209

من له أدنى خبرة بسير الإنجليز في ماضيهم أو حاضرهم، يعلم أنهم يملكون البلاد بأيدي سكانها، ويقتلون أمراءها بسيوف أنفسهم، يرى هذا الأمير الشرقي في أرض جاره فيظن النازلة خاصة بموقعها فيلهو عنها ولا يخشى السقوط فيما سقط فيه غيره، فيقع في نفس الشرك الذي صيد به جاره، مثلهم مثل الأغنام سوق القصاب منها واحدا بعد واحد إلى المذبحة وسائر القطيع في غفلة عما يجري على آحاده يرعى ويرتع آمنا مطمئنا حتى يفنى.

لا عار على أمة قليلة العدد ضعيفة القوة إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة وأكثر سوادا وقهرتها بقوة السلاح، وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهور ولا ينسيه تطاول الأزمان، هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدو من نواصيهم، إما غفلة عن شئونهم، وإما رغبة في نفع وقتي وجزاء نقدي على خيانتهم، فيكونون باحثين عن حتفهم بظلفهم.

علينا أن نرفع أعلام المحبة الوطنية، ونحمل عوامل الشهامة الإسلامية، ونوقد نيران الغيرة الوطنية، لتخيب آمال الإنجليز ونرد كيدهم في نحورهم، ونقذف بأولئك المغفلين الذي يميلون إليهم خارج تخوم هذه الديار ليلحقوا بالخائنين ممن سبقهم ويذوقوا عذاب الهوان بما كانوا يكسبون، هذا إذا حصل اليأس من تيقظهم ورجوعهم إلى الحق والصدق في محبة الأوطان ورعاية مصالحها، فإن تابوا وأصلحوا وأنابوا كان الحق ظهيرهم، وكان الله وليهم ونصيرهم، وهو نعم المولى ونعم النصير.

الفصل الرابع والمائة

إخفاق سعي الإنجليز

بينا العلة في اهتمام الإنجليز بتحوير قانون المالية المصرية ومعارضة الدول لهم فيما يرغبون، ولما لم يجدهم إلحاحهم، وثبتت الدول في امتناعها، نكبوا عن طريقهم واستكانوا لرأي الدول، وأعلن ترجمان سرهم ولسان حالهم «نوبار باشا» لجميع قناصل الدول في مصر أن الحكومة المصرية (الإنجليزية) رجعت عما عزمت عليه - وكانت نفذته - من توقيف الاستهلاك، كان قصد الإنجليز بهذا التصرف إثبات سلطتهم وتقوية شوكتهم على المصالح العامة في مصر، وهو نفوذ عاجل، وكانوا يؤملون فيه فائدة آجلة كما أشرنا إليه، ولما رأوا أن طول الزمن على معارضة الدول لهم ربما يحول بينهم وبين غايات أخر يبتغون الوصول إليها؛ انقلبوا عن وجههم ونقضوا عزيمتهم بلا خجل، ولا نظن أن يخفى على المصريين سر العزيمة الأولى وسر النقض الثاني، وأن هذا التنازل إنما دعت إليه الضرورة الحاضرة ووجود العقبة السياسية، أما سائر مطامعهم وبقية مقاصدهم فإنهم يغذون إليها السير ولا يدعون منها نقيرا، إلا أن تصادمهم جيوش الهمم وتقوم في وجوههم عقبات العزائم، هناك يرجعون بالخيبة ويخسرون خسرانا مبينا.

الحق

اعتدى على الحق جاهل فنال نكاله.

ينتصر الحق ويخذل الباطل وإن طاوله الكرم وأمهله العفو ومده الغرور.

جمال الدين الأفغاني - محمد عبده (تمت كلمات «العروة الوثقى» بفضل الله.)

Shafi da ba'a sani ba