أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
عطيل
عطيل
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
خليل مطران
مقدمة
بقلم خليل مطران
رغب إلي جورج أفندي أبيض صاحب الفرقة المعروفة الآن باسمه، في ترجمة هذه القصة، فترددت زمنا، ثم أتيح لي أن رأيته يمثل تجربة من «أديب» فأعجبني إتقانه وإتقان بعض أعوانه واستخرت الله في نقل عطيل إلى لغتنا الشريفة.
فلأذكر أولا ما دعاني إلى اختيار اسم عطيل ردا على بعض المعترضين.
كان عطيل في زعم القصاص الذي نقل عنه شكسبير أصل هذه الحكاية، بدويا مغربيا جلا إلى البندقية وخدم في جيشها حتى أصبح قائده الأكبر، وعقيده في الملمات.
1
والمغاربة يومئذ خليط من العرب والبربر المستعربة. فأما أن يكون قد دعي منذ مولده باسم إفرنجي فغير محتمل، وأما أن يكون قد دعي باسم عربي حرفته العجمة، فهو الأصح عقلا. فإذا رددنا أوتلو إلى لسانه الأصلي، فالذي يستخرج من حروفه أحد اثنين: عطاء الله أو عطيل. فأما عطاء الله فلم أتوصل إلى تحقيق أن مغربيا واحدا سمي به ولهذا ضربت عنه صفحا، وأما عطيل فقد اعتقدت أنه الأخلق بالاختيار لسببين: أحدهما أنه شبه بما جرت به عادة العرب على تسمية الزنوج به من ألفاظ التحبب أمثال مسعود ومسرور وزيتون ومرجان للذكور، وخيزران وضياء للجواري. ومعلوم أن عطيلا تصغير تحبب لصفة عطل بمعنى عاطل أو خلو من الحلية، فتسمية أحد الزنوج به إنما هي محاكاة صحيحة لاصطلاح العرب. وثانيهما لأن «عطيل» بضم ورفع آخره مع تخفيف التنوين أقرب إلى أوتلو من كل اسم سواه.
بقي في هذا الصدد أن أقول مرورا للذين تمنوا لو أبقيت اسم أوتلو كما أورده المؤلف، إنني لم أوافقهم على هذا لأنني كرهت أن أثبت في العربية اسما من أسمائها على الرطانة
2
التي حرفته إليها العجمة لغير ما سبب سوى الشهرة التي اكتسبها على تلك الصورة، في حين أنه لا يتعذر إكسابه مثلها وهو مردود إلى أصله التقديري أو التحقيقي من غير أن نسوم مسامعنا جراحة تحريفه. ذلك أوحى إلي اليقين أنه خير وأولى.
بعد هذا التفسير الذي تقاضتني إياه بعض الصحف، ونفر من الأصدقاء، أرجع إلى الرواية، ولي فيها مبحثان موجزان، من جهة الأصل، ومن جهة التعريب. •••
أما من جهة الأصل فأقول إن واضع هذه القصة إنما هو نابغة الأدهار في فنه وأعني به شكسبير. وضعها لإظهار الغيرة وتأثيرها في الرجل بأقوى وأصدق ما دل عليه الاختبار من أمرها، ولذلك اختار عاشقا إفريقيا بدوي الفطرة، ليكون وثاب الشعور عنيفه، عسكري المهنة، ليكون سريع التصديق والانخداع، مكتهلا أي في أول الانحدار من سن الأربعين، ليكون أشد في التعشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليهم الحب بعد انقضاء الشباب، وليكون أيضا في الحالة التي يتهم فيها الإنسان نفسه بفقدان أكثر الخلال التي يقضيها الغرام ولا سيما حينما يكون المستهام أسود البشرة من أحلاس
3
الحروب، والمستهام بها بيضاء منعمة من قوم فسدة الأخلاق مترفين.
ذلك هو الغرض الأساسي العام الذي رمى إليه شكسبير فأصاب به دقائق الحقائق إصابة كانت في جملة ما جمل أكابر المفكرين وأعاظم الكتبة على الشهادة له بأنه أخبر خبير بخفايا القلوب، وأمهر كشاف لخباياها.
ثم إنه أدار حول هذا المحور غرضين ثانيين: أحدهما إثبات أن العفة لا تنتفي من مدينة مهما فسقت بل قد تزداد تمكنا من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها وفي عشيرتها والثاني تبين الاحتيال ونهاية ما يبلغه من نفس رجل ذكي مطماع خسيس أصم الضمير، مستبيح كل محرم، مستهين كل منكر في سبيل غايته.
كيف صرف شكسبير قريحته العجيبة في ألوف الجزئيات التي تؤدي إلى تصوير الغرض الكلي والغرضين الملحقين به؟ ذلك ما يقف عليه القارئ أول وهلة من مطالعته للقصة فإنه يشعر قليلا قليلا أن الأسماء تمحى ويستبدل بها أشخاص مقومون في أصلح تقويم لكل منهم. ويدخل متدرجا من الوهم في الحقيقة فيرى وهو يسمع ويسمع وهو شاهد مشاهد مما ألفه في الحياة لا يرده إلى كونه قارئا سوى انتهائه إلى دفة الكتاب.
ومن جهة هذا التصوير الأخاذ الذي يصور به شكسبير الحقيقة رأى بعض جهابذة النقاد أن ذلك الأستاذ العظيم يبالغ فيه مبالغة قد يجاوز معها الحدود التي يرسمها الفن. صدقوا ولكن هل كانت عبقرية هذا الرجل لتحد بحدود، وهل مثل العقل الذي رزقه كان مما يقيد بقيود؟
الشاعر الذي افتتن «فكتور هوجو» بغرابة شعره، وجد عند فراسته وطلاقته وقوة تمثيله للمعنويات بالحسيات. مبدأ المذهب الحر الذي ذهب إليه فيما بعد هو وأضرابه وأصبح سنة الكتاب في العالمين.
الكاتب المنقب المتعمق في مظاهر الخلائق ومضمراتها مع قدرة على المحاكاة ومهارة في الاختيار وبراعة في التأليف وسلطة على اللفظ يستدني به أبعد المعاني ويقيد أوابد الوجدانات الذي أعجب به المؤرخ الفيلسوف «تاين» وناهيك بألوف المعجبين غيره من قبله ومن بعده.
الأديب الذي تترجم مكتوباته على وفرتها إلى كل لغات الدنيا، وفي بعض اللغات كالفرنسوية تكثر تلك الترجمات وتتنوع ويجيز أحاسنها المجمع الأدبي الأكبر كما أجيزت ترجمة «مونتيجو» و«ليتورنور» وغيرهما فتطلع الأمم المختلفة الألسنة والأجناس والأذواق والملل والنحل على مكتوباته سواء في أصلها أو في غير أصلها، وتقرها في أعلى منزلة عندها لجمعها المذهب والمطرب إلى المفكه والمفيد والمبكي والمضحك إلى الزاجر والمؤنس.
أهذا الذي يطلب منه أن يكون أسير اصطلاح وعبد لفظة ورقيق أوضاع سبق الاتفاق عليها. خرج شكسبير عن ذلك الطوق ونعما فعل. ولو أبقاه في عنقه لما اشرأب صعدا إلى مناجاة أجرام السماء، ولا أطاق الإكباب إلى أبعد أغوار الأسرار في الطبائع البشرية.
من ذلك المنجم العظيم نجمت «عطيل» وهي إحدى آيات مستخرجاته، ولما كنت أعهده فيها من نادر المزايا وجدت من كلفي بها معوانا على معاناة تعريبها. •••
فأما من جهة التعريب فأقول إن في نفس شكسبير شيئا عربيا بلا منازعة وهو أبين فيها مما بان في نفس فكتور هوجو. أقرأ لغتنا أم نقلت إليه عنها بعض المترجمات الصحية؟ لا أعلم. ولكن بينه وبيننا من وجوه متعددة مشاكلة محيرة، فإن عنده مثل ما عندنا جرأة على الاستعارة وذهابا بضروبها في كل مذهب، وله مثل ما لنا كلف بالتنقل الوثبي من غير تمهيد ولا استئذان يدفعك من القصد وشيكا وعليك أن تتمهل في فكرك وتجد الرابطة، وبه مثل ما بنا من الهيام في المبالغة التي لا يقبلها من الكاتبين ولا يعقلها من القارئين إلا الذين في تصورهم حدة وجماح كما يكون عادة عند الشرقيين وخصوصا عند العرب.
وعلى الجملة ففي كل ما يكتبه شكسبير شيء من روح البداوة قوامه الرجوع الدائم إلى الفطرة الحرة.
تناولت الرواية لأعربها وكأنني أنوي ردها إلى أصلها كما رددت عطيل، وقبل أن أشرع فيها تفكرت في الأسلوب الذي أختاره لها.
أهو ذلك الأسلوب المخرق الذي تشف الفصاحة فيه عن رقع العامية؟ لا وألفا لا.
فتالله لو ملكت تلك العامية لقتلتها بلا أسف ولم أكن بقتلي إياها إلا منقما لمجد فوق كل مجد، نزلت من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين فهو فوقها متداع وبهما مشوه، منتقما لأمة كسرت العامية وحدتها وكانت عليها أكبر معوان للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق، منتقما للفصاحة نفسها وأية فصاحة في خشارة
4
لا تصيب فيها تبر الأصل إلا وقد تلوث بذريرات لا تحصى من أوضار
5
الرطانات بأنواعها.
بعدا لهذا الأسلوب إذن! ولنختر غيره. أتؤثر الأسلوب الجزل المتين القديم؟
لا ولا! لأن الروايات إنما تكتب ليفهمها القوم ويستفيدوا منها مغزى بجانب التفكهة. أفنعكس عليهم تلك السنة الشريفة التي سنها النبي القرشي بقوله: أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم.
بعد هذا وذاك لم يبق إلا الأسلوب الوسط وهو الذي تكون بمقتضاه الألفاظ كلها فصيحة لكن سهلة، وتفكك الجمل تفكيكا يقرب مدلولاتها من الأفهام بمحاكاته لفنون المحادثات المستجدة من غير أن يفوتنا الالتفاف في ذلك التفكيك إلى أشتات ما صنع أدباء العرب من مثله لدواعي حال مخصوصة وإن لم يألفه جمهور الكتاب الاحتفاليين.
هذا هو الأسلوب الذي آثرته وأرجو أن أكون قد وفقت فيه بعض التوفيق، فتجتمع معه لهذه القصة مزيتان: إحداهما أنها تكون عربية فصيحة لولا الأعلام ولولا تشقيق الكلم على ترتيب المخاطبة بين الفرنجة قديما وحديثا والثانية أنها تمثل أقوال شكسبير حرفا بحرف ولفظة بلفظة مع مراعاة انطباق كل منها على الاصطلاح الديني أو الاجتماعي الذي لها عند القوم الممثلين فيصح أن تكون هذه التجربة مثالا للتعريب يحتذيه طلبة المدارس.
أشخاص الرواية
دوج البندقية.
برابنسيو:
أحد الأعيان.
أعيان آخرون.
غراتيانو:
أخو برابنسيو.
عطيل:
مغربي شريف قائد جيوش في خدمة البندقية.
كاسيو:
ملازمه.
ياجو:
حامل علمه.
ردريجو:
وجيه بندقي.
منتانو:
سالف عطيل في ولاية قبرص.
مضحك وخادم لعطيل.
مناد.
ديدمونه:
بنت برابنسيو قرينة عطيل.
إميليا:
زوجة ياجو.
بينكا:
خليلة كاسيو.
ضباط ووجهاء ورسل وموسيقيون وملاحون وخدم إلخ ... •••
المشهد الأول يجري في البندقية وسائر المشاهد في مرفأ من مرافئ قبرص.
الفصل الأول
المشهد الأول
في البندقية - طريق (يدخل ردريجو وياجو)
ردريجو :
كفى. كفى. لا تخاطبني عنه بعد الآن. أنا آسف جدا لأنك تنسمت
1
خبر هذه المسألة يا ياجو. وأنت أنت الذي بددت ما شئته من مالي وصرفت يديك في نقودي كأنها من حر مالك.
ياجو :
العجب أنك لا تريد أن تصغي إلى كلامي ولعمري لو أنني فكرت مرة في خديعتك لكان لك أن تمقتني كل المقت.
ردريجو :
قلت لي إنك حانق على هذا الرجل.
ياجو :
إذا لم يكن ذلك حقا فلا كانت لي كرامة عندك. ثلاثة من كبراء المدينة سعوا وتوسلوا إليه ليجعلني ملازما له. وبحق الرجولة إنني لأعرف قيمة نفسي وأعرف أنني كفء لتلك المنزلة. أما هو فإنه لم يصغ إلا إلى مشورة كبريائه وإيعاز ما سبق على وهمه فتخلص من إجابة سؤلي بعبارات منفوخة مشحونة بالألفاظ الحربية ختمها بقوله للموصين بي: «لقد اخترت ملازمي.»
ومن هو ذلك الضابط؟ الله الله ... هو حساب ماهر ... يدعى ميشيل كاسيو ... رجل فيورنتي. فتى ذهبت بلبه النساء الحسان ولم يسير قط كتيبة في معترك ولا يعرف من تدبير واقعة أكثر مما تعرف الفتاة العانس اللهم إلا من جهة العلم النظري المستظهر من الكتب وهو علم يحسنه القساوسة كإحسانه إياه فجملة معرفته العسكرية ثرثرة محض بلا عمل. ذلك يا سيدي هو الذي وقع عليه اختيار القائد بصرف النظر عما أبليته أنا من البلاء الحسن في رودس وفي قبرس وفي أمصار أخرى مسيحية ووثنية. يسومني
2
قبيح الصبر على هذا التأخير ويقدم علي من فوق رأسي ذلك المدون الرقام الكاتب الصيرفي يتخذه ملازما له وأنا - حمدا لله وسرورا بهذا اللقب - أبقى حامل علم لسيادته المربية.
ردريجو :
تالله لو كنت مكانك لأصبحت جلاده.
ياجو :
داء لا دواء وهو من آفات الخدمة. الرقي ينال بالوصاة والصداقة لا بالسبق الزمني الذي كان ينبغي بمقتضاه أن يجعل كل ثان خلفا للأول. بعد هذا يا سيدي أعمل رأيك فيما إذا كان يسعني أن أحب ذلك المربي.
ردريجو :
لو نالني منه ما نالك لما تبعته.
ياجو :
حلما يا سيدي وهدوء بال. إنما أتبعه لأنتقم منه. لا نستطيع جميعنا أن نكون سادة ولا طاقة لجميع السادة أن يجدوا خدما أمناء. إنك لتلفي
3
بين أولئك الخدم غير واحد من البله الخانعين ذوي الركب اللينة يعجبهم رقهم الثقيل فيفنون أعمارهم على شاكلة الحمير التي ترهق بالأحمال حتى إذا بلغوا من السن عتيا طردوا بضرب السياط طرد المجرمين. غير أنه يوجد أيضا بين الخدم أناس غير أولئك يظهرون بكل مظاهر الطاعة ويستعيرون كل أشكال الرعاية لكنهم يصونون ضمائرهم لخدمة أنفسهم، ومع ما يبدونه من الامتثال لولاتهم يوجهون مساعيهم لقضاء مآربهم حتى إذا وشوا ملابسهم بالذهب حبسوا تكرماتهم على ما اكتسبوه من رفعة القدر. أمثال هؤلاء لهم بعض النفوس وأجهر أنني واحد منهم. بل أزيدك يا سيدي تصريحا عن حقيقة لا تقل عن حقيقة كونك ردريجو وهي أنني لو كنت المغربي ما أردت أن أكون ياجو فإذا اتبعته فإنما إياي أتبع ويشهد الله أنني لا أوقره. ولا أطيعه. غير أنني أداجيه بالتوقير والطاعة توسلا بهما إلى أغراضي، هذه خطتي وهي الكتمان فإذا جاء زمان باح فيه ظاهري للرجل ببعض ما في باطني لم ألبث أن أضع قلبي على ردن قميصي
4
لتنقره الحدآت
5
الخواطف. أنا غير ما يرى مني.
ردريجو :
إنني لأستعظم على ذلك الأسود الوبري ما يقع إليه من السعد الذي لا يدانيه سعد فيما لو حصل على تلك الغانية أو حظي بقربها.
ياجو :
ناد أبوها. أيقظه من نومه. ناوئ ذلك المغربي. دس السم في هناءته. اجهر باسمه في الأسواق. استشط على الفتاة بذبابه ومهما تكن سعادته هي السعادة بحقيقتها فأدركه بالوخز والمضايقة حتى يمتقع في عينيه لونها الزاهي ولو قليلا.
ردريجو :
هذا بيت أبيها. سأناديه صادعا.
ياجو :
افعل واجعل نداءك رهيبا مستطيلا مع حزن كما يكون في ظلام الليل وأمن الراقدين صوت الذي يستكشف النار في مدينة كثيرة الأهلين.
ردريجو :
يا هو. يا من هنا. برابنسيو. سنيور برابنسيو.
ياجو :
استيقظ. يا هو. برابنسيو. اللصوص اللصوص. ارقب بيتك. بنتك. أكياسك. اللصوص اللصوص.
برابنسيو :
ما الموجب لمناداتي بهذا الصخب المرعب؟ ما الخبر؟
ردريجو :
هل كل أهل بيتك في البيت يا سيدي؟
ياجو :
هل أبوابك مقفلة بإحكام؟
برابنسيو :
لم هذا السؤال؟
ياجو :
السؤال يا سيدي لأنك سرقت. سرق منك شرفك. إلبس رداءك. إن قلبك قد كسر وإن شطرة روحك قد فقدت. أنا أكلمك وفي هذه الساعة بل في هذه الدقيقة فحل عجوز أسود يغشى نعجتك البيضاء. انهض انهض. أيقظ على قرع الجرس أهل المدينة النائمين وإلا استولدك الشيطان حفيدا.
انهض انهض. إني حذرتك.
برابنسيو :
ما هذا الهذيان؟ أمجانين أنتم؟
ردريجو :
يا سيدي الجليل أتعرف صوتي؟
برابنسيو :
لا. من أنت؟
ردريجو :
أنا ردريجو ...
برابنسيو :
لا أهلا ولا مرحبا. لقد طالما حذرتك من ارتياد أبوابي وأبلغتك بصراحة أن ابنتي ليست لك، والآن بعد أن ملأت جوفك وأفرغت فيه ما لا يسع من الكؤوس حتى أصابك المس جئت بهذه الفكرة السيئة توقظني من نومي مرتعدا.
ردريجو :
مولاي. مولاي. مولاي.
برابنسيو :
لكن ثق أن في خلقي وفي مجدي ما يمكنني منك فتندم.
ردريجو :
تلطف يا سيدي الرحيم.
برابنسيو :
ما تلك السرقة التي تذكرها لي؟ نحن في البندقية ومنزلي ليس بعض الأهراء في الخلاء.
ردريجو :
يا عظيم الوقار برابنسيو، لقد جئتك بقلب صاف، وضمير لا كيد فيه.
ياجو :
أنت سيدي من الذين لا يخدمون الله لو نهاهم الشيطان عن خدمته. ألأننا جئنا نسدي إليك معروفا وأنك ظننتنا أهل بغي تدع ابنتك يغشاها جواد من البربر؟ لتلدن لك حفداء يصهلون في وجهك وليكونن لك أبنا عم من الخيل وأقرباء من المهارى.
برابنسيو :
أنت من أيها الدعي
6
الضحكة؟
ياجو :
أنا يا سيدي رجل جاء ليقول لك إن ابنتك والمغربي الآن متكونان في شكل حيوان ذي ظهرين.
برابنسيو :
أنت سافل.
ياجو :
وأنت. عضو في مجلس الأعيان.
برابنسيو :
سيكون لك معي شأن. عرفتك يا ردريجو.
ردريجو :
الشأن الذي تريده يا سيدي. لكن أبتهل إليك أن تنبئني: أبمشيئتك وبمقتضى حكمتك كما يكاد يثبت ذلك. خرجت كريمتك الجميلة في هذا الهزيع الآخر من الليل إذ الناس نيام وإذ لا يزيد حارسها ولا ينقص عن أحد الفقراء الذين يخدمون الجمهور من ملاحة الزوارق لتستسلم بين ذراعي مربي كثيف؟ فإن كان ذلك بعلم منك وسماح فقد أسأنا إليك وجرؤنا عليك وإلا فكأنني بك تهيننا ولا ذنب لنا. ولا تظن أنني تناسيت مقتضيات الكرامة إلى حد أن أستنزلك من مقامك العالي لمثل هذه الممازحة بل أعيد عليك أن ابنتك - إذا كنت لم تأذنها - قد ارتكبت خطأ جسيما بمنحها يدها وجمالها وعقلها وثروتها لأجنبي شريد بدوي موطنه هذا البلد وله من كل أفق سواه موطن. بادر لتتبين الهدى. فإذا كانت ابنتك في غرفتها أو في البيت فادفعني إلى عدل القضاء ليعاقبني على خدعتي إياك كما فعلت.
برابنسيو :
اقدحوا الأزندة. يا رجالي. هاتوا لي مشعلا. استيقظوا يا أتباعي. استيقظوا كلكم. هذا الحادث لا يختلف كثيرا عما رأيته في حلمي. يا لخوفي مما سألاقيه. أنيروا يا رجالي أنيروا. (ينصرف عن النافذة)
ياجو :
أستودعك الله، لأنه ليس من العقل ولا من المصلحة أن أبقى فأتخذ شاهدا على المغربي الذي بيده منصبي، خصوصا مع علمي أن الحكومة مهما يسؤها منه هذا الخطأ فلا تستغني بلا خطر على البلاد عن خدمة هذا الرجل ولهذا عقدت له لواء الحرب الناشبة الآن في قبرس ولو بحثت عن غيره ما وجدت لها خيرا منه، فضرورات معيشتي قاضية علي مع كرهي إياه أكثر من كرهي لعذاب السعير أن أظهر له الولاء. على أنها علائم لا شيء فيها غير الظاهر. فإذا أردت أن تجد الرجل فوجه إلى المعقل الذي فيه الضباط من استيقظ من القوم للبحث عنها وسأكون هناك بجانبه. إلى الملتقى. (يدخل برابنسيو وخدم معهم مشاعل)
برابنسيو :
صدقتني النبأ وإن الخطب لجلل فلم يبق لي إلا تجرع الصاب
7
بعد الهوان في القليل الباقي من أيامي. قل لي يا ردريجو أين رأيتها؟ ويلها من فتاة شقية! أمع المغربي؟ من يجرؤ بعد هذا أن يكون والدا؟ كيف علمت أنها هي؟ واحر قلباه! خدعتني من وراء التصور. ماذا قالت لك هاتوا مشاعل أخر. أيقظوا كل أقاربي. هل تزوجا؟ أتظن أنهما تزوجا؟
ردريجو :
ذلك ما أظنه.
برابنسيو :
يا للعجب! كيف خرجت؟ يا لخيانة الدم! أيها الآباء لا تأمنوا بعد الآن نفوس بناتكم على ما يبدين من الطهارة. ألا توجد ضروب من السحر تغش بها الشبيبة وتستدرج العفة؟ ألم تقرأ شيئا في هذا المعنى يا ردريجو؟
ردريجو :
بلى يا سيدي!
برابنسيو :
أيقظوا أخي. لماذا لم أرض بك قرينا لها. اذهبوا بعضكم من جهة وبعضكم من جهة أخرى، أتعرف أين نستطيع أن نظفر بهما؟
ردريجو :
أظن أنني أكشفهما إذا صحبتني ومعك حرس أمنا.
برابنسيو :
أرشدني أرشدك الله. سأدعو الناس من كل منزل وأمري مطاع عند الأكثرين. تقلدوا أسلحتكم. أيقظوا بعض الشباط المنوط بهم السهر. هلم يا ردريجو وسأعرف لك هذه المنة.
المشهد الثاني
في البندقية - طريق أخرى (يدخل عطيل وياجو وخدم بمشاعل)
ياجو :
لقد تعودت القتل في الحروب ولكنني ما زلت أخشى تحميل ضميري إزهاق روح عن عمد وتعوزني في بعض الأحيان مثل هذه الاستباحة لخدمة نفسي، على أنني عزمت تسع مرار أو عشر مرار على إيلاج نصلتي في ذلك الشيخ هنا تحت الأضلاع ولكن ...
عطيل :
كان خيرا أن تجري الأمور كما هي الآن.
ياجو :
والخير ما جرى. غير أن الرجل ثرثر ما شاء وطعن طعنا مستفزا في حق عليائكم بحيث إنني على قلة تقواي لم أكد أطيق الصبر على ما يقول. لكن ألا يتفضل مولاي ويخبرني هل تم القران؟ إن ذلك الشيخ الذي لقبه الشعب بالكريم محبوب حبا جما وله في المجلس صوت أقوى مرتين من صوت الدوج ففي وسعه أن يضطرك إلى الطلاق أو أن يحول دون مرامك بكل المكايد والمشاكسات التي يستمد أسبابها من القانون بما له من المقدرة والبأس.
عطيل :
ليفعل ما يشاؤه حنقه. إن جلائل الخدم التي خدمت بها هذه البلاد لأبلغ في الشفاعة لي من شكاياته في الإضرار بي ... وسيعلم القوم مني - عندما يبيح الشرف الافتخار - أني سليل بيت من البيوت المالكة وأن أعمالي تقف موقفها العالي بجانب أعتى المناصب التي يبلغها بالتوفيق أمثالي. واعلم يا ياجو أنني لولا شغفي بديدمونه التي سحرت لبي لما رضيت بكنوز البحار بدلا من حريتي وبداوتي اللتين لا يحدهما حد ثابت ولا تحصرهما دائرة ضائقة. انظر انظر. ما تلك الأنوار القادمة نحونا من هناك؟
ياجو :
هذا والدها استيقظ وجاء مع أقاربه. أولى لك أن تدخل.
عطيل :
كلا يجب أن يروني بحقيقتي كما تظهرها لهم أخلاقي وألقابي وطهارة ذمتي. أتظنهم إياهم؟
ياجو :
يبين لي أن القوم غيرهم. (يدخل كاسيو وبعض ضباط بمشاعل)
عطيل :
خدم الدوج ... وملازمي ... طاب ليلكم يا أصدقائي جميعا. ما ورائكم؟
كاسبو :
الدوج يهدي إليك تحياته ويرغب في حضورك حالا وألا تبطيء عنه دقيقة واحدة.
عطيل :
في أي شأن تظن؟
كاسيو :
إن صدق ظني فهو شأن مخصوص بقبرس ويظهر أنه عاجل لأن السفائن أرسلت في هذا الليل اثني عشر رائدا متتابعين، وكثير من المستشارين أوقظوا وهم الآن مجتمعون في حضرة الدوج وقد التمسوك في منزلك بإلحاح فلما لم يحدث بعثوا ثلاثة أرهاط من الجند للبحث عنك.
عطيل :
من التوفيق أن تكون أنت الذي لقيتني سأدخل هذا البيت مهلة كلمة تقال ثم أصحبكم. (يخرج)
كاسيو :
حامل العلم ما يفعل القائد هنا؟
ياجو :
كأنني به غنم في هذه الليلة سفينة من السفن الكبرى مشحونة بالخيرات فإذا أقرت له فقد أصاب الثروة الخالدة.
كاسيو :
لم أفهم ما تعني.
ياجو :
تزوج.
كاسيو :
ممن؟
ياجو :
تزوج من. (يدخل عطيل)
هيا بنا أيها القائد أنمضي؟
عطيل :
نمضي ولا عائق.
كاسيو :
أرى جماعة أخرى قادمة في طلبك.
ياجو :
هذا برابنسيو حذار أيها القائد. إنه لينوي شرا. (يدخل برابنسيو وردريجو وضباط بمشاعل وأسلحة)
عطيل :
قفوا هنا.
ردريجو :
هذا هو المغربي يا سيدي.
برابنسيو :
أوقعوا به. هذا اللص.
ياجو :
علي بك يا ردريجو. قرنك
8
أنا يا سيدي.
عطيل :
أغمدوا سيوفكم اللامعة لأن الندى ينزل عليها الصدأ. يا سيدي الجليل إن شيخوختك لأصلح للأمر من سلاحك.
برابنسيو :
أنت أيها السارق الخسيس؟ أين أودعت ابنتي. سحرتها يا رجل النار وأستشهد على جنايتك بأولي الألباب. أكانت لولا السحر فتاة بتلك الرقة وذلك الجمال. فتاة ناعمة كل النعيم. آنفة من الزواج إلى حد أنها لم ترض بواحد من أغنى وأجمل شبان أمتنا بعلا لها. تتعرض للسخرية العامة بخروجها عن وصاية أبيها والتجائها إلى صدر أسود دهني كصدرك الذي يدعو إلى الخوف لا إلى السرور؟ ليحكم الناس بيننا. أليس واضحا وضوح البداهة أنك رقيتها برقى سيئة وأنك خدعت طفولتها بعقاقير أو معادن تهيج الشهوة البدنية؟ سأضع هذه المسألة تحت البحث لأنها معقولة بل يلمسها الفكر لمسا. فأنا قابض عليك إذن ومتهمك بإفساد أخلاق العذارى وباستعمال صنائع محرمة وغير مباحة قانونيا. خذوا بتلابيبه. وإذا قاومكم فأخضعوه وعليه نتائج ما يصيبه.
عطيل :
أثنوا أيديكم. لو رضيت القتال ما احتجت إلى داع يدعوني إليه إلى أين تريد أن أذهب للإجابة عما تتهمني به؟
برابنسيو :
إلى السجن حتى ينقضي الزمن الذي عينه القانون وسير القضاء فتسأل.
عطيل :
إذا أطعتك فيما تريد فكيف أستطيع تلبية طلب الدوج وهذه رسله بجانبي جاءت تدعوني إليه لأمر ذي بال في الحكومة.
ضابط أول :
هذا حق يا أيها السيد الجليل. إن الدوج في مفاوضة وأنا واثق من أنه بعث في استدعاء ذاتك الشريفة.
برابنسيو :
أية مفاوضة ليست من المسائل التافهة - سيعلمها الدوج نفسه وسائر إخواني من أركان الدولة ويشاطرونني مي مما لحق بي من الإهانة كأنه لحق بهم أنفسهم وإلا فإنه لو أبيح ارتكاب أمثال هذه الجرائم لأصبح الأرقاء والوثنيون أولياء الأمر فينا.
المشهد الثالث
في البندقية - ردهة المجلس (الدوج جالسا إلى مائدة يحيط بها فريق من الأعيان وضباط يقومون بخدمتهم)
الدوج :
ليس بين هذه الأنباء من التشابه ما يجيز تصديقها.
العين الأول :
الأنباء مختلفة جدا في الحق وقد ورد في الكتب المرسلة إلي أن سفنهم المحاربة سبعمائة.
الدوج :
وفي الكتب التي تلقيتها أن عدد السفن مائة وأربعون.
العين الثاني :
ويستفاد من أخباري أن السفن مائتان. غير أن الاختلاف هو في الرقم - وفي مثل هذه الحالة ترسل الأنباء تقديرا وتخمينا وتكثر التباينات - أما الحقيقة الثابتة بعد ذلك من جميع المراسلات فهي أن هناك أسطولا للعدو متجها بأشرعته نحو قبرس.
الدوج :
نعم هذا ما يقوله العقل، وكل هذه الاختلافات في العدد تحدث عندي قلقا وريبا.
ملاح (من الخارج) :
يا هو. يا هو. يا من هنا.
أحد الضباط :
رسول من السفن. (يدخل الملاح)
الدوج :
ما هنالك؟
الملاح :
أسطول العدو ينتحي رودس وهذا بلاغ من قبل السنيور أنجلو.
الدوج :
ما قولكم في هذا الانقلاب؟
العين الأول :
لا يعقل لأدنى تصور. إن هي إلا محاولة ومغالطة. إذ لو تبصرنا فيما لقبرس من الشأن الخاص عند العدو لأدركنا من فورنا أنه إنما يقصدها دون رودس لأنها أصلح وأسهل مأخذا وليس فيها من وسائل الدفاع والميرة
9
ما في رودس، وعلى هذا لا يقذف في روعنا
10
أنهم يخطئون ذلك الخطأ بتركهم قبرس وراءهم على كونها تهمهم أولا وأنها لهم أفيد وإلى متناولهم أقرب ويندفعون إلى جزيرة أخرى ينبهون عليهم منها الخطر ولا يحلون
11
بطائل.
الدوج :
يقينا لا يعقل أن تكون تلك السفن مرسلة على رودس. (يدخل رسول)
الضابط الأول :
هذه أخبار أخر.
الرسول :
أيها السادة الأجلاء الكرام إن الأعداء اتجهوا إلى رودس وعززوا أسطولهم بأسطول مساعد.
العين الثاني :
هذا ما كنت أقدره - كم تظن تعداد ذلك الأسطول المساعد؟
الرسول :
يبلغ ثلاثين شراعا ضموها إليهم والآن هم عائدون ظاهرا نحو قبرس. وهذا بلاغ من السنيور منتانو خادمكم الباسل الأمين الذي يرفع إليكم تجلاته ويرجو أن تصدقوا بلاغه.
الدوج :
تحقق إذن أن مقصدهم قبرس أليس فيها الآن مركولكسيكو؟
العين الأول :
هو الآن في فيورنته.
الدوج :
اكتبوا إليه من قبلنا وأرسلوا الأمر من الفور بريدا ببريد.
العين الثاني :
هذا برابنسيو والمغربي الشجاع. (يدخل برابنسيو وعطيل وياجو وردريجو وضباط)
الدوج :
يجب علينا يا عطيل الباسل أن نستعين بك عاجلا على عدو الوطن (إلى برابنسيو)
لم أرك قبلا أيها السيد الشريف، تحية وتكريما. كنا في حاجة إلى مشورتك وإمدادك في هذه الليلة.
برابنسيو :
وأنا في حاجة مشورتكم وإمدادكم أيضا. أستميح من فضل سموكم حلما. إن الذي انتبذني من مرقدي لم يكن داعي منصبي ولا نبأ جاءني عما نحن فيه. وليس هم المصلحة العامة همي الآن بل بي حزن خاص من تلك الأحزان المجتاحة المتغلبة التي هي أشبه بالفيضان الجارف لكل ما يمر به. ذلك الحزن قد طغى على سائر شواغلي واستغرفها وبقي وحده مالئا نفسي.
الدوج :
ما ذلك الخطب؟
برابنسيو :
بنيتي بنيتي!
الدوج والأعيان :
أماتت؟
برابنسيو :
ماتت عني. خدعت. سرقت مني. أفسدت برقي وعقاقير مشتراة من بعض الدجالين وهل تستطيع الفطرة ما لم يغيرها السحر أن تكون بلهاء عمياء حمقاء إلى ارتكاب مثل هذا الخطل؟
12
الدوج :
أيا كان الذي استعان بمثل هذه الوسائل لاختطاف كريمتك من نفسها ومنك فسيلقى من القصاص أشد ما تؤول به نصوص قانون العقوبات الريب بما ندع لك الرأي في تأويله. نعم هكذا سيكون ولو أن الجاني هو ابننا نفسه.
برابنسيو :
شكرا لسموكم بكل خضوع. إن الرجل هو هذا المغربي الذي سمعت أنك استدعيته الآن لبعض أمور الدولة.
الدوج والأعيان :
إننا لآسفون أشد الأسف.
الدوج (مخاطبا عطيل) :
بم تجيب دفاعا عن نفسك.
برابنسيو :
بلا شيء والحق ما ذكرتم.
عطيل :
يا أولي الاقتدار والرفعة والوقار سادتي الأمجاد المدربين، حق أنني أخذت كريمة هذا الشيخ بحيلة. وحق أنني اقترنت بها غير أن ذنبي لا يتجاوز هذا القدر. إني خشن في مقالي وغير حاذق في صناعة المخاطبة باللسان السلمي العذب، ذلك لأن هاتين الذراعين، منذ بلغتا مبلغهما للسنة السابعة بعد مولدي إلى مبدأ التسعة الأهلة الأخيرة من عمري، لم تألفا من الرياضة أجمل مما ألفتا منها حيال الفلوات المضروبة فيها الخيام وفيما عدا وقائع الحرب والجلاد لا أجد شيئا ينطلق به لساني إلا اليسير من أحوال هذا العالم الواسع فإذا دافعت عن نفسي فلا قبل لي بتحلية الدفاع ولا خشية عليكم من تأثير محسناتي اللفظية، ولهذا سأقص عليكم إن أذنتم بكلمات موجزة صريحة غير منمقة ولا مزدانة تاريخ غرامي وأذكر لكم أية العقاقير وأية الطلاسم وأية المؤامرات استخدمتها لإغراء كريمته فتعلموا مبلغ تلك التهمة من الصحة.
برابنسيو :
فتاة تعيش هادئة خادرة تكاد تحمر خجلا إذا أبدت حراكا أتخالف طبعها وسنها وأمتها ومنزلتها من الجاه بل كل مسوغ مشروع لتتعشق شخصا كانت تتهيب النظر إليه؟ من قال إن الكمال يشذ هذا الشذوذ عن نواميس الطبيعة فهو أبتر الرأي ناقصه، والذي تقضي به الضرورة لدى حدوث مثل هذا الحادث أن يبحث عن علته في حيلة من حيل جهنم، فأنا ما زلت مصرا أن ذلك الرجل أثر فيها بمزيج فعال في الدم أو بشراب مرقي لهذا الغرض.
الدوج :
الإصرار ليس بالإثبات ولا بد لك من الاستشهاد بوقائع أجلى وأدق من المزاعم العرضية والتقديرات السهلة التي تدل عليها هذه الظواهر المألوفة.
العين الثاني :
ليتكلم عطيل. هل اتخذت وسائل منحرفة ذات تأثير شديد لتنفث في ضمير الفتاة السم وتملكها بها، أو تذرعت إليها بالاستعطافات والإلحاحات الجميلة التي تناجي بها النفس النفس لتستميلها؟
عطيل :
أبتهل اليكم أن ترسلوا في طلب السيدة من منزلي بالثكنة ولتتكلم عني بحضرة أبيها فإذا شهدت بشيء تستقبحونه مني فلا تكتفوا بحرماني ثقتكم وعزلي من منصبي بل أوقعوا عقوبتكم على حياتي.
الدوج :
لتستحضر ديدمونه.
عطيل :
حامل العلم اذهب وادللهم على مكانها (يخرج ياجو وبعض الخدم)
وفي انتظار قدومها سأقص على مسامعكم الشريفة قصة هذا الغرام الذي ملكت به قلب تلك الحسناء وملكت به قلبي.
الدوج :
اذكر لنا هذه السيرة يا عطيل.
عطيل :
كان أبوها يحبني. وكان كثيرا ما يدعوني فيسألني ترجمتي مفصلة سنة بسنة وبيان المكافحات والمحاصرات التي شهدتها وتعديد ما أحرزته من النصرات، فكنت أجيبه إلى أمنيته حتى لم تبق في حياتي كبيرة ولا صغيرة إلا حدثته بها وذلك منذ نعومة أظفاري إلى اليوم الذي كنت أجالسه فيه. فما وصفه له الطوارئ الرائعة والفواجع المبكية التي لقيتها برا وبحرا من مثل ما جري لي يوما وقد أوشكت أن أقتل في ثلمة
13
من ثلمات الحصار لولا لطف من الله تداركني عن قيد شعرة، ومن مثل استئساري يوما لعدو وقح باعني بيع الرقيق، ومن مثل شرائي رقبتي وضروب الغرائب التي صادفتها في أيامي. وكان في خلال إخباري بتلك الوقائع يدخل في كلامي تصوير مفاوز
14
فسيحة وصحارى قاحلة ومحاجر وصخور وجبال تشمخ بقممها إلى العنان. كل هذه الأعراض كانت تمر تباعا في أقوالي ناهيكم بمشاهداتي لأكلة اللحوم البشرية ولأقوام أخر جعل الله رؤوسهم تحت أكتافهم. وكانت ديدمونه تسمع هذه الأقاصيص بشغف. سوى أن بعض مشاغل البيت كانت بين آن وآن تضطرها للقيام، فإذا انصرفت لها قضتها بأسرع ما تستطيع وعادت تشرب حديثي بأذن ظمأى. فلما لمحت ذلك منها استدرجتها ذات يوم في ساعة مناسبة لتسألني أن أقص عليها بالتمام سيرة رحلاتي التي كانت قد سمعت منها نتفا ولم تتمكن من استتباعها فأعدت عليها تلك السيرة كما أرادت، وكنت أراها غير مرة تبكي رحمة لشبابي مما أصابني فيه من الأرزاء الأليمة. وعندما ختمت قصتي كافأتني عليها بتنهدات لا تحصى وأقسمت أنها غريبة في الغاية وأنها محزنة إلى النهاية بحيث تمنت لو لم تسمعها، على أنها قالت في بعض ما قالت إنها كانت تود لو خلقها الله رجلا على هذا المثال، ثم شكرت لي معروفي وكاشفتني بأنه إذا كان لي صديق يحبني فحسبي أن أعلمه كيف يقص ترجمة حياتي لترضى به قرينا. هذه العبارة جرأتني فبحت لها بما في ضميري وعلمت منها أنها أحبتني بسبب الأخطار التي عانيتها وشعرت من نفسي أنني أحببتها لما تبينت من شفقتها علي ورقتها لي. ذلك هو الفن الوحيد الذي توسلت به إليها من أفانين السحر. على أنها قادمة وستسمعون شهادتها. (تدخل ديدمونه)
الدوج :
أعتقد أن قصة كهذه تستهوى بها ابنتي أيضا. أيها العزيز برابنسيو لا تنظر إلى هذه المسألة من حيث تؤلمك. إن الرجال لأشد دفاعا عن أنفسهم بأسلحتهم المحطمة منهم بأيديهم وهي خالية.
برابنسيو :
ألتمس أن تسمعوا كلامها لتعترف أنها خطت نصف الطريق، والله شهيد أن ملامتي لا تقع بشدتها على هذا الرجل. تقدمي أيتها الآنسة الجميلة. أمدركة أنت لمن من هؤلاء الجماعة الشرفاء يجب عليك الطاعة؟
ديدمونه :
يا والدي الشريف أجد هنا واجبا مقسوما. أنا مدينة لك بحياتي وتأديبي ومنهما أعرف قدر ما ينبغي لك علي من التجلة وما زلت خليقا بطاعتي لأنني لم أزل سليلتك. غير أن هذا الرجل قريني وإني لمقرة بين يديك أنني مدينة لهذا المغربي بمثل الطاعة التي كانت تلبيك بها أمي مؤثرة إياك على أبيها.
برابنسيو :
عافاكم الله. انتهيت. أرجو من سموكم أن يتحول اهتمامنا على مصالح الحكومة. كان خيرا لي أن أتبنى طفلا ما من أن ألد هذه. ادن منها أيها المغربي. أعطيك هنا عن رضا ما كنت لا أسمح لك به لو لم تسبق إلى ملكه. لك فضل علي يا جوهرتي بسرور عظيم سررته الآن، وهو أنني لم أرزق سواك من البنات، لأن فرارك كان يضطرني أن أعاملهن بقسوة المستبدين وأجعل في أعناقهن الحبال. انتهيت يا مولاي.
الدوج :
دعني أتكلم عنك وأذكر حكمة إذا عمل هذان العاشقان تدرجا إلى رضاك. حيث بطل نفع الأدوية زالت الآلام بزوال ما كان عالقا من الآفات. من عجز عن استعادة ما ذهبت به المقادير فالأجدر به أن يحول بصبره جد المصاب إلى سخرية ودعاب. الرجل الذي يسرق فيبتسم ينتقص شيئا من السارق، أما الذي يحزن بلا طائل فهو سارق نفسه.
برابنسيو :
إذن لندع الأعداء يغصبون منا قبرس ولا خسارة علينا ما بقي في استطاعتنا أن نبتسم هذه حكمة خفيفة على لسان من في قلبه مثل ما فيها من التسلية، أم الذي يحمل الم والحكمة معا فهو الذي يستعير من الصبر ما يدفعه إلى الحزن. أمثال تلك الحكمة، وفيها الحلو والصاب
15
مجتمعين والقوة والضعف متجاذبين، إنما هي كلم ملتبسات على أنها ألفاظ ولسن إلا ألفاظا. وما سمعت حتى الساعة بشفاء وصل من طريق الأذن إلى قلب جريح. لنتكلم الآن في شؤون الدولة. هذا ابتهالي إليكم بكل اتضاع.
الدوج :
الأعداء متجهون بأسطول شديد القوة إلى قبرس. عطيل أنت أدرى بجهد ما تستطيعه تلك الجزيرة من المقاومة ومع أن لنا هنالك عاملا ذكيا فيه الكفاية كل الكفاية لصيانتها إلا أن المشورة التي لها القول الفصل في تحول الأحوال هي التي آثرك وبك تجد مزيدا من الثقة فلا بد لك من أن تشوب بهجة فرحك بأخطار هذه الحملة وضوضائها.
عطيل :
العادة وهي المستبدة قد استحكمت مني أيها الأعيان المتبصرون حتى جعلت مرقد الصخر والفولاذ في الحرب ألين لي من مرقد الزغب الناعم. وإنني لأشعر بسرور طبيعي وثاب لدى مغامرة المحن القاسية. فعلي إذن تولي هذه الحرب في وجه الأعداء. وغاية ما ألتمسه منكم مع الخضوع لعظيم اقتداركم أن تجعلوا لحليلتي كفالة لائقة لمقامها فتمنحوها منزلا وتجروا عليها رزقا يكونان على مناسبة شرفها وعلو محتدها.
الدوج :
لها أن تقيم عند والدها إذا رضيت.
برابنسيو :
لا أرضى.
عطيل :
ولا أنا.
ديدمونه :
وكذلك أنا أستعفي صيانة لوالدي من أن تحرجه رؤيتي. أيها الدوج الرحيم تقبل مني دعاء أستمد به معونتك لجرأتي.
الدوج :
ماذا تريدين يا ديدمونه؟
ديدمونه :
لقد أحببت المغربي حبا يقضي علي بألا أفارقه في حياتي. أثبت ذلك بما تعرضت له من سوء الأحدوثة
16
والاستسلام للقدر وقلبي يعينني على تحمل جميع المتاعب التي يقضي بها علي منصب هذا السيد الذي وقفت روحي وسعادتي على مجده وبسالته. فإذا تركتموني أيها السادة الأعزاء مقيمة ههنا كالفراشة في أيام الصفاء على حين يذهب هو إلى الحرب حرمتموني إيفاء النذر الذي نذرته لذلك الشرف الذي من أجله أحببته وسمتموني عذاب هجر طويل علي مهما قصر. فائذنوا لي بالسفر معه.
عطيل :
إذنا بسفرها أيها السادة. أبتهل اليكم أن تجيبوها إلى سؤلها والله يشهد أنني لا ألتمس لها هذا العناء لمتاع نفسي وإخماد لواعج قلبي فقد شفيت سورته الأولى، ولكن لقضاء رغبتها بحب وكرامة. كما أنني أحاشي معاليكم الطاهرة من أن تظنوا أنني سأهمل الأعمال الجدية الجسيمة المنوطة بي لأن حليلتي تكون بجانبي. لا لا. ولو أنني استسلمت بغرام استسلاما يغشى بنعيمه حزمي وعزمي ويفسد للذاته قيامه بواجباتي لرضيت أن تأخذ قعائد البيوت خوذتي ليصطنعن منها طاسة، وأن يباريني في شهرتي ومجدي الزعانف
17
الذين يصحبهم النحس والخجل فيظهرا علي ويسبقوني.
الدوج :
ليكن من أمر حلها أو ترحالها ما تريان أنتما. الحاجة ملحة والخطب يقتضي المبادرة.
العين الأول :
ينبغي أن تسافر الليلة.
عطيل :
بكل ارتياح.
الدوج :
سنجتمع ههنا الساعة التاسعة صباحا فاستبق يا عطيل واحدا من ضباطك ليحمل إليك غدا تكاليفنا ومرسومات تنصيبك وتلقيبك.
عطيل :
إذا حسن لدى مرحمتكم أستبقي حامل علمي. هو رجل أمين نزيه وإليه سأعهد في إحضار امرأتي وحمل ما تشاء مرحمتكم إرساله إلي.
الدوج :
ذلك إليك. طاب ليلكم جميعا. (إلى برابنسيو)
أيها السيد الشريف إذا صح أن الفضيلة لا تخلو قط من جمال خلاب فصهرك أجمل بكثير مما هو أسود.
العين الثاني :
صحبتك السلامة أيها المغربي الباسل. أحسن معاملة ديدمونه.
برابنسيو :
اسهر يا مغربي إذا كانت لك عينان ترى بهما. إنها خدعت أباها وقد تخدعك أيضا. (يخرج الدوج والأعيان والضباط إلخ)
عطيل :
أنا أضمن أمانتها بحياتي. أي ياجو النزية إني مضطر أن أدع لك ديدمونه وأرجو أن توصي امرأتك بمنحها ما ينبغي من الخدم وعليك أن توصلها إلى الجزيرة في أحسن ما يستطاع. تعالي يا ديدمونه لم يبق لي إلا ساعة نخلو بها للوداع وتدبير شؤون رحلتنا الوقت حاكم لا بد من طاعته . (يخرج عطيل وديدمونه)
ردريجو :
ياجو.
ياجو :
ماذا تقول يا ذا القلب النبيل؟
ردريجو :
أي شيء تظنني أتمناه الآن؟
ياجو :
لا جرم أن تتمنى الذهاب إلى السرير والرقاد.
ردريجو :
سأذهب لإلقاء نفسي في البحر حالا.
ياجو :
إذا فعلتها لم أحببك بعد الآن. أتفعلها أيها الشريف الأبله؟
ردريجو :
البلاهة أن نعيش حيث العيش ألم، وأنجع دواء هو الموت، حيث يكون الموت هو الطبيب.
ياجو :
ياله من جبن! لقد بلغت الثامنة والعشرين من سني ومنذ طفقت أتبين الإساءة من الإحسان لم أجد رجلا يحب نفسه حق الحب. أنا قبل أن أعزم على الهلاك غرقا لهيامي في دجاجة ما، أوثر أن أتحول من رجل إلى قرد.
ردريجو :
ما في وسعي أن أعمل. أعترف أن العشق وقد بلغ هذه الغاية عار علي ولكنه ليس في طاقتي أن أستشفي منه.
ياجو :
الطاقة؟ ما معنى الطاقة؟ نحن الذين بإرادتنا نكون كذا أو كذا. أجسامنا حدائقنا ومشيئاتنا بستانيوها بحيث لو عن لنا أن نزرع فيها صنفا دون آخر أو نستنبتها عشبا أو ننزع غيره أو نخدمها فتخصب أو نهملها فتمحل ففي مشيئاتنا من السلطة ما يكفي لإعدادها وتنقيحها على حد ما نشتهي. ثم إنه لو لم تكن في ميزان أعمارنا كفة من العقل لمعادلة كفة الشهوة لكانت خسة طبائعنا تدفعنا إلى أوخم العواقب. غير أننا رزقنا العقل لإخماد ثورة غضبنا وتسكين لواعج أمانينا البدينة وكبح شهواتها التي لا لجم لها. ومما تقدم أستنتج أن الذي تسمونه حبا إن هو إلا فسيلة كسائر الفسائل أو فرع كسائر الفروع.
ردريجو :
غير معقول أن يكون الحب هكذا.
ياجو :
بل قال هو - وما يزيد عما أعرفه به - مطمع من الدم وإذن من الإدارة. تنبه وكن رجلا. أتغرق نفسك! غرق لي بعض الهرر أو بعض الكلاب الصغيرة العمياء. لقد أبديت لك صداقتي وأجاهرك أنني مشدود إلى كرائم خلالك بحبال متينة خالدة، ولم يكن قط في وسعي أن أخدمك كخدمتي إياك الآن. ضع نقودا في جيبك واتبعنا إلى دار الحرب مخفيا وجهك وراء لحية مستعارة. ضع نقودا في جيبك، نصيحة مني لك إذ لا يحتمل أن تستمر ديدمونه على حبها للمغربي. ضع نقودا في جيبك. ولا يحتمل أيضا أنه هو سيستمر على شغفه بها طويلا، ذلك بأن البداءة العنيفة في مثل هذا الاتصال يعقبها الانفصام العنيف. ضع نقودا في جيبك ولا تكلف نفسك غير هذا العناء ... إن هؤلاء المغاربة لمتقلبون في أهوائهم. إملأ جيبك نقودا. فإن الطعام الذي يجده الساعة شهيا كالأناناس سيصبح في فمه مرا كالعلقم. وأيضا هي، فإنها ستبتغي منه بديلا أنضر عودا، وعندما تشبع من رسمه تتنبه لسوء اختيارها وتريد التغيير. حتما. على هذا ضع نقودا في جيبك. وإن كنت مصرا على التهالك بلا محيص فالتمس شيئا أقل فظاعة من الغرق. إجمع ما تستطيعه من النقود ... فإذا لم تكن قدسية الزواج وضعف اليمين التي يرتبط بها بربري شريد ورفيقة من نواعم البندقية أمرين فوق المكايد التي يفتقها فكري وفوق جميع القوى الجهنمية فإنك لا محالة متمتع بها. إذن هييء نقودا ... أتغرق نفسك؟! بئس الرأي من رأي خائب. انبذه وفضل أن تشنق وقد قضيت مأربك على الغرق الذي يقصيك عن هذه الدنيا وفي نفسك تلك الحسرة.
ردريجو :
أتنشط بلا ملل ولا انحراف لتحقيق آمالي إذا عزمت على هذا السفر.
ياجو :
أنت على ثقة مني. اذهب وأعدد نقودا. قلت لك مرارا وأعيد عليك قولي تكرارا إنني أكره ذلك المغربي وبغضي له متأصل في فؤادي كما هو متأصل في فؤادك فلنجمع ثأرينا، وإذا استطعت أن تدنس عرضه كان ذلك لك سرورا وكان لي تفكهة. الليالي يجملن كثيرا من الحوادث وسيلدنها. إلى الأمام إلى الأمام. اذهب واجلب نقودا ثم نستأنف المفاوضة غدا. أستودعك الله.
ردريجو :
أين نلتقي غدا صباحا؟
ياجو :
في منزلي.
ردريجو :
سأذهب إليك مبكرا.
ياجو :
حين تشاء. إلى الملتقى. أسمعت؟
ردريجو :
ماذا تقول؟
ياجو :
أقول إياك والغرق.
ردريجو :
غيرت عزمي وسأبيع أملاكي.
ياجو :
اذهب موفقا وضع نقودا كافية في جيبك (يخرج ردريجو) . بهذه الحيلة وبأمثالها جعلت هذا الأحمق موضع جيبي ولو لم أفعل لأنتقصت التجارب التي اكتسبتها، إذا لا معنى لإضاعة وقتي مع مثل هذا الفرخ الرومي ما لم أستفد منه تسلية ومالا. أنا أمقت المغربي ويظن الجمهور أنه أعلى منصبي من تحت لحافي على أنني لا أعلم إن كان هذا الظن صحيحا ولكن الوهم في مثل هذا يكفي عندي للحلول محل الحقيقة. الرجل يحترمني واحترامه إياي يزيدني رجاء بإفلاح مكايدي ... أما كاسيو فهو شاب جميل لنفكر في أمره هنيهة. ما العمل للحصول على منصبه بحيث أكون قد أصبت رأسين عن رمية واحدة من رميات غدري؟ أية الحيل أفضل؟ لنفكر قليلا. خير وسيلة فيما أظن أن آخذ بمخادعة أذن عطيل فألقي فيها كلمة بمعنى أن كاسيو شديد التقرب من امرأته. على أن شكل كاسيو وحسن أدبه يريبان، وقد خلق لإغواء الغواني. ولما كان المغربي صريح الضمير بين الطوية يعتقد النزاهة في كل من يرى عليه ملمحها كان من الميسور لي أن أقتاده من أنفه كما يقتاد الحمار. هذه مكيدتي ظفرت بها. فليستولدها صلب الظلام من بطن جهنم خلقا شاذا إذا طلع عليه النهار ظهر فظيعا رهيبا.
الفصل الثاني
المشهد الأول
مرفأ في قبرس ورواق (يدخل منتانو ووجيهان)
منتانو :
ماذا تتبين في البحر من جهة الرأس؟
أحد الحاضرين :
لا أتبين شيئا. البحر مضطرب جدا ولا أستطيع أن أرى شراعا بين السماء والماء.
منتانو :
أجد أن الريح قد أزعجت الأرض ولا أظن أن إعصارا كان أشد على حصوننا وممتنعاتنا من هذا الإعصار. على أنه إذا كان هذا ما فعله في البحر فأية الأشجار استطاعت أن تبقى في منابتها عندما تحاذفت عليها جبال الأمواج. أي شيء سيجيئنا من أخبار هذه العاصفة.
الوجيه الثاني :
تفرق أسطول الأعداء. انظر من الشاطئ المضطرب تر الأمواج الثائرة كأنها واثبة لتضرب السحاب، بل كأنها هاجمة بعفراتها
1
الرائعة المتعالية لتلقي ماء على النار المتقدة في نجوم الدب ولتطفئ تلك الثوابت من حراس القطب. ما رأيت عمري غضبة للبحر الهائج كهذه الغضبة.
منتانو :
إذا كان أسطول العدو لم يلجأ إلى الموانئ فإنه لغريق وتستحيل عليه المقاومة. (يدخل وجيه ثالث)
الوجيه الثالث :
أخبار جديدة يا أولادي. انتهت الحرب لأن هذه العاصفة الجموح تركت أساطيل الأعداء مكسورة الأجنحة وقد رأى غرقها وتحطمها مركب قادم من البندقية.
منتانو :
يا للعجب أصدق ما تقول؟
الوجيه الثالث :
المركب قد دخل المرفأ ونزل منه فيروني
2
يدعى ميشيل كاسيو. هو ملازم المغربي الباسل عطيل. ومن قوله إن عطيلا في العباب الآن وإنه موفد إلينا ليكون آمرا مطلقا في قبرس.
منتانو :
أنا مسرور به لأنه حاكم جدير بهذا المقام.
الوجيه الثالث :
غير أن كاسيو هذا على ما جاءنا به من الأنباء الطيبة عما حل بالأعداء لا يبدو عليه الارتياح بل هو كئيب يدعو الله لنجاة المغربي لأن العاصفة بشدتها فرقت بينهما.
منتانو :
لنضرع إلى الله أن يسلمه فقد خدمت تحت إمرته وهو قائد لا عيب فيه. هلم إلى الشاطئ لنرى المركب الذي وصل ونرقب بأعيننا مقدم عطيل. ولنلبث ناظرين من موقفنا حتى تختلط في أبصارنا خضرة البحر وزرقة الهواء.
الوجيه الثالث :
لنفعل ذلك فإنه يرجى في كل دقيقة طروق فوج من الوافدين. (يدخل كاسيو)
كاسيو :
حمدا لك أيها الباسل حاكم هذه الجزيرة لذكرك المغربي بمثل هذا المديح. لعل الله يقيه فقد ضللت عنه في بحر زاخر بالأخطار.
منتانو :
أتقول سفينته صالحة للمقاومة؟
كاسيو :
سفينته متينة البناء ودليله ملاح مشهود له بالمهارة، لهذا لم يضعف أملي بمجيئه.
صوت (من الخارج) :
شراع. شراع. شراع.
كاسيو :
ما هذا النداء؟
الوجيه الرابع :
خلت المدينة من أهلها وجميعهم على الشاطئ يصيحون: هذا شراع.
كاسيو :
قلبي يحدثني بأن هذا مجيء الحاكم. (قصفة مدفع)
الوجيه الثاني :
تلك قصفات وداد فلا بد أن القادمين من أوليائنا.
كاسيو :
هلا ذهبت يا سيدي فأخبرتنا من القادمون؟
الوجيه الثاني :
أنا ذاهب.
منتانو :
أقائدك متزوج أيها الملازم الكريم؟
كاسيو :
صادفته العناية فملك قلب فتاة لا يحيط بجمالها الوصف ولا المبالغة. فتاة تفوق بمحاسنها الفطرية أبرع ما يتخيله الكاتبون وأبدع ما يصوره المصورون. (يعود الوجيه الثاني)
كاسيو :
بشرنا من دخل المرفأ؟
الوجيه الثاني :
رجل يدعى ياجو حامل علم القائد.
كاسيو :
وفق في سفره وسبق الأوان. فلا ريب أن العواصف نفسها، والبحار الثائرة، والرياح الزائرة، والصخور التي تعترضها الأمواج والرمال المتراكمة الخائنة التي تتصيد المركب البريء قد داخلها شبه رقة للجمال فتحولت عن طبائعها المهلكة، لتفسح سبيلا أمينة تمر منها ديدمونه.
منتانو :
من هذه الإنسانة؟
كاسيو :
هي التي كنت أذكرها لك. هي قائدة قائدنا العظيم. جاءت يرعى طريقتها الباسل ياجو الذي وصل بها قبل الموعد بسبعة أيام. أيها المشتري الأكبر مالك البحر أيد عطيلا واملأ شراعه بنسمتك القديرة ليشرف هذا المرفأ بزيارة مركبه الجميل ولينعم بقرب ديدمونه وليذكي في قلوبنا ما خبا من ضرم
3
الشجاعة وليمنح قبرس الأمن والسكون. (تدخل ديدمونه وإميليا وياجو وردريجو وبعض الأتباع)
كاسيو :
انظروا هذه كنوز المركب قد نزلت إلى البر. يا سكان قبرس سجودا لديها. تحية وسلاما أيتها السيدة ولتحط بك النعم من كل جانب.
ديدمونه :
شكرا لك يا كاسيو المقدام. ما عندك من أخبار سيدي؟
كاسيو :
لم يصل بعد ولكنه بخير فيما أعتقد. وسيكون ههنا عما قليل.
ديدمونه :
أواه، أنا خائفة. كيف لا تكون مصاحبه؟
كاسيو :
فرقت بيننا مكافحة الماء والسماء. لكن سمعا هذا شراع.
صوت (من الخارج) :
شراع. (قصفة مدفع)
الوجيه الثاني :
قصفات تحية للقلعة، هؤلاء هم أيضا أصدقاء.
كاسيو :
وافنا بالنبأ (يخرج الوجيه)
يا حامل العلم الكريم مرحبا بك (إلى إميليا)
وأهلا بك أيتها السيدة. يا صديقي ياجو، لا تحنق إذا تماديت في مجاملتي لامرأتك فإن الأدب الذي ربيت عليه هو الذي يحملني على تجاوز اللائق. (يقبل إميليا)
ياجو :
لو أعطتك من شفتيها مقدار ما تعطيني من لسانها لاكتفيت سريعا.
ديدمونه :
أسفي عليها لقلما تتكلم.
ياجو :
وذمتي إنها لتتكلم فوق الكفاية. أشعر بذلك كلما جاءت ساعة الرقاد. لا جرم أنها في حضرتك الآن تضع شيئا من لسانها في قلبها ولكنها تختصمني في فكرها.
إميليا :
لا سبب يدعوك لمثل هذا اللمز.
ياجو :
كيف لا؟ كيف لا؟ وأنتن النساء حور حين تكن خارج البيوت، وأجراس حين تكن في الخدور ، وهرر برية في المطابخ، وقديسات حين تتصدين لإهانة أحد، وشياطين حين يجرؤ أحد على تكديركن، وبواهل
4
عواطل حين تجب خدمة المنزل، ونشيطات مشتغلات بأمور المنزل حين تدخلن الأسرة.
ديدمونه :
ويح لك من نمام ...
ياجو :
لست بنمام، هي الحقيقة أو أنتسب لأعداء بلادي إنكن إن تنهضن فللتنزه أو تدخلن الأسرة فللاشتغال بمسائل البيوت.
إميليا :
لو ابتغيت مادحا لما استعنت بك.
ياجو :
أولى لك ثم أولى!
ديدمونه :
ولو كلفت بمدحي ما تقول؟
ياجو :
أيتها السيدة الشائقة لا تكلفيني عملا كهذا لأنك إن طلبت مني غير الهجو صيرتني إلى عدم.
ديدمونه :
خالف طبعك وجرب. أذهب أحد إلى الميناء؟
ياجو :
نعم يا سيدتي.
ديدمونه :
لست منشرحة الصدر لكنني أخادع حالة بضدها. أجبني كيف تمتدحني ...؟
ياجو :
أفكر في ذلك فما أجد فكري ينطلق من يافوخي
5
إلا وهو منتزع دماغي وسائر ما هناك كما يفعل الغراء بالوبر الطويل وقد علق به، غير أنه إذا كان لا بد لقريحتي أن تتمخض فها ما تلده: «إذا كانت المرأة جميلة وذكية فجمالها لخدمة الآخرين وذكاؤها لاستخدام الجمال».
ديدمونه :
أحسنت. فإذا كانت المرأة سوداء وذكية؟
ياجو :
إذا كانت المرأة سوداء وذكية وجدت رجلا أبيض لا يرى سوادها سوادا.
ديدمونه :
انتقلنا إلى أقبح مما سبق.
إميليا :
فإذا كانت جميلة وحمقاء؟
ياجو :
لا حماقة مع الجمال لأن الجمال يعينها على إيجاد وارث لها.
ديدمونه :
هذه سفاسف قديمة قيلت لإضحاك البلهاء في الخمارات فإن استزدنا فأي شيء تقوله في البشعة الحمقاء؟
ياجو :
مهما تكن بشعة وحمقاء فإنها ترتكب من الغوايات ما ترتكبه الحسناء الفطنة.
ديدمونه :
ما أكثف هذا الجهل! تصف أقبح النساء بأحسن ما عندك. والآن كاشفنا برأيك في امرأة فاضلة واثقة من شرف خلالها بحيث لا تخشى اللوم ولا التثريب.
ياجو :
المرأة التي عاشت جميلة ولم تتكبر، التي لزمت حد الكلام الحر في مناسبته ولم تجاوزه إلى الطنطنة، التي توفر الذهب بين يديها ولم يطش قلبها، التي استمالت الغرام فلم تمل وهي قائلة في نفسها لو شئت لاستطعت، التي غيظت وملكت الانتقام فأسكتت غيظها وسامحت في ألمها، التي لم تضعف عندها الحكمة حتى ترضى بذنب كلب البحر بديلا من رأس المرجانة، التي ذكا فكرها ولكنها لم تتجه به إلى كشف محاسن نفسها، التي لمحت المحبين يهرعون وراءها ولم تلتفت. تلك إنسانة لو وجدت ومثلها لا يوجد ...
ديدمونه :
لو تسنى وجود تلك الموصوفة فما تقول فيها؟
ياجو :
أقول إنها كانت أصلح النساء لإطعام الأغبياء وتدبير حسابات الفنادق.
ديدمونه :
بشت النتيجة العرجاء الكسيحة. لا تتعلمي منه هذا العلم يا إميليا ولو أنه قرينك. ما رأيك فيه يا كاسيو أليس هجاء شديد الاستباحة عن غير خبرة؟
كاسيو :
يتكلم بلا تصنع يا سيدتي ولكنه يعجبك بسيفه أكثر مما يعجبك بلسانه.
ياجو (على حدة) :
وضع يده في يدها. أحسنت أحسنت. ناجها همسا. متى وجدت مصيدة من نسيج العنكبوت رقيقة كهذه الحاشية لم يصعب علي أن آخذ بها ذبابة لو بلغ حجمها حجم كاسيو. نعم ابتسمي له. تمتع سأتصيدك بليونة أدبك. كل ما تقوله صحيح. بلا ريب وذمتي. كان خيرا لك وأنت عازم على استبقاء منصبك ألا تجعل أصابعك الثلاثة في فمك توسعها تقبيلا لترى الحسناء أنك شاب جميل. أحسنت. هكذا لثم الأصابع ما ألطف هذه المجاملة ... في الغاية في الغاية ... ما هذا؟ أتعيد أصابعك إلى فمك مرة أخرى؟ ما أشوقني لرؤية تلك الأصابع تتحول عند حاجتك إلى أنابيب محقنة. (يسمع بوق عسكري)
لقد جاء المغربي عرفت بوقه.
كاسيو :
نعم هو هوه.
6
ديدمونه :
بدار
7
لملاقاته.
كاسيو :
بل قد أقبل. (يدخل عطيل ورهط من أتباعه)
عطيل :
يا حبيبتي الشجاعة.
ديدمونه :
يا حبيبي عطيلا.
عطيل :
لا يعادل سروري بلقائك إلا إعجابي بأن أراك تقدمتني يا بهجة حياتي، لو كانت جميع العواصف تنتهي إلى مثل هذا الصفاء فليت الرياح تزأر حتى توقظ الموتى وليت فلكي وهي تعاند المعاطب ترتفع بها جبال من الأمواج عالية كالأولمبس
8
ثم تنحدر بها إلى الحضيض البعيد بعد جهنم عن السماء! أما والذي بيده نفسي لوددت أن أموت الآن من فرط ما أنا فيه من السعادة المطلقة التي أخشى ألا يعاودني مثلها في المستقبل المجهول!
ديدمونه :
أعفانا الله من أن ينتقص حبنا وهناؤنا قبل أن يحين أجلنا.
عطيل :
أجيب بآمين على هذا الدعاء يا أيتها السماوات الرحيمة، لا أستطيع الإفصاح عما أنا فيه من الغبطة كما أتمنى. يكاد السرور لشدته يقطع علي أنفاسي، لتكن هذه القبل (يقبلها)
غاية ما يبلغه قلبانا من الخصام والشقاق.
ياجو :
أنتما الآن على أتم اتفاق ولكن أقسم بنزاهتي إلا ما أرخيت الأوتار التي تخرج هذه النغمات المؤتلفة.
عطيل :
هلم بنا إلى القصر، أنا حامل إليكم بشرى يا أصحابي. انتهت حروبنا بغرق الأعداء، كيف حال الذين عرفناهم قبلا من أهل هذه الجزيرة؟ أي حبيبتي سيقيمون لك أفراحا عظيمة في قبرس ولي عند ساكنيها مودة أعتد بها، أي حبيبتي إنني أكثر من الكلام بغير ما يجب وأكاد أهذي من وفرة ابتهاجي، أرغب إليك يا أميني ياجو أن تذهب فهو ذو براعة فوجب له الإكرام. تعالي يا ديدمونه، على الرحب والسعة نزولك في قبرس. (يخرج عطيل وديدمونه)
ياجو (مخاطبا ردريجو) :
إصحبني حالا إلى المرفأ، تقدم إن كنت شجاعا، يزعمون أن سفلة الناس متى عشقوا اكتسبوا من شرف النفس ما يفوق فطرتهم، فأصغ إلي: الملازم يسهر الليلة بين الحرس واعلم أن ديدمونه مغرمة متيمة به.
ردريجو :
مغرمة به؟ هذا غير ممكن.
ياجو :
أقفل شفتيك بإصبعك هكذا وتعلم ... ألم تلمح بأية قوة أحبت المربي ابتداء وذلك لمفاخراته والأكاذيب الوهمية التي قصها عليها؟ أتراها تحبه أبدا لأمثال هذه الثرثرات؟ ستتوق عينها إلى منظر جميل، وأي شعاع تجده حينئذ برؤية ذلك الشيطان متى برد الدم بعد جهد المداعبة الغرامية كان لا بد لإيقاده ثانية ولإدخال جوع شديد على الشبع من جاذب في الملامح، وتناسب بين العمرين، وتوافق في العادات، وتشاكل في المحاسن، والمغربي خلو من هذه الأشياء وأمثالها، فأما وهذه المشوقات مفقودة منه فمن المحقق أن تلك النفس الرقيقة سترى كيف خدعها ولا تلبث أن يأخذها الفواق تقزازا منه، وأن تلاه وتبغضه، فحينئذ تندفع بدافع الطبيعة إلى رجل آخر تؤثره. فإذا ثبت هذا يا سيدي وهو تقدير بديهي لا شبهة فيه بقي أن الرجل الذي في طريق السعادة إنما هو كاسيو ذلك الضحكة العشاق الذي لا يتسع ضميره لأكثر من تزويق شكله بمظاهر الأدب والحشمة يخفي بها ما تحتها من أهوائه الفاسدة المنحرفة، وايم الحق إنه لفي أحسن جادة تبلغه هذه الغاية خصوصا مع ما هو عليه من الليونة والتلطف لمقاصده ومن التعود على انتهاز الفرص السانحة التي ربما خلقها بدقة نظره ورشاقة حيلته فهو هزأة رجيم وفوق ذلك شاب وجميل إلى سائر الصفات التي تختلب بها ألباب مجنونات الغرام ثم إنه يتصل كالمرض المعدي وحسبك منه أن المرأة قد لمحته.
ردريجو :
لا أصدق ما تدعيه لأنها ميالة إلى الفضيلة كل الميل.
ياجو :
كلمني عن فضيلتها وأكلمك عن أذناب التين، لو كانت كما تتوهم لما أحبت المغربي. بل إن بها صلاحا ولكنه صلاح القطعة من حلوى البودنج. ألم ترها لاعبة بمقبض يده، ألم ترها؟
ردريجو :
بلى رأيتها غير أنها مجاملة لا شبهة معها.
ياجو :
قسما بيدي لا مجاملة، ولكن مغازلة. لم تكن السبابة أول الدهر إلا المستهلة الخفية لتاريخ الأفكار الأثيمة والمحرمات الشهوية. أوشك ثغراهما أن يلتقيا وتلاثم نفساهما. ذلك من ضروب من الشروع في الجريمة يا ردريجو، وأمثال هذه المجالات متى افتتحت السير ففي العادة أن يتبعها القائد ومعظم الجند على الأثر والعاقبة الالتحام. خل عنك هذا يا سيدي ودعني أقدك بما أنني أحضرتك من البندقية. كن في عسس هذا الليل وسأسر إليك الشعار.
9
كاسيو لا يعرفك وأنا أكون قريبا منك. استنبط وسيلة لإغضاب كاسيو سواء بمخاطبته جهرا أم بالسخرية من نظامه أو بأي سبب آخر تختاره والأسباب ستكون متوافرة في تلك الساعة.
ردريجو :
سأفعل.
ياجو :
إنه يا سيدي غضوب وله مفاجآت في كدره وربما ضربك. حركه حتى يفعل وعندئذ أنتهز الفرصة أنا لإثارة فتنة بين شعب قبرس تكون خاتمتها لا محالة عزل كاسيو وهكذا يختصر سفرك إلى غايته بما أكيده من المكايد لتحقيق هذه الأمنية ويزول من وجهك هذا الحائل الذي لا ندرك مع وجوده مرامنا.
ردريجو :
إذا سنحت فرصة لم أتردد.
ياجو :
ستجد الفرصة عن يقين. إلحق بي إلى القلعة بعد هنيهة وأنا ذاهب إلى المرفأ لأبعث إليه بثقله.
10
إلى اللقاء.
ردريجو :
أن يحبها كاسيو ذلك صحيح وأعتقده وأن تحب هي كاسيو ذلك محتمل وسهل التصديق. المغربي - على كرهي له - شريف الخلق ثابت في حبه ولعله يكون لديدمونه بعلا وفيا ولكن أنا الآن أحبها أيضا لا لشهوة تقضى - وإن كان الإحساس الذي يدفعني إليها لا يقل عن ذلك إجراما - بل لأنها تهيئ لي سبيل انتقامي ذلك لأنني أظن أن المغربي الفاسق قد اندس في فراشي وهو تخمين يأكل الأمعاء أكل السم المعدني ولا شيء يرفه عن نفسي إلا أن أجعله عديلي، امرأة بامرأة، فإن لم أستطيع فأن أثير فيه من نار الغيرة ما لا يقوى عليه العقل. ولإدراك هذا المرام أرجو أن يطاوعني ذلك النشاق
11
الحاذق الذي جلبته من البندقية بلا كمامة، فإذا تبع الأثر جيدا لم ألبث أن أملك ميشيل كاسيو عاجلا من كليتيه وأن أسود وجهه في نظر المربي تسويدا تاما لأنني أخشى أيضا أن يكون بين كاسيو المذكور وبين القبعة التي ألبسها للنوم عداوة يسعى لإزالتها
12
ثم أريد أن يحبني المغربي وأن يشكر لي بالحمد والمكافأة جعلي إياه جحشا بينا وإقلاقي راحته وإفسادي سعادته إلى أن يجن جنونا. هذا مبدأ الخطة التي رسمتها هنا (يشير إلى جبهته)
لمكيدتي. هي خطة لا تزال بجملتها مبهمة ولكن وجه الخديعة لا ينكشف إلا إذا أتمت الخديعة فعلها.
المشهد الثاني
طريق (يدخل مناد بيده قرطاس والشعب يتبعه)
المنادي :
اقتضت مشيئة عطيل قائدنا الشريف الباسل بناء على ما ورد من الأنباء المحققة بدمار أسطول الأعداء أن يعيد الأهلون سرورا بهذا الحادث، بعضهم بالرقص وبعضهم بإطلاق السهام النارية وكل بالملاهي والألعاب التي يؤثرها. ذلك لأن هذا اليوم عدا ما جاء فيه من الأخبار السارة يوم الاحتفال بقرانه. وقد أمرنا بإبلاغ الشعب أيضا أن جميع مطاعم القصر ومقاصفه مفتوحة ولمن يشاء أن يأكل فيها ويشرب منذ هذه الساعة الخامسة إلى أن يقرع جرس الساعة الحادية عشرة. بارك الله في جزيرة قبرس وفي قائدها الشريف عطيل.
المشهد الثالث
ردهة في القصر (يدخل عطيل وديدمونه وكاسيو ونفر من الحاشية)
عطيل :
يا عزيزي ميشيل ارقب الحرس الليلة ولنعين لمسراتنا المدى الذي يقتضيه العقل لئلا نتجاوز نحن الحد الذي يجيزه التصون.
13
كاسيو :
أمر ياجو بما يجب وسأرقب العسس بنفسي.
عطيل :
ياجو أمين جدا، طاب ليلكم، نلتقي بكرة غد يا ميشيل لحاجة بي اليك ... (إلى ديدمونه)
تعالي يا غرامي لنذوق من جنى ما كسبنا ذلك النعيم الذي لم نذقه إلى الآن، طاب ليلكم. (يخرج عطيل وديدمونه والحاشية) (يدخل ياجو)
كاسيو :
مرحبا بك يا ياجو، علينا الحراسة.
ياجو :
لم تجيء الساعة العاشرة أيها الملازم وإنما صرفنا قائدنا الليلة قبل الأوان من أجل غرامه ولا ملام عليه لأنه لم يقض إلى الآن ليلة كاملة مع ديدمونه على كونها قطعة تليق المشتري.
14
كاسيو :
إنها لسيدة شهية جدا.
ياجو :
ومحبة للعب. أحلف لها على ذلك.
كاسيو :
وعندي أنها أنضر المخلوقات وأرقها.
ياجو :
ثم إن لها نظرة إليك أدعى ما تكون إلى البراز.
كاسيو :
نظرة إقبال ولكن عن سلامة.
ياجو :
وإذا تكلمت ألا يخال من صوتها أن ديانا
15
تضرب نغمة الغرام على توقيع حربي.
كاسيو :
هي الكمال مجسما ولا مراء.
ياجو :
لندع السعد يتبطن لحافهما وتعال أيها الملازم ندخل إلى هذا المكان فقد خبأت فيه إبريق نبيذ وهناك بعض الكرام القبرسيين يسرون بشرب نخب في صحة عطيل الأسود.
كاسيو :
لا أشرب الليلة أيها العزيز ياجو لأن رأسي من أضعف الرؤوس وأقلها تحملا للخمر وكان بودي لو أن الأدب اخترع لنا وسيلة غيرها للتودد والتجامل.
ياجو :
الضيوف من أصدقائنا ولا تشرب إلا كوبا واحدا، بل أشربه عنك.
كاسيو :
ما تعاطيت الليلة إلا كوبا واحدا مقتولا (بالمزج)
ومع ذلك قد بدا علي أثره. إني أسيف لهذا الضعف ولا أجرؤ أن أحمل نفسي كوبا آخر.
ياجو :
أتصر على الامتناع أيها الصديق والليلة ليلة عيد وأصدقاؤنا يتمنون مساقاتنا النخوب؟
كاسيو :
أين هم؟
ياجو :
بالباب أرجو أن تذهب وتدعوهم.
كاسيو :
سأفعل ذلك على أنه لا يعجبني.
ياجو :
إذا استطعت أن أسقيه كأسا غير التي شربها قبلا امتلأ من الخصومة والسباب كامتلاء الكلب الذي تعوله مولاتي الجميلة ... ومن جهة أخرى فإن ردريجو رفيقي المريض الأبله الذي قلب الحب دماغه قد شرب الليلة كأسا بعد كأس تكريما لديدمونه وسيكون مع العسس، وهناك أيضا ثلاثة من فتية قبرس كرماء النفوس شديدو التحمس في مسائل الشرف لو اندفعوا في كريهة اندفع معهم جميع سكان قبرس الشجعان قد سقيتهم إلى الشرق وسيكونون من الحراس. بقي علي أن أستفز كاسيو بين هذا القطيع من السكارى المدمنين لإتيان أمر يعتدونه مهينا للجزيرة وأهلها، لكن أراهم قادمين، ولئن طابقت النتائج مقدمات تدبيري سارت سفينتي على ما أشتهي بمعونة المد وموافقة الريح. (يدخل كاسيو ثم منتانو ثم أعيان آخرون ثم خدم يحملون آنية للشراب)
كاسيو :
لقد أوصلوني إلى جد النشوة.
ياجو :
هاتوا خمرا (يتغنى) :
دعوني أرنن الدن
16
دعوني أرنن الدن
ما الجندي إلا إنسان
ما العمر إلا دقات
خلوا الجندي يشرب ما شاء
هاتوا نبيذا يا أولادي
كاسيو :
بالله انشودة جميلة.
ياجو :
تعلمتها في إنجلترا التي أهلها أقدر الناس على تفريغ الدنان بلا نزاع، أما الدانمركيون والألمان والهولنديون ذوو البطون الكبيرة. هاتوا خمرا. فإنهم لا شيء في مقابلة الإنجليز.
كاسيو :
وهل الحقيقة على ما تصف؟
ياجو :
الواحد منهم يعاطي الدانمركي حتى يدعه ميتا من السكر وهو لم يتعب، كما أنه يغلب الألماني في هذا المجال ولا يعرق، فإذا ناظر الهولندي أرسله يتقايأ قبل أن يملأ الزق
17
الثاني.
كاسيو :
في صحة قائدنا.
منتانو :
اشرب هذا النخب أيها الملازم وأنا قريعك مهما ترفع الكأس.
ياجو :
واها لإنجلترا الشائقة (ينشد) :
كان الملك إتيين نبيلا شريفا
يشتري سراويلاته بتاج
18
ويظنه مغبونا بستة بنسات من الثمن نقدا
يلقب الطرزي
19
بالضحكة
كان شابا بعيد الشهرة
وأنت لست إلا رجلا دنيئا
الكبرياء مضيعة للأمم
فقم وتدثر بدثارك العتيق (نبيذا يا غلمان ).
كاسيو :
بذمتي لهذه الأغنية ألطف من الأولى.
ياجو :
أتريد أن أعيدها عليك؟
كاسيو :
لا. لأنني أعتقد أن من يعمل مثل هذه الأعمال غير جدير بمنصبه. على أن الله فوق العباد والعباد فريقان يوم الدين ناجون وغير ناجين.
ياجو :
هذا حق أيها الملازم الكريم.
كاسيو :
أما أنا فأرجو أن أكون ناجيا ولا يؤاخذني في ذلك القائد ولا أي رجل ذي مكانة.
ياجو :
وأرجو النجاة لنفسي مثلك.
كاسيو :
نعم ولكن بعدي لأن الملازم يجب أن ينجو قبل حامل العلم، لكن حسبنا حديثا في هذا المعنى ... لنلتفت إلى شؤوننا. اللهم اغفر لنا خطايانا. أيها السادة لنلتفت إلى شؤوننا. لا تظنوا أني سكران يا سادتي، هذا حامل حامل علمي، وهذه يمناي وهذه يسراي، لست سكران البتة. أستطيع الوقوف قويما والتكلم حسنا.
الجميع :
حسنا جدا.
كاسيو :
على المرام. إذن لا ينبغي أن تظنوني سكران.
منتانو :
إلى الرواق يا سادتي نرتب العسس. (يخرج كاسيو)
ياجو :
أنتظر هذا الرفيق الخارج الآن؟ هو جندي لائق للخدمة تحت إمرة قيصر ولتولي القيادة العامة. إلا أنه مصاب بهذه الآفة كما ترى وهذه الآفة بالغة منه مبلغ فضله فهو بينهما شطران مستويان. غبن عظيم. وإني لأخشى أن تكون الثقة التي لعطيل به سببا في زلزلة الجزيرة إذا حمله السكر يوما على منكرة من منكراته.
منتانو :
أكثيرا ما يكون على مثل هذه الحالة؟
ياجو :
هذه الحالة تكون على الدوام مقدمة لمنامه. وإذا لم ترقده النشوة فقد يقضي يومه بليله مستيقظا.
منتانو :
يحسن أن ينبه القائد إلى هذه الخلة فقد لا يراها فيه وقد تكون الفضائل التي يجدها عنده حاجبة نظره عن عيوبه. ألا؟ (يدخل ردريجو)
ياجو (مخاطبا إياه على حدة) :
ما أتى بك يا ردريجو؟ إذهب عدوا وأدرك الملازم. إذهب. (يخرج)
منتانو :
من الحيف أن يعرض المغربي العظيم للخطر منصبا ذا بال كمنصب نائبه بتركه إياه بين يدي رجل مصاب بآفة كهذه لا يرجى شفاؤه منها، ومن المرؤة أن يفاتح في هذا الشأن.
ياجو :
أنا لا أفعل ولو أعطيت هذه الجزيرة كلها بدلا من إقراري لأنني أحب كاسيو وبودي لو أستطيع شفاءه مهما أبذل فيه من مرتخص وغال لكن أسمع صوتا ... ما هذه الجلبة؟ (يعود كاسيو دافعا أمامه ردريجو)
كاسيو :
يا خسيس. يا نذل.
منتانو :
ماذا جرى يا ملازم؟
كاسيو :
غبي يعلمني واجبي، سأضربه ضربة تسحقه حتى يدخل في زجاجة.
ردريجو :
تسحقني؟
كاسيو :
أتثرثر يا دنيء؟
منتانو :
حلما يا سيدي الملازم، أضرع إليك! اكفف يدك.
كاسيو :
دعني، أنت يا سيدي، وإلا كسرت فكك.
منتانو :
كفى كفى أنت سكران.
كاسيو :
سكران؟ (يتضاربان بالسيوف)
ياجو (مخاطبا ردريجو على حدة) :
طر وصح: فتنة فتنة (يخرج ردريجو)
حلمك أيها الملازم الكريم. أسفا يا أيها السادة. المعونة يا للناس. سيدي الملازم. سنيور منتانو. المعونة. نعم الحراس (يقرع جرس الخطر)
من يقرع هذا الجرس؟ قف. ستستيقظ المدينة. يا قوة الله. هدئ غضبك أيها الملازم، ستلحق بنفسك عارا خالدا. (يدخل عطيل يليه نفر من
عطيل :
ماذا يجري هنا؟
منتانو :
تالله إن دمي ليسيل بلا انقطاع، وإني لجريح جرح الموت.
عطيل :
كفا إن كنتما تأبهان للحياة.
ياجو :
حسبك يا ملازم، حسبك يا منتانو، أنسيتما أين أنتما، وما يجب عليكما؟ قفا، إن القائد يخاطبكما، اخجلا وقفا.
عطيل :
كفوا هذا القتال البربري، ومن اجترأ منكم أن يخطو خطوة بعد لشفاء غليله فنسفه لا قيمة لها عنده وإني لمورده حتفه لأول حراك يبدو منه، أسكتوا هذا الجرس الذي يفزع الجزيرة ويوقظها في هلع. ماذا يا سادة؟ أنت يا ياجو الأمين الذي شحبت شحوب الموت من الحزن، تكلم من البادي بهذه الخصومة؟
ياجو :
ما أدري. كانوا أصفياء منذ هنيهة كأصفى ما يكون العروسان حين يخلعان ملابسهما لدخول السرير، فما شعرت إلا وكأن سيارة من السماء بذرت بينهما الشقاق فانتضيا سيفيهما وتهاجما يتثاخنان. كيف كان مبدأ هذه المبارزة؟ لا أعرف. ولكنني كنت أود لو فقدت ساقاي في حرب شريفة ولم تحملاني إلى هذا المشهد.
عطيل :
أي شيء يا ميشيل أنساك الواجب إلى هذا الحد؟
كاسيو :
عفوك يا سيدي لا أستطيع التكلم.
عطيل :
يا منتانو الشريف أنت متعود اجتناب المزريات وكنت في أيام شبابك ساكنا وقورا يجلك الناقدون الحازمون، فما دعاك لإلقاء هذه الشبهة على سمعتك واستبدال لقب «معربد ليلي» بما كان لك من الكرامة العزيزة؟ أجبني.
منتانو :
أي عطيل الشريف، لقد جرحت جرحا موبقا يجهدني معه الكلام وإن ضابطك ياجو ليقدر على إنبائك بكل ما أعلم. على أنني لم أقل الليلة ولم أفعل شيئا ألام عليه، إلا إذا كان رفقنا بنفسنا في بعض الأحيان عيبا، وكان دفاعنا حين يعتدى علينا إثما.
عطيل :
بالله العظيم لقد أخذ دمي يملك علي جوانحي بدل الروية والتؤدة وطفق الرجز يتغشى بصيرتي ويدفعني إلى ما أكره، ولو خطوت خطوة أو حركت هذه الذراع لسقط خيركم يتخبط تحت غضبي. نبئوني كيف ابتدأت هذه الخصومة القبيحة ومن أثارها؟ فلئن كان شقيقي وتوأمي الذي ولد ساعة مولدي، لأقصينه عن نعمتي. يا عجبا!! أيدار قتال في موقع حربي لا يزال أهله في تأثر شديد وخوف مرهق؟ ومتى؟ في ظلام الليل. وأين؟ بين فصيلة الحرس. إنه لأمر فظيع، أي ياجو من بدأ هذه الخصومة؟
منتانو :
إذا لم تقل الحقيقة مراعاة منك للصحبة أو للمزاملة فلست بجندي.
ياجو :
لا تحرجوني بهذه القوة، خير لي أن ينزع لساني من التفوه بلفظة تكدر ميشيل كاسيو، غير أنني واثق من أن الذي سأذكره لا يضر به فتيلا. فاسمع ما جرى أيها القائد: بينما كنا نتسامر أنا ومنتانو دخل رجل يستغيث وكاسيو متبعا إياه يريد ضربه بسيفه المسلول فتصدى هذا الشريف لكاسيو يلتمس منه العفو عنه، وتبعت أنا ذلك الرجل المستصرخ لمنعه من اهتياج الأهلين بصيحاته كما فعل، على أن الرجل كان أسرع مني عدوا فما لبثت أن تركته ورجعت، فإذا أنا بنصلتين تتلاقيان وتصلان وبكاسيو يقذع
20
بألفاظه قذعا ما سمعته منه قبل الآن، على أنني ما كدت أبلغهما حتى كانا قد تركا النصلين وشرعا يتراكلان، ولا أقدر أن أقول شيئا آخر عن هذه المسألة غير أن الرجال إنما هم رجال وخيرهم قد يسهو ويخطئ، فلئن كان كاسيو قد أهان هذا الرجل الكريم، ومع الغضب ربما ضرب الإنسان أصدق الناس مودة له، فلا بد أن كاسيو قد لقي من الرجل الذي هرب إهانة بشعة ذهبت بصبره.
عطيل :
يا ياجو إن نزاهتك وصداقتك تحملانك على تلطيف الأمر ليكون أقل وقرا على كاسيو، ولكن اعلم يا كاسيو أنني أحبك وأنك لن تكون ضابطي أبد الدهر. (تدخل ديدمونه وحاشيتها)
عطيل :
انظروا إن حبيبتي وخالبة لبي قد استيقظت بسبب الجلبة. (إلى كاسيو)
سأجعلك عبرة وعظة.
ديدمونه :
ما الذي حدث؟
عطيل :
كل شيء على ما يرام الآن يا حبيبتي، عودي إلى سريرك (إلى منتانو)
سأكون بنفسي آسي
21
جراحك، انقلوه (ينقل منتانو)
إذهب يا ياجو وطف المدينة وأمن الخائفين. تعالي يا ديدمونه. من حياة العسكري أن يستيقظ من منامه على جلبة القتال. (يخرجون إلا كاسيو وياجو)
ياجو :
ما بالك؟ أأنت جريح يا ملازم؟
كاسيو :
نعم وبغير شفاء.
ياجو :
لا سمح الله.
كاسيو :
سمعتي سمعتي، فقد الجزء الخالد مني، وبقيت البقية الحيوانية. سمعتي، ياجو، سمعتي!
ياجو :
ظننت وايم نزاهتي، أنك أصبت بجرح بدني، ذلك أشد خطرا من الإصابة بجرح في السمعة، وما السمعة على الحقيقة إلا أكذوبة باطلة تنال في الأكثر بغير جدارة وتفقد لغير ما سبب. فلست بفاقد سمعتك إلا إذا أذعت أنك فقدتها. تنبه يا صاحبي. لا تزال لك وسيلة لاستعادة رضا القائد فقد عزلك في ساعة غضب لا عن سياسة ولا عن مكر بل كما يفعل الذي يضرب كلبه ولا يذنب، ليرهب أسدا هصورا. استعطفه عليك ينعطف.
كاسيو :
أفضل أن ألتمس من الناس تحقيري على خديعة مثل هذا القائد العظيم بأن أعرض عليه أن يستعيد ضابطا نزقا سكيرا قليل الاحتراس في هذا الحد.
ياجو :
أنت وكل حي عرضة للسكر في ساعة ما أيها الصديق. خذ عني الآن ما ينبغي لك عمله. إن امرأة قائدنا هي التي أصبحت قائدنا. لأنه قد انصرف كل الانصراف إلى تمتيع نظره وقلبه بمحاسنها ومكارم أخلاقها ... فاذهب إليها وأقرر بذنبك صريحا والتمس منها بإلحاح وإلحاف أن تعينك على العود إلى منصبك فلا تلبث أن تشفع لك عنده إذ أن سماحة فطرتها تجد من الرذيلة عدم الإجابة إلى أكثر مما يطلب منها.
كاسيو :
أسديتني خير نصيحة.
ياجو :
كن واثقا أنها نصيحة خلوص وحسن نية.
كاسيو :
أنا واثق مما تقول وسأذهب من بكرة غد إلى ديدمونه الطاهرة وأبتهل إليها أن تتولى أمري فإذا لم يسعدني الحظ مع وساطتها فقدت كل رجاء.
ياجو :
إنك لفي المنهاج السوي. طاب ليلك أيها الملازم. يجب أن أسهر في العسس.
كاسيو :
طاب ليلك أيها الصفي ياجو.
ياجو :
هل لجريء أن يزعم أنني أمكر مكرا سيئا حين أنصح نصيحة كهذه خالصة صريحة سهلة التحقيق لا وسيلة لكسر شرة المغربي واستعطافه؟ أو هل أكون غدارا حيث أشير على كاسيو بالخطة التي توصله توا إلى فائدته؟ إيه يا آلهة سقر متى أراد الزبانية الإيعاز بأشنع الخطايا صوروها في المبدأ بأبدع الصور السماوية كما أفعل الآن، لأنه بينما ذلك الأبله السليم الطوية يسعى لدى ديدمونه لاستعادة مكانته، وبينما هي تشفع له عند المغربي بقوة، أدس أنا في أذن عطيل سم الريب في حقها بما أدخله على قلبه من أن رقتها لكاسيو ليست عن مبرة ولكن عن شغف أثيم. بقدر ما تزداد إلحاحا في التماس الرأفة له يزداد تأييدها لسوء الظن بها عند المغربي، وهكذا آخذها في فخ فضيلتها وأستخرج من مروءتها الفخ الذي أوقعهم فيه جميعا. (يخرج)
الفصل الثالث
المشهد الأول
تجاه القصر (يدخل كاسيو وفصيلة موسيقارين)
كاسيو :
يا أساتذتي اضربوا هان، وسأكافئكم على ما تجيدون. اضربوا لحنا مختصرا لتهنئة القائد بيومه السعيد. (تعزف الموسيقى) (يدخل المضحك)
المضحك :
مهلا يا أساتذتي. أذهبت معازفكم إلى نابلي فعادت منها بهذه الأغنية الأنفية؟
موسيقي أول :
ما قصدك يا سيدي؟ ما القصد؟
المضحك :
هل هذه الآلات آلات هواية؟
موسيقي أول :
طبعا يا سيدي.
المضحك :
هذه نقود أرسلها القائد ويرغب إليكم وديا أن تكفوا هذه الغوغاء.
موسيقي أول :
سنمتنع يا سيدي.
المضحك :
إن كنتم تعرفون أنغاما لا تسمع فاضربوها. أما الموسيقى التي تسمع فالقائد غير مولع بها.
موسيقي أول :
ليست عندنا الموسيقى التي تشتهيها.
المضحك :
إذن ضعوا زماميركم في أكياسكم وانطلقوا لأنني ذاهب. تلاشوا في الهواء. تواروا. (يخرج الموسيقيون)
كاسيو :
أرجو أن تحتبس مهاتراتك عني. هذه قطعة ذهب ولي إليك رغبة: متى استيقظت السيدة التي تخدم امرأة القائد فقل لها إن رجلا يدعى كاسيو يود أن تمنحه مقابلتها هنيهة ... أتفعل؟
المضحك :
لم يمض إلا دقيقة منذ هبطت عن سريرها، وسألقي إليها كلمة لتهبط إلى هذا المكان إن أرادت.
كاسيو :
إفعل ذلك يا صاحبي العزيز. (يخرج المضحك) (يدخل ياجو)
كاسيو :
ياجو، جئت في ميقات الحاجة إليك.
ياجو :
يلوح لي أنك لم تنم.
كاسيو :
طلع النهار قبل أن نفترق وقد اجترأت أن أرسل في طلب امرأتك رجاء أن تلتمس لي موعدا من الفاضلة ديدمونه.
ياجو :
سأبعثها إليك حالا، وأحاول إبقاء المغربي بحيث تملكان الوقت الكافي للتكلم فيما لك من الشأن.
كاسيو :
شكرا لك جزيلا (يخرج ياجو)
لم أعرف قط فيورنتيا أمضى في الخير وأشد وفاء. (تدخل إميليا)
إميليا :
صبحك الله بخير أيها الملازم الكريم. أنا حزينة لما أحزنك، ولكن الأمر سيصلح كما أرجو، والقائد وامرأته يتباحثان في هذه المسألة. هي تدافع عنك بقوة، وهو يجيب أن الرجل الذي جرحته عالي السمعة في قبرس وله قربى موشوجة الأعراق بين كبراء الجزيرة فكان لا مندوحة له من عزلك أو يخطئ الرأي، وإنه ما زال يحبك ولا يحتاج من الوصاة بك إلا ما يوحيه وده، فهو سيغتنم أول فرصة تسنح لردك إلى مكانك.
كاسيو :
مع هذا أرجو منك إذا كان في الإمكان أن تهيئي لي اجتماعا بديدمونه أكلمها فيه على حدة.
إميليا :
تفضل واتبعني أجعلك في موضع تخاطبها فيه براحة وصراحة.
كاسيو :
هذه منة عظيمة.
المشهد الثاني
مسكن في القصر (يدخل عطيل وياجو ووجهاء)
عطيل :
إدفع هذه الرسائل إلى الملاح ياجو وليحمل إلى مجلس الأعيان سلامي. بعد هذا أنا ذاهب للتنزه ومشاهدة أعمال التحصين، فمتى عدت فالقني هناك.
ياجو :
سأفعل يا سيدي الكريم.
عطيل :
والآن أيها السادة أنمضي لنرى المعاقل ؟
الوجهاء :
سمعا وطاعة. (يخرجون)
المشهد الثالث
في القصر (تدخل ديدمونه وكاسيو وإميليا)
ديدمونه :
ثق يا عزيزي كاسيو أنني سأبذل جهدي لخدمتك.
إميليا :
افعلي مشكورة يا سيدتي فإن زوجي شديد التألم لهذا المصاب كأنه مصابه.
ديدمونه :
نعم الفتى الوفي! لا ترتب يا كاسيو أنني سأعيد الصداقة بينك وبين قريني كما كانت قبلا.
كاسيو :
يا سيدتي الكريمة مهما ينته إليه أمر ميشيل كاسيو فإنه إلى آخر الدهر خادمك الأمين.
ديدمونه :
أعتقد هذا وأحمدك عليه. أنت تحب مولاي وتعرفه من عهد طويل، فلا تحسب أنه يدعك مقصيا عنه إلا مهلة ما تقتضيه السياسة.
كاسيو :
أجل يا سيدتي ولكن هذه السياسة قد يطول أجلها، وقد يتخللها من المعاذير التافهة الأسباب والارتباكات التي يجيء بها تحول الأحوال مدة انصرافي عن منصبي وحلول غيري محلي، ما ينسي قائدي خلوص حبي له وسوابق خدمي.
ديدمونه :
لا تداخلك هذه الخشية. أضمن لك منصبك بشهادة إميليا وأيقن أنني متى وعدت وعدا وديا وفيت به إلى آخر حرف منه. سأظل ملحة على مولاي مكررة لديه التماسي حتى أرده عن جماحه، بل سأجعل فراشه شبه مدرسة، ومائدته شبه خلوة للاعتراف، وأدخل في كل مشاغله طلب كاسيو، ذلك لأن محاميك يؤثر الموت على ترك قضيتك.
إميليا :
سيدتي هذا سيدي قادما.
كاسيو :
سيدتي إذنك بالانصراف.
ديدمونه :
امكث واسمع ما أقوله له.
كاسيو :
الآن لا، يا سيدتي، لأنني في أشد الانزعاج وغير كفء لخدمة مصلحتي.
ديدمونه :
إفعل ما تستصوب. (يدخل عطيل وياجو)
ياجو :
أف ما أحب هذا.
عطيل :
ماذا تقول؟
ياجو :
لا شيء يا سيدي. أو. لا شيء.
عطيل :
ألم يكن كاسيو هذا الذي فارق امرأتي الساعة؟
ياجو :
كاسيو يا سيدي؟ يقينا لا، ما أظن ... لو كان هو ما فر فرار المجرم حين رآك مقبلا.
عطيل :
أظنه إياه.
ديدمونه :
كنت يا سيدي أخاطب ذا حاجة. رجلا حزينا في الغاية لانصرافك عنه.
عطيل :
من تعنين؟
ديدمونه :
ملازمك كاسيو، أي سيدي لئن كانت لي حظوة في عينيك وقدرة على استعطافك إن رجائي أن تتفضل عليه وتصفح عنه لأنه رجل صادق الحب لك. وإنما أخطأ عن جهل لا عن عمد، وإلا خابت فراستي في وجوه الأوفياء. أبتهل أن تعيده إلى منصبه.
عطيل :
أهو الذي كان منصرفا من هنا؟
ديدمونه :
نعم هو. وكان كئيبا كآبة تركت في نفسي أثرا من حزنه وشطرا من ألمه. يا حبيبي ناشدتك غرامنا إلا ما أرجعته.
عطيل :
الآن لا، يا ديدمونتي الرقيقة، ولكن في وقت آخر.
ديدمونه :
أيكون هذا الوقت الآخر قريبا؟
عطيل :
أقرب ما يكون إكراما لك يا عزيزتي.
ديدمونه :
أعلى العشاء الليلة؟
عطيل :
الليلة؟ لا.
ديدمونه :
أغدا الظهر؟
عطيل :
لن أتغدى في البيت غدا لأنني سألحق بالضباط إلى القلعة.
ديدمونه :
إذن غدا مساء أو الثلاثاء ظهرا أو الأربعاء صباحا ... أتوسل إليك أن تعين الميقات ولا يزد على ثلاثة أيام. إنه وذمتي لنادم على خطيئته وهي في رأي الأكثرين ليست من الخطايا التي تستلزم أدنى ملام إلا إذا صدقت قاعدة القائلين بأنه يجب في الحرب تأديب الأمثلين ليعتبر سواهم بهم. متى يعود؟ قل لي يا عطيل، إنني لأسائل ضميري عن شيء تطلبه مني ولا أجيبك إليه أو أتردد في الإجابة. عجبا! أميشيل كاسيو الذي كان أمين سرنا في غرامنا وكان يدافع لدي عنك حين أذكرك بغير ما يعجبه، ينبغي لي أن أشفع له بكل هذا الإلحاف لتصفح عنه ... ما كان أسرعني لإجابتك إلى أقصى الرغائب لو بدت لي منك إشارة.
عطيل :
كفى وحياتك ... ليعد حين يشاء ... لا أمنع لك سؤلا.
ديدمونه :
على أن عوده لا يعد إحسانا مذكورا. سألتك إياه كما أسألك أن تلبس قفازيك أو تتغدى بطعام أو تستدفئ من برد أو تفعل أي فعل يفيد صحتك، لكن علمت الآن أنني إذا جدت لي عندك أمنية كانت تلك الأمنية عظيمة الشأن صعبة التحقيق.
عطيل :
لن أرد لك أمنية فكوني متفضلة وامنحيني هنيهة أخلو فيها بنفسي.
ديدمونه :
أكنت رادة لك أمرا. لا. إلى الملتقى يا مولاي.
عطيل :
سأوافيك من غير إبطاء.
ديدمونه :
تعالي يا إميليا. إفعل ما يوحيه إليك الضمير. مهما تشأ فإنني خاضعة.
عطيل :
يا لها من شاطرة آخذة بالألباب. أحبك ولو سامني حبك عذاب الآخرة. فإذا انصرفت عن هواك يوما. فهنالك تعاودني الفوضى والظلمات.
ياجو :
أي مولاي الشريف.
عطيل :
ماذا تقول يا ياجو؟
ياجو :
أكان ميشيل كاسيو يعرف غرامكما؟
عطيل :
عرفه من مبدئه إلى نهايته. لم هذا السؤال؟
ياجو :
إرضاء لفكري لا لشيء آخر ذي بال.
عطيل :
وما فكرك؟
ياجو :
كنت لا أتخيل أنه يعرف ما دار بينكما.
عطيل :
بلى وكان يتوسط بيننا أحيانا.
ياجو :
أحقا؟
عطيل :
أحقا؟ نعم حقا. ما ترى تحت هذا؟ أليس وفيا؟
ياجو :
وفي يا مولاي.
عطيل :
وفي. بل وفي.
ياجو :
وفي يا سيدي إلى غاية ما أعلمه.
عطيل :
صرح عما في ضميرك.
ياجو :
عما في ضميري يا مولاي، بالله إنه ليجيبني كرجع الصدى كأن في طويته شيئا أبشع من أن يكشف عنه النقاب.
عطيل :
تضمر أمرا ولا تبديه. ولقد سمعتك تقول: «أف ما أحب هذا» عندما كان كاسيو يفارق امرأتي. ثم لما أخبرتك أنه كان مطلعا على أسرار غرامنا سبق لسانك فكرك وقلت: «أحقا»، ثم انقبضت أهداب عينيك وتضامنت كحوافي الكيس كأنك أردت أن تخبؤ في دماغك سرا رهيبا. إن كنت لي محبا فكاشفني بما تضمر.
ياجو :
مولاي تعلم أنني لك محب.
عطيل :
أعتقد ودك وبقدر ما أعرف من أنك مفعم ولاء ونزاهة وأنك تزن كلماتك قبل النطق بها فتوقفاتك في الحديث أشد موقعا مني لأن أمثال هذه المحاذرات إنما تكون مراوغات مألوفة عند اللئيم الخبيث الكذوب كما أنها تكون عند الرجل الصالح مكاشفات مبرقعة تخرج من صدر لم يملك تأثيره.
ياجو :
أجرؤ على الإقسام بأن ميشيل كاسيو وفي كما أعتقد.
عطيل :
وكذلك أعتقده.
ياجو :
كان يجب أن يكون الناس كما تنبئ عنهم ظواهرهم. بل ليت الذي خلقهم لم يجعل للمنافقين أشباها.
عطيل :
يقين أن الرجال يجب أن يكونوا كما تنبئ عنهم ظواهرهم.
ياجو :
ولهذا أظن أن كاسيو صادق الولاء.
عطيل :
لا. عندك ههنا أكثر مما تبوح به. فرجائي أن تظهر لي خواطرك كما تجيلها في خفائك وأن تلبس القبيحة منها أقبح الألفاظ.
ياجو :
عفوك يا سيدي الكريم أنا مكلف كل عمل قويم تقتضيه الطاعة ولكنني غير مكلف ما أعفي منه الأرقاء. أإظهارا لضمائري وقد يكون منها ما هو دنيء ومنها ما هو زور؟ أي قصد لا تدخله بعض المكاره في بعض الآونة؟ وهل في الناس من طهر قلبه حتى لا تداخله الريب المستهجنة وتعقد فيه أحيانا محاكمها القانونية بجانب الأفكار النقية؟
عطيل :
ياجو إذا ظننت أن صديقك مهان ولم تطلعه على ما في طويتك فأنت من المتآمرين عليه.
ياجو :
قد يكون ظني إثما وأقر بين يديك أن من طبيعتي الرديئة إساءة الظن واختلاق خطايا قد لا تكون ... فأتضرع إليك أن تصون حكمتك عن الأخذ بمزاعم رجل كثير الخطل في تصوره وأن لا تبني صرحا من الأوهام المزعجة على أساس غير متين من ملاحظاته الناقصة فلا فائدة لك من جهة اطمئنانك وصفائك ولا لي من حيث شرفي الرجلي ونزاهتي وعقلي أن تطلع على خفايا فكري.
عطيل :
ما مرادك من هذا؟
ياجو :
حسن السمعة للرجل والمرأة يا سيدي العزيز أثمن جوهرة من حلى النفس. من يسرق كيس نقودي يسرق شيئا زريا كان لي وأصبح له وكان قبلنا لألوف آخرين، أما الذي يسرق حسن سمعتي فمختلس شيئا لا يغنيه ويجعلني فقيرا جهد الفقر.
عطيل :
وايم السماء لأعرفن أفكارك.
ياجو :
لن تعرفها ولو كان قلبي في يدك فهل تصل إليها وذلك القلب في حراستي؟
عطيل :
آها.
ياجو :
أي مولاي احذر الغيرة. تلك الخليقة الشوهاء ذات العيون الخضراء التي تسخر مما تتغدى به من لحوم الناس. الرجل الذي يثلم عرضه فيعرف مصابه ويكره جالبه عليه سعيد، سعيد بجانب ذلك الذي يقضي الدقائق الجهنمية شغفا، إلا أنه مستريب. عاشقا أشد العشق، ولكن تساوره الشكوك.
عطيل :
يا للشقاء!
ياجو :
الفقر مع القناعة غنى بلا جاه عريض. أما النعم التي لا تحصى فتكون فقرا عقيما عقم الشتاء البارد للذي يخشى أبدا أن يصبح معسرا. اللهم يا ذا المراحم أعف من الغيرة نفوس أمثالي.
عطيل :
لم لم كل هذا؟ أتظن أنني سأعيش هذه العيشة مغيرا ظنوني كلما تغير هلال. كلا. متى نفذ الريب ثبتت النفس على حالة معه تبدل مني بتيس فظيع يوم أدع نفسي بين أيدي الشبه التي تحدثها كل دسيسة. أنا لا تستفز غيرتي بأن يقال لي إن امرأتي جميلة وإنها لطيفة المحاضرة وإنها تحب المعاشرة وإنها طليقة النفس في أحاديثها وتغني وتلعب وتحسن الرقص. كل هذه الأفعال تكون فاضلة متى كانت المرأة فاضلة. ثم إنني من جهة أخرى لا أخشى أدنى خشية منها ولا يخالجني أيسر ظن سيء بها من جهة أنين فاقد المحاسن لأنها إنما اختارتني ولها عينان مبصرتان نظرتني بهما. لا لا. وما أنا بمرتاب حتى أرى فإذا ارتبت فحتم أن أتثبت مما يداخلني من الظنون وإذا وضح لي البرهان بعد ذلك فيومئذ فراقا خالدا إما للحب وإما للغيرة.
ياجو :
يسرني عزمك هذا بأنه يمكنني الان من توكيد حبي لك وتجلتي. وعليه يقتضي الواجب أن أقدم إليك نصيحة - وبعدها يجيء وقت البرهان - راقب جيدا ما يكون من امرأتك ومن كاسيو. إستعمل عينيك من غير إساءة ظن، إذ لا أحب أن تنخدع فطرتك الشريفة الحرة بسماحتها. أنا عليم بطبائع بلادي، والنساء في البندقية يظهرن من أحوالهن على مشهد من الملأ ما لا يجرؤن أن يظهرنه لبعولتهن، فالذمة عندهن لا أن يمتنعن عما يشتهين ولكن أن يخفينه.
عطيل :
أجد ما تقول؟
ياجو :
غشت أباها بتزوجها منك ولم تكن أشد هياما بك منها حين كانت ترتجف مهابة من نظراتك.
عطيل :
هو حقيقة ما بدا لي منها.
ياجو :
فعليك والحالة هذه أن تستتبع القياس العقلي: إن التي استطاعت وهي في أنضر الصبا أن تخفي ما بها عن أبيها إخفاء تركت معه عينيه أشد إقفالا من لباب السنديانة ... التي غافلته حتى اتهم بها السحر. صفحا يا سيدي. إني لملوم وإياك أستغفر عن فرط هذا الخلوص في ولائي لك.
عطيل :
لن أنسى لك هذه المنة مدى الدهر.
ياجو :
ألمح أن كلماتي قد شغلت من بالك.
عطيل :
البتة ...
ياجو :
بل أجد أنها نالت منك وأحزنتك بغير ما قصدته منها وإنما أنطقني بها الولاء، لكن أراك واجما فيتعين علي أن ألتمس منك أمرا وهو أن لا تعطي تلك الكلمات معنى أبعد ونتيجة أوسع مما يعطاه مجرد الريب.
عطيل :
سأفعل.
ياجو :
إذا تماديت في التأويل يا سيدي أصابت أقوالي من المرمى ما لا أحبه. إن كاسيو لصديقي. أي مولاي أراك مضطربا.
عطيل :
بعض الشيء. أعتقد أن ديدمونه عفيفة على كل حال.
ياجو :
أطال الله بقاءها وهي كما تعتقد وأطال بقاءك على هذا الظن الحسن بها.
عطيل :
غير أن الطبيعة قد تضل السبيل.
ياجو :
وهذا هو محور المسألة وبناء عليه أزداد جرأة معك فأقول إن في امرأة تأبى من يعرض عليها من الخطاب المتعددين الذين هم من بلادها ولونها ومقامها مع أن الطبع يدفعها إلى إيثار أمثالهم لدليلا على نفس فاسدة وميول غير متناسبة وأفكار مخالفة للفطرة. لكن سامحني فما أذكره هذا لأخصها به غير أنني أخشى أن تراجعها نفسها مراجعة يتلخص فيها رأيها من أسباب الهيام فتقابل بينها وبين أبناء موطنها فتندم.
عطيل :
انصرف بسلام وإذا رأيت شيئا بعد فزدني علما ولترقب امرأتك ما يكون. إليك عني الآن.
ياجو :
مولاي أستأذن. (يتظاهر بالانصراف)
عطيل :
ما الذي حملني على الزواج؟ هذا الإنسان الوفي يرى ويعلم بلا مراء أكثر مما يبدي.
ياجو (متراجعا) :
مولاي أود لو أن ذاتك المبجلة لا تتعمق في تنقيب هذه المسألة بل تدع ذلك للوقت، إذ أن الوقت يظهر المخبآت بأدق مهارة. ومع ذلك إذا بدا لك أن تبقي الرجل مقصيا إلى حين، تسنى أن تستبطن سرائره وتعرف وسائله. ثم انظر ما إذا كانت امرأتك تلح لإرجاعه بشدة وحماسة. ففي هذه الأحوال ما فيها من الأدلة. ومهما يكن مما أسلفته فاجعل أساس الرأي أنني أفرطت في الحرص عليك إفراطا هو من معايبي، هذا مع التضرع إلى ذاتك المبجلة بأن تعتدها بريئة.
عطيل :
ثق أنني سأمتلك نفسي.
ياجو :
أستأذن مرة ثانية. (ينصرف)
عطيل :
هذا الفتى وفي في النهاية ويستكشف بكفر نير جميع الطوايا البشرية. لو كانت تلك المرأة بازيا
1
عالقة به ألياف قلبي لأطلقته وتركته تحت العواصف يبحث عن صيد يتصيده. لعلها مالت إلى غيري لأنني أسود وليس في كلامي من الرقة والتزويق ما في كلام أولئك المتحذلقين المختلفين إلى القصور أو لأنني في أول مهبط السنين على كون هذا التقدم في السن لا يظهره شيء مني. لقد انفصلت عني وخدعتني ولم تبق لي تعزية إلا أن أبغضها - أواه من خيبة الزواج - أنتوهم أننا مالكون لهذه الخلائق الضعيفة حيث لا سلطان لنا إلا على شهواتها؟ لأوثر أن أكون صرصارا يعيش من أبخرة السجن على ترك جزء من الشيء الذي أحبه لمتاع الآخرين. ولكن من ههنا تنبعث اللعنة التي يعيش فيها الكبراء فهم أسوأ حظا من السوقة، كأن الإصابة بالعرض قد حتمت عليهم تحتيم الموت. ويلاه من ذلك الخطب الناطح بقرنيه الذي يقدر علينا منذ الميلاد. هذه ديدمونه آتية. لئن كانت غادرة لقد آمنت أن السماء تسخر من نفسها. لا. لا أعتقد فيها الغدر. (تعود ديدمونه وإميليا)
ديدمونه :
بحياتك ماذا يجري أيها العزيز؟ إن ضيوفك من أعيان الجزيرة لمنتظروك والغداء مهيأ.
عطيل :
علي الملام.
ديدمونه :
ما بالك تتكلم بهذا الصوت الضعيف. أتشعر بألم؟
عطيل :
عندي ألم في الجبين هنا.
ديدمونه :
هذا من فرط السهر ولكن سيزول حالا. دعني أعصب رأسك بشدة وبعد ساعة تكون معافى.
عطيل :
إن منديلك لأصغر من أن يعصبني (ينزع المنديل عن رأسه فيسقط إلى الأرض ولا تتنبه له ديدمونه)
خل عنك هذا تقدمي وأنا متبع.
إميليا :
بي حزن من ألمك (يخرج عطيل وديدمونه)
إني فرحة بوجدان هذا المنديل هو أول تذكار أهداه المغربي إليها وزوجي الغريب الأطوار قد لاطفني كثيرا وسألني أن أسرقه له. غير أنها تحب هذه الهدية حبا جما. لأن عطيلا أوصاها ملحا بالاحتفاظ بها أبدا، ولهذا هي تحملها بلا انقطاع وتقبلها وتخاطبها. سأتصنع منديلا على هذا المثال فأعطيه ياجو ليعمل به ما يشاء مما يعلمه الله ولست أعلمه وغاية مرامي إنما هي إجابة سؤله. (يعود ياجو)
ياجو :
لماذا وقوفك هنا منفردة.
إميليا :
لا تعنفني. عندي لك شيء ما.
ياجو :
شيء لي. إنه لشيء نافع.
إميليا :
أواه.
ياجو :
شائع أن تكون للرجل امرأة حمقاء.
إميليا :
أهذا كل ما عندك؟ ماذا تعطيني بدلا من هذا المنديل؟
ياجو :
أي منديل؟
إميليا :
أي منديل! ذلك الذي كان أول هدية من المغربي لديدمونه والذي طالما سألتني أن أختلسه.
ياجو :
أسرقته؟
إميليا :
لا وإنما سقط منها سهوا بحضوري فالتقطته وها هو ذا. انظر.
ياجو :
نعم البنية أنت! أعطني إياه.
إميليا :
ما تنوي فعله به وقد ألححت علي ذلك الإلحاح باختلاسه؟
ياجو (مختطفا منها المنديل) :
أيعنيك هذا؟
إميليا :
إذا لم يكن منه مقصد ذو بال فأعده إلي فإن تلك السيدة المسكينة سيصيبها مس إذا فقدته فلم تجده.
ياجو :
إحذري أن يظن بك وأنا في حاجة إليه. اذهبي ودعيني (تخرج إميليا)
سأطرح هذا المنديل في مسكن كاسيو بحيث يجده. أمثال هذا الشيء التافه أفعل في الغيور من تحقيقات الكتب المقدسة وربما جر هذا المنديل أمرا. المغربي آخذ بالتغير من تأثير سمي، على أن العقاقير الخطرة هي بطبيعتها سمام أول طعمها غير كريه، ولكن متى ابتدأ فعلها في الدم أحرقت إحراق مناجم الكبريت ... ها هو ذا قادم، لا الخشخاش ولا غيره من المرقدات القوية يعيد إليك بعد الآن المنام الهادئ الذي كنت تنامه أمس. (يعود أمس)
عطيل :
أها أها، أجدها تواريني.
ياجو :
حسبك يا سيدي لا تفكر في هذا بعد.
عطيل :
هراء. إليك عني. لقد مددتني على خشب التعذيب. أقسمت إنه خير للإنسان أن يخدع كثيرا من أن يعلم بخديعته قليلا.
ياجو :
ما بك يا مولاي؟
عطيل :
أي إحساس كان يخامرني في تلك الساعات الغرامية التي خالست بها النعيم. لم أكن لأظن هذه الظنة ولا لأخطرها على بالي وكنت لا أتألم. في الليلة المنصرمة نمت مستقرا وبي فرح وسكينة وفكر، ولم أستكشف على شفتيها قبل كاسيو. لا ينبغي إبلاغ الذي سرق له شيء أنه سرق فإذا لم يفتقده فكأنه لم يختلس منه شيء البتة.
ياجو :
يحزنني ما أسمعه.
عطيل :
لكان يسرني أن يتمتع الجنود كلهم ومعهم أعوانهم الصبيان بجسمها الرقيق على أن لا أعلم. أما الآن ففراقا أبديا لراحة النفس. فراقا للسرور. فراقا للكتائب التي تزدهي خوذها بالريش الناصع. وللحروب الكبيرة التي تجعل الطمع فضيلة. أواه. فراقا للخيل الصاهلة وللبوق العزاف وللطبل الذي يشب حرارة النفس وللمزمار الذي يصفر في الأذن وللرايات الملكية ولسائر الأشياء التي تنجم عنها الكبرياء والعظمة والمفاخر الحربية.
وأنت أيتها الآلات المهلكة التي تحاكي بالإعارات الخارجة من أفواهها الهدارة صيحات النشور. وداعا وداعا، إن حياة عطيل قد انتهت.
ياجو :
أهذا ممكن يا مولاي؟
عطيل :
أيها النمام الواشي جئتني بما يثبت أن حبيبتي مومس. لا تبطئ. أرني بعيني وإلا (يقبض على عنقه)
حلفت بقيمة النفس الخالدة ليكونن خيرا لك أن تكون مخلوقا كلبا من أن تلقى هبة رجزي.
2
ياجو :
أوصلت الأمور إلى هذا الحد؟
عطيل :
أرني بعيني أو أيد لي برهانك بحيث لا يفوتك ذكر جزئية أو حالة مما يعلق به الريب وإلا فتبا لحياتك.
ياجو :
أي مولاي الشريف.
عطيل :
إن كنت قد فعلت لتسيء ظني بها وتعذبني فلا تصل بعد الآن بتاتا. اخرج عن انسانيتك بالمرة. راكم فظائع فوق فظائع. إرتكب جرائم تبكي منها السماء وتقضي لها الأرض عجبا لأنك لا تستزيد في يوم الله شيئا على ما ستناله من العقاب الذي يفوق كل هذا.
ياجو :
يا لرحمة الله. يا للسماء سامحيني. هل أنت رجل؟ هل لك نفس أو إحساس؟ أعانك الله. أقلني من خدمتي. ويحي من حقير أبله جعل وفاءه ذنبا له. ويل لهذه الدنيا الخؤون. اعلمي اعلمي يا دنيا ما أخيب الأمانة، وما أغدر الاستقامة. حمدا لك على هذه العظة وأبى الله بعدها أن أحب حبيبا ما دام الولاء جلابا لمثل هذه المهانات.
عطيل :
لا، أقم، كان يجب أن تكون وفيا.
ياجو :
كان يجب أن أكون حكيما لأن الأمانة حمقاء ومضيعة للمثوبات.
عطيل :
والعالمين إني لأعتقد طهارة امرأتي ثم لأعتقد أنها غير طاهرة . بل أظن أنك صادق ثم أظن أنك غير صادق، لا بد لي من برهان، إن اسمي كان أنصع من وجه ديانا فأصبح الآن أقتم أسود كوجهي. لئن كان في الدنيا حبال. خناجر. سموم. نار. أنهار تغرق فلست بمحتمل هذا. ما أظمأني إلى ترضية لنفسي.
ياجو :
أجد يا سيدي أن الغرام يغولك
3
وأندم على ما ألحقته بك من الأذى. أفتريد البرهان؟
عطيل :
أأريد؟ نعم أريد.
ياجو :
ذلك إليك. ولكن كيف تريد أن أجيئك بهذه الترضية يا سيدي؟ أتبتغي مني شاهدا يقف جامدا مفتوح الفم يتفرس فيها وهي مع الرجل؟
عطيل :
موت وهلاك. أواه.
ياجو :
يصعب علينا فيما أظن أن نحتال عليهما بحيث يؤخذان على هذا الشكل، بل من المستحيل أن يراهما على فراش واحد غير الشيطان. وعلى هذا ... فما تكون الترضية حيث لا يحتمل، يظهرا لأحد بهذا المظهر ولو كانا أفسق من تيسين وأحمى من قردين وأشد قحة في البهيمية من ذئبين وأقل احتراسا وحذارا من غبيين مخمورين. أما إذا كان الاستنتاج من وقائع واضحة الدلالة موصلة إلى أبواب الحقيقة كافيا لما تشاء من الترضية فالترضية بين يديك.
عطيل :
أعطني برهانا حسيا أنها زانية.
ياجو :
قبحت من خدمة. ولكن بما أنني جريت هذا الشوط البعيد في المكاشفة مندفعا بدافع الجنون الذي ابتلتني به الصداقة والنزاهة فإنني لأزيدك بيانا: كنت بائتا منذ ليال مع كاسيو وبي ألم في الأسنان أرقني لشدته فلما انقضى الهزيع الأول تبينت أن كاسيو يرى حلما. ومن الناس أفراد خلقت نفوسهم على غير الكتمان فيذكرون شؤونهم في منامهم ... ومنهم صاحبي. سمعته يقول وهو مستغرق في رؤياه: «حبيبتي الجميلة ديدمونه لنكن حذرين ولنخف غرامنا». وحينئذ يا سيدي أمسك بيدي يشدها ويصيح: «يا لك من حسناء شهية» ثم طفق يلثمني بقوة كأنه كان يود أن يقتلع القبل النابتة على شفتيها من أصولها، ثم ألقى بساقه على فخذي وتنهد واعتنقني ثم صاح: «لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي».
عطيل :
فظيع فظيع.
ياجو :
لم يكن إلا حلما.
عطيل :
بلى ولكنه جاء دليلا على شيء تم سابقا، وإنه لدليل قاطع على كونه مناما.
ياجو :
وبه تتعزز البراهين السالفة التي تظهر واهية.
عطيل :
سأمزقها تمزيقا.
ياجو :
بلا ريب، ولكن كن متئدا إذ أننا لم نر بعد أمرا تم وقد تكون عفيفة. بقي أن تقول لي شيئا ذا بال. ألم تر قط في يد امرأتك منديلا عليه رسم الشليك؟
عطيل :
أعطيتها منديلا بهذا الرسم وهو أول ما أهديته إليها.
ياجو :
أول ما أهديته بهذا الرسم إليها أو آخره لا أعلم. غير أنني رأيت منديلا من هذا الشكل - وأعتقد أنه لها - بيد كاسيو وكان يمسح به لحيته في هذا الصباح.
عطيل :
إن كان هو منديلي ...
ياجو :
إن كان هو الذي تعنيه أو آخر ما تملكه ففيه ما ينطق بذنبها تعزيزا لما تقدم من البراهين.
عطيل :
ويلاه. علام لا يكون لذلك الشحاذ أربعون ألفا من الأعمار. إن عمرا واحدا دون الكفاية لانتقامي. الآن تبينت أنها في الحق زانية. انظر يا ياجو، هذه نفخة اصعد بها إلى السماء ذلك الغرام الناري، لقد ذهب. يا أيها الانتقام المدلهم ارتفع من أعماق جهنم، ويا أيها الحب تنازل لاستبداد الغضب عن تاجك وعرش قلبي، ويا أيها الصدر ارزح تحت حملك فإنما حملك من ألسنة الأفاعي.
ياجو :
لا بد لك من التمالك.
عطيل :
دما دما دما.
ياجو :
تحمل، تجلد، وربما تغير شعورك.
عطيل :
لن يتغير. أعرفت كيف تجري التيارات القارسة الجامحة من مبعثها في بحر البنط
4
إلى مستقرها في بحر الظلمات لا يردها الجزر بل تنطلق إلى غايتها في منهاج قويم، كذلك عزائمي النضاحة بالدماء قد اندفعت إلى الأمام بقوة ولن ترجع إلى الوراء، لن تعود إلى حمى ذلك الغرام الوديع، بل تستمر في سيرها حتى تغور جميعها في انتقام عظيم على قدر الاهانة. الآن وجب علي بحق تلك السماء المرمرية التي أراها هناك أن أثبت وعيدي بحيث أجعل تحقيقه خروجا من يمين مقدسة. (يجثو)
ياجو :
لا تنهض (يجثو أيضا)
اشهدي أيتها الأنوار التي تتأجج في عل سرمدا وأنت أيتها العناصر المحيطة بنا من كل جانب، اشهدي أن ياجو يستخدم لإنصاف عطيل مما لحق به من العار عقله وقلبه ويده، ليأمر عطيل ومهما يكن ما يكلفني إياه دمويا موبقا فإنني لفاعله بعقيدة أنه فعل وفاء ورحمة.
عطيل :
أتلقى هذا العهد الودي منك لا بكلمات شكر فارغة بل بقبول حسن من قلبي. وإني لمختبر قسمك حالا. أخبرني إلى ثلاثة أيام إن كان كاسيو قتل.
ياجو :
لقد هلك صاحبي وهو أمر مقضي بناء على إشارتك، ولكن لتعش هي.
عطيل :
لتفترسها النار، تلك البغي الخبيثة. لتفترسها النار. تعال معي إلى مكان تنفرد فيه لأبحث عن ميتة سريعة لتلك الجنية الجميلة. كن ملازمي منذ الساعة.
المشهد الرابع
تجاه القصر (تدخل ديدمونه وإميليا والمضحك)
ديدمونه :
أتعلم يا هزأة أين مسكن كاسيو؟
المضحك :
لا أجسر أن أقول له مسكنا.
ديدمونه :
لم أيها الصاحب؟
المضحك :
لأنه عسكري ومن قال لعسكري إن له مسكنا تعرض لخنجره.
ديدمونه :
غريب! وأين يقيم؟
المضحك :
لو أخبرتك أين يقيم لأخبرتك أين أكذب.
ديدمونه :
أيمكن تصيد معنى من هذه الكلمات؟
المضحك :
لا أعلم أين يقطن فإذا اخترعت له مسكنا عددت ذلك افتراء خارجا من حلقي.
ديدمونه :
أتستطيع السؤال عنه ومعرفته؟
المضحك :
سأذهب بشيرا ونذيرا في شأنه بمعنى أنني سألقي أسئلة على الناس ثم أجيبك بم يقولون.
ديدمونه :
إبحث عنه، مره أن يحضر، قل له إنني شفعت فيه لدى مولاي وأرجو أن تقضي حاجته.
المضحك :
فعل هذا مما قد يسعه عقل الإنسان ولهذا سأحاول. (يخرج)
ديدمونه :
أين تظنين أنني فقدت هذا المنديل يا إميليا؟
إميليا :
لا أدري يا سيدتي.
ديدمونه :
كان أهون علي أن أفقد كيس نقودي ملآن قطعا ذهبية من فقده، لأنه لم يكن سيدي الشريف عادل الضمير خليا من دناءات الغيرة لكان ذلك مما يثير عنده الظنون السيئة.
إميليا :
أليس غيورا؟
ديدمونه :
من؟ هو؟ أظن الشمس التي ولد تحتها أجفت عنده أمثال هذه الوبالات.
إميليا :
انظري. ها هو ذا مقبل.
ديدمونه :
سأعيد الكرة علي الآن ولست تاركته حتى يصفح عن كاسيو. (يدخل عطيل)
ديدمونه :
كيف حالك يا سيدي؟
عطيل :
على المرام يا سيدتي الكريمة. ما أصعب المراءاة. وكيف أنت يا ديدمونه؟
ديدمونه :
كما تحب يا سيدي.
عطيل :
هاتي يدك. هذه اليد نضيرة يا سيدتي.
ديدمونه :
لم تشعر بعد بالسنين ولا بالحزن.
عطيل :
تدل على قلب غني وسمح. يدك دافئة. دافئة ونضيرة. ما أحوجها إلى الحجب في دير الصيام والصلاة وضروب كثيرة من أعمال التوبة والتقى ذلك لأن هناك شيطانا فتيا سريع العرق قريب الثوران. إنها ليد طيبة وحرة.
ديدمونه :
يحق لك تقريظها لأنها هي التي أعطتك قلبي.
عطيل :
أكرم بها من يد. قبلا كانت القلوب تعطي الأيدي أما الاصطلاح الحادث الآن فأن تعطي الأيدي القلوب.
ديدمونه :
لا كلام عندي في هذا المعنى فلأسألك عما أنت فاعل بوعدك.
عطيل :
أي وعد يا دجاجتي؟
ديدمونه :
أرسلت أستدعي كاسيو للقائك.
عطيل :
بي زكام عنيف ثقيل يزعجني. أعيريني منديلك.
ديدمونه :
ها هو ذا يا سيدي.
عطيل :
أريد الذي أهديته إليك.
ديدمونه :
ليس معي.
عطيل :
لا ...
ديدمونه :
لا يا سيدي.
عطيل :
هذه غلطة. إن ذلك المنديل وهبته امرأة مصرية لأمي وكانت تلك المصرية ساحرة تكاد تعرف ضمائر الناس. قالت لأمي وهي تدفعه إليها: إنه يجعلها محبوبة، ويخضع لها غرام أبي ما دامت محتفظة به. فإذا فقدته أو أهدته فعين أبي تنصرف عنها انصراف بغضاء، ونفسه تتحول إلى البحث عن سواها. ولما حضرت أمي الوفاة أعطتنيه وأوصتني إن تزوجت أن أمنحه لحليلتي وهكذا فعلت. فأرعب إليك في استبقائه وصيانته وأن تحبيه محدقة العين الثمينة لأنه إذا فقد كان فقده خسارة لا تستعاض.
ديدمونه :
أيعقل هذا؟
عطيل :
بل هو الحقيقة لأن في نسيجه سحرا وما نسجته إلا عرافة شهدت دوران المس مئتي مرة. أما الديدان التي أخرجت حريره فقد كانت مرقية أيضا. وأما الحرير فقد صبغ بعصير الموميات مستقطرا من قلوب العذارى ومصونا بعناية العلماء.
ديدمونه :
أهذا صحيح؟
عطيل :
غاية في الصحة وعليه أوصيك بالحرص كل الحرص على ذلك المنديل.
ديدمونه :
إن كان ما ذكرت فليتني لم أره قط.
عطيل :
لماذا ؟
ديدمونه :
ما بالك تتكلم هكذا بعجلة ووجيف.
عطيل :
أفقد؟ أأضعته؟
ديدمونه :
رعانا الله.
عطيل :
ما ردك؟!
ديدمونه :
لم أضلله ولكن لو حدث ذلك ...
عطيل :
كيف تقولين؟!
ديدمونه :
أقول لم يضع.
عطيل :
جيئيني به الآن فأراه.
ديدمونه :
سأفعل يا سيدي ولكن بعد الآن. إنما هي حيلة ابتدعتها لعدم إجابة التماسي. أكرر توسلي إليك يا سيدي أن تغفر لكاسيو.
عطيل :
اذهبي وأحضري لي المنديل - تاه فكري.
ديدمونه :
دع عنك هذا إنك لن تجد رجلا أكفأ منه.
عطيل :
المنديل ...
ديدمونه :
رجل وقف سعده من أول عمره على صداقته لك وشاطرك الأخطار ...
عطيل :
المنديل ...
ديدمونه :
حقيقة إنك لتلام.
عطيل :
إلى الوراء. (يخرج)
إميليا :
أليس هذا الرجل غيورا؟
ديدمونه :
لم أر فيه قبل الآن شيئا من مثل هذا. لا بد أن يكون في ذلك المنديل سر عجيب وإنني لشقية بأنني فقدته.
إميليا :
جرت العادة أن يكون الرجال بعد سنة أو سنتين من الزواج كما هو الآن. إن هم جميعا إلا معد وإن نحن جميعا إلا غذاء يأكلوننا بنهم فإذا امتلأوا تقايؤونا. أنظري هذا كاسيو وزوجي ... (يدخل كاسيو وياجو)
ياجو :
لا وسيلة غيرها وهي وحدها التي يجب أن تنقذك. ما أسعد طالعك ها هي ذي. إذهب إليها وألحف.
ديدمونه :
واها يا صديقي كاسيو ما عندك من النبأ عن شأنك؟
كاسيو :
أنا لا أزال على التماسي الأول يا سيدتي، أبتهل إليك أن تشفعي بما فطرت عليه من الرحمة لأعيش وأعود إلى صداقة الرجل الذي أجله كل الإجلال. ثم بودي أن أعرف مصيري معه في أقرب وقت، فإذا كانت هفوتي من الهفوات التي لا تغتفرها لي خدمتي السابقة وندامتي الحاضرة وإخلاصي الذي أنويه للمستقبل فليكن آخر إحسان منك أن تشعريني بذلك فأقبل بما قسم لي على كره مني وأختط لنفسي خطة أخرى تاركا مآلي بين أيدي الأقدار ...
ديدمونه :
أواه أيها الرجل النبيل كل النبل إن توسلاتي لم تجد إلى الآن وقد تنكر علي مولاي منذ هنيهة حتى كان غير ما أعهده. ولو تغير وجهه كما تغير خلقه لما عرفته - ليت الأرواح العلوية مسعداتي بقدر ما شفعت لك عنده فلقد أصررت وكررت حتى انتهيت إلى شفا كدره. فلا بد لك من التجلد وسأفعل لأجلك أكثر مما أجسر على فعله لأجل نفسي فليكفك هذا.
ياجو :
أمولاي غضبان؟
ديدمونه :
قد خرج الآن من هنا وهو بلا ريب في اضطراب غريب.
ياجو :
لم أعهده يغضب. رأيته والمدفع يطير بكتائبه مبعثرة في الهواء يهجم هجمة الشيطان وينقذ أخاه بيده ... ثم هو الآن يغضب. لا بد من أمر ذي بال. سأذهب للقائه. إنه إذا حنق فلسبب خطير.
ديدمونه :
إفعل بتوسل مني (يخرج ياجو)
لا بد أن يكون هناك معضلة من معضلات الحكومة أو أمر وفد من البندقية أو مؤامرة علم بتدبيرها في قبرس قد غشت عليه صفاء فكره. وفي أمثال هذه الأحوال تضطر النفوس الكبيرة الغايات أن تشتغل بالهنات الصغائر. مثلنا بذلك كمثل الذي تؤلمه إصبعه فيجد شعور الألم في سائر جوارحه السليمة. على أن الرجال ليسوا بآلهة وما علينا أن نكلفهم على الدوام مجاملتنا كما يفعلون أيام العرس. عنفيني بشدة يا إميليا لأنني كنت شارعة في التظلم من قسوته لدى محكمة ضميري، أما الآن فأرى أنني رشوت الشاهد وأنني ألقيت التهمة بغير صواب.
إميليا :
لنضرع إلى الله أن يكون ما به أمرا من أمور الحكومة كما فكرت لا جنة من جنات الغيرة.
ديدمونه :
ويحي لم أفعل قط ما يستفز غيرته.
إميليا :
غير أن النفوس الغيورة لا تهتم بالبراءة ولا تجيئها في الغالب نوباتها عن سبب بل تغار لأنها تغار وما الغيرة إلا بهيمة شاذة تلقح من نفسها وتتولد من نفسها.
ديدمونه :
وقى الله قلب عطيل من تلك البهيمة.
إميليا :
آمين يا سيدتي.
ديدمونه :
سأذهب لأستقدمه. كاسيو تنزه قليلا بقرب هذا المكان فإذا وجدته في ساعة رضى دافعت عنك وبذلك مجهودي في كسب دعواك.
كاسيو :
أشكر مرحمتك بكل خضوع. (تخرج ديدمونه وإميليا) (تدخل بينكا)
بينكا :
حياك الله ورعاك يا كاسيو.
كاسيو :
ما تصنعين خارج البيت؟ كيف حالك يا عزيزتي الجميلة جدا؟ تالله لقد كنت على عزم التوجه إليك ...
بينكا :
أنا كنت ذاهبة إلى منزلك. أيمضي أسبوع ولا تزور؟ سبعة أيام وسبع ليال، مائة وثمان وستون ساعة. على حين أن ساعات هجر العشيق أشد تبريحا من ساعات التوقيت بمائة وستين مرة. يالله ما أقبحها سأما وضجرا.
كاسيو :
سامحيني يا بينكا، نكبت بما أقصاني عنك في هذه الأيام كلها ... ولكنني سأعيض ما فات بما هو آت. أي عزيزتي الكريمة بينكا، انسخي لي مثالا من هذا المنديل.
بينكا :
من أين جاءك هذا يا كاسيو؟ لا بد أنه هدية من صديقة جديدة ... لقد فهمت سبب ذلك الجفاء. سنرى سنرى.
كاسيو :
تخلطين يا امرأة. ألق بظنونك البشعة في وجه الشيطان الذي أوحاها إليك. أتغيرين من تخمينك أن لي رفيقة جديدة. كذبك وهمك وعهد الوفاء.
بينكا :
إذن من أين جاء هذا؟
كاسيو :
لا أعلم، وجدته في غرفتي وأحببت صنعه كثيرا، لذلك سألتك صنع غيره على مثاله قبل أن يطلبه أربابه، أرجو منك وأتوسل إليك أن تنقلي لي هذا المثال. والآن دعيني.
بينكا :
لماذا أدعك؟
كاسيو :
أترقب القائد هنا وليس من مصلحتي ولا أمنيتي أن يراني مع امرأة.
بينكا :
ولم هذا التحاشي؟
كاسيو :
ليس من عدم الحب.
بينكا :
بل من كونك لا تحب «إياي». تكرم علي واصحبني قليلا وأجبني: أتزورني الليلة أم لا؟
كاسيو :
لا أستطيع مرافقتك إلا بعض الخطى إذ لا محيص لي من انتظار القائد هنا. لكن سأراك قريبا.
بينكا :
لا بأس، إني أدع التشديد الآن مراعاة للحالة. (يخرجان)
الفصل الرابع
المشهد الأول
قبرس - أمام القصر (يدخل عطيل وياجو)
ياجو :
أيداخلك مثل هذا الظن؟
عطيل :
مثل هذا الظن؟
ياجو :
لأجل قبلة اختلست على انفراد.
عطيل :
قبلة غير جائزة.
ياجو :
أو لأجل قضاء ساعة أو أكثر مع المحبوب في سرير واحد.
عطيل :
أيعريان ويدخلان السرير بدون قصد أثيم. ياجو هذه مداجاة
1
للشيطان. إن الذين يخلون هذه الخلوة لو طهرت نياتهم لامتحنهم إبليس وامتحنوا الله.
ياجو :
إذا لم يفعلوا شيئا فهي هفوة عرضية، أما إذا أعطيت امرأتي منديلا ...
عطيل :
فما يكون ؟
ياجو :
يكون عندئذ ملكا لها ولها فيما أعتقد أن تمنحه لمن تشاء.
عطيل :
هي أيضا أمينة على عرضها أتستطيع أن تهبه؟
ياجو :
عرضها لا يرى، وكثيرا ما يحدث أن الذين لا عرض لهم هم بالذات أصحاب العرض، أما المنديل ...
عطيل :
بالله العظيم لقد كنت أود لو أنساه ... أتمم جملتك ... لكن ذكره يعود إلى رأسي كما يعود إلى البيت المتداعي غراب البين ينعق بالويلات ... كنت تقول إن المنديل وجد معه؟!
ياجو :
فدليل أي شي هو؟
عطيل :
كيفما كانت دلالته فما هي بالشيء النظيف.
ياجو :
إذن ما كنت تصنع لو أبلغتك أنني رأيته يسلب عرضك أو أنني سمعته يقول كيت وكيت كما يفعل بعض الشذاذ الذين إذا قضوا لبانتهم من معشوقتهم سواء بإلحافاتهم المزعجة أم بتشخيصاتهم المؤثرة، لم يملكوا الكتمان.
عطيل :
وما الذي قاله؟
ياجو :
إنه ... فعل ما لست أتذكر ...
عطيل :
أي شي أي شيء؟؟
ياجو :
إنه بات ...
عطيل :
معها؟
ياجو :
معها ... بقربها ... كما تشاء!
عطيل :
معها ... بقربها. خطب رائع. المنديل ... الاقرارات ... المنديل ... ليعترف ثم ليشنق جزاء وفاقا بل ليشنق أولا ثم ليعترف ... أرتجف لمجرد تصوري تلك الخيانة. ولولا أنها وقعت وأسرتها إلي الطبيعة لما بلغ الاضطراب مني هذا المبلغ. ليس الذي يقلبني عاليا إلى سافل كلمات فقط ... لعنة الله عليهما ... أنفاهما. آذانهما. شفاههما ... أفي التصور ما كان ... ليعترف - المنديل - يا للشيطان. (يغمى عليه)
ياجو :
فعلك يا طبي فعلك. الحمقى المتصدقون يؤخذون هكذا. وهكذا تقع السعاية على كثيرات من الخواتين
2
العفيفات - صحوا سيدي ... سيدي ... صحوا عطيل. ( يدخل كاسيو)
ياجو :
كاسيو؟!
كاسيو :
ما أرى؟
ياجو :
أغمي على مولاي ... أمس مرة وهذه الثانية.
كاسيو :
أفرك صدغيه.
ياجو :
لا. قف. لا ينبغي تحريكه في الإغماء وإلا أزبد فمه وهب هبة جنون وحشي. أنظر. يضطرب. تغيب قليلا. سيرجع إلى حسه وعندما ينصرف أريد أن أفاوضك في أمر ذي بال (يخرج كاسيو)
كيف أنت الآن أيها القائد ألم تجرح في رأسك؟
عطيل :
تسخر مني؟!
ياجو :
أنا أسخر منك؟ لا والسماء ... عساك أن تتحمل قسمتك تحمل الرجال.
عطيل :
رجل ذو قرنين لا يكون إلا خلقا مخطأ أو حيوانا.
ياجو :
يوجد إذن في مدينة مأهولة كثير من الخلائق المخطأة. وكثير من البهائم في زي الحضارة.
عطيل :
هل أقر بما فعل؟
ياجو :
سيدي الكريم كن رجلا، تصور إن كل ذي لحية مشدودة إلى امرأة تستطيع أن يحمل حملك. من الناس في هذه الساعة ألوف ألوف يبيتون ليلهم في مضاجع قاسمتهم إياها الجماهير ويزعمون أنها لهم خاصة أما أنت فحظك ما زال أصلح من حظوظ هؤلاء ... لكن أجد من جهة أخرى أن من سخريات جهنم ومبالغات الرجيم في الرزايا عناقك لامرأة فاسقة في فراش شرعي وتحسبها طاهرة ... لا ... خير لك ثم خير لك أن تعرف كل شيء فإنني متى عرفت ما أنا عرفت أيضا مصيري.
عطيل :
أنت عاقل بلا مراء.
ياجو :
إلزم السكينة قليلا واكتف بالإصغاء متجلدا أسمعك برهانا جديدا ... جاء كاسيو إذ كان مغمى عليك من الألم، وهو ما لا يليق برجل مثلك، فأبعدته بعلتك وأصيته أن يعود لمخاطبتي بعد هنيهة. فالتمس لك هنا مكمنا تجثم فيه والمح إشارات الهزء والاحتقار التي تبدو على وجهه حين أكلمه عنها، وسأحتال عليه بحيث يقص علي قصته مع امرأتك ويقول أين، وكيف، ومتى، وكم مرة اجتمع بها أو ينوي أن يجتمع؟ تنبه. وحسبك أن ترقب حركاته. يالله. صبرا وإلا شهدت أنك الهزة مشخصة برأس وقدمين وأن لا شيء فيك من الرجل.
عطيل :
إسمع يا ياجو سترى أنني جليد كل الجلد ولكن اعلم أيضا أنني سفاح في الغاية.
ياجو :
مهما تقتل لا تدرك حق ثأرك، غير أنه يحسن عمل كل شيء في ميقاته. أتريد أن تتوارى؟ (يختبئ عطيل)
الآن سأسأل كاسيو عن بينكا العاهرة التي تبيع محاسنها وتشتري خبزا وملابس. هذه الفاجرة مجنونة بكاسيو لأنه من مصائب البغيات أن يخدعن ألوفا ويخدعن واحد. فمتى سمع ذكرها لم يملك أن يضحك حتى يشرق ... أراه قادما ومتى تبسم أصبح عطيل مجنونا وأولت غيرته الفاحشة كل رمز يرمزه من تبسم وإشارة أسوأ تأويل على المسكين كاسيو. (يدخل كاسيو)
ياجو :
كيف أنت الآن أيها الملازم؟!
كاسيو :
كما يكون القتيل، وإنني لقتيل بفقدي اللقب الذي تلقبني به.
ياجو :
أصرر على التماس الشفاعة من ديدمونه وثق بالنجاح (بصوت خافت)
أما لو كانت أمنيتك عالقة برداء بينكا لتحققت سريعا.
كاسيو :
مسكينة تلك الإنسانة.
عطيل (في مكمنه) :
انظر كيف طفق يضحك!
ياجو :
لم أر قط امرأة تحب رجلا هذا الحب.
كاسيو :
ويحها من خاطئة أظن على ذمتي أنها تحبني.
عطيل (في مكمنه) :
ها هو ذا ينكر الجريمة بتراخ لكن يضحك لذكرها كثيرا.
ياجو :
أسامع يا كاسيو؟
عطيل (في مكمنه) :
إنه الآن يحرجه ليحمله على الإخبار. أحسنت أحسنت.
ياجو :
تشيع أنك ستقترن بها. أهذه أمنيتك؟
كاسيو :
ها ها ها ...
عطيل (في مكمنه) :
أفائز أيها الروماني أفائز؟
كاسيو :
أنا أقترن بها. بمومس. هب عقلي شيئا من حسن ظنك ولا يكن رأيك هذا الرأي العفن. ها ها ها.
عطيل (في مكمنه) :
كذا كذا الظافرون يضحكون.
ياجو :
بذمتي إن إشاعة زواجكما متناقلة.
كاسيو :
بحياتك قل لي الحقيقة.
ياجو :
إن لم يكن قولي الحقيقة فلا كنت الا محض مجرم مزور.
عطيل (في مكمنه) :
طبعت السمة على جبهتي لا بأس.
كاسيو :
إن هي إلا إشاعة صادرة عن تلك الوقحة تظن أنني أتأهل بها عن زهو وخيلاء منها لا عن وعد مني.
عطيل (في مكمنه) :
ياجو يشير إلي ... سيبدأ القصة.
كاسيو :
كانت هنا من هنيهة ودأبها أن تدركني في كل مكان. ومن جنونها أنها لحقت بي إلى شاطئ البحر منذ أيام وكنت أحادث بعض البندقيين فجاءت وطوقت عنقي هكذا ...
عطيل (في مكمنه) :
وهي تصيح: «يا حبيبي كاسيو». أكاد أسمع ما يقوله لفصاحة إشارته.
كاسيو :
علقت بعنقي وأخذت تترجح وتبكي وتدفعني وتجذبني. ها ها ها.
عطيل (في مكمنه) :
يخبره كيف أدخلته غرفتها. آه إني أرى أنفك ... لا بل أرى الكلب الذي سألقيه إليه.
كاسيو :
لا بد لي من مقاطعتها.
ياجو :
ليس بحضوري. التفت تجدها مقبلة.
كاسيو :
هذه مفتونتي يسطع عطرها إلى هذا المكان. (تدخل بينكا)
كاسيو :
ما مرادك من مطاردتي هكذا؟
بينكا :
طاردك الشيطان وأنثاه ما كان مقصدك من هذا المنديل الذي دفعته إلي منذ قليل. غلبت علي الغفلة أنك تستنسخ رسمه. أمن المعقول أن تجد مثل هذا الشيء الثمين في غرفتك من غير أن يكون أحد قد تركه، هذا بلا شك هدية من عاهرة ما، وأنا أكلف تصوير مثله. أبى الله أن أفعل. خذه وأهده عشيقتك. أيا يكن مأتاه فلن أنقله.
كاسيو :
ماذا جرى يا صفيتي بينكا ماذا جرى؟
عطيل (في مكمنه) :
يالله لا بد أن يكون هذا منديلي.
بينكا :
إذا أردت أن تجيء لتناول العشاء الليلة فأهلا وإلا فتعال حين تشاء ... (تخرج بينكا)
ياجو :
اعد وراءها أدركها.
كاسيو :
لا بد لي من ذلك أو تملأ الطرق صياحا.
ياجو :
أتتعشى هناك؟
كاسيو :
هذا إزماعي.
ياجو :
لعلي ألحق بك إذ أنني في حاجة لمفاوضتك.
كاسيو :
تعال ولك الفضل. أتجيء؟
ياجو :
كفاية لا تزد. (يخرج كاسيو)
عطيل (في مكمنه) :
أية قتلة أقتله؟ أشر.
ياجو :
أرأيت كيف كان يضحك من جريمته؟
عطيل :
ياجو ياجو.
ياجو :
وهل رأيت المنديل؟
عطيل :
أكان منديلي؟
ياجو :
منديلك قسما بيدي، ومن الغريب أن تكون هذه عنده قيمة امرأتك المجنونة التي تعطيه منديلا ويعطيه بغيا.
عطيل :
أتمنى لو مكثت تسع سنين أقتله - امرأة جميلة، امرأة رشيقة، امرأة أنيسة.
ياجو :
لا بد لك من نسيان كل هذا.
عطيل :
نعم لا بد من نسيان كل هذا.
عطيل :
نعم ولتذهب إلى حيث تقضي ولتهلك جسما ونفسا في هذه الليلة ... لن تعيش ... لا ... إن قلبي قد تحول إلى حجر، أضربه ويجرح يدي. أواه ليس في العالم أعذب منها امرأة. كان يحق لها أن تقترن بملك كبير وتأمره بما تشاء.
ياجو :
ليس هذا ما ستفعله معها.
عطيل :
لتشنق ... ولن أذكر صفاتها. ما أبرعها في تقليب الإبرة، ما أمهرها في الموسيقى. إذا تغنت أزالت وحشية الضاري، غير أنها مع ذلك الذكاء وتلك الفطنة.
ياجو :
أجدر بالتثريب.
3
عطيل :
ألف مرة أجدر. ثم ما أشرف محتدها.
ياجو :
أشرف من أن يعبث به هكذا.
عطيل :
تجاوزت حده بلا مراء ولكن يا للغبن، ياجو يا للخسارة.
ياجو :
إذا كنت مغرما إلى هذا الحد بفجورها فأعطها إجازة لارتكاب الخطايا وهذه الإباحة لا تعني أحدا غيرك.
عطيل :
سأهشمها هشما. تلك التي عرضتني لهذه المهانة.
ياجو :
إن ذنبها لعظيم.
عطيل :
تخونني مع تابعي!
ياجو :
وهذا ذنب أعظم.
عطيل :
هيئ لي سما يا ياجو. الليلة. لا أريد أن يجري عتاب بيني وبينها مخافة أن يتغلب جسمها وجمالها على نفسي. الليلة يا صاحبي.
ياجو :
لا تقتلها بالسم، اخنقها في نفس السرير الذي دنسته.
عطيل :
هذا العقاب أعجبني وهو أفضل.
ياجو :
أما كاسيو فدعني أتول القضاء عليه وستعلم بقية أمري في منتصف الليل.
عطيل :
غاية في الإحسان (يسمع بوق)
ما هذا البوق؟
ياجو :
رسول من البندقية بلا شك ... هذا لودفيكو آتيا من قبل الدوج وهذه امرأتك تصحبه. (يدخل لودفيكو وديدمونه وأتباع لهما)
لودفيكو :
كلأك الله أيها القائد الشريف.
عطيل :
مطيعك من صميم الفؤاد يا سنيور.
لودفيكو :
الدوج وأعيان البندقية مرسلون إليك تحياتهم.
عطيل :
أقبل الهنة
4
الحاملة لمشيئتهم.
ديدمونه :
وما وراءك من الأخبار يا ابن عمي لودفيكو.
عطيل :
أنا مسرور برؤيتك يا سنيور مرحبا بك في قبرس.
لودفيكو :
شكرا لك، وكيف الملازم كاسيو؟
ياجو :
حي يا سنيور.
ديدمونه :
يا ابن عمي لقد قام بينه وبين مولاي خلاف أحزنني لكن أرجو أن تعيد المياه إلى مجاريها.
عطيل :
أواثقة أنت من ذلك؟
ديدمونه :
مولاي.
عطيل (قارئا) : «وإليك أن تفعل في هذا الأمر ما تراه».
لودفيكو :
لم يخاطبك بل كان مشتغلا بمطالعة هذا الكتاب. أوجد شقاق بين القائد وبين كاسيو؟
ديدمونه :
شقاق ساءني جدا وأرغب في إزالته كل الرغبة لما لي من العطف على كاسيو.
عطيل :
لهب وملح بارود.
ديدمونه :
مولاي.
عطيل :
أمعك مسكة من العقل.
ديدمونه :
أتراه غضبان.
لودفيكو :
لعل هذا الكتاب أثر فيه فإن به على ما أظن استدعاءه إلى البندقية وتقليد منصبه لكاسيو.
ديدمونه :
حبذا البشرى وما أفرحني بها.
عطيل :
الله الله.
ديدمونه :
مولاي.
عطيل :
أنا فرح بأن أراك مجنونة.
ديدمونه :
كيف يا مولاي الكريم .
عطيل :
أنت شيطانة. (يصفعها)
ديدمونه :
لم أستحق هذا.
لودفيكو :
لو أقسمت في البندقية أني رأيتك تضربها لما صدقوني. هذا فوق الطاقة. استغفرها إنها تبكي.
عطيل :
يا للشيطانة الشيطانة لو كانت الأرض تلقح بعبرات لكانت كل دمعة تسقط من عيون امرأة تلد تمساحا. إليك عني.
ديدمونه (تتجه للانصراف) :
أنصرف منعا لاستيائك.
لودفيكو :
هل في السيدات أطوع منها، أبتهل إليك يا مولاي أن تدعوها.
عطيل :
أيتها السيدة.
ديدمونه :
مولاي.
عطيل :
ما تريد منها يا سنيور؟
لودفيكو :
من؟ أنا يا سيدي؟
عطيل :
نعم أنت رغبت إلي في دعوتها ولها أن تجيء وتذهب وتدور وتتقدم وتتأخر كما تشاء ولها أن تبكي ما تبكي. وهي طيعة كما تقول يا سنيور، طيعة جدا ... واصلي البكاء ... أما محتوى هذا الكتاب فهو أنني أمرت بالعودة إلى البندقية. أواه مما ترهقني الآلام - اذهبي وسأبعث في طلبك بعد هنيهة. سنيور إني مطيع للأمر وسأرجع للبندقية ... تواري من هنا انصرفي (تخرج ديدمونه)
سيتولى كاسيو مكاني. سنيور أرجو أن تجيب دعوتي إلى العشاء الليلة. مرحبا بك في قبرس يا سنيور - تيوس وقردة.
لودفيكو :
أهذا هو ذلك المغربي الذي أجمع مجلس أعياننا على امتداحه في كل شيء؟ أهذا هو ذلك الطبع الذي لا يستفزه الغضب والذي تتعالى شجاعته عن أن تنالها ورية زند من زناد العرض أو تصيبها رمية من سهام الطوارئ؟
ياجو :
لقد تغير حتى تنكر.
لودفيكو :
أهو مالك عقله، أو ليس به مس وخبال.
ياجو :
هو ما ترى. لا ينبغي لي أن أنتقده. وليته كان كما يجب، بل كما يستطيع أن يكون.
لودفيكو :
يا للفظاعة يضرب امرأته.
ياجو :
بذمتي لم يكن عملا جميلا ولعله لا يتبعه بأقبح.
لودفيكو :
أهذه عادته أم أثر فيه هذا الكتاب تأثيرا حمله على ارتكاب هذه الهفوة.
ياجو :
ليس مما يقتضيه وفائي أن أخبرك بما رأيت وعرفت. ستعلم من أفعاله ما يغنيك عن كلامي، تتبعه وارقب ما سيكون من بقية أمره.
لودفيكو :
إني أسيف لما اعتقدته فيه من الخير.
المشهد الثاني
مسكن في القصر (يدخل عطيل وإميليا )
عطيل :
إذن لم تري شيئا؟
إميليا :
ولم أسمع ولم يخامرني ظن.
عطيل :
بلى رأيتهما معا هي وكاسيو.
إميليا :
لكنني لم ألمح ريبة خلال هذه المقابلات ولم يفتني هجاء مما كانا يقولانه.
عطيل :
غريب. ألم يتهامسا؟
إميليا :
قط يا سيدي.
عطيل :
أو لم تبعدك مرة عن مكان الاجتماع؟
إميليا :
قط.
عطيل :
لتجيئيها بمروحتها أو قفازيها أو حجاب وجهها أو أي شيء آخر.
إميليا :
قط يا سيدي.
عطيل :
غريب.
إميليا :
أقسم إنها طاهرة يا سيدي وأخاطر على حياتي، فإن كان قد خامرك شك فقد خدعت، وإن كان لئيم غادر قد دس في نفسك هذا الشك فليلعنه الله لعنة الثعبان. فوالله لئن لم تكن عفيفة نقية صادقة فليس في الدنيا رجل سعيد وليس في النساء مهما طهرت الواحدة منهم إلا كل ملوثة كالفضيحة بعينها.
عطيل :
أبلغيها أمري بالمجيء (تخرج إميليا)
تتكلم بجلاء ولكنها قوادة كسائر القوادات لا تستطيع أن تقول إلا ما قالته. أما تلك فبغي حذرة بل غرفة سوء مقفلة على أسرار نجسة، ومع هذا رأيتها تجثو وتصلي. رأيتها ... (تدخل ديدمونه وإميليا)
ديدمونه :
مولاي ما مشيئتك؟
عطيل :
تعالي إلى هنا يا دجاجتي.
ديدمونه :
ما الذي تريده؟
عطيل :
أريني عينيك. انظري إلي مواجهة.
ديدمونه :
ما هذه الأمنية المنكرة؟!
عطيل (إلى إميليا) :
أنت يا سمحة جودي علينا ببعض الخدم التي تحسنينها. دعي العاشقين مختليين وأقفلي الباب ثم اسعلي أو همهمي إذا جاء أحد. إلى مهنتك. امضي. أسرعي (تخرج إميليا) .
ديدمونه :
ألتمس منك جاثية أن تقول لي ما معنى هذا الخطاب. أحس فيه الغضب ولكن الألفاظ لا أدرك معناها.
عطيل :
أجيبيني من أنت؟
ديدمونه :
زوجك يا سيدي، حليلتك المخلصة.
عطيل :
أقسمي على هذا واقض على نفسك بعذاب الآخرة إن لم يكن حقا. إنك لتشبهين الملائكة شبها يخيف الشياطين من قبضك ... أقسمي مرتين على حياتك الآخرة بأنك طاهرة.
ديدمونه :
السماء تعلم عفتي بكل تحقيق.
عطيل :
السماء تعلم بكل تحقيق أنك خادعة كجهنم.
ديدمونه :
خدعت من يا سيدي؟ ولمن؟
عطيل :
آها ديدمونه اذهبي اذهبي اذهبي.
ديدمونه :
أواه من هذا اليوم المشؤوم! لماذا تبكي؟ أأنا مسببة هذا البكاء يا سيدي؟ إذا كنت تظن أن أبي كان الساعي في رجوعك فهل علي ملام؟ وإذا كنت قد فقدت صداقته فقد فقدتها أنا أيضا.
عطيل :
لو أنه طاب للسماء أن تمتحنني بأشد البلايا فأمطرت على رأسي حاسرا صنوف الآلام والمعرات وأغرقتني في الفقر إلى الشفتين وسامتني الأسر وخيبة البقية من آمالي، لوجدت في زاوية من نفسي أدنى موضع للصبر، ولكن يا للحيف، لا صبر لي على أن أكون تمثالا يرمقه الزمان ويشير إليه الاحتقار بإصبع يرفعها على مهل. على أنني ربما تماديت إلى تحمل هذا ولا بأس. إلا أن هناك مقدسا أودعت فيه قلبي وهو الذي يجب أن أعيش فيه أو لا معنى للعيش. ثم إن هناك ينبوعا يجري منه تيار بقائي وبدونه ينضب فأنا بين خطتين: إما أن أطرد من المقدس وإما أن أبقى الينبوع مباحا كالبئر ترده الصراصير القذرة وتتواقع بجانبه وتتناسل. إيها أيها الصبر. إيها أيها الملك الوردي الثغر، تحول تجاه هذا المشهد واتخذ وجها قاتما كوجه سقر.
ديدمونه :
أرجو أن يكون سيدي على يقين من عفتي.
عطيل :
نعم، نعم كيقيني من ذباب الصيف في المجازر لا تبيض حتى تتجامع. أيتها الزهرة المتناهية رقة وجمالا النافحة من الطيب ما يسكر الجوارح لماذا ولدت في الدنيا؟
ديدمونه :
يا ويحي! أية خطيئة من خطايا السهو اقترفت؟
عطيل :
هذه البشرة الناعمة. هذا الكتاب الشائق المكسو أكان معدا لتخط على ظاهره كلمة «مومس»؟ أية خطيئة ارتكبتها؟! يا بغي السوق لو ذكرت لك ما فعلته لاحمرت وجنتاي كالتنور ولسحقتا كل خجل سحق الرماد. أية خطيئة ارتكبتها؟ السماء تسد أنفها من رائحتها والقمر يغمض عينيه من قبحها والنسيم الفاسق الذي يقبل كل ما يمر به يختبئ منها في جوف الأرض ويأبى سماعها. أية خطيئة ارتكبتها أيتها الفاجرة الوقحة؟!
ديدمونه :
وأيم السماء إنك لتفتري علي الإهانة.
عطيل :
ألست عاهرة؟
ديدمونه :
لا والذي خلقني متقية، وإذا لم يكن إثما علي حفظي هذا الإناء الجثماني نقيا من كل شائبة وملمس سيء فلست ما تصف.
عطيل :
وكيف لست بغيا؟
ديدمونه :
إني لمؤمنة ببراءتي كإيماني بنجاتي من عذاب الآخرة.
عطيل :
أفي الاحتمال هذا؟
ديدمونه :
غفرانك اللهم لنا غفرانك.
عطيل :
إذن أسألك العفو فقد كنت ظننتك تلك الخبيثة العاهرة من عواهر البندقية التي اقترنت بعطيل. أنت يا سمحة أنت التي تمتهنين نقيض مهنة بطرس وتحرسين أبواب جهنم. (تدخل إميليا)
عطيل :
أنت أنت! نعم أنت لقد قضينا لبانتنا وهذا جزاؤك من النقود. أرجو أن تغلقي الأبواب وتكتمي سرنا. (يخرج)
إميليا :
ويلاه ماذا يتصور هذا السيد؟! كيف أنت الآن يا مولاتي الكريمة؟
ديدمونه :
بين نوم ويقظة.
إميليا :
ماذا جرى بينك وبين مولاي؟
ديدمونه :
وبين من؟
إميليا :
وبين مولاي يا سيدتي.
ديدمونه :
من مولاك؟
إميليا :
الذي هو مولاي يا سيدتي.
ديدمونه :
لا مولى لي. لا تكلميني يا إميليا فما أستطيع البكاء ولا جواب بغيره عندي. أرغب إليك أن تضعي في هذا المساء على سريري أغطية العرس. لا تنسي واذهبي فادعي زوجي إلي.
إميليا :
هذا تغيير عجيب. (تخرج)
ديدمونه :
عدل ما عوملت به، عدل ولكن ما الذي صنعته حتى إن أكبر هفواتي أدخلت على نفسه أدنى ريب! (تعود إميليا وياجو)
ياجو :
ماذا تريدين يا سيدتي؟ ماذا جرى؟
ديدمونه :
لا أقدر على ذكره، الذين يربون الأطفال يرفقون بهم ويكلفونهم الأعمال السهلة، كان يستطيع أن يعاملني هكذا - لأنني طفلة متى زجرت ...
ياجو :
ماذا حدث يا سيدتي؟
إميليا :
ويلاه إن سيدي قد أهانها كثيرا ودعاها بغيا وحقرها تحقيرا مرهقا بألفاظ سمجة لا تطيقها القلوب الكريمة.
ديدمونه :
أأنا جديرة بهذه التسمية يا ياجو؟
ياجو :
أية تسمية أيتها السيدة الجميلة؟
ديدمونه :
التي دعاني بها مولاي.
إميليا :
دعاها بعاهرة وهو ما لا يقوله الشحاذ السكران لمن هي معه.
ياجو :
علام فعل هذا؟
ديدمونه :
لا أدري. وأنا على ثقة من أنني لست كما أزعم.
ياجو :
لا تبكي لا تبكي. ويلاه. مصيبة.
إميليا :
أتركت سائر خطابها الشرفاء وهم كثير، وتركت أباها وبلادها وأصدقاءها لتسمى عاهرة؟ أليس في هذا ما يستبكي؟
ديدمونه :
قضاء من نحسي.
ياجو :
لعنة الله عليه لفعله هذا، من أين أصابه هذا الجنون؟
ديدمونه :
الله وحده يعلم.
إميليا :
بل على عنقي. إن هناك غدارا هالكا دساسا محتالا شحاذا نماما غشاشا وشى وشاية لينال منصبا. على عنقي هذا ما هو كائن.
ياجو :
دعي الوهم أيوجد رجل من هذا النوع؟! محال.
ديدمونه :
إذا كان موجودا فليسامحه الله.
إميليا :
بل ليسامحه حبل المشنقة ولتأكل جهنم عظامه. لم دعاها بغيا. من الذي يعاشرها وأين ومتى وأي ظاهر دل. وهل هو معقول؟ لقد خدع المغربي. خدعه أحد السفلة الأدنياء المجرمين الأبالسة، أحد المكرة الممتهنين. يا للسماء لوعدلت لوجب أن تكشفي الستار عن أولئك المجرمين وتضعي سوطا في يد كل رجل كريم ليساط به أولئك اللئام في أطراف الدنيا من الغرب إلى الشرق.
ياجو :
اخفضي من صوتك
إميليا :
خيبة وعار على أولئك الناس. ألم يدخل عليك واحد منهم أن بيني وبين المغربي ريبة. (مخاطبة ياجو بصوت
ياجو (من جانب إلى إميليا) :
أنت حمقاء امشي.
ديدمونه :
ياجو وا حسرتاه كيف أصنع لأعود إلى رضى مولاي؟ اذهب إليه يا صديقي لأنني وايم هذا النور السماوي لا أعرف كيف فقدته. إنني لأجثو هنا ولئن كنت قد أخطأت إلى غرامه مرة عن قصد سوا بلساني أم بفكري أم بفعلي، بل لئن كانت عيناي أو أذناي أو أية حاسة من حواسي الأخر مالت إلى غيره، بل لئن كانت غير مقيمة على حبه الآن كما كنت أحبه وكما سأحبه أبدا حتى لو قذف بي في شقاوة الطلاق، لا كانت لي سلوى ولا تعزية في هذه الدنيا. إن القسوة لتقدر علي كثير وقسوته علي قد تقتلني على لا تدنس غرامي. أنا لا أستطيع أن أقول بغي. هذه الكلمة يؤلمني لفظها فما بال العمل الذي يصم بها ولو دعتني إليه جميع أباطيل الحياة.
ياجو :
صبرا صبرا إن هي إلا سحابة كدر وتنقضي. لقد أزعجته أحوال الحكومة فوقع عليك غضبه.
ديدمونه :
إن لم يكن سبب إلا هذا رضيت.
ياجو :
لا سبب إلا هذا، على عهدتي (تسمع أبواق)
أصغي هذه الأبواق تدعوك إلى العشاء وسفراء البندقية في انتظارك للجلوس إلى المائدة انهضي إليهم ولا تبكي ثم كل شيء يجيء على المرام (تخرج ديدمونه وإميليا)
ما جاء بك يا ردريجو. (يدخل ردريجو)
ردريجو :
لا أجدك تحسن الصنيع معي.
ياجو :
ما يثبت لك ذلك.
ردريجو :
كل يوم تطاولني ملتمسا عذرا جديدا ويظهر أنك تمنعني الفرص بدلا من أن تساعد على سنوحها. لن أتحمل هذه السيرة ولم يبق في وسعي أن أهضم بسكينة كل ما هضمته عن حمق من قبل.
ياجو :
أتصغي إلي وتمتثل يا ردريجو؟
ردريجو :
وذمتي لقد طالما امتثلت فما حلوت بطائل لأن أقوالك لا تنطبق على أفعالك.
ياجو :
تتهمني بغير حق.
ردريجو :
بل بحق، فلقد أنفقت ما جاوز مقدرتي والجواهر التي أعطيتك إياها برسم ديدمونه كانت تكفي لقصم راهبة من نصفها، فإن كنت قد أوصلتها كدعواك كانت العدات التي جئتني بها منها شكرا صحيحا فلم لا أجد تحقيقا لشيء منها؟
ياجو :
امض في كلامك. هذا حسن.
ردريجو :
أمض، كفاني ما مضى - هذا حسن. أقول إن فعله ليس بحسن. بل إنه نهاية في القبح وقد ألمح أنك عبثت بي في هذه المسألة.
ياجو :
حسن في الغاية.
ردريجو :
قلت لك إنه غير حسن لا في الغاية ولا في البداية. أريد أن تعرفني ديدمونه، فإذا ردت علي جواهري عدلت عن متابعتها والتمست الصفح منها عن سوء ما ندبتها له وإلا جعلتك مسؤولا عنها وأنزلت بك عقابي.
ياجو :
ماذا كنت تقول بعبارتك الأخيرة؟
ردريجو :
لم أقل إلا ما أنا مزمع فعله عن يقين.
ياجو :
الآن تبينت أنك باسل، ومنذ الساعة أرى فيك رأيا لم أره من قبل. صافحني يا ردريجو لقد أسأت بي الظن ولك العذر غير أنني أؤكد لك أنني اشتغلت بمهارة لا تقبل المزيد في مسألتك.
ردريجو :
مهارة لم أتبين أثرها!
ياجو :
اسلم، ولهذا أجدك حكمت بعقل. لكن إذا صح أن عندك ما أعتقده الآن فيك من الشجاعة ورباطة الجأش فأرنيهما الليلة، فإذا كنت في الليلة التالية لا تتمتع بديدمونه كان لك أن تقصيني عن هذه الدنيا بخيانتي وتنصب من الفخاخ ما تشاء لإفقادي حياتي.
ردريجو :
أوافق. ما الذي تبتغيه مني؟ أشيء في الإمكان أو المعقول؟
ياجو :
لقد جاء وفد خاص من البندقية لإحلال كاسيو محل عطيل.
ردريجو :
أصدق هذا النبأ. إذن عطيل وديدمونه يعودان إلى البندقية.
ياجو :
كلا، بل يذهبان إلى موريتانيا إلا إذا اضطرت الأحوال عطيلا أن يطيل مقامه هنا. وخير ما يستطال به مقامه أن يحذف كاسيو.
ردريجو :
ما تعني بهذا الحذف؟
ياجو :
أعني أن يعاق عن الحلول محل عطيل ... أن يهشم رأسه.
ردريجو :
وهذا ما تنوطه بي.
ياجو :
نعم إذا جرؤت أن تملك نفسك نفعا وحقا. سيتعشى الليلة عند فاجرة فالحق به إلى منزلها وهو مازال يجهل النعمة التي وقعت إليه، فارقبه إن شئت بين منتصف الليل والساعة الواحدة ... ومتى ألفيتني بجانبك لأعينك بحيث لا ينجو من ضرباتنا، فاعزم ولا تقف دهشا مترددا بل تعال معي، سأريك بعينيك وجوب قتله فتجد من نفسك عاملا على الإيقاع به. قد مضى ميعاد العشاء فلا تتباطأ لعدم فوات الفرصة، هلم بنا إلى العمل.
ردريجو :
أريد أسبابا أدعى من هذا لارتكاب ما تكلفني إياه.
ياجو :
سأوافيك منها بما تشاء. أرح بالك. (يخرجان)
المشهد الثالث
مسكن آخر في القصر (يدخل عطيل ولودفيكو وديدمونه وإميليا وأتباع لهم)
لودفيكو :
حلفت عليك إلا ما منعت عن نفسك أمثال هذه المكدرات.
عطيل :
ألا تسمح بالخروج قليلا لأن التنزه يفيدني.
لودفيكو :
طاب ليلك يا سيدتي وشكرا جزيلا لفضلك.
ديدمونه :
الشكر لك على التشريف.
عطيل :
أتمضي للتنزه يا سنيور ... أه ديدمونه. انطلقي وادخلي سريرك منذ الآن. سأعود بلا توازن ثم اصرفي التابعة ولا تنسي.
ديدمونه :
نعم يا مولاي. (يخرج عطيل ولودفيكو والأتباع)
إميليا :
يظهر أنه أصفى مما كان.
ديدمونه :
قال إنه عائد حالا وأمرني أن أذهب إلى السرير وأوصاني بصرفك.
إميليا :
بصرفي؟
ديدمونه :
كذا أراد، فأعطيني يا عزيزتي إميليا بدلة نومي ودعيني، إذ لا ينبغي أن نفعل الآن ما يرضيه.
إميليا :
كنت أود لو لم تريه قط.
ديدمونه :
ليس هذا ما أود، وإن حبي ما زال بأكمله - أرجو أن تفكي عرى ثوبي - حتى إنني لأجد لطفا وجمالا في غضبه وزجراته.
إميليا :
جعلت على السرير الأغطية التي أوصيتني بوضعها.
ديدمونه :
أستوى عندي كل شيء. ما أعبث الجنون بنفوسنا. إذا مت قبلك فأمنيتي أن تلفيني بهذه الأغطية.
إميليا :
دعي دعي السفاف.
ديدمونه :
كانت لأمي وصيفة تدعى بربارة وكانت تعشق رجلا. ذلك الرجل أصيب يوما بخبال وهجرها فكانت لا تفتأ تنشد أنشودة قديمة تعبر أحسن تعبير عن سوء بختها. ولما حضرتها الوفاة قضت نحبها وهي تتغنى بها. تلك الأنشودة تعاود فكري الليلة بلا انقطاع، وأكاد لا أملك رأسي أن يميل إلى جانب ولا لساني أن يردد أنشودة المسكينة برباره. عجلي ولك الشكر.
إميليا :
أأحضر لك قميص النوم؟
ديدمونه :
لا، أعينيني على تفكيك هذه العرى، إن لودفيكو لرجل كريم.
إميليا :
ومنيف في الرجال.
ديدمونه :
وحسن الحديث.
إميليا :
أعرف امرأة في البندقية لو وعدت بقبلة من شفته السفلى لسافرت إلى فلسطين في طلبها.
ديدمونه (متغنية) : «ثوت الحزينة تبكي تحت الجميزة» «غنوا جميعا على الصفصافة الخضراء» «وضعت يدها على صدرها ورأسها على ركبتها» «غنوا جميعا على الصفصافة الصفصافة الصفصافة» «وكانت المياه الباردة تجري بقربها وتتنهد تنهدها» «غنوا على الصفصافة» «ودموعها تجري حتى تلين الصخور»
ضعي هذه الملابس ههنا. (متغنية): «غنوا على الصفصافة ...»
بحياتك عجلي قد قرب معاده. (متغنية): «ليصنع تاجي من صفصافة خضراء» «لا تلوموه على الجفاء أفديه وأفدي إعراضه»
نسيت البقية: سمعا ... من يطرق الباب؟
إميليا :
الريح.
ديدمونه (متغنية) : «دعوته بالعاشق الكاذب فماذا قال؟» «غني على الصفصافة ...» «إذا غازلت غيرك من النساء غازلت غيري من الرجال»
الآن اذهبي ومساك الله بالخير: جفوني تحزني، أسبق شعور بأنني سأبكي ...
إميليا :
هذا لا يدل على شيء.
ديدمونه :
كنت سمعت كلاما في هذا المعنى، أوه الرجال الرجال؟ أتظنين يا إميليا وجود نساء يهن بعولتهن إهانة غليظة كهذه؟
إميليا :
توجد نساء من هذا القبيل ولا شك.
ديدمونه :
لو أعطيت العالم بديلا أكنت تقترفين خطيئة كهذه؟
إميليا :
أقترفها ولا ريب. أما أنت أفما كنت لتفعلي؟
ديدمونه :
لا وهذه الأنوار السماوية.
إميليا :
أنا أيضا لا أفعلها وهذه الأنوار السماوية أما في الظلام فبلى.
ديدمونه :
أتفعلينها ولو أعطيت العالم كله.
إميليا :
العالم شيء عظيم وهو جائزة كبيرة لخطيئة صغيرة.
ديدمونه :
أظنك إذ جد الجد لا تقترفينها.
إميليا :
إذا جد الجد أظنني أقترفها، وأنني بعد اقترافها أتوب عنها. لا جرم أن الهدية لو كانت خاتما مضاعفا أو بعض أصواف أو ثياب أو قبعات أو أي شيء حقير من هذه الدنايا لصنت نفسي وأما الدنيا بحذافيرها فلا. وهل توجد امرأة لا تشتري لزوجها الملك بقرنين خفيين. من يقلد بعلي التاج فقد رضيت بالأعراف
5
سبيلا.
ديدمونه :
رضيت بلعنة الله لو رضيت بالدنيا قاطبة جزاء خطيئة من هذا القبيل.
إميليا :
خلي عنك، لو أوتيت الدنيا لما كانت خطيئتك فيها إلا إحدى الخطايا التي تجري في أملاكك ولك حينئذ أن تكفري عنها سريعا بما تشائين.
ديدمونه :
لا أعتقد وجود مثل هذه المرأة.
إميليا :
نعم توجد من صنفها عشرات بل بتعداد ما يكفي لعمار العالم الذي يقامرن لأجله. على أنني أعتقد أن النساء إذا عثرن فالذنب للبعولة لأنهم بين خلتين
6
إما أن يهملوا واجباتهم ويلقوا بكنوزهم في أحواض أجنبيات أو أن يتفجروا عليهن غيرة فيسومونهن المضايقة وآلام الضرب، وقد يبتزون أموالهن. ومهما يكن من طبائعنا فإن فيها لشيئا من السم، ولسنا خاليات من شغف بالانتقام تحت ما يروق من مظاهرنا ... ليعلم الأزواج أن لنسائهم حواس مثلهم لهن عيونا ومناشق وحلوقا يميزن بها الحلو من المر كما لهم. وماذا هم فاعلون حين يستبدلون بواحدة منا غيرها؟ أهي اللذة تدعوهم؟ نعم. أهو الغرام يدفعهم؟ نعم أيضا. أهو الضعف ينتقل بهم في هذه الضلالات؟ نعم نعم نعم؟ فإن كان الأمر كذلك أفليست لنا نحن أيضا لذات نشتهيها ومودات نبتغيها مع ضعف كضعفهم يحملنا على غير محمل؟ لهذا أقول إما أن يحسنوا معاملتنا أو فليعلموا أن الآثام التي نقترفها إنما هي رجع ما تتعلمه من آثامهم.
ديدمونه :
طاب ليلك ومسيت بخير وليمنحني الله أخلاقا تعينني لا على استخراج الشر بل على استخراج صلاح لنفسي من حيث لا يكون صلاح.
الفصل الخامس
المشهد الأول
في قبرس - طريق (يدخل ياجو وردريجو)
ياجو :
ههنا. قف وراء هذا الطرف من الحائط. إنه لآت حالا. أسلك نصلتك الماضية وأعطه بها جوازا لسكنى الآخرة ... عجلا عجلا. لا تخف شيئا أنا بجانبك. إننا بفعلتنا فائزان أو هالكان. تذكر هذا وامكث متينا في قصدك.
ردريجو :
البث بقرب مني. أخشى أن يخور عزمي.
ياجو :
هأنذا على منالك. تشجع وقف متأهبا. (ينتحي قليلا)
ردريجو :
لا أجد من نفسي دافعا قويا على ارتكاب هذا العمل إلا أن ياجو ذكر لي أسبابا مقنعة. لقد قضي على الرجل. تجرد من غمدك يا سيفي. إنه لهالك. (يقف متأهبا)
ياجو :
حككت له ذلك الجرب حتى هاج وتحكم. ليقتل كاسيو أو ليقتله كاسيو أو ليتأخر كلاهما فالنتيجة أية كانت مفيدة لي. ذلك لأنه إذا بقي ردريجو طالبني بالحلى والمصوغات التي سللتها منه تباعا بزعم أنها هدايا إلى ديدمونه، وما ينبغي أن يستردها مني. وإذا بقي كاسيو عاش عيشة رغد ومجد تكون بجانبها عيشتي حقيرة جدا. فضلا عن أن المغربي قد يكاشفه في أمري، فأنا إذن في خطر عظيم ولا بد من قتله. صه صه. أسمعه. قادما. (يدخل كاسيو)
ردريجو :
عرفت خطاه ... هو بعينه - أنت مائت يا غادر يا أثيم. (يهجم من مكمنه ويضرب كاسيو)
كاسيو :
لولا متانة درعي لكانت هذه الضربة أعدى أعدائي. سأرى الآن متانة درعك. (يجرد سيفه ويضرب ردريجو
ردريجو :
آه قتلت! (ههنا يهجم ياجو فيضرب كاسيو من وراء ضربة تصيب فخذه ويتوارى)
كاسيو :
كسرت ساقي وسأعيش أعرج، يا للناس، على القاتل على القاتل. (يسقط) (يدخل عطيل من مسافة)
عطيل :
هذا صوت كاسيو لقد وفى ياجو بوعده.
ردريجو :
أواه ما أشقاني!
عطيل :
صدقت!
كاسيو :
المدد المدد أنيروا هاتوا آسيا.
1
عطيل :
هوه، أي ياجو الأمين الباسل الذي يقدر إهانة صديقه قدرها، إنك لتعلمني ما يجب علي. وا عاهرتا إن حبيبك لملقى صريعا، وإن أجلك يدنو ... محوت من قلبي طلاسم عينيك وسيضرج سريرك الذي شابه الفسق بشوائب من دم فاسق.
كاسيو :
يا أهل المدد. ألا حرس هنا؟ ألا عابري سبيل؟ يا للقتيل من القاتلين. (يدخل لودفيكو وغراتيانو من مسافة)
غراتيانو :
هذا ولا ريب خطب جلل وصوت المستجير صوت رائع.
كاسيو :
المعونة.
لودفيكو :
أصغوا.
ردريجو :
يا للشقي الغادر.
لودفيكو :
هنا اثنان أو ثلاثة يئنون والظلام حالك. من رأيي ألا نتقدم من حيث تخرج هذه الأصوات إلا إذا جاء مدد جديد.
ردريجو :
ألا يأتي أحد، إذن يسيل دمي حتى أموت.
بودفيكو :
اسمع.
غراتيانو :
هذا شخص يعدو عاريا ومعه نور وأسلحة. (يعود ياجو ومعه مصباح)
ياجو :
من هنا؟ من الذي يقلق السكون بصيحاته واستجاراته؟
لودفيكو :
لا نعلم.
ياجو :
ألم تسمعوا صراخا؟
كاسيو :
إلى هنا إلى هنا أغيثوني بالله.
ياجو :
ماذا جرى؟
غراتيانو :
هذا ضابط عطيل إن لم أكن واهما.
لودفيكو :
هو بعينه ونعم الفتى الشجاع.
ياجو :
من أنت أيها المستصرخ بهذا الصوت المنكر؟
كاسيو :
أياجو؟ ضربني. قتلني أناس من اللصوص. أغثني.
ياجو :
أسفا أيها الملازم. من اللصوص الذين جنوا هذه الجناية؟
كاسيو :
أظن أن أحدهم بقربي وحالته لا تمكنه من الفرار.
ياجو :
يا للخونة الغدارين (ملتفتا إلى لودفيكو وغراتيانو)
وأنتما من تكونان؟ ... أقبلا وامنحانا مددا.
ردريجو :
أغيثوني. أنا هنا.
كاسيو :
هذا أحد المعتدين علي.
ياجو :
يا لك من شحاذ قاتل. يا لك من غدار. (يطعن ردريجو بخنجره)
ردريجو :
أواه أيها الهالك ياجو أيها الكلب الوحشي.
ياجو :
يقتلون الناس في الظلمات. أين أولئك اللصوص السفاكون للدماء؟! ما أسكت هذه المدينة! قتيل قتيل، ترى من أنتما؟ أللخير أم للشر؟
لودفيكو :
احكم لنا أو علينا بما سترى.
ياجو :
السنيور لودفيكو.
لودفيكو :
هو نفسه.
ياجو :
ألتمس العفو. هذا كاسيو جرحه بعض المجرمين.
غراتيانو :
كاسيو؟
ياجو :
كيف حالك يا أخي؟
كاسيو :
بترت ساقي شطرين.
ياجو :
لا سمح الله. أنيروا لأضمد جرحه بقدة من قميصي. (تدخل بينكا)
بينكا :
ماذا حدث؟ من كان يستصرخ؟
ياجو :
من كان يستصرخ؟
بينكا :
وا حبيباه كاسيو ، وا عزيزاه كاسيو، كاسيو كاسيو.
ياجو :
يا لك من عاهرة فاجرة. كاسيو أتخمن من المعتدون عليك؟
كاسيو :
لا.
غراتيانو :
أنا حزين لرؤيتك هكذا وكنت قد خرجت للبحث عنك.
ياجو :
أعرني ربطة ساق. وضعت. إلينا بكرسي نحمله عليه.
بينكا :
ويلاه أغمي عليه! كاسيو كاسيو كاسيو.
ياجو :
أيها السيدان أشتبه في هذه المرأة الغادرة الواقفة هنا أنها شريكة للمجرمين. صبرا قليلا أي صديقي كاسيو. هلم بنا. أعيروني مصباحا. أتعرفان هذا الوجه أو لا؟ ويلاه صديقي ومواطني العزيز ردريجو. لا لا. بلى بلى. يقينا هو ... ويلاه ردريجو.
غراتيانو :
البندقي.
ياجو :
هو نفسه أكنت تعرفه؟
غراتيانو :
حق المعرفة.
ياجو :
أأنت السنيور غراتيانو؟ عفوك يا سيدي فإن هذه الحوادث المشؤومة هي التي شغلتني عنك كما ترى.
غراتيانو :
مسرور بمشاهدتك.
ياجو :
كيف حالك الآن يا كاسيو؟ أسعفونا بكرسي ...
غراتيانو :
ردريجو.
ياجو :
هو هو بعينه. واها. جاء الكرسي (يجلب كرسي)
ليحمله أحد الحاضرين بعناية، وسأذهب لإحضار طبيب القائد. (إلى بينكا)
أما أنت يا بنت فأبقي على نفسك من التعب. (إلى كاسيو)
إن الذي يثوي هناك صريعا كان صديقا كريما علي، أي خلاف قام بينكما؟
كاسيو :
لم يكن بيننا خلاف وكنت لا أعرفه.
ياجو (إلى بينكا) :
علام يمتقع هذا الوجه، رديه (يعني كاسيو)
من الهواء (يحمل ردريجو وكاسيو)
تخلفوا أنتم أيها السادة. ما أشد اصفرارك يا بنت. أترون شرود عينيها؟ إذا كان الرعب قد استولى عليك فلتعلمن نبأه بعد حين. ارمقوها، تفرسوا فيها، انظروها ... أتلمحون؟ أيها السادة ستظهر الجريمة ولو أصبح الكلام عادة مفقودة. (تدخل إميليا)
إميليا :
وا حرباه! ماذا جرى؟ أي زوجي ماذا جرى؟
ياجو :
اعتدي على كاسيو في الظلام. هاجمه ردريجو وآخرون فروا. فأما كاسيو فصرع وأما ردريجو فتجندل.
إميليا :
وا حربا على كاسيو النبيل الكريم.
ياجو :
هذا جني الفسوق. بحقك يا إميليا إلا ما ذهبت حالا تسألين كاسيو أين تعشى الليلة (إلى بينكا)
أترتجفين من هذا السؤال؟
بينكا :
تعشى في منزلي ولا أرتجف البتة.
ياجو :
آه تعشى في منزلك؟! آمرك باتباعي.
إميليا :
قبحا لك يا عاهرة.
بينكا :
لست بعاهرة ولكنني امرأة تعيش على هواها وعندي من العفة مثل ما عندك يا شاتمتي.
إميليا :
مثل عفتي؟! أقبحا وكذبا؟
ياجو :
هلم بنا سادتي الأعزاء نأس جراح كاسيو. تعالي أنت يا بنت ستقصين علينا قصة أخرى. إميليا عدوا إلى القلعة وأخبري مولاي ومولاتي بما حدث. أتتفضلون بالمسير؟ (منفردا)
هذه الليلة ليلتي فإما العمار وإما الدمار.
المشهد الثاني
غرفة نوم في القصر (ديدمونه في سريرها وإلى ناحية منها مصباح يضيء) (يدخل عطيل)
عطيل :
تلك هي العلة يا نفسي. علة أعتذر عن تسميتها أيتها النجوم الطاهرة، ومع هذا لست عازما على سفك دمها ولا على تمزيق بشرتها النقية كالثلج الصقيلة كمرمر القبر، غير أن موتها متحتم وإلا خانت رجالا آخرين. لنطفئ المصباح. وبعد ... إن أطفأتك يا وزير النور ثم ندمت أعدتك إلى إضاءتك الأولى. ولكن متى أطفئ منك النور يا أبدع مثال من صنع الطبيعة الماهرة، فما أعلم أي ضرب من المذكيات
2
التي يدخرها إله النار يستطيع أن يعيد إليك ذلك الرونق والبهاء. متى استؤصلت وردتك النضيرة أصابها الذبول والجفاف لا محالة ولن أملك أن أرد عليها مقدرتها الحيوية. أريد أن أتنشقها في منبتها (يقبلها)
يا للعرف الطيب الذي يكاد يقنع العدل بكسر سيفه. قبلة ثانية ثم ثالثة. البثي هكذا حتى تموتي فأقتلك وأحبك بعدها. قبلة أخرى وهي الأخيرة. ما في سوابق الدهر قبلة أعذب ولا أذكى عقبى من هذه. يجب أن أذرف الدموع، ولكنها دموع جارحة. هذا الألم سماوي وإنما يضرب حيث يحب. (تستيقظ)
ديدمونه :
من هنا؟ عطيل.
عطيل :
نعم ديدمونه.
ديدمونه :
أتريد المجيء إلى السرير يا مولاي.
عطيل :
هل صليت الليلة يا ديدمونه.
ديدمونه :
نعم يا سيدي.
عطيل :
إذا كنت تتذكرين ذنبا مبقيا فرجة بينك وبين رحمة الله فاستغفري حالا.
ديدمونه :
ويلاه يا مولاي ما معنى هذه الكلمات؟
عطيل :
استغفري واختصري سأتمشى قليلا ريثما تنتهين. لا أريد قتل نفسك وهي خاطئة، أبى الله. لا أريد قتل نفسك.
ديدمونه :
أتذكر القتل؟
عطيل :
إياه أذكر.
ديدمونه :
إذن لترحمني السماء.
عطيل :
آمين بكل جوارحي.
ديدمونه :
أرجو ألا تفعل وإن تكلمت هكذا.
عطيل :
هم هم.
ديدمونه :
ومع هذا الأمل أنا خائفة منك لأنك لا ترد متى كانت عيناك تدوران هكذا. لم أخاف ولا ذنب لي. ما أدري. ولكنني شاعرة بالخوف.
عطيل :
فكري في خطاياك.
ديدمونه :
لا إثم لي إلا هواك.
عطيل :
لهذا ستموتين.
ديدمونه :
ليس من المألوف قتل المحب من أجل حبه، ويلاه لم تعض هكذا على شفتك السفلى، أجد بك الهزة التي تهتزها حين سفك الدماء غير أنني أرجو ألا يكون تهديدها موجها إلي.
عطيل :
اهدئي وأصغي.
ديدمونه :
سأفعل ... ماذا تريد؟
عطيل :
ذلك المنديل الذي كنت أحبه كثيرا وأعطيتك إياه أنت أهديته إلى كاسيو!
ديدمونه :
لا وحياتي ونفسي. استدع هذا الرجل وليسأل.
عطيل :
احذري يا حبيبتي احذري من الحنث وأنت على سرير الموت.
ديدمونه :
نعم ولكن لا. لا أموت الآن.
عطيل :
بلى الآن. وأن تعترفي خير لك لأنك لو أنكرت كل جزء من أجزاء ذنبك وشفعت كل إنكار بقسم لما بددت قرة العقيدة التي أتألم منها. ستموتين.
ديدمونه :
إذن ليرحمني الله.
عطيل :
آمين.
ديدمونه :
ارحمني أنت أيضا. لم أسيء إليك قط في حياتي ولم أحبب كاسيو بل وددته كما أباح الله الوداد المألوف ولم أهاده لعمري بشيء ما.
عطيل :
لقد رأيت منديلي في يديه، ويحك من امرأة خائنة إنك لتغيرين قلبي إلى صخر وتحولين إلى مقتل ما كنت أعتقده قربانا. رأيت المنديل بعيني.
ديدمونه :
لعله وجده ضائعا أما أنا فلم أعطه إياه. أرسل في طلبه وليعترف بالحق.
عطيل :
قد اعترف.
ديدمونه :
ماذا تقول يا مولاي؟
عطيل :
إنه قضى منك مأربا.
ديدمونه :
مأرب سوء.
عطيل :
نعم.
ديدمونه :
لن يقول ذلك.
عطيل :
أجل لأن فمه أقفل وقد صدر أمري إلى ياجو الوفي بما يجب.
ديدمونه :
إن خوفي قد أدرك معنى هذه الكلمات. أمات؟
عطيل :
لو كانت له أعمار عداد شعره لافترستها كلها.
ديدمونه :
ويلاه قد خانوه وأضاعوني.
عطيل :
اهلكي يا فاجرة أتبكينه بمشهد مني.
ديدمونه :
بحياتك يا سيدي انفني ولكن لا تقتلني.
عطيل :
اهلكي يا فاجرة.
ديدمونه :
اقتلني غدا ودعني أعيش الليلة.
عطيل :
إذا حاولت المقاومة ...
ديدمونه :
نصف ساعة بلا مزيد، ميقات ما أصلي.
عطيل :
لات ساعة صلاة. (يخنقها)
إميليا (من الخارج) :
مولاي مولاي!
عطيل :
ما هذا الصوت. لم تمت تماما إني لقاس ولكن رحيم. لا ينبغي إطالة عذابك. هكذا هكذا.
إميليا (من الخارج) :
مولاي مولاي!
عطيل :
من هنا؟
إميليا :
مولاي الكريم، كلمة واحدة!
عطيل :
نعم هي إميليا. حالا. ماتت. لعلها قادمة تخبرني بموت كاسيو كانت الضوضاء شديدة. آه امتنع كل حراك. ساكنة كالقبر. أأسمح بدخولها. أيحسن. أظنها تتحرك. لا. ما الأصلح. إذا دخلت حاولت بلا ريب مخاطبة امرأتي. امرأتي ... أية امرأة. لا امرأة لي ... يا للذكرى الفاجعة يا للساعة القاصمة. يخيل إلي أن الشمس والقمر محاقا فظيعا في هذه الساعة، وأن كرة الأرض ستنشق بين هذا الاختلاط.
إميليا (من الخارج) :
يا سيدي الكريم أستحلفك أن تسمح لي بكلمة.
عطيل :
كنت قد نسيت. ادخلي يا إميليا. تمهلي. حالا. لنسدل الأستار. أين أنت؟ (يفتح الباب)
ماذا تلتمسين في مثل هذه الساعة؟
إميليا :
يا سيدي الكريم قد ارتكبت جناية منكرة.
عطيل :
متى؟ الآن؟
إميليا :
الساعة يا سيدي.
عطيل :
هذا ناتج من مخالفات القمر لأنه يقرب من الأرض أكثر مما يجب ويدخل الجنون على الناس.
إميليا :
كاسيو يا سيدي قتل شابا بندقيا يدعى ردريجو.
عطيل :
قتل ردريجو وقتل كاسيو!
إميليا :
لا ... كاسيو لم يقتل.
عطيل :
كاسيو لم يقتل إذن فالقتل يتغنى غلطا والانتقام المطرب يشوش أنغامه.
ديدمونه :
آه قتلت خطأ. خطأ قتلت.
إميليا :
ويلاه ما هذا الصوت؟
عطيل :
أي صوت؟
إميليا :
صوت مولاتي. الغياث الغياث. أي سيدتي تكلمي مرة أخرى، أي ديدمونه الطاهرة، أي مولاتي الرقيقة تكلمي.
ديدمونه :
أموت بريئة!
إميليا :
ومن جنى هذه الجناية؟
ديدمونه :
لا أحد. أنا جنيتها. أستودعك الله، اذكريني لدى مولاي الحبيب. آه أستودعك الله. (تموت)
عطيل :
ولكن كيف أميتت؟
إميليا :
من يعلم، يا للأسف.
عطيل :
أسمعت من فمها أنني لم أكن أنا الفاعل؟
إميليا :
هذا ما قالته وعلي أن أجيب بالحق .
عطيل :
ذهبت إلى جهنم المحرقة بما كانت تكذب. أنا الذي قتلتها.
إميليا :
أواه، إنها بهذه الميتة لم تزدد إلا طهارة الملك الكريم، كما أنك لم تزدد بجنايتك إلا سواد الشيطان الرجيم.
عطيل :
كانت عاهرة.
إميليا :
اتهمتها كذبا ووشاية. أنت إبليس.
عطيل :
كانت غشاشة الظاهر كالماء.
إميليا :
وأنت جسور كالنار بقولك إنها غشاشة. لهفي عليها كانت أصدق من أبرار السماء.
عطيل :
كاسيو ضاجعها ... اسألي زوجك عن ذلك، ولولا هذا السبب الحق لما فعلت فعلتي إلا وأنا هالك إلى أدنى قاع جهنم.
إميليا :
زوجي؟!
عطيل :
بعينه.
إميليا :
كان يعلم أنها متعففة لوليها؟
عطيل :
نعم ... وأنها زنت مع كاسيو. على أني لولا ذنبها هذا لو أبدلت منها بالعالم وقد جمع إلى جوهرة واحدة ما رضيت.
إميليا :
زوجي؟!
عطيل :
نعم هو أول من أطلعني على سرها وإنه لرجل صالح يكره الحمأة التي تعلق بالأعمال السيئة.
إميليا :
زوجي؟!
عطيل :
ما معنى هذه الإعادات ... قد قلت لك يا امرأة إنه زوجك.
إميليا :
يا مولاي إن الغدر قد قامر الغرام مقامرة خديعة. أزوجي الذي قال إنها فاسقة؟!
عطيل :
هو نفسه يا امرأة. زوجك نفسه أفهمت؟ صديقي زوجك ياجو الوفي المخلص.
إميليا :
إن كانت هذه وشايته فليت نفسه الشريرة تتعفن كل يوم مرة. إنه كذب من صميم فؤاده وإنها كانت مجنونة حبا بالبشع المخيف الذي اختارته بعلا.
عطيل :
الله!
إميليا :
إفعل كل فظيعة بعد الآن فإن نفسك لا تستحق النعيم بأكثر مما كنت تستحقها عروسا لك.
عطيل :
أولى لك السكوت.
إميليا :
ليس عندك من الإقتدار على الإيذاء نصف ما عندي من الجلد يا أيها المخدوع يا أيها الأبله. لقد ارتكبت جريمة. لا أخاف سيفك وسأكشف أمرك حتى لو كانت لي عشرون حياة وفقدتها. الغياث الغياث. المدد المدد، المربي قتل مولاتي. على القاتل على القاتل. (يدخل منتانو وغراتيانو وياجو)
منتانو :
ماذا جرى أيها القائد؟
إميليا :
أنت يا ياجو حضرت. لا جرم أنك أحكمت سيرك فجعلت الناس يلقون عليك تبعات آثامهم.
غراتيانو :
ماذا جرى؟
إميليا :
كذب هذا المجرم إن كنت رجلا. يقال إنك وشيت عنده في امرأته وأعلم أنك لم تفعل ولست ذلك الأثيم ... تكلم لأن قلبي فائض بما فيه.
ياجو :
قلت له ما كنت أعتقد ولم أزده على ما تحقق بنفسه.
إميليا :
ولكن أذكرت له مرة أنها غير مستقيمة.
ياجو :
نعم.
إميليا :
كذبت على الله وعليه كذبا قبيحا مهلكا للنفس. أهي اقترفت إثما مع كاسيو. أقلت مع كاسيو؟
ياجو :
مع كاسيو يا قوادة، اقطعي هذا اللسان.
إميليا :
لا أقطعه وسيدتي هنا مقتولة في سريرها.
الجميع :
معاذ الله.
إميليا :
ولم يرتكب هذا الجرم إلا بناء على سعاياتك.
عطيل :
لا تدهشوا يا سادة هذا هو الحق.
غراتيانو :
أمر غريب.
منتانو :
عمل فظيع.
إميليا :
مكيدة مكيدة مكيدة. شعرت بها من قبل وما صدقت يا للمكيدة يا للمكيدة سأموت غما.
ياجو :
أأنت مجنونة عودي إلى البيت.
إميليا :
يا سادتي ائذنوني بالكلام، يجب أن أطيعه أما الآن فلا ولعلي لن أعود أبدا يا ياجو.
عطيل (يسقط على السرير) :
آه آه آه.
إميليا :
نعم تقلب واجأر لأنك قتلت أطهر وأرق بريئة رفعت عينيها إلى السماء.
عطيل (ناهضا) :
بل كانت زانية. لم أعرفك قبلا أيها العم. هنا كريمة أخيك مضطجعة وهاتان هما اليدان اللتان أخمدتا أنفاسها وأن هذا العمل أعلم فظيع شديد القسوة.
غراتيانو :
يا لها من مسكينة. أحمد الله أن أباها سبقها من فرط الحزن الذي مزق نسيج حياته، ولو كان الآن حيا لدفعه هذا المصاب إلى عمل هائل من أعمال اليأس يطرد به ملك الرحمة من جانبه ويستنزل عليه لعنة ربه.
عطيل :
هذا محزن في الغاية ولكن ياجو يعلم أنها ضاجعت كاسيو ألف مرة وكاسيو اعترف بذلك وقد كافأته على أعماله الغرامية بأن أعطته ما أهديته إليها في أوائل الحب بيننا دليلا على شغفي بها وأخلاصي لها، ثم إنني رأيت هديتي في يده وهي منديل كان أبي قد أهداه إلى والدتي.
إميليا :
يا إله السماء!
ياجو :
إخرسي.
إميليا :
لا بد من إظهار الحقيقة، أأسكت أيها السادة؟ لا لا، سأتكلم بطلاقة ريح الشمال. السماء والناس والزبانية كلهم كلهم كلهم يصيحون بالعار علي إذا لم أتكلم.
ياجو :
تعقلي وارجعي إلى البيت.
إميليا :
كلا. (يهجم ياجو عليها ليضربها بخنجره)
غراتيانو :
عيب رفع السلاح على امرأة.
إميليا :
يا أيها المغربي البليد، المنديل الذي تذكره وجدته أنا بالمصادفة وأعطيته لزوجي لأنه كان كثيرا ما يلح علي بسرقته وكنت أتعجب من شدة اهتمامه بتافهة كهذه.
ياجو :
يا للمومس الجانية!
إميليا :
أعطته لكاسيو - كلا - وا حسرتاه، أنا التي وجدته ضائعا وأعطيته زوجي.
ياجو :
تكذبين يا قذرة. (يطعنها ويهرب)
إميليا :
بالله العظيم لا أكذب يا سادتي (إلى عطيل)
ويحك من قاتل أبله ما كان لأحمق مثلك أن يعايش حوراء كهذه.
عطيل :
أليس في السماء حجارة غير التي تستخدم للصواعق، يا للمجرم الذي يفوق دهاؤه كل تصور.
غراتيانو :
هذه المرأة تميد. سقطت قتلها ولا شك.
إميليا :
نعم، انقلوني إلى جوار سيدتي.
غراتيانو :
لقد هرب.
منتانو :
هو مجرم بلا مراء. خذوا هذا السلاح الذي نزعته من المغربي واذهبوا لحراسة الباب الخارجي ولا تدعوه يجتازه أو تقتلوه، أما أنا فسألحق بذلك المجرم. إنه لعبد هالك النفس. (يخرج)
إميليا :
علام كانت تدل أنشودتك يا سيدة. أصغي. أسامعة. سأموت متغنية، الصفصافة الصفصافة الصفصافة، أيها المغربي كانت طاهرة. كانت تحبك أيها القاسي. ليت نفسي تنجو بمثل ما أقول الحق وأصرح عما في ضميري، أموت أموت.
عطيل :
عندي سيف آخر في هذه الغرفة. سيف إسباني ماض مجوهر ها هو ذا - يا عم يجب أن أخرج.
غراتيانو :
إذا حاولت الخروج جازفت في عمرك، لست مسلحا وقد تقع على ما تكره.
عطيل :
إذن ارجع وتعال كلمني وإلا هجمت عليك مع كوني أعزل. (يدخل غراتيانو)
غراتيانو :
ما تروم؟
عطيل :
أنظر، معي حسام مما لم يتقلد مثله جندي ولقد شهدت زمنا كنت فيه بهذه الذراع الصغيرة وهذا السيف الوفي افتتح لي طريقا بين عقبات تربو عشرين مرة على ما تتصور. ولكن يا للفخر الباطل! من الذي يخالف المقدور عليه. الآن أنا غير ما كنت فلا تخف ولو رأيتني مسلحا. هذا محط رجالي ومربط شراعي وغاية سفري - أتتراجع من الرعب - رعبك لا طائل تحته. وجه خيزرانة إلى صدر عطيل وهو الذي يتراجع. إلى أين يستطيع عطيل أن يذهب الآن - أريني كيف وجهك في هذه الساعة؟! يا للمرأة التي ولدت تحت طالع منحوس. إنك لصفراء بلون قميصك فإذا التقينا لدى محكمة الله فرؤيتك على هذه الصفة تكفي لإسقاط روحي من السماء فيلتقطها الزبانية - هامدة يا بنيتي، قريرة كطهارة نفسك. ويل للشحاذ اللعين. أيها الشياطين اطردوني ضربا بالسياط من أمام هذا النور السماوي واقذفوا بي أتقلب وأتدهور بين العواصف بلا استقرار، أغلوني في النفط، دحرجوني إلى أعماق بعيدة من النار السائلة. أي ديدمونه لقد مت مت آه آه ... (يدخل لودفيكو وياجو وكاسيو)
لودفيكو :
أين ذلك الشقي المختبل؟
عطيل :
الذي كان عطيلا؟ هأنذا ...
لودفيكو :
أين ذلك الثعبان؟ هاتوا ذلك المجرم ...
عطيل :
أتفرس في رجيله! هذه أعجوبة من خرافات الأولين. إذا كنت شيطانا فلن أستطيع قتلك.
لودفيكو :
انزعوا منه سيفه.
ياجو :
جرحت يا سيدي ولكن لم أمت.
عطيل :
أريد أن أعيش لأن الموت سعادة.
لودفيكو :
أي عطيل الذي كنت عنوان الفضائل واستسلمت لمكايد هذا الشحاذ الهالك، بأي اسم ستسمى؟
عطيل :
ليسموني كما يشاؤون إن أنا إلا قاتل شريف لأنني لم أفعل فعلي عن حقد بل دفاعا عن الشرف.
لودفيكو :
هذا الحقير اللئيم اعترف بجزء من جريمته. أكنت متواطئا معه على قتل كاسيو؟
عطيل :
نعم.
كاسيو :
يا قائدي العزيز لم أفعل قط ما يسوءك.
عطيل :
أنت صادق وألتمس منك الصفح. أتريد أن تتفضل وتسأل هذا النصف الشيطان لماذا سحر عقلي وجسمي كما فعل؟
ياجو :
لا تسألوني شيئا فقد علمتم ما علمتموه وبعد هذه اللحظة لن أنبس بكلمة.
لودفيكو :
حتى ولا الصلاة!
غراتيانو :
إن التعذيب سيفض فاك.
عطيل :
هذا هو العمل الصالح المفيد.
لودفيكو :
أيها السيد يجب أن تعلم من بقية المسألة ما لم تزل تجهله فيما أظن. هذا كتاب وجد في جيب ردريجو الذي قتل وهذا آخر، ومن أحدهما يؤخذ أن مقتل كاسيو كان منوطا بردريجو.
عطيل :
يا للمجرم !!
كاسيو :
يا للعمل الشنيع الذي لا يعمله إلا وثني.
لودفيكو :
وهذا كتاب آخر وجد في جيبه كان في عزم ردريجو على ما يظهر أن يرسله إلى هذا الأثيم الهالك غير أن ياجو لقيه قبل إرساله وتمكن من تهدئة خاطره.
عطيل :
ويحك أيها الشقي المؤذي، كيف وجد بيدك ذلك المنديل الذي كان لامرأتي يا كاسيو؟!
كاسيو :
وجدته في غرفتي واعترف هو بنفسه منذ هنيهة أنه كان ألقاه بيده فيها لقصد ما.
عطيل :
يا مجنون يا مجنون يا مجنون.
كاسيو :
ويظهر علاوة على ما ظهر من كتاب ردريجو أن ياجو هو الذي كان باعة على التحرش بي في ليلة الحرس. ومن هذه الحادثة نجم عزلي. ثم ظهر أيضا منذ قليل بإقرار من نفس ردريجو الذي تكلم بعد أن ظن ميتا أن ياجو هو الذي دفعه إلى قتلي وياجو الذي ضربه بخنجره ليجهز عليه.
لودفيكو :
يجب عليك ترك هذه الغرفة واللحاق بنا فقد استرددت منك إمارة الجند وحكومة قبرس وقلدها كاسيو مكانك. أما هذا المجرم المتفنن فمهما نجد من ضروب التعذيب لإيلامه أبعد ما يكون أجلا فهو ما سنعذبه به وأما أنت فتبقى سجينا إلى أن يعلم أمرك في البندقية. هلموا اقتادوه.
عطيل :
رويدكم أقل كلمة أو كلمتين. لقد خدمت البلاد بعد الخدم ويعرفونها فلا أطيل عن هذا القدر في هذا المعنى. ولكن أرغب إليكم حينما تقصون قصتي في رسائلكم أن تذكروني بحقيقتي لا بمزيد ولا بنقصان وألا تدخلوا فيها شيئا من المكر السيء فإذا فعلتم ذلك وصفتم حال رجل لم يعشق بتعقل ولكن كان خالص السريرة متجاوز الحد في حبه، رجل دافع الغيرة عن نفسه جهده فلما تمكنت منه تمادى فيها إلى النهاية، رجل غلب الأسى عينيه على أنهما لم يكن من شيمتها البكاء فذرفتا من الدموع أغزر ما تنضجه أشجار جزيرة العرب من صمغها الشافي. هكذا أرجو أن تصفوني وأضيفوا إلى ما تقدم أنني عندما كنت في حلب وأهان أحد الأعداء رجلا من البندقية وثبت به وجعلت يده في عنقه وضربته ... هكذا. (يضرب نفسه)
لودفيكو :
يا للختام الرائع.
غراتيانو :
قد تلاشى كل ما كنا في تدبيره.
عطيل (زاحفا نحو سرير ديدمونه) :
لقد قبلتك قبل مماتك والآن لم يبق لي إلا أن أموت في قبلة.
كاسيو :
كنت أخشى هذه النهاية لكنني لم أظن أن معه سيفا ... قضى وكان قلبه كسيرا ...
لودفيكو :
أين كلب إسبرطة. يا أقسى من الألم والجوع والبحر انظر هذه الجثث الطاهرة المتراكمة على هذا السرير. هذا عملك. منظر ينفث ناقع السم في الأبصار فألقوا عليه غطاء - أي غراتيانو احرس البيت وتسلم تركة المغربي فهي إليك - وأنت أيها السيد الوالي تحكم في عقاب هذا المجرم الجهنمي بما تشاء. اضرب لذلك أجلا وعين مكانا واختر آلات التعذيب ثم عذبه بمنتهى الشدة وبلا رحمة سأبحر من فوري عائدا إلى البندقية حاملا إلى القوم بقلب حزين خبر هذه الحادثة الفاجعة.
Shafi da ba'a sani ba