الشرف بهاء للشخص، يحوم عليه بالأنظار، ويوجه إليه الخواطر والأفكار، وجمال يروق حسنه في البصائر والأبصار، ومشرق ذلك البهاء عمل يأتيه طالبه يكون له أثر حسن في أمته أو بني ملته، أو في النوع الإنساني عامة، كإنقاذ من تهلكة، أو كشف لجهالة، أو تنبيه لطلب حق سلب، أو تذكير بمجد سبق، وسؤدد سلب، أو إنهاض من عثرة، أو إيقاظ من غفلة، أو إرشاد لخير يعم، أو تحذير من شر يغم، أو تهذيب أخلاق، أو تثقيف عقول، أو جمع كلمة وتجديد رابطة، أو إعادة قوة وانتشال من ضعف، أو إيقاد حمية، أو حضو لغيرة.
من أتى عملا من الأعمال له أثر من هذه الآثار فهو الشريف وإن كان يسكن الخصاص والأكواخ، ويلبس الدلوق والأسمال، ويقتات بنبات البر، ويبيت على تراب الفقر، ويتوسد نشز الأرض، ويضرب في كل واد، ويتردد بين الربى والوهاد، هذا له حلية من عمله، وزينة من فضله، وبهاء من كماله، وضياء من جده، يهدي إليه ضالة الألباب، وتائهة الأفئدة، تعرفه المشاعر الحساسة ولا تنكره، وتكتنفه ذرات القلوب المتطايرة إليه ولا تنفصل عنه، له من روحه قصور شاهقة، وغرفات شائقة، ومناظر رائقة، وجمال باهر، ونور زاهر، لا يكاد يخفى حتى يظهر، ولا يكاد يستر حتى يبصر، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه إلى أعلى عليين، حياة طيبة في القلوب وعزة مشرقة في جبهة الزمان
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
نعم، وقد ينبعث عليه من أرباب الطباع الفاسدة بعض الكرائه، فيسلقونه بالألسنة، ويرشقونه بسهام اللوم، ولا تروق في أنظارهم أزهار أعماله، ولا أنوار مزاهره؛ لبعدها عن فهمهم، وغرابتها على حواسهم؛ لما ألفوه من الانكباب على تلك السفاسف الساقطة التي عدوها شرفا، وحسبوها مجدا، وقد بيناها كما كشفتها الشرائع وآراء العقلاء، وإنما مثلهم مثل الجعل ينفر من رائحة الورد، ويألف روائح القذر، لا يبعد أن يسخر بالعامل الفاضل أناس لا أخلاق لهم، أو يقصده بالأضرار من لا ذمة له، ولكنهم بأنفسهم يهزءون، وبمصالحهم يضرون، ولا يطول عليهم الزمان في هذا العمى، بل لا يلبثون إذا بدت الثمرة الشهية أن يهرعوا لاقتطافها، ويطعموا من جناها، ولا يسعهم بعد ذلك إلا الحمد لغارس الشجرة، وحافظ الثمرة، وإن كان دونهم في تلك الزخارف التي لا قيمة لها في نظر العاقل؛ ثم يكون عقابهم على ما فرط منهم ندما على الخطيئة، وأسفا على السيئة، وألما في قلوبهم تهيجه ذكرى ما قاموا من سوء عملهم، وانكشاف نقصهم لدى وجدانهم. هكذا تمنح العناية الإلهية هذه الكرامة لصاحب العمل الشريف ما دام حيا، فإذا غابت شمسه عن أفق هذا العالم لم تحجب أشعة ضيائه التي فاضت منه على نجوم هاديات، وبدور منيرات، نعم إنه يموت ويتوارى خلف حجاب العدم بجسمه، ولكنه قائم في الأفئدة، شاهد على الألسنة، حي يرزق عند ربه - ونعمت الحياة حياته، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
الفصل الخامس عشر
الأمة وسلطة الحكم المستبد
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . •••
إن الأمة التي ليس لها في شئونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فتلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير، فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال - خيرها وشرها - فهو تابع لحال الحاكم، فإن كان حاكمها عالما حازما أصيل الرأي، علي الهمة، رفيع المقصد، قويم الطبع؛ ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم، ومهد لها طرق اليسار والثروة، وفتح لها أبوابا للتفنن في الصنائع، والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة، وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة من الشجاعة والشهامة وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليا من العزة، ووطأ لهم سبل الراحة والرفاهة، وتقدم بهم إلى كل وجه من وجوه الخير.
وإن كان حاكمها جاهلا سيئ الطبع، سافل الهمة، شرها مغتلما جبانا، ضعيف الرأي، أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة؛ أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران، وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليها غائلة الفاقة، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبوابا للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفض الكلمة، ويغلب اليأس فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة.
عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله بها خيرا؛ اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة، واستئصال جذورها قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة القاتلة بين جميع الأمة، فتميتها وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا العضو المجذم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وجددوا لهم بنية صحيحة سالمة من الآفات - استبدلوا الخبيث بالطيب.
Shafi da ba'a sani ba