Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Nau'ikan
وكان معظم الصحابة قد فارقوا الدنيا، ولحق أبو بكر وخالد بالنبي في رضوان ربه، كما لحق به آخرون ممن جاهدوا معه في معارك الإسلام الأولى. ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة، فزالت أو كادت تزول من حياة العرب تلك البساطة البدوية التي درجت عليها، وظهرت بينهم بدع من الترف الآسيوي لم تكن معهودة فيما مضى، وتدفقت أموال فارس على المدينة كأنها سيل من الذهب حتى دمعت عينا الخليفة عمر وهو ينظر إليها ويخشى منها الفتنة والحسد على رعاياه.
وفي خلال ذلك كانت العقيدة التي تعذب بلال من أجلها ودان بها زمنا وهي لا تتجاوز حي أبي طالب، قد جاوزت البرور والبحار إلى سورية وفلسطين وفارس، وشهدها قبل أن يسلم روحه إلى ذلك الذي لا ينام وهي تسلك سبيلها إلى القارة الأفريقية فتضمها إلى فتوح الإسلام. وبهذا أصبحت دعوته الأولى - دعوة الأذان - مستجابة بين أقوام من المتعبدين من تخوم الهند إلى شواطئ الأطلس، وقرع فرسان الصحراء العربية أبواب كابل ... ولعل ولدا من ذرية بلال قد عاش حتى رأى الدولة تمتد على بقاع الأرض مسيرة مائتي يوم بين المشرق والمغرب. وإن ما بلغته الفتوح الإسلامية - حتى في السنة الثانية عشرة للهجرة - لخليق أن يستجيش في صدر الشيخ الهرم حمية الدين التي عمر بها ما بين جانحيه. •••
سكت صوت بلال عن ترديد الأذان بعد نبيه ووليه؛ لأنه رأى - في حسبانه التقي - أن الصوت الذي أسمع نبي الله ودعاه إلى بيت الصلاة لا ينبغي أن يسمع بعد فراق مولاه. ولنا أن نتخيله في مأواه بالشام وإنه ليدعى مرارا إلى ترديد ذلك الدعاء الذي أعلنه لأول مرة تحت قبة السماء المضاءة بمصابيح الكواكب، وإنه ليضطر مرارا إلى الإباء والاعتذار لأولئك الذين كانوا يجلونه إجلال القديسين وبودهم لو بذلوا أموالهم كلها ليسمعوه.
إلا أنه لما ذهب عمر إلى دمشق توسل إليه رؤساء القوم أن يسأل بلالا إقامة الأذان تكريما لمحضر أمير المؤمنين، فرضي بلال وكان أذانه الأخير. •••
لقد كانت غيرة فتيان الدين الجديد في تلك الأيام غيرة يوشك ألا تعرف الحدود، ومن المحقق أن النبأ الذي سرى بينهم مبشرا باستماعهم إلى أذان بلال قد أذكى في نفوس أهل المدينة الوردية الشذى حمية مفرحة لا نظن أن العالم المسيحي قد شهد لها مثيلا في غير أيام الصليبيين.
فلما شاعت البشرى بين أبناء المدينة بسماع صوت المؤذن النبوي لاح للأكثرين ولا شك أن الظفر بسماع هذا الصوت غنيمة مقدسة تكاد تضارع الظفر بسماع صوت النبي عليه السلام ... وأنها أفخر أحدوثة في الحياة تروى بعد السنين الطوال للأبناء والحفدة. وقد يكون في المدينة من تلقى النبأ بشعور لا يتجاوز التطلع والاستشراف، ولكن الأكثرين الذين تزاحموا في صمت وخشوع واجفي القلوب مرهفي الآذان لسماع «التكبيرة» المعروفة قد خامرهم ولا ريب شعور أعمق وأقوى من أن يلم به النسيان. وتزكي روايات العيان هذا الاعتقاد؛ لأننا نعلم من تلك الروايات أنهم بعد لهفة الانتظار في تلك اللحظة لم يلبثوا أن سمعوا رنة الصوت الجهوري تشق حجاب السكون، وتتعاقب من حنجرة الشيخ الأفريقي بتلك الكلمات المحبوبة الباقية، حتى بكى عمر ومن معه وتحدرت الدموع على وجوه أولئك الأبطال المجاهدين، وارتفع لزفراتهم نشيج عال غطى في المسجد على دعاء الأذان الأخير.
أي فنان موسيقي أو دارس لتاريخ الموسيقي ليود لو يسمع كيف كان صدى بلال في ذلك الأذان، وأن يسمع الكلمات الخالدات كما كانت تسمع من أول المؤذنين!
ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إنها أمنية مستحيلة؛ لأن فن النوتة أو تدوين الأنغام لم يكن معروفا يومئذ بين العرب ولم تكن لهم وسيلة لنقل الصوت من جيل إلى جيل غير تعليق الذاكرة، فليس في وسعنا أن نجزم كل الجزم بما بقي أو بما تبدل من تلحين بلال للأذان. ولكننا نرجع إلى الظن وقد يغني في هذا الباب. ولدينا من الأسباب ما يكفي لترجيح بقاء الأصوات نيفا وألف سنة محفوظة في الذاكرة بغير تدوين، ولعلنا نستطيع القول بأن بعضا من النغمات العبرية بقيت بهذه الوسيلة من أيام سليمان ، وليست غيرة العرب على المأثورات الدينية بأقل من غيرة العبريين، فلا جرم تسنح لأنغام الأذان فرصة للبقاء في الذاكرة كالفرصة التي سنحت لأناشيد إسرائيل.
فمن الجائز أن الأذان الحديث فيه على الأقل نغمات مشابهة للنغمات التي ابتدأ بها بلال إذ كانت الكلمات نفسها باقية بغير تبديل.
ولعل مصر التي فتحت وبلال بقيد الحياة - مصر بلد الخلود الذي لا يقبل التبديل - قد حفظت دعوة الصلاة كما كانت ترتل في العشرة الثانية بعد الهجرة المحمدية، وقد سمعت الأذان من مؤذنين سمعوه من بلال.
Shafi da ba'a sani ba