بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتعالى بجلال أحديته عن مسارح الخواطر والأوهام، المقدس بكمال صمديته عن مسابح البصائر والأفهام. المتنزه لوجوب هويته عن مشاكلة الأعراض والأجسام. المبرأ بعظمة إلهيته عن بواعث الإقدام وصوارف الأحجام، الذي لا يتغير بكرور الدهور ومرور الشهور والأعوام. ولا يؤوده إنعام سجال الخواص والعوام من الاحسان والإنعام. والصلاة على محمد المبعوث إلى كافة الأنام، والسلام على آله وأصحابه أئمة الإسلام * [أما بعد] فهذه رسالة عملناها في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه، وإبانة ما أتى به أهل الحشو من إحالة الذنوب والجرائم عليهم، ونسبة الفضائح والقبائح إليهم، وأنه زور وبهتان، وحسبان عاطل عن الحجة والبرهان، وإنهم يتجشئون من غير شبع، ويطمعون في غير مطمع، وإن شبهاتهم لا تقوى على مقاومة الساعد الأشد ولا تسم على المنهج الأسد (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) والله المحمود على ما أفاض من توفيق، والمشكور على ما منح من تحقيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل
Shafi 6
[فصل] [في شرح الأقوال والمذاهب في هذه المباحث والمطالب] [إعلم] أن الاختلاف في هذه المسألة واقع في أربعة مواضع [الأول] ما يتعلق بالاعتقادية. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة إلا الفضيلية من الخوارج فإنهم يجوزون الكفر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن عندهم يجوز صدور الذنوب عنهم وكل ذنب فهو كفر عندهم، فبهذا الطريق جوزوا صدور الكفر عنهم، والروافض فإنهم يجوزون عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية (1) * [الثاني] ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من الله تعالى، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسهو، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع *
Shafi 7
[الثالث] ما يتعلق بالفتوى. وأجمعوا على أنه لا يجوز تعمد الخطأ.
فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه * [الرابع] ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم. وقد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب (الأول) الحشوية وهو أنه يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر (الثاني) أنه لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز، بشرط أن لا تكون منفرا. وأما إن كانت منفرا فذلك لا يجوز عليهم، مثل التطفيف بما دون الحبة (1) وهو قول أكثر المعتزلة (الثالث) أنه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور الذنب منهم على سبيل الخطأ في التأويل، وهو قول أبي علي الجبائي (الرابع) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز ثم إنهم يعاتبون على ذلك السهو والنسيان، لما أن علومهم أكمل، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام * [الخامس] أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ولا بالسهو والنسيان. وهذا مذهب الشيعة * واختلفوا أيضا في وقت وجوب هذه العصمة، فقال بعضهم:
إنها من أول الولادة إلى آخر العمر، وقال الأكثرون: هذه العصمة إنما تجب في زمان النبوة. فأما قبلها فهي غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا رحمهم الله تعالى *
Shafi 8
والذي نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. ويدل على وجوب العصمة وجوه خمسة عشرة:
[الحجة الأولى (1)] لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد من حال عصاة الأمة.
وهذا باطل فصدور الذنب أيضا باطل، بيان الملازمة: أن أعظم نعم الله على العباد هي نعمة الرسالة والنبوة. وكل من كانت نعم الله تعالى عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أفحش، وصريح العقل يدل عليه، ثم يؤكده من النقل ثلاثة وجوه [الأول] قوله تعالى:
(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) وقال تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * [الثاني] أن المحصن يرجم وغيره يجلد [الثالث] أن العبد يحد نصف حد الحر، فثبت بما ذكرنا أنه لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم العاجل والعقاب الآجل فوق حال جميع عصاة الأمة، إلا أن هذا باطل بالإجماع فإن أحدا لا يجوز أن يقول إن الرسول أحسن حالا عند الله وأقل منزلة من كل أحد. وهذا يدل على عدم صدور الذنب عنهم * [الحجة الثانية] لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا) (2)
Shafi 9
أمر بالتثبت والتوقف في قبول شهادة الفاسق، إلا أن هذا باطل فإن من لم تقبل شهادته في حال الدنيا فكيف تقبل شهادته في الأديان الباقية إلى يوم القيامة، وأيضا فإنه تعالى شهد بأن محمدا عليه الصلاة والسلام شهيد على الكل يوم القيامة، قال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ومن كان شهيدا لجميع الرسل يوم القيامة كيف يكون بحال لا تقبل شهادته في الجنة * [الحجة الثالثة] لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن زجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز، لقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) فكان صدور الذنب عنهم ممتنعا * [الحجة الرابعة] لو صدر الفسق عن محمد عليه الصلاة والسلام لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز، أولا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضا باطل لقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولقوله تعالى: (فاتبعوه) ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين كان صدور الفسق عنه محالا * [الحجة الخامسة] لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله بعذاب جهنم،
Shafi 10
لقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) ولكانوا ملعونين، لقوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) وبإجماع الأمة هذا باطل فكان صدور المعصية عنهم باطلا * [الحجة السادسة] إنهم كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وتحت قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) ومعلوم أن هذا في غاية القبح، وأيضا أخبر الله تعالى عن رسوله شعيب عليه الصلاة والسلام أنه برأ نفسه من ذلك، فقال: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه) * [الحجة السابعة] قال الله تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) والألف واللام في صيغة الجمع تفيد العموم فدخل تحت لفظ (الخيرات) فعل كل ما ينبغي وترك كل ما لا ينبغي، وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي * [الحجة الثامنة] قوله تعالى (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) وهو أن اللفظين أعني قوله تعالى (المصطفين) وقوله (الأخيار) يتناولان جملة الأفعال والتروك، بدليل جواز الاستثناء، يقال: فلان من المصطفين الأخيار إلا في كذا، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه
Shafi 11
لدخل، فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور، وهذا ينافي صدور الذنب عنهم، ونظيره قوله تعالى (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) وقوله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) وقال في حق إبراهيم (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) وقال في حق موسى عليه الصلاة والسلام (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وقال تعالى (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * لا يقال: الاصطفاء لا يمنع من فعل الذنب، بدليل قوله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) قسم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق، لأنا نقول: الضمير في قوله (فمنهم) عائد إلى قوله (من عبادنا) لا إلى قوله (الذين اصطفينا) لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب * [الحجة التاسعة] قوله تعالى حكاية عن إبليس (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله، ثم إنه تعالى شهد على إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام أنهم من المخلصين، حيث قال (إنا أخلصناهم بخالصة) وقال في حق يوسف عليه الصلاة والسلام (إنه من عبادنا المخلصين) فلما أقر إبليس أنه لا يغوي المخلصين، وشهد الله بأن هؤلاء من المخلصين ثبت أن
Shafi 12
إغواء إبليس ووسوسته ما وصلت إليهم، وذلك يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم * [الحجة العاشرة] قال الله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال: إنهم الأنبياء أو غيرهم فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم، لقوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع. فوجب القطع بأن أولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل من أذنب فقد اتبع إبليس فدل هذا على أن الأنبياء صلوات الله عليهم ما أذنبوا * [الحجة الحادية عشرة] أنه تعالى قسم المكلفين إلى قسمين:
حزب الشيطان كما قال تعالى (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) وحزب الله كما قال تعالى (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريد الشيطان ويأمره به. فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لصدق عليهم أنهم من حزب الشيطان، ولصدق عليهم قوله تعالى:
(ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) ولصدق على الزهاد من آحاد الأمة قوله تعالى (ألا إن حزب الله هم المفلحون) وحينئذ يلزم أن يكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء، ولا شك في بطلانه * [الحجة الثانية عشرة] إن أصحابنا رحمهم الله تعالى بينوا أن
Shafi 13
الأنبياء أفضل من الملائكة وثابت بالدلالة أن الملائكة ما أقدموا على شئ من الذنوب، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لامتنع أن يكونوا زائدين في الفضل على الملائكة لقوله تعالى (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * [الحجة الثالثة عشرة] قال الله تعالى في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إني جاعلك للناس إماما) والإمام هو الذي يقتدى به فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبا وإنه باطل * [الحجة الرابعة عشرة] قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) فكل من أقدم على الذنب كان ظالما لنفسه لقوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه) * إذا عرفت هذا فنقول: ذلك العهد الذي حكم الله تعالى بأنه لا يصل إلى الظالمين إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان الأول فهو المقصود، وإن كان الثاني فالمقصود أظهر، لأن عهد الإمامة أقل درجة من عهد النبوة، فإذا لم يصل عهد الإمامة إلى المذنب العاصي، فبأن لا يصل عهد النبوة إليه أولى * [الحجة الخامسة عشرة] روي أن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شهد على وفق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ما كان عاما بتلك الواقعة فقال خزيمة: " إني أصدقك فيما تخبر عنه من أحوال السماء، أفلا أصدقك في هذا القدر؟! فلما ذكر ذلك صدقه
Shafi 14
النبي صلى الله عليه وآله فيه ولقبه بذي الشهادتين (1) ولو كان الذنب جائزا على الأنبياء لكانت شهادة خزيمة غير جائزة * [واعلم] أنا لما فرغنا من ذكر الدلائل الدالة على عصمة الأنبياء فلنذكر الآن ما يدل على عصمة الملائكة. ويدل عليه وجوه أربعة: [الأول] قوله تعالى في صفة الملائكة: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) يتناول جميع الملائكة في فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، لأن كل من نهى عن فعل فقد أمر بتركه [الثاني] قوله تعالى في وصفهم (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الثالث] قوله تعالى: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وما كانت صفته كذلك لا يصدر عنه الذنب * [الرابع] أن الملائكة رسل الله لقوله تعالى: (جاعل الملائكة رسلا) والرسل معصومون لقوله تعالى في تعظيمهم: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) *
Shafi 15
فهذا مجموع الدلائل على عصمة الأنبياء وعصمة الملائكة صلوات الله عليهم أجمعين * [واعلم] أن شبهات المخالفين في هذه المسألة كثيرة، ونحن نذكرها على سبيل الاختصار * [عصمة آدم عليه السلام] أما قصة آدم عليه السلام فقد تمسكوا بها من وجوه ستة:
[الأول] أنه كان عاصيا والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة، وإنما قلنا: إنه كان عاصيا لقوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) وإنما قلنا إن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين:
[أحدهما] أن النص يقتضي كونه معاقبا وهو قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه * [والثاني] أن العصيان اسم ذم فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة * [الثاني] أنه تائب والتائب مذنب. وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) وقوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وإنما قلنا إن التائب مذنب لأن التائب هو النادم على فعل الذنب والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلا للذنب، فإن كذب في ذلك الأخبار فهو مذنب بفعل الكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب *
Shafi 16
[الثالث] أنه ارتكب المنهى عنه، لقوله تعالى: (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) وقوله تعالى (ولا تقربا هذه الشجرة) وارتكاب المنهى عنه عين الذنب [الرابع] أنه تعالى سماه ظالما في قوله (فتكونا من الظالمين) وهو أيضا سمى نفسه ظالما في قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا) والظالم ملعون لقوله تعالى (ألا لعنة الله على الظالمين) ومن كان كذلك كان صاحب كبيرة [الخامس] أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله تعالى له لكان خاسرا في قوله تعالى (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وذلك يقتضي كونه صاحب كبيرة * (السادس) * أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان، وذلك يدل على كونه صاحب كبيرة * ثم قالوا: إن كل واحدة من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعل كبيرة، ولكن مجموعها قاطع في الدلالة عليه، ويجوز أن يكون كل واحد من الوجوه وإن لم يكن دالا على الشئ إلا أنها عند الاجتماع تصير دالة كلما قلنا في القرائن * [والجواب] عن الكل عندنا: أن ذلك كان قبل النبوة، فلا يكون واردا علينا * فأما الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة فقد أجابوا عن كل واحدة من هذه الوجوه * [أما الأول] فقالوا: المعصية مخالفة الأمر، فالأمر قد يكون بالواجب والندب، فإنهم يقولون: أشرت عليه في أمر ولده بكذا
Shafi 17
فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وإن كان كذلك لم يمتنع أن يكون إطلاق اسم العصيان على آدم، لا لكونه تاركا للواجب بل للمندوب * ولقائل أن يقول: إنا قد بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي يستحق العقاب وذلك يقتضي تخصيص اسم العاصي بترك الواجب فقط، وبينا أنه أيضا اسم ذم، فوجب أن لا يتناول إلا تارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال وأنهم لا ينفكون عن المعصية، لأنهم لا يكادون ينفكون عن ترك المندوب، لا يقال: وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد. لأنا نقول: لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه وحينئذ يتم استدلال الخصم * فأما قوله: أشرت إليه في أمر ولده بكذا فعصاني فإنا لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب، وإن سلمناه لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل، وأنه لا يجوز الاخلال به وحينئذ يكون معنى الايجاب حاصلا، وإن لم يكن الوجوب حاصلا. وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الايجاب لكن أجمعنا على أن الايجاب من الله يقتضي الوجوب، فلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب * [وأما الثاني] وهو أنه تائب، فقد أجاب من جوز الصغيرة
Shafi 18
بأن التوبة تجب من الصغائر كما تجب من الكبائر، فإن الصغيرة إذا لم يتب منها صاحبها صار مصرا عليها والإصرار على أي ذنب كان كبيرة * وأما من لم يجوز الصغيرة فقد أجاب بأن التوبة قد تحسن ممن لم يذنب قط على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه، ويكون وجه حسنها استحقاق الثواب بها ابتداءا. والذي يدل عليه أنا نقول:
" اللهم اجعلنا من التوابين " فلو كان حسنها مسبوقا بفعل الذنب لكان ذلك سؤالا لصيرورتنا مذنبين، وأنه لا يجوز * [وأما الثالث] فهو ارتكاب المنهى، فالجواب أنا نقول: لا نسلم أن النهي للتحريم فقط، بل هو مشترك بين التحريم والتنزيه وتفسيره أن النهي يفيد أن جانب الترك راجح على جانب الفعل، فأما جانب الفعل فهل يقتضي استحقاق العقاب أو لا يقتضي؟ فذلك خارج عن مفهوم اللفظ وإذا كان كذلك سقط الاستدلال. سلمنا أن النهي للتحريم لكنه ارتكبه ناسيا لقوله تعالى: (فنسي ولم نجد له عزما) وحينئذ لم يكن ذنبا لأن التكليف مرتفع عن الناسي، ولقائل أن يقول:
لا نسلم أنه ارتكبه ناسيا. والدليل عليه قوله تعالى: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) وقوله (وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين) وكل ذلك يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام على ذلك الفعل، وأيضا فلأنه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل، ولما سمي بالعاصي، فحيث عوتب عليه دل على أنه ما كان ناسيا، وأما قوله تعالى: (فنسي) ففيه إثبات أنه نسي وليس فيه أنه ما نسي سلمنا
Shafi 19
أنه لم يكن ناسيا ولكنه أخطأ في الاجتهاد وذلك لأن كلمة (هذه) في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة) قد يراد بها الإشارة إلى الشخص وقد يراد بها الإشارة إلى النوع كما في قوله عليه الصلاة والسلام:
" هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " فآدم عليه الصلاة والسلام اشتبه الأمر عليه فظن أن المراد هو الشخص فعدل عنه إلى شخص آخر إلا أن المجتهد إذا أخطأ في الفروع لم يكن صاحب كبيرة * لا يقال: كلمة (هذه) لما احتملت الأمرين كان البيان حاصلا في ذلك الوقت لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإذا كان البيان حاصلا لم يكن آدم عليه السلام معذورا في ذلك الخطأ لأنا نقول: لعل البيان كان حاصلا بطريق غامض خفي فالمخطئ فيه معذور * [وأما الرابع] وهو أن الله تعالى سماه ظالما فقد أجاب عنه من يجوز الصغيرة بأن كل ذنب يأتي به المكلف كبيرا كان أو صغيرا فهو ظالم لنفسه. وأما من لم يجوزها فأجاب بأن ترك الأولى ظلم، لأنه لما كان متمكنا من فعل الأولى حتى يستحق به الثواب العظيم فلما تركه من غير موجب فقد ترك حظ نفسه ومثل هذا يجوز أن يسمى ظالما لنفسه، لأن حقيقة الظلم وضع الشئ في غير موضعه وهاهنا كذلك * [وأما الخامس] فالجواب عنه: أنه محمول على الصغيرة أو على ترك الأولى وتقديره ما تقدم * [وأما السادس] فجوابه: أنه ليس في الآية إلا أنه أخرج من
Shafi 20
الجنة عند إقدامه على هذا الفعل، أو لأجل إقدامه على هذا الفعل وذلك لا يدل على أن ذلك الإخراج كان على سبيل التنكيل والاستخفاف وكيف والله تعالى إنما خلق آدم ليكون خليفة في الأرض؟ فلما كان المقصود الأصلي من خلقه ذلك، فكيف يقال: إنه وقع ذلك عقوبة واستخفافا ثم الذي يدل على أنه لا بد من المصير إلى الوجوه التي ذكرناها هو أنه عليه الصلاة والسلام لو كان عاصيا في الحقيقة وكان ظالما في الحقيقة لوجب الحكم عليه بأنه كان مستحقا للنار، لقوله تعالى (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) وبأنه كان ملعونا لقوله تعالى (ألا لعنة الله على الظالمين) فلما اجتمعت الأمة على أن ذلك لا يجوز علمنا قطعا أنه لا بد من التأويل وبالله التوفيق * الشبهة الثانية تمسكوا بقوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهم فتعالى الله عما يشركون) * قالوا: لا شك أن النفس الواحدة هي آدم، وزوجها المخلوق منها هي حواء فهذه الكنايات عائدة إليهما قوله تعالى: (جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) يقتضي صدور الشرك عنهما ثم قالوا:
إن إبليس لما أن حملت حواء عرض لها ولد فقال لها: إن أحببت أن
Shafi 21
يعيش ولدك فسميه بعبد الحارث وكان إبليس يسمى الحارث ، فلما ولدت سمته بهذه التسمية فلذا قال الله تعالى (جعلا له شركاء فيما آتاهما) * [الجواب] الصحيح إنا لا نسلم أن النفس الواحدة في هذه الآية هي آدم عليه السلام، وليس في الآية ما يدل على ذلك، بل نقول:
الخطاب لقريش، وهو آل قصي. والمعنى خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها. فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السمي سميا أولادهما الأربعة بعد مناف. وعبد العزى. وعبد قصي.
وعبد الدار، والضمير في (يشركون) لهما ولأعقابهما. وذكروا وجوها أخر سوى ما ذكرناه وهي بأسرها ضعيفة [أولها] أن الكنايات كلها عن آدم وحواء، إلا في (جعلا) و (يشركون) فإنهما يرجعان إلى نسلهما وعقبهما، ويكون تقدير الكلام: فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي طلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله، وإنما ثنى ذكرهما لأنهما جنسان ذكر وأنثى، ويقوى هذا التأويل قوله (فتعالى الله عما يشركون) وذلك يدل على أن المراد بالتثنية ما ذكرناه من الجنسين [وثانيهما] أن قوله (من نفس واحدة) هو آدم وجعل من تلك النفس زوجها، وهي حواء، إلى ههنا حديث آدم وحواء * ثم خص بالذكر المشركين من أولاد آدم الذين سألوا ما سألوا وجعلوا له شركاء. ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص بعض المذكور بالذكر.
ومثله كثير في الكلام. قال الله تعالى (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) فعم جميع الخلق في أول
Shafi 22
الآية ثم خص في آخرها بعضهم. فكذا ههنا * [واعلم] أن هذين يقتضيان في الكنايات المتوالية عقيب مذكور واحد صرف بعضها إلى ذلك المذكور وبعضها إلى شئ آخر. وذلك يفكك النظم * [وثالثها] أن تكون الهاء في قوله تعالى (جعلا له شركاء) راجعة إلى الولد، لا إلى الله تعالى. ويكون المعنى إنهما طلبا من الله تعالى ابنا لا الولد الصالح وهو كقوله: طلبت مني درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه وهذا ضعيف لوجهين [أحدهما] أن الهاء في قوله (له) لما عاد إلى الولد يصير قوله تعالى فلما آتاهما صالحا * [الثاني] وأنه يصير قوله تعالى (فتعالى الله عما يشركون) منقطعا عما قبله وذلك يوجب الركاكة. فهذا هو الكلام على الآية * وأما الرواية التي ذكروها فهي ضعيفة لوجوه ثلاثة:
[الأول] أنها من باب الآحاد فلا يكون مقبولا في العلميات [الثاني] أنه إما أن يقال: بأن آدم وحواء اعتقدا أن الولد من خلق إبليس أولم يعتقدا ذلك ولكنهما سميا ولدهما بعبد الحارث مع أن الحارث كان اسم إبليس، فإن كان الأول لزم أن يكون آدم وحواء قد اعتقدا إلهية إبليس، وذلك مما لا يذهب إليه عاقل. وإن كان الثاني لم يلزم منه الكفر والشرك، لأن الإعلام تفيد تسمية الولد بعبد الحارث لا تفيد كونه عبد الحارث، فإن الإعلام قائمة مقام الإشارة فقط ولا يلزم منه الكفر والفسق أصلا
Shafi 23
[الثالث] أن العداوة الشديدة التي كانت من آدم وإبليس من أول الأمر إلى وقت ذلك الحمل مانعة لآدم من الاغترار به، هب أن آدم يكن نبيا ولم يكن مسلما، أما كان عاقلا؟ فصح أن هذه الرواية الخبيثة لا يجوز أن يقبلها عاقل فضلا عن مسلم (1) * [قصة نوح عليه السلام] [وفيها شبهات] [الأولى] تمسكوا بقوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) من وجهين:
[الأول] أن قوله تعالى: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) يدل على أنه لم يكن ابنا، وإذا كان كذلك كان قوله (إن ابني من أهلي) كذبا، وهو معصية [الثاني] أن سؤال نوح عليه السلام كان معصية لثلاث آيات: [أحدها] قوله (لا تسألن ما ليس لك
Shafi 24
به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (1) * [وثانيها] قوله خبرا عن نوح (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * [وثالثها] قوله (إنه عمل غير صالح) وفيها قراءتان قراءة الكسائي عمل غير صالح، والمعنى أن ابنك عمل غير صالح والباقون بالتنوين والرفع. والأول مرجوح لأنه يقتضي إضمار الموصوف (2) وهو على خلاف الأصل فتعينت القراءة الثانية، والهاء في قوله: (إنه) ضمير والضمير لا بد وأن يكون عائدا إلى مذكور سابق والمذكور السابق هاهنا إما السؤال وإما الابن لا يجوز عوده إلى الابن لأن الابن لا يكون عملا غير صالح بل ذا عمل غير صالح، فيقتضي الاضمار، وإنه خلاف الأصل. فثبت أن الضمير عائد إلى السؤال فثبت أن ذلك كان عملا غير صالح *
Shafi 25