ينبغي أن يكون أبناء الملة الإسلامية - بمقتضى أصول دينهم - أبعد الناس عن هذه الصفة الردئية (الجبن)؛ فإنها أشد الموانع عن أداء ما يرضي الله وإنهم لا يبتغون إلا رضاه، يعلم قراء القرآن أن الله قد جعل حب الموت علامة الإيمان، وامتحن الله به قلوب المعاندين، ويقول في ذم من ليسوا بمؤمنين:
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب (النساء: 77). الإقدام في سبيل الحق، وبذل الأموال والأرواح في إعلاء كلمته أوسمة يتسم بها المؤمنون، لم يكتف الكتاب الإلهي بأن تقام الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتكف الأيدي، وعد ذلك مما يشترك فيه المؤمنون والكافرون والمنافقون، بل جعل الدليل الفرد هو بذل الروح في إعلاء كلمة الحق والعدل الإلهي، بل عده الركن الوحيد الذي لا يعتد بغيره عند فقده.
لا يظن ظان أنه يمكن الجمع بين الدين الإسلامي وبين الجبن في قلب واحد، كيف يمكن هذا وكل جزء من هذا الدين يمثل الشجاعة ويصور الإقدام، وإن عماده الإخلاص لله والتخلي عن جميع ما سواه لاستحصال رضاه؟!
المؤمن من يوقن أن الآجال بيد الله يصرفها كيف يشاء ولا يفيده التباطؤ عن أداء الفروض زيادة في الأجل، ولا ينقصه الإقدام دقيقة منه، المؤمن من لا ينتظر بنفسه إلا إحدى الحسنيين: إما أن يعيش سيدا عزيزا، وإما أن يموت مقربا سعيدا، وتصعد روحه إلى أعلى عليين، ويلتحق بالكروبيين والملائكة المقربين.
من يتوهم أنه يجمع بين الجبن وبين الإيمان بما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ، فقد غش نفسه وغرر بعقله ولعب به هوسه وهو ليس من الإيمان في شيء، كل آية من القرآن تشهد على الجبان بكسبه في دعوى الإيمان؛ لهذا نؤمل من ورثة الأنبياء أن يصدعوا بالحق، ويذكروا بآيات الله، وما أودع الله فيها من الأمر بالإقدام لإعلاء كلمته، والنهي عن التباطؤ والتقاعد في أداء ما أوجب الله من ذلك، وفي الظن أن العلماء لو قاموا بهذه الفريضة (الأمر بذاك المعروف والنهي عن هذا المنكر) زمنا قليلا، ووعظوا الكافة بتبيين معاني القرآن الشريف وإحيائها في أنفس المؤمنين؛ رأينا لذلك أثرا في هذه الملة يبقى ذكره أبد الدهر، وشهدنا لها يوما تسترجع فيه مجدها في هذه الدنيا وهو مجد الله الأكبر، فالمؤمنون بما ورثوا عن أسلافهم وبما تمكن في أفئدتهم من آثار العقائد؛ لا يحتاجون إلا لقليل من التنبيه، ويسير من التذكير، فينهضون نهضة الأسود فيستردوا مفقودا ويحفظوا موجودا، وينالوا عند الله مقاما محمودا.
الفصل الخامس والعشرون
زلزال الإنجليز في السودان
نقلت الجرائد الإنجليزية برقية وردت إلى جريدة ألستنداراد من دونقلا، ثم كررت ذكره وثبتت مفاده أياما متواليات، ومحصله: أن الألسن تلهج في مدينة دونقلا وفيما بين الجيوش الإنجليزية بقدوم جيش محمد أحمد، والحديث مستفيض في جميع المعسكرات بأنه زاحف إليهم بجيشين أحدهما يأتي من الصحراء والآخر على شطوط النيل، وأنهم لا بد أن يلاقوا منه صدمة شديدة لا قبل لهم باحتمالها.
وقد استولى بذلك الإضراب والتشويش على أفكار العساكر خصوصا عساكر مدير دونقلا؛ خوفا وفزعا، ولكن لما أيقنوا به واطمأنوا إليه من أن السلطان راض عن أعمال محمد أحمد، بل صدرت منه التنبيهات إلى جميع المؤمنين في تلك الأطراف بأن يتجنبوا محاربة هذا القائم، وأن يعتبروا الإنجليز في منزلة العدو الألد ويقاوموهم مقاومة الآيسين. ا.ه.
Shafi da ba'a sani ba