد والرقي ل «المتحولات الميكانيكية»، وهي أشكال هجينة تجمع بين الإنسان والآلة. وفي برلين، وتحديدا في مايو عام 1920، أنتج جورج جروتس لوحته داوم تتزوج ... (شكل
2-9 )، التي أومأت إلى زواجه الحديث. وإذ صور جروتس عروسه الجديدة داوم (وهو الاسم الذي استحدثه بعد أن عكس لقبها «مود» بالألمانية) جهة اليسار من اللوحة، ورسم نفسه جهة اليمين على شكل إنسان آلي، ارتقت لوحة جروتس، بحسب فيلاند هيرتسفيلده، إلى هجوم على الزواج بوصفه مؤسسة برجوازية؛ فالزواج بحسب هيرتسفيلده «يحيل الرجل دائما وأبدا إلى مكون ثابت من مكوناته ، وترس صغير داخل نظام أكبر من العجلات والتروس»، بحيث إن الرجل، «يتعاطى مهام أخرى رصينة ودقيقة جدا وتقتضي براعة شديدة»، بينما تتحرر المرأة ويطلق لها العنان. يجوز القول بأن هذا الحكم متداخل مع فكرة معاداة المرأة، لكنه ينم عن مدى فهم الدادائيين للميكنة باعتبارها متفشية في كل شيء. ومن اللافت للنظر أن أيقنة الزواج كانت متفشية في الدادائية؛ ففي عام 1919، أنتجت دادائية برلينية أخرى تدعى هانا هوخ لوحة طبعت فيها رؤية أنثوية للفكرة نفسها؛ حيث رسمت زوجين مكبلين بأدوات حديثة (شكل
3-4 ). وفي نيويورك آنذاك، كان مارسيل دوشامب يعكف بكد واجتهاد على بيانه الحاسم عن اقتران الإنسان والآلة، ممثلا في لوحته «عروس جردها عزابها من ثيابها». وكما ذكرنا آنفا، فإن هذا العمل الفني المعقد الذي تم تنفيذه على الزجاج، يضع «عروسا» طافية بالأعلى قبالة «عزابها» المكبلين بالأرض بالأسفل، والعروس وأزواجها على حد سواء مرسومون على هيئة آلات. وعلى غرار تفسير هيرتسفيلده لجروتس، تحتفظ العروس لنفسها ببعض الاستقلال، بينما ينظر إلى العزاب باعتبارهم قشورا استمنائية.
أيا كانت المواقف من مؤسسة الزواج الواردة هنا، فمن الواضح أن الحب العاطفي، في عمل دوشامب تحديدا، يختزل في هيئة عملية ميكانيكية؛ فالجسد البشري يتخذ وضعية آلة ليس لها أي علاقة طبيعية بالروح أو العقل. على أحد المستويات، يمكننا أن نرى شبح الفيلسوف الفرنسي ديكارت يقبع وراء كل ذلك؛ إن الازدواجية الديكارتية التي شكلت المقدمة الفلسفية الأساسية للمنهج العلمي الحديث أكدت على أن العقل، كمادة تفكير، متحرر من الجسد؛ مما دعا البعض - أمثال لامتري - إلى النظر إلى الجسد بوصفه آلية محضة. يحتمل إذن أن الدادائيين كانوا متمسكين بوجهة النظر الديكارتية، ولو أنها كانت ممزوجة بمسحة من السخرية اللاذعة؛ على سبيل المثال: أنتج فرانسيس بيكابيا، حليف دادائية نيويورك المنسوبة لدوشامب، بعض الأعمال الفنية كردود أفعال ساخرة جدا تجاه الجنسانية، وعلى رأسها «صورة فتاة أمريكية صغيرة في حالة عري» عام 1915 (شكل
2-7 )؛ حيث ساوى بين الوفرة الجنسية للأنثى وعمليات شمعة الإشعال.
تتحدث أغلب أعمال بيكابيا إبان تلك الفترة عن ريبة لا إنسانية في جوهرها في الروحانية، وفي الشعور الداخلي الدفين، وشاركه مواقفه تلك إلى حد ما دادائيو برلين؛ فقفد أكد مثلا راءول هاوسمن على أن «الدادائية هي الغياب الكامل لما يعرف بالروح؛ لم يكون لدينا روح في عالم تسير مجرياته ميكانيكيا؟» ولكن من المهم أن ندرك أن خطاب التعبيريين عن صراع روح الإنسان الحديث مع الآلة هو الذي كان محط نقد هاوسمن. وحقيقة الأمر أن دادائيي برلين عموما تبنوا مفهوما أكثر إيجابية تجاه الآلة مقارنة بجماعة نيويورك؛ حيث تصوروا أن الجانب الجمالي الميكانيكي وسيلة للفت في عضد الفردية ومناصرة الجماعية. لقد سعوا إلى مادية قوية وتحاشوا الابتذالات البشرية، ولكنهم، ربما فيما خلا جروتس، لم يؤيدوا بأي حال من الأحوال ازدواجية العقل-الجسد بالطريقة التي بدا أن النيويوركيين، ولو بسخرية لاذعة، يؤيدونها بها. وكما سنرى لاحقا، مال الدادائيون الناطقون بالألمانية عادة - في زيوريخ وفي برلين على حد سواء - إلى موقف فلسفي وحداني ذي مسحة صوفية، التأمت بموجبه ازدواجيات كالجسد والروح في وحدة تناقضية. وفي هذا الصدد، لو لم يكن فكر أندريه بريتون مشبعا بالمثالية بشدة هكذا، لانسجموا مع مفهومه للسريالية. ولكن، ماذا تعني «المثالية» تحديدا هنا؟ لنرجع إلى السريالية.
في «البيان الثاني للسريالية» عام 1929، أكد بريتون على أن: «كل شيء يجنح بنا إلى الإيمان بأن هناك نقطة محددة في العقل يتعطل فيها النظر إلى الحياة والموت والواقع والخيال والماضي والمستقبل ... باعتبارها متناقضات.» يساعد هذا الاقتباس جزئيا على إضافة مغزى للبادئة
Sur
في كلمة «السريالية»
Surrealism
فيما يختص بنبرتها المتسامية، لكنها لافتة للانتباه إلى أقصى حد كمؤشر على الالتزام الجوهري لبريتون تجاه الجدلية الهيليجية. لقد احتك بريتون لأول مرة بفكر الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر حوالي عام 1912، واعترف لاحقا بأنه «استنبط» معناه بديهيا إلى حد كبير. جوهريا، أفاد فكر هيجل بريتون فيما يتعلق بالتوفيق بين تأكيده الأولي على استكشاف اللاوعي من ناحية، وبين التزامه بالتغيير في العالم المادي الذي صاحب ولاءه، وولاء السريالية، للشيوعية بعد عام 1926، من ناحية أخرى. لقد كان القالب المثالي لفكر هيجل الأكثر أهمية وحيثية على الإطلاق. في الفلسفة التجريدية بشكل معقد لهيجل، يتعرف العقل على نفسه، أو الروح على نفسها، من خلال سلسلة تدريجية من التوليفات الجدلية. وبالنسبة إلى بريتون، تعمل الصورة السريالية بالمثل عبر التصادم بين مصطلحات متضاربة بغية إنتاج وحدة جديدة «أعلى».
لقد كان بريتون مثاليا من حيث تأييده للوعي الذاتي للعقل في علاقته الجدلية بالمادة، ولكن هل أفضى هذا أيضا بشكل منطقي إلى الإنسانية الليبرالية المستترة التي كان يمكن أن يراها كثير من الدادائيين مرفوضة؟ لا تنبع الإجابة عن هذا السؤال من الدادائيين أنفسهم، ولكن من أكثر محاربي بريتون الفكريين حدة، وهو جورج باتاي.
كما ذكرنا آنفا، لم يكن باتاي قط جزءا من جماعة السريالية، لكنه كان الناطق باسمها وسوطها؛ فبعد أن نبذ بريتون الكثير من أعضاء الجماعة عام 1929 - وأبرزهم ميشيل ليريس وأندريه ماسون وروبرت ديسنوس - دان كثير منهم بالولاء إلى دورية باتاي «وثائق». من عدة أوجه، كانت لدورية «وثائق» التي نشرت خلال عامي 1929 و1930 هالة «علمية» شبيهة بالدوريات السريالية، لكن مقالاتها شبه الأكاديمية ركزت بقدر أكبر على قضايا كالأعراق البشرية وعلم الآثار ومعارضة موسيقى الجاز وغيرها من جوانب الثقافة الشعبية. والأهم من كل ذلك، بالنظر إلى النقاش الحالي، أن ثمة هجوما شنته صفحات تلك الدورية، في كتابات باتاي تحديدا، على الفرضيات المثالية المسبقة لتفكير بريتون، وأحيانا كان هذا الهجوم مجازيا لا مباشرا. في المقالة الكثيرة الاقتباس «الإصبع الكبير»، قيل إن الإصبع الكبير جزء من تكوين الإنسان، وإنه يفصله ويميزه عن السعدان القريب الشبه بالإنسان، وهو أيضا الجزء الذي يمكن الإنسان من الوقوف منتصبا، فينصب عقله على أشياء أسمى. لكن الإنسان، بحسب رأي باتاي، يعتبر الإصبع «المغروس في الطين» شيئا حقيرا وخسيسا، وأكد أن الأقدام لا يقيم لها أحد وزنا بالقدر الكافي سوى الفتيشيين عشاق الرمز؛ ولذا، فإن باتاي يبحث عن قلب للقيم التي ستشكل، في كتابات أخرى، دعوة للاحتفاء بالجوانب الخسيسة للطبيعة البشرية في مقابل مراوغات المثالية.
وأهم على الإطلاق، هو أن باتاي يرى أن مفهوم بريتون للسريالية مقيد بمفاهيم «الذوق» والجانب الجمالي، على الرغم من الادعاءات التي تم الإعراب عنها في «البيان السريالي الأول»، فيما يختص بالإطاحة بعرش الأخلاق التقليدية. في مقالة تحت عنوان «انحرافات الطبيعة» نشرت في دورية «وثائق»، العدد الثاني (1930)، انصب تركيز باتاي على افتنان البشرية ب «فلتات» الطبيعة مثل التوائم السيامية، ويمكن قراءة النص في حقيقة الأمر على اعتباره تعليقا مستترا على الشعار الإنساني للخنثى؛ ألا وهو المزج بين الذكر والأنثى الشائع في المجازات الخيميائية التي انجذب إليها، كما سنرى لاحقا، السرياليون البريتونيون. وبالإلماح للخنثى، ولو بشكل غير مباشر، كمثال آخر لتوليفة مثالية، تناول باتاي بإسهاب الأحداث الطبيعية التي لا يسفر فيها اقتران إنسانين عن شيء مثالي، بل عن شيء وحشي قبيح. في شتى أعداد دورية «وثائق»، نجد تلاعبا دائما بفكرة القبيح كوسيلة لمجابهة المثالي وإبطال أثره بمادية فظة؛ على سبيل المثال: كصور إيضاحية لمقالة حول الأقنعة بقلم جورج ليمبور، يؤكد فيها على أن المرادفات الغربية الوحيدة للقوة الشعائرية للأقنعة المحيطية القبلية هي أغراض مثل أقنعة الغاز؛ نجد مجموعة مدهشة من الصور الفوتوغرافية لأقنعة الكرنفالات للمصور جيه إيه بويفارد. وإذ يفترض أن واحدا من تلك الأقنعة يوحي بالبهجة والبشاشة، يبدو ذاك القناع لأول وهلة وكأن عينيه احترقتا تماما.
شكل 4-1: جيه إيه بويفارد، «قناع الكرنفال»، صورة فوتوغرافية مستنسخة في دورية «وثائق»، العدد الثاني (باريس، 1930).
في عام 1929، كان هناك صدام مباشر بين بريتون وباتاي؛ إذ استند بريتون إلى أحدث جنود السريالية، وهو سلفادور دالي، كي يمنع باتاي من إعادة استنساخ لوحته الرئيسية ذاك العام «لعبة الحداد» إلى جانب تأويل لها كتبه باتاي لصالح دورية «وثائق». كان على باتاي أن يرضى برسم تخطيطي للصورة، لكن تعليقه - الذي انصب على مخاوف الاستمناء والإخصاء المميزة لرسوم دالي - يكشف كم كان دالي، بمواطن هوسه المعلنة بالاستمناء والبراز والتعفن، فنانا باتاييا مثاليا. ويبدو أن بريتون تغافل عن الجوانب «المضطربة» حقا لأعمال دالي، ولو أنه لم يتوان، إبان تلك الفترة تقريبا، عن الاعتراض على الطبيعة الخسيسة لسريالية أنطونين آرتو . وعلى الرغم من أن باتاي ربما زعم، عن حق، انتساب دالي إليه، فإن الأخير ظل إلى حين ضمن معسكر بريتون. قرر فنانون آخرون أن يهجروا معسكر بريتون بشكل حاسم بصورة أو أخرى، ومن بين هؤلاء أندريه ماسون الذي كان نزوعه تجاه فكر نيتشه والصور المجازية العنيفة، في أعمال مثل رسوم «المذبحة» عام 1933 التي صورت رجالا ينحرون نساء، أكثر مما يتحمله بريتون.
ربما بدا أن نقد باتاي اللاإنساني لبريتون له صدى في نقد الدادائية ل «بابا» السريالية، لكن موقف باتاي لم يكن متطابقا مع الدادائية؛ ففي سنواته اللاحقة، بدا أن باتاي في واقع الأمر أقرب بكثير إلى السريالية مما كان عليه خلال فترة العشرينيات التي اتسمت بالاندفاع والطيش، لا سيما أنه ناصر مفهومهم الكلي القائل بأن جزءا من معضلة الإنسان المعاصر يتمثل في غياب الأسطورة، أو ما أسماه «المقدس»، للتعامل مع النزعات اللاسلطوية الأكثر سوداوية للطبيعة البشرية. وعندما أمكن، مع اندلاع الحرب عام 1939، النظر إلى الدادائية والسريالية بأثر رجعي على أنهما توسطتا حربين عالميتين، أمست الحاجة إلى تفكيك فكرة الإنسان «الإنساني» أكثر إلحاحا بكثير للورثة الفكريين للحركتين، وورث إرث باتاي أشخاص مثل المفكر الفرنسي ما بعد السريالي ميشيل فوكو. لكن لا إنسانية باتاي الخاصة بالكاد قدمت «حلا»، بل لقد كانت هناك فترة في الثلاثينيات جنحت فيها تلك النزعة أكثر إلى الفاشية. وثمة طريقة حاولت بها كل من الدادائية والسريالية على حد سواء تجاوز القيم الإنسانية وازدواجية العقل والجسد، وذلك عبر الفكر الصوفي أو المستغلق.
الفكر الصوفي والمستغلق «حامت الدادائية فوق سطح المياه قبل أن يخلق الرب العالم، وعندما قال: فليكن هناك نور! لم يكن هناك نور، بل دادائية.» يعكس هذا التصريح المشترك لأعضاء جماعة دادائية برلين الموقف التهكمي للدادائية تجاه الأديان التقليدية. لقد ناقشنا بالفعل أمثلة للمناوأة الشديدة للكاثوليكية من جانب السرياليين؛ إن ما مقته السرياليون، شأنهم شأن الدادائيين، كان تحديدا الفصل اليهودي-المسيحي بين الروح والجسد. وعلى الرغم من أن دوشامب وبيكابيا، كما رأينا من قبل، استخدما لغة الازدواجية للسخرية من النزعة التكنولوجية للإنسان الحديث، فقد استدعى الدادائيون تحديدا مبادئ فلسفية ما قبل سقراطية أو غير غربية يحتفظ فيها الروحاني والمادي بتوازن عظيم، وكان هذا جزءا من نقد أكبر للنفس الحديثة.
كانت المصادر التي اعتمد عليها الدادائيون في هذا الصدد متنوعة جدا؛ فقد كان هوجو بال في زيوريخ تحديدا منجذبا إلى المفكر الإغريقي السابق لسقراط هرقليطس، الذي شدد على أن كل شيء في حالة تقلب دائم، بينما كان هانز آرب منجذبا إلى الصوفيين المسيحيين أمثال الكاتب الألماني ياكوب بوهيمي بالقرن السابع عشر، والفلاسفة الطاويين الصينيين أمثال لاوتزه. إننا نعلم أن آرب قرأ على الملأ فقرات من بوهيمي في واحدة من «الأمسيات الدادائية» في زيوريخ عام 1917؛ حيث انتقى بشكل بارز أقساما تؤكد على أهمية الحفاظ على التوازن في خضم التقلبات. وفي سياق التأثير الصيني، من المحتمل أنه نقل مبادئ مصدر وحي التغيير السابق للطاوية، «كتاب التغيرات»، بغية إنتاج رسوم الكولاج خاصته، التي رتب فيها المستطيلات «بحسب قوانين المصادفة» (شكل
3-1 ). وباعتباره أثرا محوريا في الطاوية، انشغل «كتاب التغيرات» بالتنبؤ بأنماط التغير السارية في الطبيعة، ومن ثم في العالم البشري. وعندما يرجع المحاور إلى هذا الكتاب، فإنه يسلم نفسه إلى المصادفة بإلقاء أعواد نبتة الألفية (أو عملات معدنية في أيامنا هذه) لإنتاج سلسلة من «الرسوم السداسية» التجريدية التي كانت تناظر آنذاك واحدا من البيانات التنبئية للكتاب. وإذ أسقط آرب مستطيلاته الورقية، فقد كان بالمثل يقبل على قوانين الطبيعة لا قوانين الإنسان، على الرغم من أنه كان من الواضح عدم وجود بعد تنبئي.
في برلين، بدا أن راءول هاوسمن أيضا كان يطالع لاوتزه حوالي عام 1918، ولكنه علاوة على ذلك قد كان منجذبا إلى فكر البيولوجي الدارويني الألماني إرنست هيكل الذي اعتبر مبدأ وحيدا، وهو «قانون المواد»، موحدا للروح والمادة؛ وكل ذلك يدعم إيمان المؤرخ ريتشارد شيبارد بأن لا عقلانية الدادائيين وتحطيمهم التقاليد بطريقة مناوئة للفن كانا مرتبطين أساسا ببحث فلسفي عميق. كان أحد أعمدة الدادائية، وخصيصى في زيوريخ، يعنى بالتفاعل بين نماذج الطبيعة باعتبارها فوضوية، ونماذجها باعتبارها نمطية في جوهرها، ولو أن ذلك يمتد إلى البرلينيين غير الشيوعيين أمثال هاوسمن. وكان العمود الآخر - الممثل في دوشامب وبيكابيا في نيويورك وباريس، أو جورج جروتس وفالتر سيرنر في برلين - وجوديا جوهريا بقدر أكبر ونزاعا تجاه العدمية؛ يناظر ذلك بالتأكيد الحكمة التقليدية التي بموجبها تكون الدادائية في زيوريخ أكثر «استدلالية» في جوهرها من دادائية نيويورك أو دادائية باريس.
وبالرجوع إلى السريالية، نجد القليل من الطبيعة الصوفية لدى آرب أو هاوسمن، لا سيما أن التعبيرية، التي حوت الحافز الحيوي لاهتماماتهما، كان لها أثر طفيف على الحركة الفرنسية. وبدلا من ذلك، فقد مالت كثيرا النماذج السريالية للفكر المناوئ للازدواجية إلى الاستقاء من التقاليد الغربية المستغلقة فيما بعد العصور الوسطى، وكانت الخيمياء تحديدا موضع اهتمام كبير لدى جميع الكتاب والمنظرين البارزين في الحركة. وتتجلى الخيمياء، ممزوجة بإشارات ضمنية للتنجيم والعناصر الأربعة، دوما في السريالية البصرية. كانت الخيمياء أساسا معنية بتحويل العناصر، ومن ثم نراها تثري الصور المجازية المتعددة التكافؤ لأندريه ماسون مثلا؛ ففي لوحته «ميلاد الطيور» (شكل
3-2 )، نجد أن صورة الطائر وهو ينطلق في الأعالي من فرج المرأة، ترتبط بأفكار متداعية مباشرة بصور الطيور الرمزية المحلقة إما لأعلى وإما لأسفل في نقوش الوعاء الخيميائي؛ حيث كانت عمليات تحويل المادة تتم، بينما توظف اللوحة كلها صورا مجازية تحولية لطرح الميلاد كموضوع. ربما كان ماسون أقرب تقريبا إلى صوفية الطبيعة لآرب من غيره من السرياليين، وربما تأثر بعمق بهرقليطس. ولكن، في أعمال ميرو (شكل
3-5 ) يمكننا أن نجد أيضا إشارات ضمنية إلى كون متعدد الأنماط بشكل صوفي، ولكنها تتسق هذه المرة مع فلسفات رامون لول، الصوفي المسيحي الذي عاش في القرن الثالث عشر، والذي شاركه ميرو جذوره الكتالونية.
ومن المهم التأكيد على أن الخيمياء بالنسبة إلى السرياليين كانت تعبق بنظرة عالمية خاصة تنتمي للعصور الوسطى المتأخرة ، وكانت لها ارتباطات قليلة بالجانب الغامض والغريب الذي تتسم به في الخيال الشعبي. وبصفة عامة، كان لدى السرياليين اهتمام محدود بالأشياء الفائقة للطبيعة، وخاصة بقدر ما كانت ترتبط بتقاليع القرن التاسع عشر مثل الروحانية. بذل بريتون جهودا مضنية لبيان أن حالات الغشوة التي غشيت السرياليين خلال مرحلة «غموض الحركة» لم تكن لها علاقة بالتواصل مع الموتى. وقد أكد والتر بنيامين أبرز نقاد السريالية أن ما لفت انتباه السرياليين كان «التنوير الدنس» الذي يمكن الحصول عليه من الوجود المادي بدلا من أي رجوع والتجاء للدين أو «الماوراء»، أو إلى العقاقير أيضا، وينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الاهتمامات السريالية كثيرا ما كان يتوجب أن توافق الماركسية.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا نعلم أن بريتون كان مفتونا في فترة مبكرة بفكر الكاتب الفرنسي بالقرن التاسع عشر إليفاس ليفي المتعلق بالسحر، ولو أن ليفي نفسه كان ماديا ومكرسا للمصالحة بين الروح والمادة. ويرجع بنا ذلك إلى الفهم السريالي للخيمياء؛ فمن ناحية، كانت الجماعة منجذبة إلى الغرابة المحضة للنقوش المستغلقة القديمة المشيرة مجازيا إلى المضمون الروحاني للعمليات المادية للخيمياء، وتدين الصور الإيضاحية لماكس إرنست، التي أوردها في «روايات الكولاج» التي أنتجها في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات؛ بالكثير لتلك السوابق. ومن ناحية أخرى، تنبأ السرياليون بالطريقة المعقدة التي سيفسر بها العالم النفساني كارل يونج الخيمياء في كتابه الصادر عام 1944 «علم النفس والخيمياء». هنا ذهب يونج إلى أنه بينما شددت المسيحية على الخلاص من الخطيئة؛ مما يوحي ضمنا بالشك في الجسد، استخدم المستغلقون المجاز الخيميائي كشكل من التعليق على المسيحية، فأكدوا على المصالحة ما بين المادة والروح عبر الجمع والتأليف بين المبادئ الذكورية والأنثوية في الرمز الخنثوي؛ والواضح أن كل ذلك يناظر الهجوم الكلي للسرياليين على المذهب الكاثوليكي، وليس من العجب أن فكرة الخنثى وجدت لها صدى كبيرا في فنهم وكتاباتهم. ولكن، ينبغي أن نستدعي مقالة جورج باتاي السالف مناقشتها في القسم السابق حيث يخلق المزج ما بين الأضداد بشاعة لا مصالحة؛ كان هذا الوجه الآخر للميتافيزيقا السريالية.
لو أن الخيمياء استدعت نظرة عالمية فلسفية بديلة، فإن ثمة فرعا مهما من الفن السريالي تعامل مع تقويض الفئات التي تم بها تنظيم المعرفة نفسها في عالم ما بعد التنوير. في هذا الصدد، كان السرياليون خصيصى مهتمين بتقليد القرنين السادس عشر والسابع عشر المعروف باسم «خزائن الفضول»؛ في إطار حدودها، قدمت هذه الخزائن أنماطا بديلة لترتيب وتصنيف الأشياء، سواء المصنوعة أم الطبيعية، للأنماط المعمول بها في المتاحف التي ستحل محلها في نهاية المطاف. كانت الأسبقية والأولوية لمبادئ التناظر أو التداعي الغريب الأطوار للمعاني على مبادئ الأجناس والنوع. بحث السرياليون الأنظمة التصنيفية البديلة في العديد من السياقات؛ فمجموعاتهم الفنية الشخصية نزعت إلى أن ترتب بحيث تكون اللوحات - كلوحات دالي أو دي شيريكو مثلا - على المستوى نفسه للأغراض الطبيعية الغريبة أو المصنوعات اليدوية «البدائية». ومن المنطلق نفسه، أنتج دالي «غرضا سرياليا» عام 1936 قوامه طبق من الأغراض، بما في ذلك حذاء والعديد من المعجنات المزخرفة، وزخارف صغيرة لزوج يمارسان الجنس، تم تجميعها بجهود مضنية استنادا إلى منطق فتيشي شخصي، وكرس جوزيف كورنيل - وهو الإضافة الأمريكية المتأخرة نوعا ما لحركة السريالية - مشواره كله لإنتاج صناديق مفتوحة، لا تتجاوز أبعادها عادة 18 × 12 بوصة مربعة، وقد استدعت الأنابيب الصلصالية، والجرار الصيدلانية، وخرائط النجوم التي تحويها تلك الصناديق عالما مصغرا من حلم اليقظة.
يمكن تحديث هذا الجانب من السريالية بعض الشيء بالنظر في الصورة الصارخة ليان سفانكماير، متخصص الرسوم المتحركة والمخرج الوارد ذكره في الفصل الأخير، الذي يمارس شكلا معقدا متأخرا من السريالية. في أوائل السبعينيات، أنتج سفانكماير سلسلة كبيرة من الأعمال الفنية بالخدش تحت العنوان الجمعي «علم الطبيعة»، وفيها اقترنت أقسام من صور لحيوانات وهياكلها العظمية معا بغية إنتاج أشكال هجينة مزعجة. ثمة ولاء مقصود هنا لماكس إرنست، الذي نشر محفظة من الأعمال الفنية بتقنية الحك تحت عنوان «التاريخ الطبيعي»، لكن سفانكماير يعيد إحياء إرث إرنست. أنتج سفانكماير أيضا ملاحظات علمية زائفة لترافق تصنيفاته الشاذة. في حالة «أوديب لاعق القضيب» (شكل
4-2 )، نتعرف على جنس حيواني أسترالي وحشي، تضع أنثاه بيضا يخرج منه الذكور بكسر قشرة البيض بقضبانها، وتباشر الأم لعق قضبان مواليدها الذكور، فتبتلع منيها لتخصيب المزيد من البيض، بعد ذلك تخصي الأم أولادها بأن تطبق فكها على قضبان ذكورها، فتضمن بذلك أن يكون كل البالغين «إناثا» فعليا.
شكل 4-2: يان سفانكماير، علم الطبيعة، عمل فني بتقنية الخدش، 1973.
تتسق الدعابة السوداء المعنية هنا والتلاعب المتعمد بالأفكار التحليلية النفسية بالكامل مع السريالية السائدة، لكن الخلط الشاذ لسفانكماير للبيانات الطبيعية يرتبط بشكل أساسي وبدقة شديدة بهويته كفنان محصور بالتقليد السريالي التشيكي. كانت مدينة براج موطنا لأكبر خزائن فضول على الإطلاق في أواخر القرن السادس عشر، وتنسب إلى الإمبراطور رودولف الثاني، وتلتفت أعمال سفانكماير بشكل ساخر إلى أعاجيب هذه المجموعة. ينم ذلك بدوره عن شيء خاص بالطريقة التي تنشأ بها منظومة معرفية بديلة حتما من جذور «محلية» بدلا من الجذور «العالمية»، وتعلق أيضا بشكل غير مباشر على الفرضيات المسبقة للفكرة المتمركزة في باريس عن السريالية، وهي الفكرة التي يتردد صداها في الخطاب السريالي عن الكولونيالية التي عملت، خلال الثلاثينيات والأربعينيات، على تلطيف النزعات المناصرة للفرنسيين.
على الرغم من إبداعات أنشطة الهدم السريالية للتصنيف، يجوز التأكيد على أنهم ما برحوا يتحركون وفق قواعد التقاليد الفكرية الغربية؛ وفي مقابل ذلك، كانت هناك انتكاسة رجعية إلى «البدائي»، في كل من الدادائية والسريالية، يمكن النظر إليها باعتبارها مقاومة للفرضيات الغربية المسبقة عن الطبيعة البشرية بشكل مباشر بدرجة أكبر. ويعود بنا ذلك مجددا إلى التيار اللاإنساني في فكر باتاي؛ وتحديدا اهتمامه بمعارضة كل ما لا يندمج بشكل جذري مع العادات المثالية للفكر الغربي، ولكن سنؤجل هذه المناقشة حتى الفصل التالي. ما يتجلى لنا مما ورد أعلاه هو معرفة إلى أي حد وظف الدادائيون والسرياليون النماذج الصوفية والمستغلقة للفكر من أجل الطعن في الازدواجية الغربية من الداخل؛ إن ما سعوا إليه، كما أكد السرياليون دوما، كان التحرر، لكن باتاي بلا شك كان من الممكن أن يذهب على سبيل المقاومة إلى أن هذا التحرر خدم الروح أو العقل. ماذا عن تصور الجسد؟
الجسدي والشهواني
في رسالته إلى أهل رومية (الإصحاح 7، الآيات 21-24) قال القديس بولس: «فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموسا آخر في أعضائي ... يسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي.» إن هذا النوع من التشويه الديني للجسد جلب معه «انتكاسة عنيفة إلى المكبوت» في الفن الدادائي والسريالي؛ على سبيل المثال: في مارس 1920، وتحديدا في الأيام الأولى لدادائية باريس، نشر فرانسيس بيكابيا صورة طبق الأصل من طرطشة حبر، وأسماها «العذراء المقدسة»، في دوريته «391». وبعيدا عن كون هذا العمل مثالا على عملية المصادفة التي كانت «تجريدية» أيضا، شأنها شأن أعمال الكولاج السابقة لآرب في زيوريخ؛ كان لرتوش الحبر الدادائية مضامين تجديفية. بحسب المذهب الكاثوليكي، لم تعش العذراء المقدسة تجربة «المتعة التناسلية»؛ إذ أنجبت المسيح وظلت فعليا «بكرا». وما أوحت به طرطشة الحبر التي قدمها بيكابيا أكثر من أي شيء آخر، كان النتيجة الفعلية البشعة لعملية فض البكارة البشرية.
هذا المثال اللافت لإعادة إحياء الجوانب المحرمة للتجربة الجسدية، يدلل على موطن قلق أكبر في الدادائية والسريالية من رفض المعايير الأخلاقية التقليدية. ولكن، هل كان كل ذلك يرقى ببساطة إلى هجوم أوديبي على الثقافة الأبوية، أم كان هناك دور جديد متخيل للجسد؟
في الدادائية، من المذهل أن نجد أن الجسد نادرا ما ينظر إليه في سياق حسي. من المعترف به أن الرقص لعب دورا بارزا بوضوح في بعض العروض الأدائية بمعرض الدادائية الخاص بجماعة زيوريخ؛ فلقد ابتكر رائد الرقص المجري المولد رودولف فون لابان - الذي أسس رقصاته، متحديا المبادئ الكلاسيكية، على الحركات العضوية للجسد ومبادئ التوتر والاسترخاء - عددا من الإسهامات في الأمسيات الدادائية، بمعية راقصته النجمة ماري ويجمان المتخصصة، بحسب تعليق أحد النقاد، في «التشويه الأنيق». كتب هوجو بال مؤسس الدادائية، الذي كان مناصرا متحمسا للأشكال الجديدة للرقص، عن رقصة تجريدية بعنوان «أنشودة السمكة الطائرة وأحصنة البحر»، أدتها بمعرض الدادائية عام 1917 صوفي تاوبر زوجة هانز آرب: «كانت رقصة حافلة بالشرارات والأشواك والأضواء المبهرة ... تفككت ملامح جسدها وكل إيماءة منها إلى مائة حركة دقيقة وزاوية وحاسمة.» وعلى الرغم من ذلك، فهذه الرقصات المبتكرة التي تنم عن محاولة للتخلص من مجموعة العادات المقيدة للتعبير، والتي كانت منسجمة - بحسب أيديولوجية لابان - مع تجارب أسلوب الحياة البديل الذي ينطوي على العري والتغذي بالنباتات الصرفة؛ لم تحفزها مخاوف الدادائية بالمعنى الحرفي الدقيق؛ فهي تتنافر بعض الشيء مع الجوانب الأكثر حدة والأشد فوضوية لأداء الدادائية، بما في ذلك «الرقصات الزنجية» التي أداها رجال الدادائية.
وبخلاف ذلك، فإن الأجساد التي نجدها، على سبيل المثال، في الرسوم الجرافيكية لدادائية برلين والمنسوبة إلى جورج جروتس (شكل
2-9 )؛ يفسدها الوجود الحضري وآثار الحرب. في قصيدة ظهرت في منتصف عام 1917، تتأمل الانهيار العصبي الذي أصيب به جروتس إثر مشاركته في الحرب، يصف جروتس نفسه بأنه «آلة تحطم مقياس ضغطها تماما»، وسجل أغلب دادائيي برلين آثار اضطرابات الصدمة الناجمة عن الحرب، مثل «صدمة القصف» على أجساد الشخوص التي رسموها وتعبيرات وجوهها. ويجوز حتى فهم أشعار هاوسمن الرصينة على اعتبار أنها تحاكي استعادة القدرة على الكلام، المشوبة بتأتأة لدى المصابين بأمراض عصبية الخاضعين للعلاج. ومن المنطلق ذاته، يستدعي الأشخاص الميكانيكيون لدوشامب أو بيكابيا التغريب الجسدي، ربما استوجب الأمر إقامة حجة منفصلة لعمل دوشامب «الزجاجة الكبيرة»؛ فبالنظر إلى حقيقة أن المشاركين الجنسيين المتحولين ميكانيكيا مزودون، بحسب الملاحظات التي أرفقها دوشامب بعمله، بأشكال من الطاقة كالغاز والكهرباء، يمكن النظر إلى هذا العمل على اعتبار أنه يصور اقتصادا جسديا «إنتاجيا» حديثا، ولو أنه اقتصاد راسخ على نحو مستفز في الحوار القائم مع الطبيعة.
أنتج السرياليون، شأنهم شأن الدادائيين، صورا لأجساد جريحة أو مصابة، فعارضوا بذلك محاولات الحكومة الفرنسية لاستعادة الثقة الوطنية بعد الحرب، بتذكيرات عنيدة بالعنف الذي انطبع على أجساد الرجال خلال الصراع. أمست الشخصيات المدعومة بعكازات فكرة متكررة في أعمال دالي، لا سيما رسومه التي أنتجها خلال عامي 1933 و1934 لرواية «أناشيد مالدورور» للكاتب لوتريامون، وهو واحد من أهم الأعمال الإرشادية للسريالية، وفيه نجد الراوي مالدورور نفسه ممثلا كمحاكاة ساخرة لذكورة مخصية ومشوهة . ولكن، عندما تعلق الأمر بتمثيل الجسد الأنثوي، احتفى السرياليون به صراحة بما يتسق مع دوافعهم المغايرة للجنس؛ ومن ثم، فإن الجسد السريالي - ولو أنه متشظ كثيرا - مكرس للمتعة أغلب الظن أو للألم الممتع أكثر من تكريسه للصدمات. كتب بريتون أن: «القدرة الكلية للرغبة ظلت، منذ بداياتها، الفعل الإيماني الوحيد للسريالية.» واتساقا مع النزعات العلمية الزائفة للحركة، تم إجراء سلسلة من 12 «بحثا عن الجنسانية» فيما بين عامي 1928 و1932، سئل فيها أعضاء الجماعة، بأسلوب صريح بشكل مدهش، عن ممارساتهم وتفضيلاتهم الجنسية:
أندريه بريتون :
فالنتين، ما رأيك بفكرة الاستمناء وقذف المني في أذن امرأة؟
ألبرت فالنتين :
لم أكن لأحلم بذلك ...
بيير يونيك :
الأذن مخلوقة ليداعبها اللسان، لا القضيب ...
جورج سادول :
وفي الأنف؟
بول إيلوار :
لا أحب ذلك؛ فأنا أكره الأنوف بسبب عقدة شخصية. أعارض هذا.
أبرزت تلك الجلسات - التي لم ينشر منها سوى جلتسين في دورية «الثورة السريالية» - التحيزات الذكورية والمعارضة للمثلية بعمق للحركة، وقد هدد بريتون بمغادرة الغرفة عندما جنح النقاش في واحدة من تلك الجلسات إلى قبول المثلية الجنسية، ودنا من الفكرة أكثر من اللازم. وفي موقف آخر، خاطر لويس أراجون الذي بدا أنه أكثر انفتاحا، خاصة فيما يتعلق بالمثلية الجنسية، بأن قال إن النقاش المعني «قوض جزئيا» بفعل «هيمنة وجهة النظر الذكورية».
ثمة وجهة نظر ذكورية تسود لا محالة في الكم المهول من الفن الشهواني، سواء البصري أو اللفظي، الذي أنتجته الحركة. وربما من أكثر الأمثلة المتعنتة في هذا الصدد رواية جورج باتاي المسماة «قصة العين»، وهي قصة إباحية نشرت لأول مرة تحت اسم مستعار، ألا وهو اللورد أوخ، عام 1928. وعلى الرغم من أنها ليست نتاجا سرياليا صرفا، فإن خيالاتها الهوسية والصادمة المتعلقة بالجنس والعنف، التي تنطوي في مرحلة ما على اغتصاب البطل والبطلة قسيسا وقتله؛ أقرب إلى السريالية منها إلى خلافها من كتابات تلك الفترة. في عام 1957، رأى باتاي الشهوانية «موافقة للحياة على شفير الموت»، وهو الموقف الفلسفي الذي يدين بشكل أكثر عمقا لفكر الماركيز دي ساد، ولو أنه تفوح منه بعض الشيء رائحة العلاقات بين الجنس والموت، المميزة للحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر. وبالمقارنة، هناك القليل في أعمال الفنانات السرياليات من هذا الصنف، ومن بين هذه الجماعة الصغيرة من النساء اللائي بلغن مرتبة التميز في الفضاء السريالي في الثلاثينيات، تتجلى فحسب ميريت أوبنهايم (شكل
3-7 )، وتوين (ماري سيرنونوفا) من جماعة تشيكوسلوفاكيا، والرسامة الأرجنتينية/الإيطالية ليونور فيني باعتبارهن مناصرات مكرسات جهودهن للتجربة الشهوانية الأنثوية. فيني التي احتقرت التوجهات الأبوية السلطوية لبريتون تحديدا، قلبت الأشكال النمطية الشهوانية من خلال صور لأجساد ذكورية واهنة خنثوية، تتسلط عليها آلهة أنثوية وترأس شئونها. في عام 1944، أضافت صورا إيضاحية لطبعة من رواية ساد بعنوان «جولييت»؛ حيث احتفت، بأسلوب خاص جدا، باستقلالية «امرأة سادية» يحركها دافع الجنس.
يعتبر الماركيز دي ساد الذي أثنى عليه بريتون في البيان الثاني للسريالية لكونه «سرياليا في ساديته»؛ رمزا محوريا لتقييم التوجهات السريالية نحو الجنسانية. فالأرستقراطي والإباحي الفرنسي السيئ السمعة، الذي اشتهر في القرن الثامن عشر، لفت انتباه السرياليين لأول مرة من خلال جيوم أبولينير، وتلقى ثناء من الجماعة إذ أضفى قيمة أخلاقية على حق الرجل في الإشباع الشهواني. اعتقل ساد وزج به في السجن أغلب حياته بسبب ممارساته «المنحرفة»، وعلى رأسها السدومية. وعلى الرغم من أن المعرفة المتعمقة بالموقف الفلسفي لساد لم تنشأ حتى منتصف الثلاثينيات، كنتيجة لتحقيقات الشاعر والمؤرخ موريس هين المنتسب إلى السريالية، فمن الممكن استيعاب قراءة السرياليين له بالنظر إلى صورة مان راي الفوتوغرافية الصادرة عام 1933 تحت عنوان «تذكار لدوناتا ألفونس فرانسوا دي ساد».
وضع مان راي صليبا معكوسا فوق الصورة الفوتوغرافية بحيث يتوافق مع الشق الفاصل بين الردفين، لكن من الواضح أن للصليب أيضا مضامين قضيبية/اختراقية ترتبط بممارسة ساد للواط. في «أبحاث عن الجنسانية» الخاصة بالسرياليين، أعلنوا أنهم أنصار للسدومية (المغايرة للجنس)؛ حيث اعتبروا تلك الممارسة، في سياق إشباع الرغبة بلا مقابل، فعلا يستهزئ رمزيا بفكرة أن الجنس - تحديدا بحسب فهم الكنيسة له - «واجب» تناسلي. ومن المهم آنذاك أن فرنسا خلال تلك الفترة كانت مهووسة بمعدل الإنجاب المتدني لديها، وحقيقة أن الإنجاب كان يعتبر في حقيقة الأمر واجبا وطنيا؛ ومن الواضح إذن أن صورة مان راي تجمع ما بين معتقدات مناوئة للتناسل والدين والقومية في قالب واحد. وأيا كانت الأسئلة التي يجوز أن نطرحها حيال الطبيعة الجبرية والعنيفة للأنشطة التي روج لها ساد، ومن المهم التشديد على أن السرياليين عموما تصوروا الجنس بمفردات مشتركة، فقد استوعبوا ساد أساسا على اعتبار أنه يناصر حقوق الجسد في مقابل حقوق الكنيسة والدولة.
شكل 4-3: مان راي، «تذكار لدوناتا ألفونس فرانسوا دى ساد»، صورة فوتوغرافية، 1933.
ويعد الفنان الألماني هانز بيلمر أكثر من غيره من الفنانين مثالا نموذجيا لاهتمام السرياليين بالجنسانية المتحررة الهدامة. لفت بيلمر انتباه الجماعة عندما نشرت مجموعة مدهشة من الصور الفوتوغرافية عام 1934 المرتبطة بمانيكانه الأولى «الدمية» في المجلة الفنية الفاخرة «المينوتور»، فقد كانت أعمال بيلمر مبنية بكل وضوح على الخيالات المتمركزة حول الفتيات المراهقات أو الفتيات في مقتبل المراهقة، ولما كان متأثرا بشدة بالإنتاج الفني الذي رآه في برلين عام 1932 لأوبرا جاك أوفنباخ «حكايات هوفمان»، التي يلعب فيها إنسان آلي دورا محوريا؛ أقام بيلمر مانيكانين عامي 1933 و1935 على الترتيب. الأولى التي بلغ طولها أربع أقدام ونصف لم تعد موجودة بعد، لكن الصور العديدة التي التقطت لها تكشف عن تقاطع ما بين دمية طفل مساء استعمالها وشكل من أشكال الألعاب الجنسية التي يستخدمها الراشدون. ذراعاها مفقودان، وجذعها الجبسي نصف مكشوف، ورجل «طبيعية» من رجليها مصنوعة من الجبس، بينما الثانية ببساطة عبارة عن قطعة من دسار تنتهي بقدم عرجاء خشبية. في أعقاب بعض اللوحات الفنية التي رسمها جورجيو دي شيريكو، حول السرياليون المانيكان إلى شيء أقرب ما يكون إلى العبادة؛ عبادة تمتد بقدر ما إلى الإنسان الآلي، وترتبط بشكل عارض بعلاقات مثيرة بافتنان الدادائيين بالأشكال الميكانيكية المتحولة. لكن عمل بيلمر يدخل عالما نفسانيا أكثر اضطرابا بكثير؛ فقد تنصلت دميته الثانية من أي «هوية» فردية؛ حيث تألفت من العديد من الأجزاء المفصلية الكروية - وكثير منها مكرر عدة مرات - التي جمعها بيلمر معا لمشاهد فوتوغرافية. وتنم واحدة من تلك الصور الفوتوغرافية المثيرة للاضطراب بشدة عن مخلوق عصي على التفسير يقف قبالتنا، في بيئة غابية، والقسم الأعلى من جسده يتألف من زوجين آخرين من الأرجل؛ وفي الخلفية، ثمة رجل يتسلل وراء شجرة، متفاديا نظرتنا المتفحصة.
ومن غير المدهش أن أعمال بيلمر ولدت الكثير من ردود الأفعال النقدية المختلفة، بداية من الذين يرون أعماله كارهة للنساء بلا رجعة، وانتهاء بهؤلاء الذين فسروها - بالنظر إلى حقيقة أن الدمى كانت تنتج في برلين، تحديدا إبان الفترة التي بدأ فيها النازيون يعتلون السلطة في ألمانيا - كردود أفعال منحرفة تجاه أفكار «المعيارية» الجسدية والجنسية التي روجت لها الأيديولوجية النازية.
ومع ذلك، لا شك أن الانطباع السائد هو التقديس الأعمى القهري لجسد المرأة. وتنبع مضاعفة أعداد أعضاء كالنهود أو الأرجل، المتشابكة معا في علاقة جبرية فاحشة في نهاية المطاف - وهو ما كان بيلمر يعيه - من المفهوم الفرويدي الكلاسيكي عن الولع الشهواني (الفتيشية). في مقالة محورية صدرت عام 1927، استنادا إلى كتابات سابقة، ذهب فرويد إلى أن تركيز المصاب بالولع الشهواني على غرض ما أو عضو من أعضاء الجسد بدلا من الجسد كله، ينبع من «لحظة» محددة في الممر التكويني عبر عقدة أوديب. هذه هي اللحظة التي ينكر فيها الطفل بلا وعي فكرة أن أمه لا تملك قضيبا، والتي يدلل عليها «إخصاؤها» الظاهر؛ ولذا، فإن الولع الشهواني يعادل القضيب الأمومي المفقود، ويخفف رمزيا من التذكرة بالإخصاء التي تستدعيها رؤية الأعضاء الجنسية الأنثوية. وكلما تم التأكيد على موضع الولع الشهواني، عن طريق المضاعفة أو الإزاحة إلى أغراض أخرى مثيرة للولع الشهواني، تراجع الخطر وتقهقر. ومن اللافت أن عددا من لوحات بيلمر الرقيقة التي رسمها في الأربعينيات، تظهر فيه فتيات سارحات يستلقين على ظهورهن بينما تطل قضبان منتصبة من فروجهن. وتتعامل هذه اللوحات صراحة مع خيالات القضيب الأمومي، وكل ذلك بالطبع يوحي بأن فن بيلمر كان - على الرغم من خصوصيته الشديدة - قائما على دراية واسعة.
قسم كبير من الفن السريالي الشهواني يتسم بصفة فتيشية أساسا، ومثال نموذجي على ذلك التركيز على جذع المرأة وشعرها وعنقها في لوحة ماجريت «الاغتصاب». ولكن على الرغم من أنه نتج عن ذلك انتهاك الجسد أو نزع الصفة البشرية منه، كما يوحي ماجريت في عنوان لوحته، فلا شك أننا لا محالة نطرح بعض الأسئلة الأخلاقية المهمة. وإذا كان هذا القسم، وهذا الفصل عموما، قد بين لنا كيف استحدثت الدادائية والسريالية أيقنة جديدة للجسد لمعادلة الفكر الازدواجي، فإنه لا يمكننا أن ننكر أن هذه العملية كانت مستندة إلى وجهة نظر ذكورية. ولقد زعمت المعلقات بطريقة لها ما يبررها، أن أجساد النساء، ومن ثم الأنثوية، كثيرا ما تحتقر بفعل التجسيد والفتيشية اللذين يلحقان بالجسد الأنثوي تلبية لأغراض «التحرر» النفساني الجنسي، والسريالية تحديدا ليس لديها الكثير لتقدمه فيما يتعلق بمعادلة وجهة النظر الأنثوية. تبدو الدادائية ببساطة، من منطلق كونها أقل اهتماما بالمذهب الجنسي الشبقي، أقل استحقاقا للوم بشكل مباشر، ولكننا هنا شرعنا في التفكير، لا في الجنسانية ولا في المذهب الجنسي الشبقي بصفة عامة بالأساس، وإنما في وضع الجنسين؛ لقد بدأنا نفكر، بتعبير آخر، في «سياسات» التمثيلات الدادائية والسريالية.
الفصل الخامس
السياسات
لا يزال يتوجب علينا القيام بكل شيء، والاستعانة بكل سبيل جدير بالمحاولة؛ بغية هدم أفكار الأسرة والدولة والعقيدة.
إن هذا الإعلان المسرحي المؤثر المستقى من «البيان الثاني للسريالية» لأندريه بريتون يستدعي بقوة الطبيعة المتعنتة لسياسات الدادائية والسريالية. ولكن، إذا نحينا الجانب الخطابي جانبا، فإلى أي مدى كانت الطموحات السياسية المتطرفة لهاتين الحركتين واقعية؟ فيما يلي سألقي نظرة على المنظورات الحالية حول الدادائية والسريالية لبيان النقاط الأيديولوجية العمياء للحركتين. يتناول القسمان الأول والثاني مسألتي الجنس والعرق، وفي هذا الموضع سنستشعر بكل حرص المسافة التاريخية الفاصلة بين هاتين الحركتين. يستكشف الدادائيون دوما القضايا المتعلقة بالجنس بطرق ذات صلة بنا حتى الآن، بينما كان السرياليون متبصرين جدا إذ شرعوا في التشكيك في الفرضيات المركزية الأوروبية. وستفضي اعتبارات الجنس والعرق إلى النقاش، في القسم الأخير، المتعلق بالانتماءات السياسية الكلية للدادائية والسريالية. ماذا كانت التزاماتهما، في فترة شديدة الاضطراب في التاريخ السياسي لأوروبا، فيما يختص بالأيديولوجيات الفعلية والمؤسسات السياسية؟ هل كانتا «مشاركتين» فعلا؟ وهل انتهى الأمر، على الرغم من كل ما كانتا تمثلانه، بكونهما «حركتين فنيتين» فحسب؟
الجنس
ناقشت بالفعل هيمنة وجهة النظر الذكورية الفتيشية في التمثيلات السريالية للجنسانية، ولكن هل يرقى هذا إلى القول بأن السرياليين كان لهم موقف سلبي بشكل سائد تجاه النساء عموما؟ وما وجه الشبه بين موقفهم وموقف أسلافهم الدادائيين؟
لا شك أن المؤرخة الفنية ويتني شادويك ذهبت بشكل مقنع إلى أن النساء في فضاء الحركة السريالية نزعن إلى أن يعاملن بمثالية كملهمات، ومن ثم صيغ لهن شكل نمطي في الخيال الذكوري كنماذج أصلية، مثل الساحرة أو الفتاة، بدلا من أن تنسب إليهن استقلالية خاصة بهن. ومثل هؤلاء النسوة - اللائي كن غالبا إما صديقات للفنانين وإما زوجات لهم، مثل ناديا ملهمة بريتون المجنونة أو جالا زوجة دالي، بحسب تعبير شادويك - إنما وجدن «لإتمام الدورة الإبداعية الذكورية واستكمالها.» وحتى النساء اللائي حققن مكانة بارزة داخل حركة السريالية كفنانات، غالبا ما أنجزن ذلك استنادا إلى علاقة تربط كلا منهن بفنان سريالي؛ وكثيرات من أكابر المستجدات على الحركة في منتصف الثلاثينيات وحتى أوائل الأربعينيات - وتحديدا: ميريت أوبنهايم، وليونورا كارينجتون، وليونور فيني، ودوروثيا تانينج - ارتبطن بعلاقات عاطفية بماكس إرنست. وفي حالة جاكلين لامبا التي كانت زوجة بريتون في النصف الثاني من الثلاثينيات، كان من الضروري أن تمر بتجربة الطلاق، قبل أن تتمكن من التخلص من مكانتها كملهمة وتخوض مسارها الفني الخاص.
على الرغم من أن السريالية خنقت النساء بالإعجاب الأعمى، بما يتسق مع عبادتها للرغبة، فإنه كثيرا ما وفرت الدادائية مساحة أكبر للإبداع الأنثوي. والعلاقة ما بين هانز آرب وصوفي تاوبر في زيوريخ حالة تثبت صحة ما سبق؛ فقد عمل آرب وتاوبر بشكل تآزري على بعض الأعمال التجريدية الأولى لدادائية برلين، التي أنتجاها خلال عامي 1915 و1916 تقريبا، قبل تأسيس كباريه فولتير. تمثلت بعض هذه الأعمال في معلقات صوفية من تصميم آرب، ولكنها من تنفيذ تاوبر التي كانت آنذاك تدرس التصميم بكلية زيوريخ للفنون. وبعرض المنسوجات، بما لها من علاقات بالفنون التطبيقية أو الحرف، في سياق فني رفيع، يمكن اعتبار أن آرب وتاوبر كانا يستحدثان بشكل استراتيجي تكنيكا ينم ضمنا عن الزخارف «الأنثوية» في ميدان «ذكوري» في السابق، ومن ثم فهما لم يتحديا فحسب الهيمنة التقليدية للرسم بالزيت بروح دادائية، بل شككا أيضا في مفهوم الإبداع المتمركز حول الذكور. ومن المعترف به أن آرب كثيرا ما نسب إليه فضل هذه الأعمال، لكن المغزى الاستراتيجي لتلك اللفتات ما برح ثابتا بلا تغيير.
تألقت المرأة في علاقات دادائية أخرى؛ فهناك العلاقة التي قامت بين راءول هاوسمن وهانا هوخ في برلين، ولو أنها كانت علاقة مضطربة بسبب المعايير المزدوجة التي تبناها هاوسمن. في تلك العلاقة، طفق هاوسمن يدعو إلى ممارسة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، رافضا في الوقت نفسه أن يتخلى عن زواجه، ومع ذلك فقد منحت تلك العلاقة هوخ حرية إبداعية كبيرة. بعض توليفاتها الصورية فضحت زيف مؤسسة الزواج (شكل
3-4 )، وبعضها استكشف مكانة «المرأة الحديثة» في فايمار بألمانيا أوائل عشرينيات القرن العشرين؛ حيث إن الطريقة التي خدمت بها صور النساء المشاركات في الأنشطة الرياضية أو الثقافة الشعبية، سجلت المصالح التجارية للمعلنين بقدر ما خدمت المتطلبات السياسية للحركة النسوية. وبخلاف ذلك، مالت الدادائية الذكورية إلى الاتصاف بالذكورية نفسها التي اتسمت بها السريالية.
ولكن بالعودة إلى رجال السريالية، يجب أن نتحرى الحيطة والحذر، فلا نتعجل في إطلاق الأحكام فيما يختص بموقفهم من المرأة. يمكن الزعم بأنهم استنسخوا، دون تفكير، المواقف السائدة في عصورهم تجاه زميلاتهم، بينما كثيرا ما أظهروا مواقف إيجابية تجاه الأنوثة في أعمالهم. في هذا الصدد، تجدر العودة إلى واحدة من فكر التحليل النفساني، ألا وهي الهستريا. كان شاركو، أستاذ فرويد، قد درس هذه الحالة - التي كانت مقتصرة بالكامل تقريبا على المرضى من النساء - في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، وعقد محاضرات عامة في مستشفى سالبتريير بباريس، تعرض المرضى خلالها طواعية لحالات إغماء شبيهة بمرض الهستريا، وعلى الرغم من أن فرويد في نهاية المطاف استنبط أن الأعراض الهستيرية مؤشرات على الكبت الجنسي، اختار السرياليون أن يقللوا من شأن البعد المرضي لتلك الحالة، فاحتفوا بها باعتبارها «وسيلة للتعبير» في دورية «الثورة السريالية» عام 1928. وليس من العجب أن المنظرات النسويات انتقدن السرياليين لإغفالهم التهميش الاجتماعي والتبعية والمعاناة التي تنطوي عليها تلك الحالات المفترض كونها «شعرية». ومع ذلك، ربطت إليزابيث رودينيسكو، مؤرخة التحليل النفساني، بين توقير السرياليين حالات الهيستريا ودفاعهم عن مجرمات أمثال الشقيقتين بابين (شكل
2-6 ) أو فيوليت نوزيير. كانت الأخيرة محط اهتمام كبير في فرنسا عام 1934؛ حيث قامت بتسميم والديها، وثبت أنها مختلة عقليا تماما في المحاكمة اللاحقة التي أقيمت من أجلها. وإذ أثنت رودينيسكو على مثل هؤلاء النسوة، فقد كانت ترى أن السرياليين يدعمون أنثوية خطرة وهدامة كانت مبشرة بالشكل الحديث لوعي المرأة المتحررة تحديدا.
إن فكرة كون توقير السرياليين الخانق للأنوثة عنصر تمكين لهم سياسيا، تعود في واقع الأمر إلى محاجة المؤرخة روزاليند كراوس، القائلة بأنه حتى الصور الفتيشية التجسيدية للنساء في الفن السريالي يمكن النظر إليها في سياق نسوي بدائي؛ فإذا فهم، بحسب كراوس، أن الفتيشية «تحريف» لعلاقة «طبيعية» تجاه الجنسانية، فهي بذلك تعلي ضمنيا قيمة الاصطناعي على الطبيعي، وتوحي بأن فئة «المرأة»، بعيدا عن كونها هبة طبيعية، هي في الحقيقة بنية اجتماعية. واستنادا لوجهة النظر هذه، نجد أن سعي باتاي المتجاوز وراء التهجين، أو تكتلات بيلمر الهوسية للأعضاء الجنسية، محرران بشكل عجيب في رفضهما معالجة «الأنوثة» الأساسية بشكل مثالي، وإقرارهما بأن التمثيل بأي حال من الأحوال غير طبيعي جوهريا. ومع ذلك، سارع المعارضون النسويون لكراوس بمعارضة هذا الرأي قائلين إن الارتباط بالدهاء وسعة الحيلة لا يحرر المرأة بضرورة الحال. علاوة على ذلك، تقترح سوزان روبين سليمان أن تشديد كراوس على الفتيشية قائم بحد ذاته على فرضيات أبوية بقدر ما تنطوي الفتيشية - بلغة فرويد - على حجب اللاوعي الذكوري احتمالية الإخصاء الأنثوي، من خلال استبدال الأغراض الموحية بالقضيب الأمومي؛ وهكذا ترك منطق القضيب في محله دون مساس ؛ ويترتب منطقيا على ذلك أن السريالية لا محالة تدعم نظاما رمزيا ذكوريا، وأنه من العقيم، في سياق سياسات الجنس، أن ترضى النساء بالبنى الذكورية للتمثيل.
لا شك أن الفنانات السرياليات تحدين الأفكار الثابتة المتعلقة بالجنس، ومن أبرز الشخصيات في هذا السياق كلود كاهون. ولدت كلود كاهون في مدينة نانت بفرنسا، واسمها الحقيقي لوسي شووب، واتخذت لنفسها اسما مستعارا لتعزيز الغموض الجنسي الذي عادة ما مثل موضوعا للصور الفوتوغرافية الذاتية الثاقبة التي أنتجتها في العشرينيات والثلاثينيات؛ وقد خدع ذلك الغموض المؤرخين لعدة سنوات، ولا يبدو أن كاهون اندرجت حتى ضمن فهرس كتاب ويتني شادويك «الفنانات والحركة السريالية» (1985)، وكان عليها الانتظار حتى أواخر الثمانينيات ليعاد اكتشافها. وتظهر كاهون في صورها بعدة هيئات مقنعة - بداية من الرياضي الممارس لكمال الأجسام وانتهاء بدمية يابانية - بحيث تصبح أنوثتها شيئا «مبنيا» بوضوح؛ وفي واحدة من صورها الذاتية (شكل
5-1 )، تلمح هيئتها الرجولية بشكل صارخ إلى مثليتها الجنسية بوضوح. وإذ كانت على دراية بأن النساء في التمثيلات البصرية عادة ما يكن موضوع النظرة (الذكورية) المتفرسة، نراها تواجه نظرتنا وجها لوجه، وفي تلك الأثناء، نرى صورتها المعكوسة على المرآة تحدق في مكان آخر.
شكل 5-1: كلود كاهون، «صورة شخصية»، صورة فوتوغرافية، 1928.
ثمة فنانة أخرى أعيد اكتشافها حديثا، ولكنها ترتبط بدادائية نيويورك هذه المرة، ألا وهي البارونة فريتاج-لورينجهوفن. كانت هذه البارونة - التي تزوجت في الواقع من بارون ألماني، ولكن انتهى بها المطاف في نيويورك مفلسة، واضطرت لامتهان الاستعراض أمام المصورين كوسيلة لكسب العيش - شخصية عجيبة بشكل لافت للنظر، وكثيرا ما كانت تقطع قرية جرينتش سيرا على الأقدام حاملة سطلا من الفحم على رأسها، أو ملصقة طوابع بريدية ملغاة على وجهها، ولكن يزعم أن إسهاماتها التي قدمتها للحركة محدودة، فيما خلا عملها الفني «الرب»، وهو عبارة عن عمل فني جاهز أنجزته عام 1917، ويتألف من مواسير مياه مثبتة بشكل رأسي داخل صندوق قطع مائل، وبدا أنها محط سخرية دوشامب ومان راي؛ حيث لعبت دور «البطولة» في مشروع فيلم بذيء وفاشل في نهاية المطاف من ابتكار الثنائي عام 1921، في ذلك المشروع، صورها الاثنان وشعر فرجها حليق. من المهم إذن أن نتحرى الحيطة والحذر من النزعة التنقيحية المغالية في الحماس؛ فثمة خطورة من تحريف العلاقة الفعلية لشخصية بفعل الظروف التاريخية. لقد كانت إعادة اكتشاف النساء السالف إهمالهن مشروعا مهما جدا في البعثات الدراسية المعنية بالدادائية والسريالية، لكن إعادة الاكتشاف هذه تعاني من مشكلاتها الخاصة. وقد يبدو ملائما دمج فنانات أمثال البارونة في سرديات الدادائية والسريالية، بدلا من فصلهن وعزلهن بوصفهن «حالات خاصة»، وقد كانت هذه استراتيجيتي إلى حد ما في هذا الكتاب. ولكن، هل تعزز هذه العملية رضوخهن التاريخي للأيديولوجيات الثقافية الذكورية؟
قد يكون المؤرخون، على أي حال، أخفقوا في تقدير درجة التفكير الانعكاسي الذاتي التي تنطوي عليها أعمال بعض الدادائيين والسرياليين الذكور. وبغض النظر عن المدى الذي تسببت به مواقفهم تجاه المرأة في جعلهم مسايرين لجيلهم - فالمرأة في فرنسا لم تمتلك الحق في التصويت إلا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها - لعل هؤلاء الرجال على الرغم من ذلك فهموا أن هوياتهم الذكورية الخاصة مضطربة نوعا ما أو عرضة للتشكيك.
لقد تم التعبير عن الذكورية بطرق معقدة في الفن الدادائي والسريالي؛ فالفحولة ونتائجها التكاثرية فكرة كثيرا ما تطرح على استحياء، ولو أنه من العجب أنها نادرا ما تكون موضوعا للنقاش في الأدب. رسم ماكس إرنست مثلا لوحتين سرياليتين شبه تجريديتين عام 1934 بعنوان «السباح الأعمى»، ألمح عنوانهما بطريقة شعرية للعضو الذكري ومرور المني، وفي الوقت نفسه استحضرتا الحتمية المحضة للطاقة الشهوانية. يرتبط العمى في عمل إرنست بفكرة التجربة الحالمة الباطنية، ويوحي ذلك بدرجة من التسامي بالإيحاءات الجنسية للفكرة بشكل سافر. ويمكننا أن نرى عملية شبيهة جارية في لوحة أندريه ماسون «ميلاد الطيور» (شكل
3-2 ) التي جعل فيها التناسل نظيرا لتوليد الصور في لا وعي الفنان (الذكر)؛ إذ ينجب الفرج طيورا محلقة تستدعي، في أبسط المستويات المجازية، فكرة «شطحات الخيال». وإذا قارنا هذا التمثيل للميلاد بتمثيل من تمثيلات فنانة محسوبة على السريالية، ألا وهي فريدا كاهلو ، فستتجلى بعض أوجه الاختلاف الكبيرة (شكل
5-2 )؛ فالصورة الأصلية بشكل مذهل لكاهلو، والتي صورت نفسها فيها وهي تخرج من جسد أمها المغطى، كانت في جزء منها وليدة حزنها على وفاة أمها، وفي جزء آخر وليدة حزنها على موت وليدها؛ ومن ثم فهي تلد نفسها. إن عملها ينكر الطبيعة الشعرية للإيحاءات الذكورية للتناسل، مع التأكيد على أن الميلاد عملية قذرة بدنيا وصادمة وجدانيا.
ومهما كان الفنانون السرياليون الذكور مثاليين في مواقفهم من الإنجاب (ومن المغري أن نستدعي مفهوم التحليل النفساني السيئ السمعة الممثل في «حسد الرحم»)، فمن الواضح أنهم تأملوا في قدراتهم التكاثرية، وقدرات النساء، بشيء من الصراحة. وبقدر ما جعلوا المرأة موضوعا للفتيشية، فقد كانوا كاشفين إلى حد كبير عن سبل ذكورية تحديدا لرسم مفهوم للجنسانية؛ ومن هذا المنطلق، يمكن أن يتسق موقفهم مع اهتمامنا الحالي ب «تفكيك» صفة الذكورة، وقد كانت هذه المسألة ألح ما تكون داخل الدادائية.
شكل 5-2: فريدا كاهلو، «مولدي»، لوحة، 1932.
استكشف دوشامب، أكثر من أي شخص غيره، في نيويورك ظاهرة الاختلاف الجنسي في عمله «الزجاجة الكبيرة»، وقد كانت الذكورة، أو القصور الذكوري إن شئنا الدقة، أحد الأفكار المحورية لذاك العمل. وفي ملاحظاته المتعلقة بعمله، أكد دوشامب بشكل غامض على أن العزاب في النصف التحتي من عمله - المحصورين فيما يصفه ب «قوالب ذكورية» - «لن يتمكنوا مطلقا من تجاوز القناع.»
وفي الفترة بين عامي 1921 و1924، ارتدى دوشامب نفسه قناع شخصية بديلة شبيهة، ألا وهي روز سيلافي، في سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها مان راي، وتجاور تلك الصور بشكل لافت «اللوحات الشخصية» التي ناقشناها لكلود كاهون (شكل
5-1 ). وبالمقارنة بالتحولات الجنسية لكاهون، تبدو تحولات دوشامب فاترة نوعا ما؛ ففي واحد من تلك التحولات، نجد ملامح وجه روز تبدو قاسية بشكل يثير الشك، وكأن دوشامب يقر بعدم فعالية التنكر. واستدعاء لنقطة سوزان روبين سليمان المتعلقة بالأساس الأبوي لأيقنة الدادائية/السريالية، يمكن تفسير ذلك بأنه يشير إلى أن روز تمتلك سرا القضيب؛ أي إنها بلغة التحليل النفساني «أم ذات قضيب». قد يضفي هذا على الواقعة نوعا من كراهية النساء بشكل مباشر، ولكن يجوز الزعم أن روز تمثل ردة فعل ساخرة نوعا ما لنشوء ظاهرة «المرأة المسترجلة» حديثا في فرنسا وأمريكا في أوائل القرن العشرين ، وهو ما تجسده كلود كاهون، إلى حد ما، ولو أن صورها الشخصية متأخرة على صور دوشامب. يبدو أن دوشامب تلاعب بروح الذكورية الانفصالية في حياته بقدر ما تلاعب بها في أعماله؛ حيث احتفظ بإصرار بعزوبيته، وعبر كذلك مجازيا عن خطاب فني ذكوري التوجه في أعمال مثل «النافورة» (شكل
1-2 ). قد يعتبر كل ذلك استجابة أنيقة للانفصالية الأنثوية؛ فبدلا من أن يسخر الصفة الأنثوية «لإحداث تحول في الحياة» بما يتسق مع المنهج السريالي، يلمح دوشامب إلى أن الفنان ينبغي أن يعيد تعريف جنسه الخاص.
مسائل متعلقة بالعرق: من «البدائية» إلى مناهضة الكولونيالية
إذا بدت مواقف الدادائية من الجنس أكثر انسجاما مع مواقفنا السياسية الراهنة بالمقارنة بمواقف السريالية، فقد كانت الحالة مختلفة فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالعرق. ولكن، من المهم أولا أن نبحث مسألة «البدائية»؛ كان «للفن البدائي» المزعوم جاذبية كبيرة لدى الفنانين في أوائل القرن العشرين، بداية من بيكاسو وحتى التعبيريين الألمان. وقد نشأ ولع خاص بالأقنعة الأفريقية؛ فقد كانت توحي بطرق لتبسيط الشكل البشري بشكل جذري (من المشهور عن بيكاسو أنه تحدث عن تلك الأقنعة باعتبارها «حكيمة»)، ولكنها أيضا أوحت بسبل للعودة، على طريقة الأسلاف، إلى «الأصول» الأولية كجزء من نقد حداثي للمغالاة في تعقيد الثقافة الأوروبية.
طغى هذا التوجه على الدادائية، وبالنظر مجددا إلى لوحة يانكو لكباريه فولتير الكائن في زيوريخ (شكل
1-1 )، نجد أن الفنان سجل وجود قناع كبير معلق على الجدار وراء المسرح، بينما من المحتمل أن الدادائيين على المسرح كانوا يرتدون أقنعة مطلية بشكل مبهرج، جمعت من مواد خام كالورق المقوى والخيوط المجدولة، أنتجها يانكو بنفسه لعروضهم الأدائية. وإننا نعرف من مذكرات هوجو بال أن «الرقصات الزنجية» كانت جزءا رئيسيا من تجليات الدادائية. ويبدو أن المؤدين استوعبوا تلك الأقنعة في سياق طقسي، على اعتبار أنها مرتبطة بظاهرة «التملك»؛ كتب بال يقول: «لم يبد أن كل قناع يتطلب زيا ملائما له فحسب، بل اقتضى أيضا مجموعة محددة جدا من اللمحات الميلودرامية التي تدنو حتى من الجنون.» ولكن، قليل من الدادائيين هم الذين ربما أقاموا وزنا للسياقات الثقافية المحددة لتلك القطع، ربما باستثناء تريستان تزارا الذي كتب لاحقا مقالات عن الفن الأفريقي والمحيطي. في برلين، أنتجت هانا هوخ سلسلة من التجميعات الصورية خلال الفترة ما بين عامي 1925 و1930 بعنوان «من متحف الأجناس البشرية»، وفيها وضعت صورا فوتوغرافية التقطت بشكل مستفز لأقنعة قبلية سوداء على أجساد نساء أوروبيات، كنقد للأفكار الغربية المعيارية المتعلقة ب «الجمال». لقد أضفت ضمنا تلك الأعمال قيمة على الجماليات الأفريقية، وفضلتها على الجماليات الأوروبية، لكنها افترضت بذلك أن أفريقيا «آخر» بشكل غرائبي.
بالالتفات إلى السريالية، نجد أن الأعمال الفنية اليدوية «البدائية» كانت مصادر حاسمة لإلهام فنانين أمثال ماكس إرنست وأندريه ماسون وألبرتو جياكوميتي وفيكتور برونر، وهذه المرة كانت الأغراض من صنع الهنود الأمريكان والإسكيمو وشعوب منطقة الأوقيانوس. كان الفن الأفريقي أقل شهرة بين السرياليين، ويرجع ذلك جزئيا إلى استعمالاته الشكلية في التكعيبية، بينما كانت الأعمال الفنية اليدوية الأوقيانوسية تحديدا محط إعجاب؛ نظرا للحريات المربكة التي اتسمت بها في تعاطيها التشريح، علاوة على رمزيتها المتقنة. في عام 1929، نشر السرياليون خريطة معاد رسمها للعالم في المجلة السريالية البلجيكية «فارايتي»، وعلى الخريطة، لم يكن هناك وجود لفرنسا ولا الولايات المتحدة الأمريكية بالمرة، واحتلت بولينيزيا والمكسيك وألاسكا أهمية مهولة. في أعمالهم، أبدى الفنانون انتقائية علمية. استغل جياكوميتي السمات الرسمية لتماثيل ماجلان من نيو أيرلاند كمصادر للأشكال المفككة بشكل عنيف والشبيهة بالحشرات، والمحصورة داخل سقالة تطويق، في منحوتة خشبية بعنوان «القفص» عام 1931. وكانت سرقات ماكس إرنست شرهة؛ حيث تراوحت ما بين إشارات ضمنية إلى أشكال لطيور من جزيرة القيامة في لوحاته التي رسمها أواخر العشرينيات، واستخدام الدمى الأمريكية الهندية كنقاط مرجعية لمنحوتاته الطوطمية في أوائل الأربعينيات.
تطور نطاق المقتبسات السريالية بالتزامن مع التوسع الكبير للأدب العرقي في فرنسا بمرور العشرينيات . كان أغلب الفنانين على دراية واسعة بأشخاص مثل لوسيان ليفي-بريل ومارسيل موس، علاوة على عالم الأنثروبولوجيا السير جيمس فريزر. وفي فرنسا، كان الاهتمام ب «علم الأعراق»، شأنه شأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا ، ممتدا إلى «الفن بوصفه فنا جميلا»، وكذلك إلى التخصص الأكاديمي، وشهدت الحياة الثقافية الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته تحولا مهولا في المواقف تجاه «البدائي»، ممثلا في إحلال «متحف الإنسان» (تأسس عام 1937) بعنايته بالخصوصية العرقية والعرض اللاهرمي للأغراض الثقافية المتشعبة، محل متحف تراكاديرو القديم في باريس بمجموعته المختلطة من المعروضات القبلية الغريبة.
لقد كان هذا التحول المهم قوة دافعة وراء دورية «وثائق»؛ لسان الجماعة السريالية المنشقة بقيادة باتاي. وحقيقة الأمر أن بول ريفييه، الذي أسس «متحف الإنسان»، كان من بين مؤسسي هذه الدورية ومجلس تحريرها، وكذلك كان ميشيل ليريس السريالي الذي كان محسوبا في السابق على بريتون والمتخصص المتمرس في علم الأعراق. تتسم صفحات تلك الدورية بالانتقال المتكلف ما بين الأغراض والممارسات «الرفيعة» و«الوضيعة» ثقافيا، في سياق إضفاء صفة النسبية على التواصل الثقافي، الذي أطلق عليه المؤرخ الثقافي الأمريكي جيمس كليفورد «السريالية الإثنوغرافية». وشأنه شأن غيره من سلسلة «تعريفات القاموس» غير التقليدية المنشورة في الدورية، يوجز كيميائي إنجليزي معنى «الإنسان»، على سبيل المثال، على النحو التالي:
الدهن البدني لإنسان مخلوق بشكل طبيعي يكفي لتصنيع سبعة قوالب من صابون الحمامات، وهناك ما يكفي من الحديد في ذاك الكائن لصنع مسمار متوسط الحجم ... والفسفور يمكن أن يؤمن لنا 2200 عود ثقاب.
هذه المقابلات المذهلة للمعلومات لها غرابتها الخاصة بطبيعة الحال، لكنها في هذه الحالة تساعد على الإطاحة بسلطة الفكرة الأوروبية الركيزة عن «الإنسان»، والمستندة إلى لون البشرة الأبيض والعقلانية الديكارتية، التي كانت راسخة في السابق ضد فكرة «البدائي».
لدينا الآن فرجة يمكن أن نطل منها على روح مناوئة للكولونيالية بعمق في الخطاب السريالي، ولكن علينا أن نعود إلى السريالية «الرسمية»، ولردود أفعال أندريه بريتون تجاه بزوغ نجم حركة «الزنوجة» في جزر الهند الفرنسية، لتقييم إلى أي مدى أمست السريالية مسيسة في علاقتها بالعرقية. لقد أبدى السرياليون معارضتهم للكولونيالية الفرنسية منذ عام 1925؛ إذ أيدوا علنا، في واحد من أول أفعالهم السياسية صراحة، رجال قبيلة الريف في نضالهم ضد السلطات الفرنسية في المغرب، وفي عام 1931، تظاهروا ضد الاستعراض الكبير المؤيد للاستعمار الذي أقيم في باريس للاحتفال بالسطوة الإقليمية لفرنسا. وعلاوة على توزيع منشور يحذر الناس من حضور هذا الاستعراض، فقد أقاموا معرضا بديلا تحت عنوان «حقيقة المستعمرات»، وعلقت واحدة من فترينات المعرض بوضوح على المفاهيم الغربية للأغراض القبلية باعتبارها «فتيشيات»؛ حيث احتوت على تمثال كاثوليكي للعذراء وطفلها إلى جوار صندوق تبرعات على هيئة طفل أسود يحمل ملصق «فتيشيات أوروبية»، في إشارة ضمنية بليغة إلى الفتيشية الدينية والاقتصادية للغرب. ومع ذلك، فقد شهدت أواخر الثلاثينيات تصاعدا في المشاعر المناوئة للاستعمار عبر العلاقات المقامة حديثا بين الحركة السريالية والكتاب الذين كانوا أنفسهم ذوي خلفية استعمارية؛ وكان الحافز الأكبر هنا الشاعر إيمي سيزير.
سيزير أصلا ابن جزر المارتينيك، ودرس في باريس في النصف الثاني من الثلاثينيات، لكنه عاد إلى بلاده عام 1939، ومن عام 1941 فصاعدا، نشر هو وزوجته سوزان والفيلسوف رينيه مينيل دورية بعنوان «تروبيك»، مزجت بين معارضة حكومة فيشي في باريس، والإعجاب بالمبادئ التحررية للسريالية بالتزامن مع بدايات أيديولوجية «الزنوجة»؛ أي تأكيد هوية السود في مواجهة الأيديولوجية «الاستيعابية» التي تقوم عليها السياسة الفرنسية تجاه مستعمراتها. في عام 1941، قام أندريه بريتون - الذي كان إبان تلك الفترة بصدد الهروب من الاحتلال الألماني لفرنسا وفي طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية - بزيارة المارتينيك، واكتشف كلا من سيزير ودورية «تروبيك»؛ وبناء عليه أكد بريتون أن قصيدة «العودة إلى موطني»، وهي قصيدة طويلة ألفها سيزير في الفترة بين عامي 1938 و1939، كانت ببساطة «أعظم أثر غنائي في عصرنا.» ولم تكن هذه بلا شك نهاية علاقة بريتون بالمستعمرات؛ ففي عام 1945، هذه المرة قبل عودته مباشرة إلى فرنسا من أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، قام بزيارة هاييتي لإلقاء محاضرة عن السريالية. لقد شهدت هاييتي ثورة عبيد عام 1804، لكنها خضعت منذ عام 1915 إلى الهيمنة الأمريكية، ويبدو أن وجود بريتون لعب دور الحافز للشقاق بين صغار المفكرين، واندلعت الثورة، ولو أن الإيماءة السياسية الصريحة الوحيدة للقائد السريالي يبدو أنها تمثلت في رفضه لقاء رئيس الدولة المدعوم من أمريكا. لمرة واحدة إذن ساهم الخطاب السريالي في إحداث ثورة حقيقية.
بالعودة إلى أشعار سيزير، أو تحديدا إلى قصيدة «العودة إلى موطني»، حري بنا التأكيد على مدى تسخير تقنيات التجاور المتناقض السريالية، بعيدا عن حركة باريس، للتعبير عن استياء الناس من قمعهم الماضي وتوقهم إلى لغة جديدة.
شكل 5-3: ويفريدو لام، «الغابة»، لوحة زيتية، 1943، متحف الفن الحديث، نيويورك.
ولكن، أتستطيع أن تقتل الأسى بوجهه الجميل الشبيه بمحيا سيدة إنجليزية أصابها الذهول؛ إذ عثرت على جمجمة من قبيلة الهوتنتوت في وعاء حسائها؟ ... أريد أن أعيد اكتشاف رائحة الخطب العظيمة، والنيران الملتهبة. أريد أن أقول: عاصفة. أريد أن أقول: نهر. أريد أن أقول: إعصار. أريد أن أقول: ورقة شجر ...
ويجد مستوى الشغف هذا نظيرا له في الفنون البصرية، ممثلا في أعمال شخصية أخرى متأثرة بالسريالية، عادت إلى محل ميلادها المستعمر بعد الانغماس لفترة طويلة في الثقافة الأوروبية؛ ألا وهي ويفريدو لام. ولد لام أصلا في كوبا، وتدرب في مدريد، وتأثر تأثرا شديدا كرسام بلقائه ببيكاسو، ومن بعده بالسرياليين عام 1938، وأفضت عودته إلى كوبا، عن طريق جزر المارتينيك بصحبة بريتون، إلى إنتاجه لوحة عظيمة بعنوان «الغابة».
تتألف اللوحة من نسيج صوفي غليظ عليه أجساد عارية محاطة بكساء نباتي خانق، وهي توظف مفردات «بدائية» مستقاة من السريالية، للربط المتقاطع ما بين الغابات العجيبة بشكل بريء للرسام الفرنسي «البدائي» هنري روسو، والرؤية الانفصالية الشكلية للنساء في ماخور الممثلة برائعة بيكاسو الإبداعية السابقة للتكعيبية «آنسات أفينيون» عام 1907. كتب لام ليجعلنا على دراية بأثر الاستعمار على الغابة:
روسو ... لا يدين ما يحدث في الغابة، أما أنا فأدينه. انظروا إلى وحوشي والإيماءات التي تبدر منها. الوحش الموجود جهة اليمين يعرض ردفه بإباحية عاهرة. انظروا أيضا إلى المقص في الزاوية اليمنى العليا ...
إن حقيقة استدعاء السريالية للتعبير بوضوح عن المحفزات الأولى لحركة الزنوجة، قد يبدو أنها توحي بأن السريالية كانت مسيسة فيما يتعلق بالهوية العرقية، وعلى الرغم من ذلك، جاء دافع تلك اللمحات من خارج الحركة السائدة الكائنة بباريس لا من داخلها . حتى عام 1938، لم يزل السرياليون «الرسميون»، وتحديدا بريتون، قادرين على إضفاء سمة عجيبة على الثقافات الأخرى؛ فقد تصوروا المكسيك على سبيل المثال الدولة الثائرة المثالية؛ حيث شهدت ثورة شعبية في الفترة بين عامي 1910 و1917. وعندما زارها بريتون عام 1938، وكان حريصا على دعم التوسع الدولي للسريالية - بما يتسق مع استحداث مقار خارجية في تشيكوسلوفاكيا وبريطانيا وغيرها من الدول - لم تنل إعجابه أعمال الشيوعي الواقعي دييجو ريفيرا تحديدا، بقدر ما نالته أعمال زوجته فريدا كاهلو؛ فقد كانت أعمالها - بحسب تأكيدات بريتون - سريالية، ولو أنها لم تكن تعرف شيئا عن الحركة أساسا. في المقابل، كانت كاهلو ترى لوحاتها، التي كانت ذاتية الطابع في المقام الأول، واقعية جوهريا في روحها، وكانت نقاطها المرجعية خاصة جدا بالمكسيك؛ ففي لوحتها «ميلادي» (شكل
5-2 )، عززت الإشارات المرجعية الشخصية المؤلمة السابق ذكرها حقيقة أن اللوحة رسمت كنذر كاثوليكي على الصفيح، كما كانت أيضا شكلا من التضرع للإلهة الأزتكية تلازولتيول المقدسة عند النساء اللائي يلقين حتفهن عند الإنجاب. ولا بد أن بريتون - الذي كانت الهوية بشكل أساسي بالنسبة إليه شيئا يخضع للشك، لا مسعى يتعين على المرء بلوغه - بدا لا مباليا بسعيها وراء الجذور المكسيكية، وبدا أنها أصيبت بالضجر من تنظيره. لقد أضفى عليها أساسا طابعا غريبا؛ حيث وصفها ذات مرة ب «وشاح حول قنبلة»، وهو ما يتسق مع المواقف السريالية الذكورية المعتادة.
رأى بعض نقاد السريالية، أمثال الكاتب الكوبي أليخو كاربنتير، خطابها «التعميمي»، واعتبر رغبتها في التوفيق بين المتناقضات، كما في هيجلية بريتون، مكافئة لإنكار «الاختلاف»، خاصة في سياق ثقافي، ولو أننا نرى أن السريالية كانت أيضا مستندة إلى الذاتية الذكورية السائدة. بالنسبة إلى كاربنتير، تعطشت السريالية الأوروبية إلى الثقافات الأخرى وتهافتت عليها، بينما كانت مواطن مثل أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي - حيث ما برحت بقايا المعتقدات السحرية صامدة - مواطنها الحقيقية.
وبوضع وجهة النظر هذه نصب أعيننا، يجوز حتى أن نشكك في نطاق الروح الأممية التي اعتنقتها الدادائية والسريالية. كانت الدادائية، على الرغم من تنوع مواطنها، ذات طابع غربي إلى حد بعيد، ولو أن الأبحاث الأخيرة حول العلاقات الأوروبية الشرقية للحركة - بما في ذلك الإقرار بأن يانكو وتزارا في زيوريخ كانت علاقات مستمرة تربطهما بالطليعية في رومانيا مسقط رأسيهما - وحقيقة أن ثمة حركة يابانية ازدهرت فيما بين عامي 1920 و1925؛ توحيان بأنه يجوز لنا أن ننظر للدادائية على اعتبار أن لها نطاقا عالميا أوسع. في الثلاثينيات، كان يمكن أن نرى السريالية تنبت في مواطن مثل يوغوسلافيا والدنمارك وجزر الكناري، واليابان مجددا حيث أقيم معرض دولي في كل من طوكيو وكيوتو عام 1937؛ لكن وجهة نظرها الكلية كانت في المقام الأول أوروبية الركيزة. في عام 1955، استدعى بريتون توقير السرياليين للثقافات غير الغربية، وبأسى أقر بأن «الإلهام الذي استقيناه من فنهم ظل عقيما في نهاية المطاف بسبب قصور الاتصال الفعلي الأساسي؛ مما أعطى انطباعا بانعدام الجذور.» وأقل ما يمكن أن نفعله هو أن نستشعر التعاطف، ونعبر عن إعجابنا بصدقه.
الانحيازات السياسية
نبع انشغال الدادائية والسريالية بسياسات الجنس والعرق بطبيعة الحال من اهتمامهما بالحرية الفردية. ولكن، ماذا عن علاقات الحركتين بعالم السياسة «المعقدة»؟ إذا نظرنا للدادائية باعتبار أنها نشأت بالتزامن لا مع الحرب العالمية الأولى بل مع الثورة الروسية، وللسريالية باعتبار أنها تطورت بالتزامن مع صعود نجم ستالين وهتلر؛ فقد نتساءل كيف يمكن لتركيزهما على الفردية واللاعقلانية أن يضاهي مثل هذه الأحداث والخيارات السياسية العظيمة. ولكن، انطلاقا من إخلاص الحركتين للدافع الطليعي لإقامة صلات بين التجربة الجمالية والاجتماعية، فقد رسختا تحيزات سياسية.
في حالة الدادائية، علينا أن نتطلع بالكامل تقريبا إلى جماعة برلين؛ فالدادائيون في نيويورك وباريس أصيبوا بخيبة الأمل إلى حد كبير في السياسات الحزبية، ونزعوا عموما إلى أفكار لا سلطوية أو لا سلطوية-نقابية تتسق مع مواقفهم الفردية بقوة، وفضلت جماعة زيوريخ أيضا اللاسلطوية، وانشغل بال تحديدا انشغالا فكريا عميقا بكتابات المنظر الروسي للاسلطوية ميخائيل باكونين، ولو أنه أنكر في نهاية المطاف الفرضية اللاسلطوية المسبقة القائلة بأن الإنسان خير بالفطرة، وانتكس انتكاسة درامية إلى الكاثوليكية. وبينما ذوت دادائية زيوريخ، وأمسى فالتر سيرنر وتريستان تزارا سلبيين بشكل متزايد، انشغل بعض أعضاء الجماعة، الذين ارتفعت روحهم المعنوية بفعل احتمال اندلاع ثورة في ألمانيا، بمشروعات يوتوبية مثل مجموعة عرض «الحياة الجديدة» التي صبت إلى العصور الوسطى؛ التماسا لنموذجها الخاص بهدم التمايزات بين الفنون والحرف، كما كان آرب وتاوبر يفعلان بالفعل. ولكن، عندما وصلت أخبار من برلين بشأن مقتل روزا لوكسمبورج وكارل ليبكنيشت، خاب أمل جماعة زيوريخ إلى الأبد؛ حيث رضيت بالتجريد بدلا من السياسة، وجعل شفيترز في هانوفر هذا المبدأ اعتقادا راسخا. ولكن، في برلين، اقتضى الأمر مجابهة الوقائع السياسية.
كما ذكرنا آنفا، تفككت جماعة برلين إلى طائفة لا سلطوية وأخرى شيوعية. وشأن جماعة زيوريخ، انجذبت الطائفة اللاسلطوية، لا سيما راءول هاوسمن ويوهانس بادر، إلى نموذج المجتمعات الصغيرة، وتشككت في التشكيلات السياسية المنظمة؛ ومن ثم كتب هاوسمن: «الشيوعية هي عظة على الجبل منظمة بطريقة عملية، وهي عقيدة للعدالة الاقتصادية، وجنون جميل.» يجب أن ننظر إلى هيرتسفيلده-هارتفيلد-جروتس، باعتبارهم أعضاء نشطين بالحزب الشيوعي الألماني، لنرى ما إذا كان بالإمكان أن تترجم الدادائية إلى أيديولوجية سياسية.
بالنظر إلى دورية «كل إنسان كرته الخاصة» (شكل
2-8 ) التي نشرتها هذه الفرقة بعد مقتل لوكسمبورج وليبكنيشت بفترة وجيزة، والتي تثبت أنهم، بشكل فريد، يعملون بالتوازي مع الجناح اللاسلطوي للجماعة؛ لا يساورنا سوى شك طفيف في تعاطفاتهم السياسية. ونجد في تلك المنشورة تأكيدات على أن «الثورة في خطر»، وثمة رسم كاريكاتيري لجورج جروتس يظهر أعضاء بحكومة الأغلبية الاشتراكية الجديدة في برلين على هيئة دمى في يد الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذي أثار مخاوف هائلة من البلشفية. واسترجع فالتر ميرنج كيف روج الدادائيون أنفسهم هذه الدورية في أحياء الطبقة العاملة بالمدينة برفقة فرقة موسيقية صغيرة، وبيع منها 7600 عدد في الخامس عشر من فبراير عام 1919 قبل أن تحظر رسميا.
نشرت بعد ذلك دار نشر ماليك فيرلاج اليسارية، المملوكة لهيرتسفيلده، عددا كبيرا من أعداد دورية بعنوان «إفلاس»، ولقد أفضى موقف هذه المجلة الموالي للسوفيت بشكل واضح إلى اعتقال هيرتسفيلده والزج به وراء القضبان لأسبوعين، وبعد أن أطلق سراحه ، صادف أن العدد الثالث من المجلة الذي من تصميم جروتس، كان يشير بوضوح إلى مجزرة عصبة سبارتكوس، وفيه يقف وزير الدفاع جوستاف نوسكه، ممسكا سيفا بإحدى يديه، وكأسا من الخمر بالأخرى، في شارع تتناثر الجثث فيه، وتحت الصورة ورد التعليق الساخر التالي: «في صحتك، نوسكه - نزع سلاح الطبقة العاملة!»
ثمة نبرة ساخرة قوية تجلت هنا، لكن فريق هيرتسفيلده- هارتفيلد-جروتس لم يبذل جهدا كبيرا لخدمة القضية الشيوعية في ألمانيا بعد الإطاحة بعصبة سبارتكوس؛ فقد كان هيرتسفيلده ناقدا بكثرة للحزب الشيوعي الألماني؛ حيث تهكم من مذهبه المناوئ للفكر وانعدام قيادته. بحث الدادائيون في أماكن أخرى عن نماذج مثالية لهم؛ وإنهم أساسا قد التمسوا تلك النماذج في الشيوعية السوفيتية، لكنهم أيضا التمسوها في غموض عصر الآلة بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعتبر موضوعا للمثالية في بعض أعمال التجميع الصوري لهارتفيلد وجروتس بعينها. وكان أن ساهم هارتفيلد لاحقا في هجمات رائعة على صعود نجم هتلر في المنشورات الشيوعية. لكن دادائية برلين في أوجها لم تبذل الكثير لدعم الشيوعية في ألمانيا، وكان الحزب الألماني الشيوعي من ناحيته يتعامل بلا مبالاة مع الدادائية، وكان النقد الأساسي الموجه بقوة إلى الحركة يتمثل في إنتاجها فنا متقدما وثوريا قبل اندلاع الثورة؛ فكيف يمكن للطبقة العاملة (البروليتاريا) فهم لغتها؟
إذا بدا أن هذا النقد يعيق سياسات الدادائية، فقد ثبت أنه مصدر القلق المتكرر لمحاولة السرياليين المشتركة التكيف مع الحزب الشيوعي الفرنسي خلال الفترة ما بين عامي 1926 و1935. كان السرياليون - شأنهم شأن الدادائيين - دعاة للفردية أساسا، لكن بريتون وضع السريالية عمدا في قالب حركة، بكل ما لها من مناشدات دائمة للتماسك الجماعي وبما لها من إقصاءات، على أساس كيان سياسي جمعي. وأساسا، سعى بريتون إلى التوفيق ما بين فرويد وماركس؛ فقد آمن بريتون بأنه ينبغي السعي وراء الحرية الفكرية بالتزامن مع إشعال ثورة على المستوى الاجتماعي (ولم يقل الكثير إجمالا عن حقوق المرأة). ولكن، فيما يتعلق بالسياسة الحقيقية، كان الأمر ضربا من المستحيلات.
جاءت أولى انتكاسات السرياليين عام 1927؛ إذ شكك واحد من أعضائها، ويدعى بيير نافيل - عندما حاول السرياليون إقامة علاقات مع الحزب الشيوعي الفرنسي - في فرضيتهم القائلة بأن الثورة الفكرية يمكن أن تسبق الثورة الفعلية. وعلى الرغم من أن السرياليين انضموا إلى الحزب رسميا ذاك العام، فقد كان الآخرون دوما ينظرون إليهم نظرة ريبة وشك بسبب موقفهم البرجوازي من الفن - «الفن لأجل الفن» - وانعدام أي صلات مثبتة بينهم وبين الطبقة العاملة. في «البيان الثاني للسريالية»، أكد بريتون، متبنيا موقف تروتسكي الذي أسي السرياليون على طرده من روسيا، على أنه بالرغم من أن الفن السريالي لا يمكن اعتباره «بروليتاريا»، فإنه مع ذلك فن ثوري، مشيرا إلى الطريق الذي قد يسلكه الفن البروليتاري في سيناريو ما بعد الثورة. ظل الحزب غير مقتنع، وعين بريتون رسميا، بعد أن مثل للتحقيق أمام عدة لجان، في خلية من عمال تمديدات الغاز في باريس، وطلب إليه الإبلاغ عن الظروف الاقتصادية للصناعات الثقيلة في إيطاليا؛ وهي المهمة التي شعر بأنه ليس أهلا لها.
في عام 1932، بلغت الأمور مرحلة حرجة بالتزامن مع «مسألة أراجون» المزعومة؛ فقد بدأ لويس أراجون ينشق عن السياسة السريالية الرسمية؛ إذ مثل الجماعة عام 1930 بمؤتمر للكتاب الثوريين في خاركوف بروسيا، وتقبل الانتقادات القائلة بتروتسكية الجماعة في الوقت الذي شوه فيه وجهات نظرها في جوانب أخرى. وفي عام 1931، أدى إخلاصه المتزايد في دعوة الحزب إلى «أدب بروليتاري»، إلى أن نشر قصيدة بعنوان «الجبهة الحمراء» في المجلة الشيوعية «أدب الثورة العالمية»، وقد حضت القصيدة الطبقات العاملة على النضال الثوري بعبارات على غرار: «اقتلوا رجال الشرطة.» و«أطلقوا النار على دببة الديمقراطية الاجتماعية المدربة.» كانت القصيدة دعوية في المقام الأول، وبعيدة كل البعد عن الذوق السريالي. ولكن، عندما هددت السلطات الفرنسية الحريصة على تقويض الشيوعية، بإدانة الشاعر إدانة غير مسبوقة على أسس كالتحريض على القتل، دافع السرياليون عنه دفاعا مستميتا. ومع ذلك، فإنه عندما دعاه السرياليون لاحقا لتأييد نص لبريتون يدافع فيه عن سلفادور دالي ضد هجمة شنتها عليه الصحف الشيوعية؛ لم يكن أراجون مستعدا لتحدي الحزب صراحة، وكنتيجة لذلك، انفصل نهائيا عن السريالية، وبعد ذلك كرس نفسه للموقف الجمالي المفضل لدى الشيوعية؛ حيث انتقل في نهاية عام 1934 من «الأدب البروليتاري» إلى «الواقعية الاشتراكية».
أنهت العقيدة الواقعية الاشتراكية - التي ينبغي أن يكون الفن بموجبها اشتراكيا في مضمونه، وواقعيا في شكله - بفعالية أي فرصة للمصالحة بين السريالية والسياسة الشيوعية، وفي عام 1935، عزلت الجماعة رسميا من الحزب. كان حال مواطن خارجية أخرى للسريالية أفضل من تلك الجماعة بمحض المصادفة؛ ففي تشيكوسلوفاكيا، قام منظر الجماعة كاريل تيج بتحرير صحيفة الحزب الشيوعي؛ حيث كان يضمن انتشار المقالات المتعلقة بالسريالية في تلك الصحيفة بانتظام، ولم تنفصل هذه الجماعة عن الحزب حتى عام 1938.
ورجوعا إلى فرنسا، نجد أن السنوات التي صعد فيها نجم «الجبهة الشعبية» - عندما تضافرت جهود الشيوعيين وأحزاب اليسار في مواجهة صعود الفاشية - شهدت مواصلة تبني السرياليين موقفا غريبا؛ حيث كانوا مناوئين للفاشية بعنف، لكنهم كانوا مشككين في الميول القومية لليسار. ولفترة وجيزة، تضافرت جهود بريتون وخصمه القديم جورج باتاي تحت لواء «الهجوم المضاد»؛ حيث انطلق باتاي تحديدا يخمن بأريحية كيف يمكن تسخير القوى التي ستطلقها الفاشية في الجماهير لهدم الرأسمالية. وفي عام 1936، انطلق بنجامين بيريه، وحده من بين السرياليين جميعا، للانضمام إلى اللاسلطويين في الحرب الأهلية الإسبانية. وأخيرا، تخلى السرياليون عن الحزب الشيوعي بالتزامن مع أنباء «محاكمات موسكو» التي أكدت شكوكهم الطويلة حول ستالين.
إن نهاية قصة محاولات السريالية الفاشلة للاصطفاف السياسي موجودة نوعا ما في بيان الحركة المسمى «نحو فن ثوري حر»، الذي ألفه بريتون بالتعاون مع ليون تروتسكي (ولو أن تروتسكي طلب من دييجو ريفيرا التوقيع على البيان نيابة عنه)، عندما زار الزعيم السريالي عام 1938 بطله السياسي في المكسيك. وبينما كان العالم على شفا انهيار رأسمالي، وعرضة لاضطهاد الستالينية والفاشية، ردد بريتون وتروتسكي بشكل حاسم مبدأ الحصانة الفنية في خدمة الماركسية: «استقلال الفن من أجل الثورة، والثورة من أجل التحرر الكامل للفن.» وكانت العاقبة المؤسفة لذلك أنه عندما عاد بريتون إلى فرنسا، اكتشف أن واحدا من أقدم حلفائه ، ألا وهو بول إيلوار، كان يكتب لصالح صحيفة ستالينية؛ الأمر الذي عجل بشقاق آخر حاسم أصاب قلب الحركة السريالية. انعزل بريتون المهزوم في الولايات المتحدة الأمريكية طوال فترة الحرب العالمية الثانية، وعند عودته عام 1946، اكتشف أن إيلوار، إلى جانب أراجون والدادائي السابق تريستان تزارا، قد أمسوا أبطالا أدبيين للمقاومة، بينما كان جان بول سارتر والوجودية في موقف يسمح لهما بالهيمنة على الحياة الثقافية الفرنسية. وطوى الماضي السريالية وعناد بريتون المبدئي فيما يتعلق بولائه والتزامه. في حقيقة الأمر كان المزاج العام حادا ولاذعا، وقد طرح تريستان تزارا السؤال التالي: «ما السريالية الآن؟ وكيف تبرر وجودها تاريخيا إذا كنا نعرف أنها كانت غائبة عن هذه الحرب، ولا محل لها في قلوبنا وأنشطتنا خلال فترة الاحتلال؟»
قد يبدو أن هذا الفصل الذي يتناول سياسات الدادائية والسريالية يختتم بخاتمة مخيبة للآمال؛ إذ إن النتيجة الأوضح لهذا القسم الأخير هي أن السريالية - بغض النظر عما أصابته من نجاح على المستوى الثقافي - يبدو أنها أخفقت سياسيا، على الرغم مما خلفته من إرث كبير تمثل في انشغالها بالكولونيالية. ونكاد لا نستطيع الزعم أن الدادائية، بسبب تفاديها السياسات التقليدية إلى حد كبير، قد أخفقت؛ فقد مكنتها سلبيتها الخاصة من تفادي ذلك على أي حال. وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد أن الخلط المتفرد لماركس وفرويد في السريالية قاصر فيما يختص بالأيديولوجية الشيوعية في الثلاثينيات، ولا يرى الجميع ذلك اختبارا عادلا. ظلت السياسات السريالية المثالية واللاعملية في جوهرها مغضوبا عليها لعدة سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها حظيت بنهضة كبيرة في بعض جوانب فكر اليسار الجديد في الستينيات. وإذا نظرنا إلى استقبال الموقفيين الفرنسيين للسريالية مثلا، الذين قدر لهم أن يلعبوا دورا صغيرا في الانتفاضات التي اندلعت عام 1968 في باريس، يمكننا أن نرى تقييما جديدا لغرائزها السياسية. ورث الموقفيون من السريالية - عبر المنظر الماركسي هنري لوفيفر الذي كان متصلا بالحركة بصلة وثيقة في مرحلة ما - الاعتقاد الكامل بأن الحياة اليومية، بما في ذلك الأحلام والعلاقات الجنسية والتفاوض بشأن الحيز المدني وما إلى ذلك، هي الأرضية التي يتوجب أن تقوم عليها الثورة.
في عام 1970، ألف المنظر الموقفي راءول فانيجيم - الذي نال اهتماما أقل في السنوات الأخيرة مقارنة بجاي ديبورد، وكان لديه الكثير ليصرح به عما تدين به الحركة للسريالية - كتابا موجزا (تحت الاسم المستعار جيه إف دوبوي) بعنوان «تاريخ فروسي للسريالية»؛ وفي هذا الكتاب، أعرب عن أسفه على فرضية السريالية الضمنية التي مفادها أنها تستطيع «الوصول إلى الجماهير» عبر الحزب الشيوعي، لا سيما أن هذه الفرضية جعلت الحركة خانعة للبيروقراطية السياسية التي تحكمت في حلم السريالية بالثورة الثقافية، «فتحققه حينا وتجهضه حينا». ومن اللافت أنه يشير إلى عودة بريتون في فترة ما بعد الحرب إلى كتابات شارل فورييه الاشتراكي اليوتوبي الذي اشتهر في القرن التاسع عشر، كوسيلة كان يمكن بها أن تكون السريالية أكثر إخلاصا لتحيزاتها السياسية. كان فورييه غريب الأطوار بشدة في جوانب بعينها؛ فقد دون بريتون بإعجاب شديد في كتابه «مختارات من الكوميديا السوداء»، كيف أن «فورييه آمن بأن الكرز هو نتاج تزاوج الأرض مع نفسها، والعنب هو نتاج تزاوج الأرض مع الشمس». لكن فورييه كان على قناعة بأن الحضارة مبنية على كبت «المشاعر»، وبنى خطته الاجتماعية الأحادية الكيان ل «المستعمرات التعاونية الفوريية» (الكوميونات) على مبدأ «الانجذاب العاطفي». ويكاد لا يكون من قبيل المفاجأة أن ينجذب بريتون، الذي قاوم دفاع الحزب الشيوعي المستميت عن «العمل»، إلى فكرة فورييه المتمثلة في أن العمل ينبغي أن يكون نتيجة «الاستمالة»؛ حيث يتوجب التوفيق بين الناس والمهام التي تطيب لهم بطبيعة الحال؛ فمراحيض الكوميونات، على سبيل المثال، يتوجب أن يقوم على تنظيفها جمع من الأطفال الذين يستمتعون بالقاذورات. وكان خلط بريتون الشخصي المميز للتحرر الجنسي والنسقية يجد ما يلبي احتياجاته بالمثل في الحفلات الماجنة المنظمة بعناية شديدة، التي تصورها فورييه لمستعمراته التعاونية.
ويبدو من الملائم جدا أن ينتهي الحال بمثل هذه الأحلام إلى أن تكون الملاذ الأيديولوجي الأخير للسريالية. إن الإسقاطات البيزنطية لفورييه تكاد تكون محاكاة ساخرة للبيروقراطيات السياسية التي اضطر السرياليون إلى التعامل معها، لكنها كانت مستندة على الأقل إلى سيادة الرغبة، وهي نقطة الانطلاق الحقيقية للسياسات السريالية. وبطبيعة الحال، في محاولة للتكيف مع إملاءات الشيوعية، شوه الوصول إلى حل وسط الطموحات الاجتماعية للدادائية أولا، ومن بعدها السريالية.
الفصل السادس
إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
إن الحياة الآخرة للدادائية والسريالية موضوع مستقل بذاته، ولا يمكننا إلا أن نعرج عليه بشكل منهجي موجز هنا؛ فقد تأثر الفن والأدب والأفكار عموما، وكذا الإعلانات والأفلام والتلفزيون، بالحركتين لدرجة أن المرء قد ينتهي به الأمر إلى كتابة تاريخ لثقافة ما بعد عام 1945.
فيما يتعلق بالفن، يمكن القول إن الدادائية كان لها الأثر الأوسع بعد الحرب، وهي الحقيقة التي تنطوي على مفارقة بالنظر إلى ميول الدادائية المناوئة للفن. بالنسبة إلى كثير من الفنانين الأوروبيين والأمريكان المعاصرين لفترة الخمسينيات والستينيات، مثلت تفضيلات الدادائية والأعمال الفنية الجاهزة لدوشامب تحديا جذريا لماهية الفن المحتملة؛ ومن المفارقة أن الأمر انتهى بهم عادة إلى توسعة نطاق حدود الفن نتيجة لذلك. وثمة نزعة أمريكية مهمة اشتهرت في الخمسينيات، شارك فيها الفنانان جاسبر جونز وروبرت روشنبرج والموسيقي التجريبي جون كيج، أطلق عليها بصورة عابرة «الدادائية الجديدة»، ويزعم أن الأعمال التي تم إنتاجها آنذاك كانت تتسم بالقليل من حدة مناوأة البرجوازية المميزة للدادائية. ويتسم عمل روشنبرج التركيبي «سرير» عام 1955 - الذي يتكون من سرير مرفوع، وسادته وغطاؤه ملطخان ويقطران طلاء - بسمة صدامية؛ نظرا للطريقة التي ينكر بها الفنان الوظيفة الطبيعية لمكون عمله، لكن منتجات الدادائية الجديدة سرعان ما أمست أيقونات لأفق فني جديد. وتتمثل هذه العملية في عمل جونز «البرونز المطلي» عام 1960، الذي يتكون من قالبين مستخلصين من علب جعة مثبتة على قاعدة تمثال؛ وهذا أساسا قلب لفكرة العمل الفني الجاهز رجوعا إلى أصول الفن، ولم تكن تخفى مضامينه على دوشامب الهرم الذي علق محبطا في الستينيات بأنه ألقى بأعماله الفنية الجاهزة في وجه العامة في خطوة مرادها التحدي، ليكتشف فجأة إعجاب الناس بها لما تتمتع به من سمات جمالية.
إذا أمكن النظر جزئيا إلى أعمال جونز وروشنبرج باعتبارها تقديرات استقرائية دقيقة من فكرة الأعمال الفنية الجاهزة، فقد كانت تنويعات أخرى على لمحة دوشامب شائعة في الخمسينيات والستينيات؛ تراوحت تلك التنويعات ما بين أمثلة على «الواقعية الجديدة» في فرنسا، وأبرز ممارسيها إيف كلاين ودانيال شبوري وأرمان، والتنويعات الأمريكية للفن الشعبي، لا سيما أعمال آندي وارهول التي استغلت فيها شعارات منتجات مثل كوكاكولا بأقل قدر من التعديل، فمثلت بذلك موضوعا «لعمل فني جاهز». وبحلول أواخر الستينيات والسبعينيات، تحولت شروط استقبال دوشامب لمصلحة منهجه المفاهيمي تجاه الفن والذي بموجبه، استنادا إلى الدفاع الزائف عن «النافورة» الوارد في دورية «الأعمى»، «لا أهمية لمعرفة ما إذا كان السيد مات قد صنع النافورة بيديه أم لا. فقد اختارها.» كان الإنتاج الفعلي للأغراض الفنية آنذاك محل شك واسع النطاق، ووثقت النصوص أو الصور الفوتوغرافية نطاقا واسعا من المقترحات المفاهيمية لفنانين أمثال دوجلاس هوبلر وروبرت باري. ولكن، من المهم أن ندرك - في هذه الحالة وفي حالات أخرى كثيرة - أن الإرث الدوشامبي نادرا ما تجاوز مسألة «التعيين»؛ ويراد بذلك اعتبار أي شيء شكلا من أشكال الفن إذا أقر الفنان ذلك. ونمت مجموعة متنوعة من الاهتمامات الفكرية والفلسفية لدى الفن المفاهيمي، تجاوزت دوشامب بكثير. في الوقت نفسه، أمست الدادائية عموما سابقة مهمة لنزعات مثل «حركة الفلوكسوس» (التي بلغت ذروتها في الفترة بين عامي 1962 و1965)، وجوانب عدة من الفن الأدائي. ويمكن التأكيد أيضا على أن البنية الكاملة لطليعية الستينيات، بروحها الدولية وتعويلها على نشر منشورات عابرة رخيصة الإنتاج، مدينة بالفضل لنموذج الدادائية.
كانت تبعات الدادائية على جماليات فترة ما بعد الحرب مباشرة أكثر حسما من تبعات السريالية. باعتراف الجميع، كان الجانب التجريدي-البدائي أو «العفوي» للفن السريالي - كما في الأعمال الفنية لماسون أو ميرو - مهما بشكل عميق لبعض التعبيريين التجريديين في أمريكا في الفترة ما بين منتصف الأربعينيات وأواخرها، لا سيما أرشيل جوركي وجاكسون بولوك. ولكن، بعد هذه المرحلة المحورية، من الصعب أن نستشف أفضالا للسريالية على الفن التقليدي للخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وهناك استثناءات كبيرة داخل الفن الشعبي، كالتجاورات المضللة للصور المتشظية لجيمس روزنكيست، و«التماثيل اللينة» لكلايس أولدنبرج التي تخضع فيها أشكال مألوفة مثل مفاتيح الإضاءة أو أطقم الطبول إلى تحولات مقوسة بشكل جنسي من الجامد إلى اللين. ولكن إرث الحركة عادة ما استمر في أعمال الحالمين الغريبي الأطوار، لا في أعمال المبتكرين البارزين. في الوقت نفسه، استقر رأي بعض الأفراد البارزين، أمثال المثال الفرنسي المولد لويس بورجوا، على بناء أجسام منفصلة من أعمال تستكشف أفكارا مثل الجنسانية بدلا من المشكلات الجمالية المرادفة للحداثة المتأخرة. وبينما بليت الركائز الرسمية للفن الحداثي خلال الثمانينيات والتسعينيات، استقلت السريالية بنفسها باعتبارها رائدة لوعي ما بعد الحداثة. في عام 1986، تجرأ المؤرخ الفني هال فوستر إذ قال: «إن قسما كبيرا من النقد والفن المعاصر، وقسما كبيرا من النظرية والممارسة المتعلقة بحاضرنا ما بعد الحداثي، يعد بشكل جزئي في جوهره نظرية وممارسة ل «السريالية».» وهو التعليق المرتبط بإحساسه بالعودة إلى لحظات سابقة من الطليعية في الفن أواخر القرن العشرين، استنادا إلى نموذج فرويد ل «عودة المكبوت».
ويبدو أن ملاحظة فوستر ثبتت صحتها بفعل صعود نجم فنانين أمريكيين أمثال روبرت جوبر أو ماثيو بارني - في فترة أكثر حداثة - ممن بدا واضحا أنهم يسترجعون الغلو الباروكي للأيقنة السريالية؛ حيث استخدموا صورها المجازية الوضيعة أو الجسمانية الفتيشية للتعبير عن مخاوف معاصرة بشأن موضوعات كالإيدز، في حالة جوبر، أو لإحياء أسطورة ما، كما في حال بارني. يتكون عمل جوبر المسمى «من دون عنوان» عام 1991، من قالب شمعي للنصف السفلي من جسم رجل يرتدي سروالا تحتيا وجوربا وحذاء خفيفا، وعندما عرض هذا العمل في المعارض، وضع ووجهه لأسفل على الأرض، وبطنه ملاصق للجدار تماما بحيث يبدو الشكل وكأنه يختفي عبر الجدار. وما يثير الاضطراب بقدر أكبر أن ثمة سلسلة من فتحات الصرف مقحمة في ردفي ورجلي ذاك الشكل؛ وبذلك يستخدم جوبر أدوات سريالية للتصريح ببيان مجازي معقد يتعلق بالجنسانية الذكورية والمرض والأخلاق، تردد صداه، إبان الفترة التي صنع فيها هذا العمل الفني، بقوة في القلق الشائع من فيروس الإيدز. في الوقت نفسه، قدم التقليد السريالي لفنانة أمريكية أخرى تدعى سيندي شيرمان، وسيلة مباشرة بقدر أكبر لشن هجوم على التحصين الأخلاقي للحكومة الأمريكية في مواجهة أعمال كتلك التي قدمها جوبر. وإذ استندت إلى «دمى» هانز بيلمر، أنتجت شيرمان سلسلة من الصور الفوتوغرافية عام 1992، التي تم فيها ترتيب دمى طبية واضحة التفاصيل وأعضاؤها الجنسية معروضة بشكل بارز. وبالنظر إلى أن الحكومة الأمريكية آنذاك كانت تحاول تقويض استخدام الصور الجنسية الصريحة، كانت بادرة شيرمان مستفزة.
وفي بريطانيا، أصبحت القضايا المتعلقة بالسريالية شائعة الوجود في الفن المعاصر، ولو أن أساسها المنطقي التوجيهي أقل جلاء ووضوحا؛ فافتنان السريالية بالأنظمة التصنيفية يمكن العثور عليه مثلا في أعمال سوزان هيلر، التي أنتجت عملا في منتصف السبعينيات تحت عنوان «مهدى إلى الفنانين المجهولين»، جمعت فيه أكثر من 200 بطاقة بريدية ذات خلفيات ساحلية نقشت عليها عبارة «بحر هائج»، وفيها تلاطمت الأمواج على الساحل البريطاني. صار هذا العمل أشبه بمسح أنثروبولوجي زائف للتمثيلات الشعبية لعرق منعزل في جزيرة. وتميل كورنيليا باركر، التي رشحت لنيل جائزة تيرنر الرفيعة عام 1997، بقدر أكبر إلى الافتنان السريالي بتقليد «خزائن الفضول»؛ ولذا نجد أن عملها «شقوق في أسطوانة كانت تنتمي لهتلر» عام 1996، يدعو المشاهد إلى الحملقة في صورة فوتوغرافية مقربة لسطح أسطوانة تعمل منذ فترة طويلة، وكأن بعض بقايا الدوافع السوداء لصاحبها يجوز إدراكها في شقوقها. يحيي فنانون آخرون اهتمام السرياليين بالتجاور المتنافر؛ فيتألف عمل الفنان الاسكتلندي دوجلاس جوردون «بين الظلمة والنور» (تيمنا بويليام بليك) عام 1997 من فيلمين، وهما «أنشودة بيرناديت» و«طارد الأرواح»، يعرضان في الوقت نفسه على جانبي شاشة شفافة، بحيث يقام حوار بين الفيلمين اللذين يناقشان الخير والشر على الترتيب. ويجوز القول بأن هذه الأعمال تتحالف مع الجانب الشعري «الأكثر رقة» للسريالية، ومع ذلك فقد أنتج بعض الفنانين المرتبطين دوليا بقوة بظاهرة الفنانين البريطانيين الشباب المزعومة؛ أعمالا تضارع في حدتها الصارمة أعمال فنانين أمريكيين أمثال جوبر. وتعتبر سارة لوكاس السالف مناقشة أعمالها في بداية هذا الكتاب حالة تثبت ذلك.
إذا نظرنا إلى العمل الفوتوغرافي للوكاس المسمى «ترجل عن فرسك واحتس لبنك» عام 1994، من حيث علاقته بواحدة من نقاطه المرجعية العامة، ألا وهي لوحة «الاغتصاب» (1934) للفنان السريالي رينيه ماجريت؛ فسيمكننا أن نرى أن عملها يمثل رؤية أنثوية بشكل عنيف لصورة ماجريت الكارهة للنساء بشكل استبطاني. تستحث لوكاس السريالية التي اضمحلت عبر استيعاب السوق لها. وقد استعاضت عن علامات الذكورة الرجولية برموز طفولية (قوارير حليب وكعك مساعد على الهضم)، وبذلك فهي تختلق التقاء بين نطاق ثقافي «رفيع» سبق أن انتمت إليه السريالية، ونطاق دارج لثقافة الشارع، حيث تتنازع باستمرار قضايا الهوية الذكورية والأنثوية.
بالنسبة إلى سارة لوكاس، تعتبر الأدوات السريالية ببساطة جزءا من انتشار الثقافة الجماهيرية، وعلى الرغم من أنها تشارك السرياليين اهتمامهم بالجنسانية، نجد أن السريالية يشار إليها كمرجع في سياق تكثيف ثقافة السلعة خلال القرن الماضي، وذلك إلى حد كبير عبر الإعلانات، بالقدر نفسه الذي يشار به إلى أي شيء آخر. وحقيقة الأمر أن هذا التوجه الساخر أو التنقيحي أساسا يكمن وراء الكثير من الأعمال التي عكفت على مناقشتها؛ ففنانون كثر قد تعاملوا مع السريالية كنقطة انطلاق لاستكشافاتهم لسياسات الهوية، ولكن قليلا هم الذين يدعمون السريالية قلبا وقالبا. وبالنسبة إلى كثيرين، أمست السريالية متماهية بسهولة جدا مع صور على ملصقات لفنانين أمثال دالي وماجريت، وانتشارها الشعبي طمس قيمتها الكامنة تقريبا.
هل من المحتمل أن نجد تواصلا تعاطفيا صادقا مع المشروع السريالي؟ لا تكمن الإجابة في الفن (ما بعد) الحداثي، بقدر ما تكمن في التشكيلات الثقافية المضادة أو التجليات الفنية والسياسية التي تتسم بشيء شبيه بالدافع «الطليعي» السابق تعيينه في مطلع هذا الكتاب، على اعتبار أنه يميز الدادائية والسريالية. ومن هذا المنطلق، نجد أن الثمرة التاريخية المباشرة للسريالية تتمثل في مجموعة من التشكيلات الفنية المسيسة التي ظهرت في الفترة السابقة لعام 1968؛ ألا وهي جماعة كوبرا، وهي عبارة عن تحالف يضم فنانين بلجيكيين وهولنديين ودنماركيين ومعماريين وكتاب، استمر خلال الفترة بين عامي 1948 و1951؛ وحركة الحروفية، وهي حركة فرنسية بقيادة إيزيدور إيزو ، وانتقلت قيادتها لاحقا، بعد أن عرفت باسم الحروفية الدولية، إلى جي ديبور، واستمرت من عام 1946 وحتى عام 1957؛ وأخيرا حركة المواقفية، وهي ظاهرة فرنسية أساسا امتدت من عام 1957 وحتى عام 1972. وكما ذكرنا آنفا، أمكن فهم المواقفية التي طرحت بحلول منتصف الستينيات اهتماماتها الفنية فعليا، باعتبارها وريثة لسياسات السريالية للحياة اليومية. ولما كان أتباع المواقفية معارضين لعقلنة الحداثيين للمدينة، فقد انغمسوا في ضرب من التجوال نظروا له تحت اسم «الانجراف»، ودعوا في كتاباتهم إلى «العمران الوحدوي» الذي بموجبه يتم إعادة تنظيم مساحات العاصمة الحديثة لتلبية متطلبات الخيال أو العبث. كان هناك دين مباشر تدين به تلك الحركة للسريالية في هذا السياق؛ ففي مقالة نشرت عام 1950 تحت عنوان «جسر جديد»، كتب أندريه بريتون عن الأجواء المحيطة بالشوارع في باريس، بحيث يستطيع المرء في الشوارع المألوفة له أن يقوم بترسيم «مناطق الرفاهية ومناطق الاضطراب»، ونجد صدى لذلك في «تقرير» مهم عام 1957، بقلم قائد المواقفية جي ديبور، وفيه يتخيل كيف يجوز تنظيم «الآثار العاطفية» لمدينة تجريبية، حيث يقول:
وضع زميل لنا نظرية عن أحياء الحالة المزاجية، وبحسبها يتم تحديد كل حي من أحياء المدينة بحيث يستثير شعورا أساسيا محددا يعرض له المرء نفسه عن عمد.
بحلول منتصف الستينيات، تشارك العديد من التشكيلات الثقافية المضادة المضمون اليوتوبي لفكر المواقفية. ومن عدة طرق، يمكن النظر إلى تلك الظاهرة باعتبارها اللحظة الأخيرة العظيمة للدافع السريالي؛ ولذلك يجوز أن نعتبر صفحات المجلة البريطانية السرية «أوز» الصادرة في الستينيات، بمزجها الهذياني بين سياسات اليسار الجديد والسياسات اللاسلطوية، وثقافة متعاطي العقاقير المسببة للهلوسة والإثارة الجنسية؛ الومضات الأخيرة المتداعية للأيديولوجية السريالية. وفي ظل حركة المواقفية والثقافات المضادة للستينيات، من الملائم أن نستدعي فكرة الطليعية التي استغلت لتعريف الطبيعة التاريخية للدادائية والسريالية آنفا في هذا الكتاب. إلى حد معين، تداخلت الاهتمامات السياسية لجماعات الثقافات المضادة في هذه الفترة، مع حركات فنية مثل حركة الفلوكسوس. وإذ وضع المؤرخون الثقافيون ذلك نصب أعينهم، فقد استغلوا مؤقتا فكرة «الطليعية الجديدة» لتوصيف هذه العودة العابرة لمحاولات المزج بين الفن والحياة.
يترتب على ذلك أنه إذا كنا بصدد البحث عن إرث معاصر ذي مغزى للسريالية، وكذلك للدادائية، فستقتضي الحاجة أن نجد مكافئات حالية للمنهج الفني-السياسي للطليعية التاريخية أو الطليعية الجديدة. ومع ذلك، فقد لاحظ الكثير من المعلقين على ثقافة ما بعد السبعينيات أن الموقف الطليعي لا يبدو قابلا للتطبيق بعد، خاصة أنه من الصعب أن نتخيل مجموعة وحيدة تتبنى الموقف نفسه الذي تبنته الدادائية والسريالية في فترة من الفترات من محيط العمليات الاجتماعية. فقد تم استيعاب الراديكالية الفنية في بنى الثقافة الرأسمالية الأخيرة، وقليل من الفنانين الطموحين حاليا يرضون بانتظار إقامة معارض كبرى حتى نهاية حياتهم، كما هو الحال بالنسبة إلى دوشامب أو هارتفيلد على سبيل المثال. لقد نشأت الجماعات الثقافية المضادة على اختلاف ألوانها في أعقاب أواخر الستينيات، لكنها ارتبطت بقضايا محددة مثل البيئة أو حقوق المرأة، وبذلك تفادت الروح الشمولية للأيديولوجية السريالية. إن التنافر المحض لثقافتنا المعولمة الحالية يعني أن فكرة التحدث «نيابة عن البشرية» - وهو الأمر الذي كثيرا ما افترض السرياليون أنهم يفعلونه - تبدو على أي حال عبثية.
إذا كانت الطليعية ظاهرة طواها النسيان، فقد يرجع ذلك أيضا إلى أن القامات الثقافية الجديرة بالثقة، أمثال تريستان تزارا أو أندريه بريتون، لم تظهر على مشهد الأحداث ببساطة. إن عدد المفكرين الفرنسيين الكبار الذين أقروا بالأهمية التكوينية الحاسمة للسريالية بالنسبة إليهم ليس بالقليل، وتتضمن قائمة هؤلاء: رولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك لاكان، وجوليا كريستيفا، وجاك دريدا. ولكن، هؤلاء الرموز ارتاحوا لمكانة الطائفة الأكاديمية أكثر من ارتياحهم للزعامة الثقافية؛ فقد بدت فكرة الزعامة بحد ذاتها استعلائية ومختلة التوازن بالنسبة إلى عصرنا.
وبخلاف هذا التخمين الخاص ب «بقاء» الدادائية والسريالية، يجدر بنا أن نسأل أخيرا بقدر أكبر من الصراحة : هل كانت الحركتان تستحقان الإحياء حقا؟ هل قبول سارة لوكاس لفكرة أن السريالية الآن مجرد جزء من ثقافة السلعة؛ يعتبر إقرارا بأن الحركة، في نهاية المطاف، كانت طريقا تاريخيا مسدودا؟
للتركيز على هذه القضية، تجدر العودة إلى نقد السريالية الذي طرحه راءول فانيجيم، المنسوب إلى حركة المواقفية، السالف مناقشته في نهاية الفصل الأخير. كان لدى فانيجيم عدد من الآراء القيمة التي أوردها في كتابه «تاريخ فروسي للسريالية»؛ فقد ذهب، على سبيل المثال، إلى أن السريالية البريتونية (نسبة إلى بريتون) كثيرا ما أخفقت في تحرير الإنسان على المستوى الأخلاقي. ويمكن أن ينظر لحرية حركة الرغبة وما إلى ذلك من مفاهيم على اعتبار أنها «محفزات لتجديد النظام القديم» فحسب. وفي المقابل، يدعم فانيجيم تفكير سرياليين أكثر تطرفا مثل موريس هاينه الباحث في أعمال ساد، الذي قابل في واحد من نصوصه بين متع التعذيب المريبة من ناحية، وما يصفه فانيجيم ب «نفي التجسيد البطيء» من ناحية أخرى؛ بتعبير آخر: أن يمسي الإنسان أداة ينتفع بها إنسان آخر، أفضل من أن يكون أداة تنتفع بها الدولة. إن إحساس فانيجيم بأن السريالية كانت جوهريا إنسانية الطابع و«رومانسية» أكثر مما ينبغي، أدى به إلى أن يطرح الفكرة الكاشفة التي مفادها أن كراهية السريالية الجوهرية للصناعة الحديثة ومناوأتها للمذهب الانتفاعي (وهو الموقف الذي قلما، بالمصادفة البحتة، تبنته الدادائية على الرغم من أنه كان ساخرا بشدة من الآلة)؛ تعنيان أن السريالية كانت عاجزة عن الربط ما بين التكنولوجيا الحديثة ورؤيتها. وكنتيجة لذلك، بحسب تصريح فانيجيم، «فقد استوعبت آليات الخداع والافتنان السائدة تلك الرؤية.» من الصعب أن ندرك تحديدا ما الذي أراد فانيجيم أن يفعله السرياليون، بخلاف تبني فكرة الاستنساخ الشامل على النحو الذي أيده والتر بنيامين، لكنه يطرح فكرة وجيهة مفادها أن فهم السريالية للحداثة كان غير كاف لها كي تقاوم عملية التسليع. كان هذا النقد يتسق مع موقف فانيجيم كتابع لحركة المواقفية، في مقابل ما أسماه ديبور «مجتمع الاستعراض»؛ وهو عالم تجمد فيه رأس المال وأمسى مركز إحساس مطوقا.
لا شك أن هذا الإحساس بأن السريالية تفتقر إلى الموارد اللازمة لمقاومة هضم الرأسمالية لها؛ هو الذي يجعل المرء حذرا من تأييد فكرة «استمراريتها». وحقيقة الأمر أن السريالية، في أشكالها الشعبية، يمكن فهمها على اعتبار أنها تشكل الأيديولوجية التي أعلنت معارضتها لها، وكأنها صارت معكوسة في مرآة مشوهة. في مقالة بعنوان «نظرة إلى ماضي السريالية»، اقتبس المنظر الماركسي ثيودور أدورنو الأفكار المتعمقة لزميله والتر بنيامين ليوحي بأن السريالية، إذ تستند إلى استخدام المونتاج، أعادت نشر ثقافة الصورة من مرحلة سابقة للرأسمالية، وبذلك أنتجت هزة إقرار واعتراف كاشفة لراصديها. ومع ذلك، فقد أضفى عليها تعويلها على تلك المواد الزائلة قالبا شبحيا عديم الحياة؛ وبلغة ماركسية، مثلت السريالية «تجسيدا» للإنسان تحت مظلة الرأسمالية.
ولكن، هل يمكننا القول بأن الدادائية صمدت بشكل أفضل من ذلك؟ في مجازفة مني بأن أبدو مغالطا من الناحية التاريخية، أود أن أختم بتعليق على كتاب فانيجيم «ثورة الحياة اليومية» المثير للجدل، الذي كتبه على مشارف عام 1968، وفيه نجد أن الدادائية، لا السريالية، توفر نموذج الممارسة الثقافية المتطرفة. وإذ رأى فانيجيم عدمية الدادائية كنقطة انطلاق للثورة الاجتماعية، فقد انتقد فانيجيم بشدة السريالية؛ لأنها لم «تبدأ مجددا بالعدمية المبدئية للدادائية، دون أن تبني نفسها على دادائية مناوئة للدادائية، ودون أن تنظر إلى الدادائية تاريخيا.» ويجوز بطبيعة الحال أن ننساق وننتقد فانيجيم بشدة لإخفاقه في فهم «الدادائية» تاريخيا. ولقد رأينا أن الدادائية لم ترق ببساطة إلى العدمية؛ فقد كانت أكثر غموضا مما راق لأتباع المواقفية، لكن احتياطاتها من الارتباك وعشقها للمفارقة والوقاحة - مما يجعلها حتى يومنا هذا «مستغلقة» حتى على كثيرين - يعتبران ترياقا لاستيعاب السريالية الهادئ نسبيا في المشهد.
إلى جانب بيان الملامح التاريخية والفلسفية للدادائية والسريالية، قد قارن هذا الكتاب بين الحركتين ووازن بينهما باستمرار. شغلت السريالية بضرورة الحال مساحة أكبر من النقاش، وذلك لأن السريالية - علاوة على استمرارها لفترة أطول كحركة - كانت مقدماتها النظرية مصاغة صياغة أكثر دقة. ولكن، يبدو من الملائم أن أختتم بقلب للصياغة التاريخية التي «تطورت» الدادائية بموجبها، وتحولت إلى السريالية الثورية الأكثر وعيا بالذات، وأن أميل الكفة لمصلحة اللحظة الدادائية القصيرة ولكن المحرضة. وكما صرح فانيجيم بحيويته التي نستغربها الآن: «كانت بداية الدادائية إعادة اكتشاف لتجربة معيشة ومباهجها الممكنة، وكانت نهايتها انعكاسا لكل المنظورات، وابتكارا لعالم جديد.»
المراجع
الفصل الأول: الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
Tristan Tzara, 'Zurich Chronicle’, in R. Motherwell (ed.),
The Dada Painters and
(Belknap, 1989), p. 236.
Hans Arp, 'Dadaland’, tr. H. Richter, in
Dada: Art and Anti-Art (Thames &; Hudson, 1965), p. 25.
Hugo Ball,
Flight Out of Time,
tr. A. Raimes, ed. J. Elderfield (University of California Press, 1996), p. 63.
Richard Huelsenbeck, 'Dada Lives’,
Transition,
25 (Fall 1936), 77-80.
Richard Huelsenbeck, 'Dada Manifesto 1918’, in R. Motherwell (ed.),
Dada Painters,
pp. 244, 243.
Tristan Tzara, 'Dada Manifesto’ (1918), in
Seven Dada Manifestoes and Lampisteries , tr. B. Wright (John Calder, 1981), p. 5.
Francis Picabia, 'Cannibal Manifesto’, in R. Huelsenbeck (ed.),
Dada Almanach,
new edn. presented by M. Green (Atlas, 1993), pp. 55-6.
André Breton, 'Après Dada’,
Comedia (March 1922).
André Breton, 'First Surrealist Manifesto’, in
Manifestoes of Surrealism , tr. R. Seaver and H. R. Lane (University of Michigan, 1972), pp. 26, 10.
الفصل الثاني: «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
André Breton, 'Rather Life’ (Clair de Terre, 1930), from André Breton, 'Selected Poems’, tr. Kenneth White (Cape Editions, 1969).
Hugo Ball,
Flight Out of Time,
pp. 70-71.
Salvador Dalí, 'The Conquest of the Irrational’, tr. H. Finkelstein, in
The Collected Writings of Salvador Dalí (Cambridge University Press, 1998), p. 265.
George Orwell, 'Benefit of Clergy: Some Notes on Salvador Dalí’ (1944),
Essays,
ed. J. Carey (Everyman, 2002), pp. 654, 660.
Marcel Duchamp, 'The Richard Mutt Case’,
The Blind Man,
2 (1917).
André Breton, 'Marcel Duchamp’, tr. M.
The Lost Steps (University of Nebraska Press, 1996), p. 86.
Benjamin Péret, 'The Chicago Eucharist Congress’, from
Remove Your Hat and Other Writings , tr. D. Gascoyne and H. Jennings (Atlas, 1986), p. 37.
Walter Benjamin, 'Surrealism: The Last Snapshot of the European Intelligentsia’, in W. Benjamin,
Reflections,
ed. P. Demetz, tr. E. Jephcott (Harcourt Brace Jovanovich, 1978), p. 182.
George Grosz, letter to Otto Schmalhausen, 15 December 1917, from H. Knust,
George Grosz (Hamburg, 1979), pp. 56-7.
Louis Aragon,
tr. Simon Watson Taylor (Pan Books, 1980), p. 52.
الفصل الثالث: الفن ونقيض الفن
Hugo Ball, 'Dada Manifesto’ (1916), in
Flight Out of Time , p. 221.
Kurt Schwitters, 'Murder Machine 43’, in K. Schwitters,
ed. J. Rothenberg and P. Jorris (Temple University, 1993), p. 29.
L’Amour la poésie (Gallimard, 1922), p. 122.
André Breton, 'Free Union’, tr. R. Howard, in Maurice Nadeau,
The History of Surrealism (Penguin, 1978), pp. 309-10.
Benjamin Péret, 'Quatre à Quarte’ from 'De Derrière Les Fagots’ (1934), tr. A. Balakian in her
Surrealism: The Road to the Absolute (Unwin Books, 1972), p. 151.
Tristan Tzara, 'Dada Manifesto 1918’, in
Seven Dada Manifestoes , p. 5.
Excerpt from the trances from André Breton, 'Entrée des Médiums’, tr. M. Polizzotti, in A. Breton,
The Lost Steps,
p. 94.
Hans Arp, 'Dadaland’, in his
On my Way: Selected Poetry and Essays (Wittenborn, Schultz, 1948), pp. 46, 40.
Tristan Tzara, 'Dada Manifesto 1918’, in
Seven Dada Manifestoes , p. 9.
Susan Sontag,
On
(Penguin, 1977), p. 52.
André Breton, 'Introduction to the Discourse on the Paucity of Reality’, tr. B. Imbs, in A. Breton,
What is Surrealism? Selected Writings,
ed. F. Rosemont (Pluto, 1978), p. 26.
Salvador Dalí,
This Quarter (Paris, 1932), p. 199.
Meret Oppenheim (on 'My Nurse’), text by Jennifer Mundy,
Surrealism: Desire Unbound (Tate Publishing, 2001), p. 45.
Georges Bataille, 'L’Esprit moderne et le jeu des transpositions’,
Documents,
8 (1930), 490-1.
الفصل الرابع: «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
Tristan Tzara, 'Dada Manifesto 1918’, from
Seven Dada Manifestoes , pp. 5, 8.
Louis Aragon,
Treatise on Style,
tr. A. Waters (University of Nebraska, 1991), p. 72.
Wieland Herzfelde, catalogue of the First International Dada Fair, Berlin, 1920.
Raoul Hausmann, 'Dada in Europa’,
Der Dada,
3 (April 1920).
André Breton, Second Manifesto of Surrealism, in
Manifestoes of Surrealism , p. 123.
Berlin Dada members, 'Legen Sie Ihr Geld in Dada!’,
Der Dada,
1 (June 1919).
André Levisan (on Mary Wigman),
Theatre Arts (Feb. 1929), 144.
Hugo Ball, 'Occultism and Other Things Rare and Beautiful’, as quoted by Hans Arp, 'Dadaland’, in
On my Way , p. 40.
George Grosz, 'Kaffeehaus’,
Neue Blätter für Kunst und Dichtung,
1 (Nov 1918), p. 155.
André Breton,
Qu’est ce que le surréalisme? (Paris, 1934), p. 25.
Excerpt from the 'Recherches sur la sexualité’, eleventh session, 26 January 1931, tr. J. Imrie, in J. Pierre (ed.),
Investigating Sex: Surrealist Discussions 1928-1932 (Verso, 1992), pp. 196-7.
Aragon’s comment was from the second session, published in
La Révolution Surréaliste , 11 (Mar. 1928).
الفصل الخامس: السياسات
André Breton, Second Surrealist Manifesto in
Manifestoes of Surrealism , p. 128.
Whitney Chadwick,
Women Artists and the Surrealist Movement (Thames &; Hudson, 1985), p. 13.
Marcel Duchamp,
The Bride Stripped Bare by her Bachelors, Even (The 'Green Box’ notes), tr. George Heard Hamilton (Percy Lund, Humphries &; Co. and George Wittenborn, 1960), unpaginated.
Hugo Ball, as quoted in Hans Richter,
Dada: Art and Anti-Art,
p. 23
Documents , definition of 'man’, tr. I. White, in Robert Lebel and Isabelle Waldberg (eds.),
Encyclopaedia Acephalic (Atlas, 1995), p. 56.
Aimé Césaire,
Return to my Native Land,
tr. J. Berger and A. Bostock (Penguin, 1969), p. 49.
Wifredo Lam, as quoted in Max-Pol Fouchet,
Wifredo Lam (New York, 1976), p. 199.
André Breton, 'The Presence of the Gauls’, in
his Surrealism and Painting , tr. Simon Watson Taylor (Icon Editions, 1972), p. 333.
Raoul Hausmann, 'Pamphlet gegen die Weimarische Lebensauffassung’ (164/1: 44), as cited by Richard Sheppard,
Modernism-Dada-Postmodernism (Northwestern University Press, 2000), p. 336.
André Breton, Diego Rivera, and Leon Trotsky, 'Towards a Free Revolutionary Art’, tr. in Charles Harrison and Paul Wood,
Art in Theory 1900-1990 (Blackwells, 1992), p. 529.
Tristan Tzara, 'La Surréalisme et l’après-guerre’ (Paris 1948), tr. in Helen Lewis,
Dada Turns Red (Edinburgh University Press, 1990), p. 164.
André Breton, 'Charles Fourier’, in his
Anthology of Black Humour , tr. M.
الفصل السادس: إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
Hal Foster, 'L’Amour Faux’,
Art in America (Jan. 1986), p. 128.
Guy Debord, 'Excerpt from Report on the Construction of Situations and on the International Situationist Tendency’s Conditions of Organisation and Action’ (June 1957), as reprinted in Iwona Blazwick (ed.),
An Endless
(ICA and Verso, 1989), p. 26.
Raoul Vaneigem,
The Revolution of Everyday Life,
tr. J. Fullerton and P. Sieveking (Rising Free Collective, 1979), p. 177.
قراءات إضافية
Many key primary sources have been cited as references. The following are also useful.
مجموعات منقحة
Robert Motherwell,
The Dada
(Harvard University Press, 1989); Lucy Lippard,
Dadas on Art (Prentice Hall, 1971); Franklin Rosemont (ed.),
André Breton: What is Surrealism? Collected Writings (Pluto Press, 1978); Mary Ann Caws,
Surrealist Painters and Poets (MIT
ترجمات إنجليزية لأعمال مهمة
Richard Huelsenbeck,
Memoirs of a Dada Drummer (University of California Press, 1991); André Breton,
Nadja (Grove Press, 1960) and
Mad Love (University of Nebraska Press, 1987); Georges Bataille,
Visions of Excess,
ed. A. Stoekl (Manchester University Press, 1985) and
The Story of the Eye (Penguin, 1982).
طبعات جديدة لدوريات عن الدادائية والسريالية
Dada (Zurich Reviews, Jean-Michel Place, 1981),
391 (Editions
La Révolution Surréaliste (J.-M. Place, 1975),
Le Surréalisme au Service de la Révolution (J.-M. Place, 1976),
Minotaure (Flammarion, 1981),
Documents (J.-M. Place, 1991).
الفصل الأول: الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
Although contested now, Peter Bürger,
The Theory of the Avant Garde (University of Minnesota, 1984), is the key work on its topic. The best general history is Dawn Ades,
Dada and Surrealism Reviewed (Arts Council of Great Britain, 1978), with its emphasis on both movements’ publications, but see also Matthew Gale’s chronology,
Dada and Surrealism (Phaidon, 1997). In terms of Dada, a major eight-volume study is in progress, with each volume dedicated to a different centre (ed. Stephen Foster, G. K. Hall &; Co., 1996-). Richard Sheppard’s
Modernism-Dada-Postmodernism (Northwestern University Press, 2000) collects his important essays on Dada together. For branches of Dada see: Francis Nauman,
New York Dada 1915-1923 (Harry N. Abrams, 1994); Michel Sanouillet,
Dada à Paris (Flammarion, 1993); Robert Short, 'Paris Dada and Surrealism,’ Dada:
Studies of a Movement,
ed. R. Sheppard (Alpha Academica, 1979); and the essays in Stephen Foster and Rudolf Kuenzli,
Dada Spectrum: The Dialectics of Revolt (Coda, 1979). On Surrealism, see Maurice Nadeau’s pioneering
The History of Surrealism (Penguin, 1973); Gérard Durozoi’s monumental
History of the Surrealist Movement (University of Chicago Press, 2002); and the relevant sections of Briony Fer, David Batchelor, and Paul Wood,
Realism, Rationalism, Surrealism: Art between the Wars (Yale University Press, 1993) and Christopher Green,
Cubism and its Enemies (Yale University
الفصل الثاني: «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
Aspects of the first two sections were suggested by Debbie Lewer’s essay on mapping Zurich Dada in B. Pichon and K. Riha (eds.),
Dada Zurich: A Clown’s Game from Nothing (New York, 1996); Philip Mann’s
Hugo Ball (University of London, 1987); Annabelle Melzer’s excellent
Dada and Surrealist Performance (Johns Hopkins University Press, 1976); Lewis Kachur’s
Displaying the Marvellous (MIT Press, 2001) and chs. 6 and 7 of Bruce Altschuler’s
The Avant Garde in Exhibition (Abrams, 1994). On Arthur Cravan see Roger Conover
et al., Four Dada Suicides (Atlas, 1995). For Marcel Duchamp the standard biography is Calvin Tomkins,
Duchamp: A Biography (Chatto &; Windus, 1997) but see also Dawn Ades, Neil Cox, and David Hopkins,
Marcel Duchamp (Thames &; Hudson, 1999).
The best monograph on Salvador Dalí is Dawn Ades,
Dalí (Thames &; Hudson, 1982). Aspects of the last two sections are indebted to Robin Walz,
(University of California Press, 2000); Sherwin Simons, 'Advertising Seizes Control of Life ...’,
Oxford Art Journal,
22/1 (1999); and Roger Cardinal, 'Soluble City’,
Architectural Design,
2-3 (1978). For Hal Foster on modernity and Surrealism see his
Compulsive Beauty (MIT Press, 1993), ch. 6.
الفصل الثالث: الفن ونقيض الفن
Clement Greenberg’s Modernist attack on Surrealism is his 'Surrealist Painting’,
Horizon (Jan. 1945). For poetry see Anna Balakian,
Surrealism: The Road to the Absolute (Unwin Books, 1972). Dawn Ades’s essay on the 'mouvement flou’ in T. A. R. Neff (ed.),
In the Mind’s Eye: Dada and Surrealism (Museum of Contemporary Art, Chicago, 1984) is excellent. See also Harriet Watts,
Chance: A
(UMI Research Press, 1980) and Alastair Grieve’s essay on early Arp, 'Arp in Zurich’ (in Foster and Kuenzli,
Dada Spectrum ). The standard survey of photomontage is by Dawn Ades (Thames &; Hudson, 1986) but see also Maud Lavin’s excellent
Cut with the Kitchen Knife: The Weimar Photomontages of Hannah Höch (Yale University Press, 1993). The attacks on Surrealist painting were Max Morise, 'Les Yeux enchantés’,
La Révolution Surréaliste,
1 (Dec. 1924) and Pierre Naville,
La Révolution Surréaliste,
3 (15 April 1925). There are numerous monographs on individual Dadaist and Surrealist artists, but see William Camfield,
Francis
(Princeton University Press, 1979) and
Max Ernst: Dada and the Dawn of Surrealism (Prestel, 1993); Hans Hess,
George Grosz (Yale University Press, 1985); Jacques Dupin,
Joan Miró (Thames &; Hudson, 1962); William Rubin and Carolyn Lanchner,
André Masson (Museum of Modern Art, New York, 1976); and David Sylvester,
Magritte (South Bank Centre, London, 1992). For Surrealist photography see Rosalind Krauss and Jane Livingston,
L’Amour Fou: Photography and Surrealism (Abbeville, 1985). For the Surrealist object and fetishism see Dawn Ades, 'Fetishism’s Job’, in A. Shelton (ed.),
Fetishism: Visualising Power and Desire (South Bank Centre, London, 1995) and for Meret Oppenheim, see Edward D. Power, 'These Boots Ain’t Made for Walking’,
Art History,
24/3 (June 2001). On film see A. L. Rees,
A History of Experimental Film and Video (British Film Institute, 1999); Rudolf Kuenzli (ed.),
Dada and Surrealist Film (William Locker &; Owens, 1987); and Linda Williams,
Figures of Desire (University of California Press, 1981). For Fredric Jameson see his
Marxism and Form (Princeton University Press, 1971), pp. 95-106.
الفصل الرابع: «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
On Dada irrationalism see Richard Sheppard,
Modernism,
ch. 7. For Surrealism’s psychoanalytic links see Elisabeth Roudinesco,
Jacques Lacan and Co: A History of Psycho-Analysis in France 1925-1985 (Free Association, 1990), part one. On Ernst’s 'Pietà’ see Malcolm Gee,
Ernst/Pietà or Revolution by Night (Tate Gallery, 1986) and for psychoanalysis in Surrealist art, David Lomas,
The Haunted Self (Yale University Press, 2000). Dada attitudes to the machine, and Cartesian dualism, are dealt with in my
Marcel Duchamp and Max Ernst: The Bride Shared (Oxford University Press, 1998), chs. 1 and 2. For Bataille’s thought see Michael Richardson,
Bataille (Routledge, 1994) as well as Bataille’s own writings as cited above. Richard Sheppard is again excellent on Dada and mysticism (
Modernism , ch. 10) but see also Timothy O. Benson’s essay 'Mysticism, Materialism and the Machine in Berlin Dada’,
Art Journal,
46/1 (Spring 1987). Alchemy in Surrealism is discussed in my
Marcel Duchamp and Max Ernst . For Miró and Lull see also my 'Ramon Lull, Miró and Surrealism’,
Apollo (Dec. 1993). For the idea of the Wunderkammer see the final chapter of my
Marcel Duchamp and Max Ernst , and for Joseph Cornell see Diane Waldman,
Joseph Cornell: Master of Dreams (Harry N. Abrams, 2002). Jan Švankmajer’s text on 'Fellaceus Oedipus’ appears in
Jan Švankmajer: Transmutation of the Senses (Central Europe Gallery and
23-4. Ideas of traumatic mimickry in Berlin Dada are developed by Brigid Doherty in 'See: We are All Neurasthenics: Or, the Trauma of Dada, Montage’,
Critical Inquiry,
24 (Autumn 1997). For the effects of World War 1 on male Surrealist imagery see Amy Lyford:
Surrealist Masculinities (forthcoming, University of California Press). On Surrealist sexuality see Jennifer Mundy (ed.),
Surrealism: Desire Unbound (Tate
Xavière Gauthier,
Surréalisme et Sexualité (Gallimard, 1971). Recent monographs on Bellmer are by Sue Taylor,
Hans Bellmer: The Anxiety of Influence (MIT, 2000) and Therese Lichtenstein,
Behind Closed Doors: The Art of Hans Bellmer (University of California, 2001).
الفصل الخامس: السياسات
See Naomi Sawelson-Gorse (ed.),
Women in Dada (MIT, 1998) and Whitney Chadwick,
Women Artists and the Surrealist Movement (Thames &; Hudson, 1995). For Elisabeth Roudinesco see her
Jacques Lacan and Co , and for Krauss’s women-under-construction argument see Rosalind Krauss and Jane Livingston,
L’Amour Fou,
ch. 2. For Susan Rubin Suleiman see her
Subversive Intent (Harvard University Press, 1991), chs. 1, 7. Recent essays on Claude Cahun and Frida Kahlo appear in Whitney Chadwick (ed.),
Mirror Images: Women, Surrealism and Representation (MIT Press, 1998). For the Baroness see the biography
Baroness Elsa , by Irene Gammel (MIT, 2002). For masculinity in Surrealism see my 'Male Shots’,
Tate: The Art Magazine,
26 (Aug. 2001). On Duchamp as Rrose Sélavy see Amelia Jones,
En-Gendering of Marcel Duchamp (Cambridge University Press, 1994), ch. 5, and my 'Men Before the Mirror: Duchamp, Man Ray and Masculinity’,
Art History,
21/3 (Sept. 1998).
For a general essay on 'primitivism’, and a more specific one on Giacometti, see Evan Maurer and Rosalind Krauss in William Rubin (ed.),
(Museum of Modern Art, New York, 1984), vol. ii. The best introduction to ethnography and Surrealism is James Clifford,
The Predicament of Culture (Harvard University Press, 1988), part two, but see also Denis Hollier, 'The Use-Value of the Impossible’,
October,
60 (Spring 1992). On anti-colonialism see Michael Richardson and Krzysztof Fijalkowski,
The Refusal of the Shadow: Surrealism and the Caribbean (Verso, 1996). A useful essay on Wifredo Lam is Robert Linsley, 'Wifredo Lam: Painter of Negritude’,
Art History,
11/4 (Dec. 1988). For Alejo Carpentier on Surrealism see the prologue to his novel
The Kingdom of the World (André Deutsch, 1991). For Eastern European and Japanese Dada see Gerald Janecek and Toshiharu Omuka (eds.),
The Eastern Dada Orbit (G. K. Hall &; Co., 1998). Dada politics are discussed in Richard Sheppard,
Modernism,
ch. 12, and the important essays by Christopher Middleton in section 1 of his
Bolshevism in Art (Carcanet New Press, 1978). John Willett’s
The New Sobriety (Thames &; Hudson, 1978) is a classic study. In terms of Surrealism, see Steven Harris:
Surrealist Art and Thought in the 1930s: Art, Politics and
Cambridge University Press, 2004. Helena Lewis,
Dada Turns Red (Edinburgh University Press, 1988) is useful, despite some factual errors, while Michael Richardson and Krzysztof Fijalkowski,
Surrealism Against the Current: Tracts and Declarations (Pluto, 2001) collects a number of important political texts. On Fourier see André Breton’s
Ode to Charles Fourier , tr. K. White (Cape Goliard, 1969) and Raoul Vaneigem’s
A Cavalier History of Surrealism , tr. D. Nicholson Smith (AK Press, 1999).
الفصل السادس: إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
For the general take-up of Dada and Surrealism in post-1945 art see my
After Modern Art 1945-2000 (Oxford University Press, 2000). Theodor Adorno’s essay 'Looking Back on Surrealism’ is in his
Notes to Literature (Columbia University Press, 1991). For Situationism and Surrealism see Peter Wollen’s essay in
on the passage of a few people through a certain moment in time (MIT, 1991) and Vaneigem, as in references.
مصادر الصور
(1-1) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. Kunsthaus Zurich. (1-2) © Succession Marcel Duchamp/ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. Scottish National Gallery of Modern Art. (1-3) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. Photo © Tate, London 2003. (2-1) © bpk, Berlin. (2-3) © Archives du Wildenstein Institute,
(2-4) Scottish National Gallery of Modern Art. (2-6) Scottish National Gallery of Modern Art. (2-7) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. Scottish National Gallery of Modern Art. (2-8) © DACS 2003. (2-9) © DACS 2003. Berlinische Galerie, Berlin, Landesmuseum für Moderne Kunst, Photographie und Architektur. (2-10) © Collection Roger-Viollet,
(3-1) © DACS 2003. The Museum of Modern Art, New York.
Florence. (3-2) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. The Museum of Modern Art, New York. Purchase. Digital image © 2002 The Museum of Modern Art/Scala, Florence. (3-3) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. Private collection. (3-4) Private collection. (3-5) © Successio Miro, DACS 2003. The Museum of Modern Art, New York. Digital image © 2002 The Museum of Modern Art, New York/Scala, Florence. (3-6) © Salvador Dalí, Gala-Salvador Dalí Foundation, DACS, London 2003. Scottish National Gallery of Modern Art. (3-7) © DACS 2003. Moderna Museet, Stockholm. Photo: Per-Anders Allsten. (3-8) Ronald Grant Archive. (4-2) © Jan Švankmajer. Galerie Gambra,
(4-3) © Man Ray Trust/ADAGP, Paris, and DACS, London 2003.
(5-1) San Francisco Museum of Modern Art. Gift of Robert Shapazian. Photo: Ben Blackwell. (5-2) © 2003 Bank of Mexico, Diego Rivera &; Frida Kahlo Museums Trust, Del. Cuauhtémoc, Mexico. Private collection. (5-3) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2003. The Museum of Modern Art, New York. Inter-American Fund. Digital image © 2002 The Museum of Modern Art/Scala, Florence.
Shafi da ba'a sani ba