(إن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة، أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذى جعله سببا موصلا لهم إليه، وطريقا واضحا بين الدلالة عليه، من تمسك به؛ فاز واهتدى، ومن أعرض عنه؛ شقى وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم، والصراط المستقيم والنبأ العظيم، لا يوصل إليه أبدا إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصوله إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين "همة ترقيه" و"علم يبصره، ويهديه"،فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، أو من إحداهما: إما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالما بها، ولا تنهض همته إليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدودا منكوسا، قد أسام نفسه مع الأنعام راعيا مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريقه طلبه فلزمه، واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله.
ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرف العلم تابعا لشرف معلومه، كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها، ولا حياة له إلا بها؛ أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسنى، والحظ الأوفى؛ إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا، وأقامه على هذا الطريق هاديا، وجعله واسطة يينه وببين الأنام، وداعيا لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحد منهم سعيا إلا أن يكون مبتدئا منه، ومنتهيا إليه، - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) اه.
أقسام الناس من حيث القوتان العلمية والعملية
قال ابن القيم -رحمه الله-:
Shafi 12