Copernicus Darwin Freud
كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم
Nau'ikan
هذا شرط صارم للغاية؛ لأنه يفترض أن الشكل المادي للكون يحتم على الكون أن يصير كونا ذاتي الإدراك؛ فالكون سيؤدي في النهاية إلى خلق راصدين بشريين أذكياء (بارو/تبلر 1986، 248، 523؛ بروير 1991، الفصل الأول). إن موطن قوة هذا الشرط يمثل أيضا موطن ضعفه. من ناحية، يجسد المبدأ الإنساني القوي مركزية البشر الحتمية، التي لم تعد جزءا من تفسير فيزيائي؛ فمنذ قيام الثورة العلمية في القرن السابع عشر، كان يوجد ميل جوهري تجاه القضاء على منطق مركزية البشر أولا من العلوم الفيزيائية، وبعد ذلك من العلوم البيولوجية؛ ومن ناحية أخرى، يسير المبدأ الإنساني القوي مباشرة عكس التفسيرات التطورية للحياة؛ فالمبادئ البيولوجية، مثل الانتقاء الطبيعي، لا تدعي أن الأنواع الجديدة تتطور على طول مسار خطي تكون نهايته هي ظهور البشر؛ فقد تمثلت إحدى النتائج المترتبة على عمل داروين في اعتبار أي تفكير غائي في علم الأحياء التطوري يعامل البشر باعتبارهم غاية أخيرة للتطور تفكيرا خاطئا؛ لذلك يفضل معظم علماء الكونيات نسخة ضعيفة من المبدأ الإنساني. «المبدأ الإنساني الضعيف»: «يجب أن نكون مستعدين لنضع في الاعتبار حقيقة أن موقعنا في الكون متميز بالضرورة إلى حد يتوافق مع وجودنا كراصدين.» (كارتر 1974، 293؛ ديك 1961؛ بروير 1991، 8)
ينص هذا الافتراض على أن وجود الحياة البشرية يمكن استخدامه لتفسير القيم الدقيقة للثوابت الفيزيائية الأساسية:
القيم المرصودة لجميع الكميات الفيزيائية والكونية ليست محتملة على نحو متساو لكنها تمثل قيما محددة بشرط أن وجودها يكمن في المواقع التي يمكن أن تتطور فيها الحياة القائمة على الكربون وبشرط أن يكون الكون قديما بما يكفي لفعل ذلك. (بارو/تبلر 1986، 16؛ ديك 1961)
الفكرة هي أن التوازن المعقد بين الثوابت الفيزيائية الأساسية لا يمكن أن يكون صدفة كونية؛ فحتى أدنى التغييرات في هذه القيم كان من شأنه أن يدمر احتمال وجود الحياة البشرية. فيرى أن القيم العددية الدقيقة للثوابت الأساسية قيم ضرورية كي تصبح الحياة البشرية ممكنة؛ فاستقرار المادة والفضاء الثلاثي الأبعاد على سبيل المثال أمران ضروريان للحياة. ومن شأن التغيير الطفيف في هذه القيم العددية أن يوجه الكون نحو مسار مختلف تماما. أما الأكثر درامية من ذلك فهو أنه توجد خصائص أساسية للكون كان التطور البيولوجي سيصبح مستحيلا من دونها. واكتشافنا لهذه الخصائص الأساسية «قد يكون بمعنى ما عاقبة ضرورية لحقيقة كوننا راصدين» لها (بارو/تبلر 1986، 383). تتمثل الفكرة الأساسية في أن الوجود البشري يفرض قيودا صارمة على القيم العددية للثوابت الأساسية. فيجب أن يكون للثوابت هذه القيم التي هي عليها الآن، وذلك لأننا موجودون. وبصياغة العبارة بطريقة مغايرة للواقع ، لو كانت الثوابت الفيزيائية الأساسية قد اكتسبت قيما مختلفة قليلا، ما كان للبشر أن يظهروا. وبما أن البشر قد ظهروا وتطوروا، فقد كان من الحتمي أن تمتلك الثوابت هذه القيم المحددة.
تأمل على سبيل المثال عمر وحجم الكون. يؤكد أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن هذه السمات يمكن تفسيرها بدراسة حالة الوجود البشري. من الواضح أن الأرض لا بد أن تكون ملائمة ماديا لاستضافة تطور الحياة العضوية. يحدث تحول الهيدروجين والهيليوم إلى جزيئات مساعدة للحياة في المقام الأول في النجوم، لكن إنتاج الجزيئات الثقيلة التي تعتمد عليها الحياة يستغرق مليارات السنين. يجب أن يكون الكون قديما بما فيه الكفاية لتوجد أشكال الحياة؛ ومن ثم، يرى أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن وجود الحياة البشرية يمكن أن يفسر عمر الكون. والعمر يفسر الحجم. «العديد من مشاهدات العالم الطبيعي (...) يمكن أن ينظر إليها على أنها نتائج حتمية لوجودنا» (بارو/تبلر 1986، 219).
بالنسبة لأنصار المبدأ الإنساني الضعيف، يعيد هذا المنطق شكلا من أشكال المركزية الخاصة ويناقض التحول الكوبرنيكي؛ فلو أن ظروفا خاصة للغاية تنتج كونا ذاتي الإدراك، فثمة إعادة تأسيس لصلة وثيقة بين الجنس البشري والبيئة الكونية. يضع المبدأ الإنساني قيودا على بنية الكون ذاتي الإدراك. ويؤكد أن الحياة الذكية بطريقة ما تختار الكون الفعلي (بارو/تبلر 1986، 510؛ بروير 1991، الفصل الأول). وهذا الكون وحده هو ما ينتج راصدين أذكياء يمكنهم التعرف على موقعهم المتميز.
من مشكلات المبدأ الإنساني أنه مقاربة وحسب في أحسن الأحوال. وهو يوجه الراصد مرة أخرى نحو النظرية الفيزيائية، ولكن حتى حينها فإنه يشير فقط إلى القيمة الأسية للثوابت الأساسية، وليس القيم على وجه الدقة. يتنكر المبدأ الإنساني الضعيف في صورة تفسير فيزيائي بينما لا يزيد عن كونه استنتاجا لا اعتراض عليه؛ فمن حقيقة أن الراصدين البشريين يسكنون زاوية صغيرة من الكون، يستنتج أن هذا المكان لا بد أن يكون ملائما للحياة، ولكن وجودنا لا يفسر بأثر رجعي سبب امتلاك الكون للظروف المادية التي جعلت الحياة الذكية ممكنة (سالمون 1998، 396). وحتى أنصار المبدأ الإنساني يعترفون بأن المبدأ يمكن أن يحل محله في نهاية المطاف تفسير فيزيائي (كارتر 1974، 292، 295؛ كار/ريس 1979، 612).
ثمة تشابه معين بين الحجج التي ساقها أنصار المبدأ الإنساني وأنصار التصميم الذكي الجدد؛ فيرى أنصار التصميم الذكي أن العديد من العمليات الكيميائية الحيوية مضبوطة بدقة شديدة لدرجة تمنع الانتقاء الطبيعي من تفسيرها (انظر الفصل الثاني، القسم 5-4). فيعتبرون أن أعضاء مثل العين معقدة بحيث لا يمكن أن تكون نتيجة لتكيف تطوري بطيء. ويشير أنصار المبدأ الإنساني إلى توازن دقيق مماثل في الثوابت الأساسية. فيرون أن وجود راصد ذكي يمكن أن يفسر دقة ضبط الثوابت الأساسية. تلعب التفسيرات الغائية في كلتا الحالتين دورا مهما. ويستنتج أنصار التصميم الذكي وجود التصميم من تعقيد النظم البيولوجية وعدم أرجحية وجودها بمحض الصدفة. ويستنتج أنصار المبدأ الإنساني وجود مكان وزمن خاصين للبشر من القيم المحددة للمتغيرات الكونية. المشكلة هي أن الثوابت الأساسية لا تمتلك قيمها الخاصة لأننا موجودون؛ فالتغيير الطفيف في قيمة الثوابت الأساسية في الماضي البعيد ربما كان سيجعل بالفعل تطور الحياة على الأرض مستحيلا، ولكن وجودنا «الآن» لا يعني بالضرورة أن الثوابت اكتسبت في الماضي قيمها المحددة. صحيح أن بوسعنا أن نستنتج قيما خاصة للثوابت الأساسية من وجودنا، ولكن هذا لا يفسر القيم. يبدو أن المبدأ الإنساني القوي يعني ضمنا أن الراصد هو هدف التطور (بارو/تبلر 1986، 28). وهذا التفكير الغائي - كما سنوضح في الفصل الثاني - كان سائدا خلال معظم تاريخ الأفكار. وهو يتناقض بشدة مع تاريخ الداروينية. فحتى المبدأ الإنساني الضعيف فشل في إظهار أن أحجام النجوم والكواكب والناس نتائج لازمة لثوابت الطبيعة (بارو/تبلر 1986، 387). أحد الأسباب هو أن التطور الكوني عرضي؛ فالأرض ليست محمية من بقية النظام الشمسي؛ فلملايين السنين كانت الأرض تخضع لقصف من الفضاء الخارجي. إن الكون نظام شاسع، ووفقا لفرضية ألفاريز فقد حدث انقراض الديناصورات قبل 65 مليون سنة بسبب اصطدام أحد الكويكبات بالأرض. وعندما اختفت كانت حياتها قد امتدت بالفعل أكثر من 200 مليون سنة. ولو كانت الديناصورات قد استمرت في الحياة، لم يكن البشر ليوجدوا . خلال عهد الديناصورات، كانت الظروف ملائمة للحياة العضوية، ولكن هذا لا يعني وجوب ظهور الراصدين البشريين . ثمة سبب آخر للشك في التفكير وفق المبدأ الإنساني، الذي ينتج عن الانتقاد الأول؛ فالتفكير وفق المبدأ الإنساني يتجاهل تسلسل السببية. فلا يمكننا أن نفسر سببيا وقوع حدث سابق من خلال وقوع حدث لاحق. مع ذلك، يقفز التفكير وفق المبدأ الإنساني من حدث بعيد في الماضي إلى أحداث في الوقت الحاضر؛ فهو يجيب على أسئلة مثل: «لماذا الكون موحد الخواص؟» بعبارات مثل «لأننا موجودون فيه» (بارو/تبلر 1986، 426)، ومع ذلك، فإن عرضية الأحداث الفيزيائية تمنعنا من تخطي عدة حلقات في تسلسل السببية. سيكون من قبيل التفكير الخاطئ الادعاء بأني موجود هنا لأن أجداد أجدادي تزوجوا في سبعينيات القرن التاسع عشر. يخبرنا التفكير الفيزيائي أن الاستنتاجات يمكن أن تغير مسار الحدث «المحدد سلفا». ويخبرنا التفكير التطوري بأن شجرة الحياة نمت على نحو عرضي. وإذا قبلنا هذه الأفكار، فإن البشر ليسوا نتيجة ضرورية للتطور. يبدو هذا التفسير على نحو مثير للريبة مثل التطور التدريجي للامارك. وكما سنرى، أدت ثورة داروين إلى الإطاحة بمفهوم التصميم الرشيد.
ربما نستنتج أن التحول الكوبرنيكي أدى إلى فقدان المركزية المادية، لكن الوجود الإنساني لا يزال ثمينا في سياقين؛ فنحن النوع الذكي الوحيد في ضاحيتنا الكونية. وعلى هذا النحو فإننا لا نعتمد على أي مركزية مادية. ومن خلال قوة التفكير النظري تستطيع العقول البشرية أن تجوب الكون. ونحن نعرف من التفكير أكثر مما نعرفه من الرؤية. وهذا نوع أثمن من المركزية؛ إنها المركزية العقلانية.
أسئلة مقالية (1)
Shafi da ba'a sani ba