بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠،٧١] أما بعد:
فإنّ أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وبعد:
فهذه رسالة للشيخ العلامة حسين بن أبي بكر بن غنام الأحسائي التميمي، المسماة (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) وهي لم تطبع من قبل _حسب علمي_ (١) فأحببت أن أخرجها؛ ليعمَّ النفع بها
_________
(١) بعد الانتهاء من تحقيق الكتاب علمت بأن الكتاب قد قُدم دراسة للماجستير للشيخ إبراهيم يوسف الماسي سنة ١٤٠٣ هـ، وقد حُقق الكتاب على أربع نسخ، وراجعت على نسخته تحقيق النص، ولم أجد فروقًا كثيرة، ولكن لم أعدم فائدة منه.
1 / 3
والانتفاع، وأن تعيها من الناس أذن واعية، وأن تكون في وجه أهل الضلال وسومًا، ولشياطين المشركين رجومًا، ولهداة المسلمين نجومًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
محمد بن عبد الله الهبدان
ص. ب: ٦٨٢٩٨ الرمز:١١٥٢٧
هاتف وفاكس: ٢٣٢١٤١
1 / 4
نبذة عن المؤلف (١)
اسمه ونسبه:
هو الشيخ العلامة حسين بن أبي بكر بن غنام الأحسائي المالكي مذهبًا التميمي نسبًا.
مولده:
لم تذكر المصادر التي بين أيدينا سنة ولادته، ولكنَّه ولد في بلدة المبرز بالأحساء.
حياته:
نشأ الشيخ حسين بن غنام بالأحساء نشأة حسنة، وقرأ القرآن وحفظه، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط، فقرأ على علماء الأحساء، ثم نزح إلى البحرين، فقرأ على أعيان علمائها، ثم رجع إلى الأحساء، فلاقى مشائخه، ثم نزح _رحمه الله_ من الأحساء إلى مدينة الدِّرعيَّة، فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب فأكرماه، وأنزلاه المنزلة الرفيعة، فاستقرَّ في الدرعية، وجلس فيها لطلبة العلم يقرؤون عليه علم النحو والعروض ويدرِّسهم الفرائض، أما الفقه فكان مالكي المذهب وأهالي نجد حنابلة، ودرَّس الطلبة التوحيد، وكان حسن التعليم، مستقيم الديانة، راجح العقل، شاعرًا منطقيًا ومؤرخًا بارعًا، مجالسته ممتعة ومحادثاته شيقة.
_________
(١) انظر في ترجمته: مشاهير نجد وغيرهم ص ١٤٩، والأعلام (٢/٢٥١)، عنوان المجد (١/١٥١) وروضة الناظرين (١/٨٥) .
1 / 5
تلاميذه:
تتلمذ على يد الشيخ جملة من العلماء منهم:
الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر.
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
مؤلفاته:
ألف الشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_ مؤلفين:
١_ روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، وهو تاريخ مسجوع سجعًا مملًا ممقوتًا، لا يكاد قارئه يخلص من سجعه إلى المعنى المطلوب إلى المعنى المطلوب إلا بعد لأيٍ وجهد، وقد طبع ثلاث طبعات، آخرها عام ١٣٨١ هـ، وقد حققه الدكتور ناصر الدين الأسد، وقد جُرِّد في هذه الطبعة الأخيرة من الأسجاع الممقوتة، لكن مع الأسف تصرَّف فيه تصرفًا مُخلًاّ حيث حذف منه جميع ما حواه من القصائد، وهي سبع قصائد، اثنتان لمحمد بن إسماعيل اليمني المشهور بالصنعاني.. وخمس قصائد للمؤلف حسين بن غنام.. وكلُّ هذه القصائد التي نوَّهنا حذفت من طبعة المدني بلا إشارة إلى حذفها ... (١)
٢_ العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين، وهو هذا الكتاب الذي نحققه اليوم.
_________
(١) انظر في هذا مشاهير علماء علماء نجد ص١٤٧، وما بعده.
1 / 6
الشعر:
للشيخ حسين بن غنّام القدم المعلى في الشعر، وله العديد من القصائد فمن تلك القصائد: القصيدة الهائية، ومطلعها:
نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفي لدين حنين
وتبلغ أبياتها ستة وثلاثين بيتًا، وهي موجودة في تاريخه (٢/٧١-٧٢) طبعة أبا بطين، ومنها القصيدة السينية قالها في مناسبة جلاء دهام بن دواس عن الرياض، ومطلعها:
كشف الحق ظلمة الأغلاس ... ومحا الدين جملة الأرجاس
ومنها العينية في رثاء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومطلعها:
إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع
وفاته:
توفي الشيخ حسين بن غنام بمدينة الدِّرعيَّة في شهر ذي الحجة سنة ١٢٢٥ هـ ﵀، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.
1 / 7
توثيق نسبة الرسالة للمؤلف
هناك عدة أمور تؤكد لنا صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف منها:
١- أن جماعة من العلماء الذين ترجموا له نسبوا هذا الكتاب له منهم:
· عثمان بن بشر في تاريخه (عنوان نجد) (١/١٥١) .
· عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ كما في (مشاهير علماء نجد) ص١٤٩.
· محمد بن عثمان القاضي في تاريخه (روضة الناظرين) (١/٨٥) .
· خير الدين الزركلي في (الأعلام) (٢/٢٥١) .
٢- ما جاء في أول النسخ الخطية للكتاب، فقد نسب الكتاب للشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_
٣- أن من قارن بين أسلوب المؤلف _رحمه الله_ في كتابه هذا وكتابه في التاريخ وجد أنَّ النفس واحد.
٤- يوجد في ثنايا الكتاب إحالات في تاريخه كما في ص ٢٢.
فهذه الأمور مجتمعة تجعل القلب يطمئن إلى نسبة الكتاب للشيخ حسين بن غنام _رحمه الله_ والله الموفق للصواب.
1 / 8
اسم الرسالة
جاء اسم الكتاب في الكتب المترجمة للمؤلف بـ (العقد الثمين في شرح أصول الدين) وجاء على النسخ الخطية تسميته بـ (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) ولعل هذا هو الأقرب؛ لأن الغالب أن من يترجم للمؤلفين لا يعتني بضبط الاسم كثيرًا فيذكره أحيانًا بالمعنى، أو يذكر بعضه، أضف إلى ذلك أن المؤلف _رحمه الله_ سماه في ثنايا رسالته بهذا الاسم مما يرجح هذا الاختيار _والله أعلم_.
وصف النسخ الخطية ونماذج مصورة منها ... وصف النسخة الخطية ونماذج مصورة منها اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة خطية جيِّدة كتبت في عصر المؤلف، وهي محفوظة في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود بالرياض (١) تحت رقم (٣٨٩/٨٦)، وتقع رسالتنا في (٢٠٤) ورقات. وناسخها هو محمد بن علي بن النجار. وتاريخ نسخها: سنة ١٢١٦هـ. سبب تأليف الرسالة بين المصنف _رحمه الله_ سبب تأليفه لهذه الرسالة فقال: "فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام _________ (١) أشكر الإخوة القائمين على قسم المخطوطات في مكتبة الحرم المكي، وعلى رأسهم الدكتور يوسف الوابل على حسن تعاونهم، فقد استلمت صورة المخطوطة منهم غفر الله لهم ورفع قدرهم وضاعف أجورهم.
وصف النسخ الخطية ونماذج مصورة منها ... وصف النسخة الخطية ونماذج مصورة منها اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة خطية جيِّدة كتبت في عصر المؤلف، وهي محفوظة في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود بالرياض (١) تحت رقم (٣٨٩/٨٦)، وتقع رسالتنا في (٢٠٤) ورقات. وناسخها هو محمد بن علي بن النجار. وتاريخ نسخها: سنة ١٢١٦هـ. سبب تأليف الرسالة بين المصنف _رحمه الله_ سبب تأليفه لهذه الرسالة فقال: "فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام _________ (١) أشكر الإخوة القائمين على قسم المخطوطات في مكتبة الحرم المكي، وعلى رأسهم الدكتور يوسف الوابل على حسن تعاونهم، فقد استلمت صورة المخطوطة منهم غفر الله لهم ورفع قدرهم وضاعف أجورهم.
1 / 9
والإيمان، ويضم ما يناسبها من آيات القرآن، وجاءت الإشارة إليَّ بشرحها، والكلام على ما تحتاج إليه من البيان مع الإيجاز الذي لا يخلُّ بالتبيان؛ لتسهيل الدين الذي لا يُقبل سواه من كلِّ إنسان، ولعلَّ الناس في دينهم يتفقَّهون ﴿فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: من الآية ١٢٢) فبادرت أمره بالامتثال والقبول، وجعلت الكلام عليها في رسالة حاوية لسبعة فصول، عدد كلمات لا إله إلا الله محمد رسول الله، لأن (لا) كلمة و(إله) كلمة و(إلا) كلمة و(الله) كلمة و(محمد) كلمة و(رسول) كلمة و(الله) كلمة، وأعضاء المكلفين سبعة، وأبواب جهنم سبعة، وأرجو أن يكون لي بكل فصلٍ منها حجاب عنها يوم الكفار وأهل البدع إلى أبوابها يدعون، ويكبكبون فيها هم والغاوون ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء:١٠١)، وسميتها (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) .
والمؤلف في رسالته هذه اعتمد في الغالب على الكتب التالية:
- جامع العلوم والحكم لابن رجب _رحمه الله_ وهو أكثرها.
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير _رحمه الله_.
- أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي.
- كشف الشبهات للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب.
- الملل والنحل للشهرستاني.
أضف إلى هذا ما كتبه هو بأسلوبه المميز _والله أعلم_.
1 / 10
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
تفرد _سبحانه_ بالوحدانية، وأبدى للعالمين آثارها، وتوحّد بالصمدانية، وأشرقت في السموات والأرض أنوارها، وأقرّ بألوهيته من سكن علوها وسفلها، وقفارها وبحارها ﴿لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء:٢٢) الأحد الذي انفرد بالذات والصفات والأسماء، المتفرد بالقدرة القاهرة، والعظمة الباهرة، والجلال الأسمى، الذي أحسن كل شيء خلقه وأحاط به علما ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ (الأنعام:٣) شهدت مصنوعاته بوحدته في الخلق والأمر وانفراده، وجرت أحكامه فيها على وفق مراده، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ (النحل:٢) المتنزه عن مشابهة المحدثات صفاته، المتعالية عما لا يليق لعظيم سلطانه ذاته، وقامت بالحجة على ذلك آياته ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ (يونس:٦) القيوم الذي بحكمته وتدبيره حسن نظام الوجود، والقائم بما يحتاج إليه كلّ موجود. فالهالك من اتّخذ من خلقه (معبودا) (١) ﴿أَمْ لهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ (الأنبياء:٤٣) فسبحانه من إله؛ ملك الوجود بأسره، وتضاءل من فيه تحت جبروته وقهره، وانقاد خضعانًا لهيبته وأمره، ﴿وَلهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لهُ قَانِتُونَ﴾ (الروم:٢٦) .
_________
(١) في المخطوط (معبود) والصواب ما أثبتناه لأنها منصوبة.
1 / 17
أحمده وهو المحمود في جميع فعاله، على ما أولى من جوده ونواله، وأشكره على إحسانه وإفضاله، فتعسًا لقوم يعرفون نعمة الله ثم ينكرون ﴿وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلهُ الْحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص:٧٠) .
وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحقٍّ سواه، فقد ضلَّ من عدل به المخلوق وساوى ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الشعراء:٩٨-٩٩) وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ونبيه، الذي خصَّه بالرسالة واصطفاه، شهادة أرجو بها الفوز والنجاة، يوم يعرف المجرم بسيماه، وينادي المنادي ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ (الصافات:٢٢) وأصلي وأسلم على محمد الذي بعث للعالمين رحمة، يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويجدد الحنيفية، ويزيل عنها كل وصمة (١) وعلى آله وصحبه خير القرون، المنزَّل في حقَّهم ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية ١١٠) وتحقَّقوا بمصداق ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: من الآية ١١١) صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم يبعثون.
أما بعد:
فإن الله ﷻ إنما خلق السماوات والأرض، وذرأ من فيهن بالطول والعرض، للقيام بوظائف العبودية؛ امتثالًا لأمره اللازم الفرض
_________
(١) قوله (وصمة) أي عيب وعار (قاله في مختار الصحاح) .
1 / 18
﴿وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:٥٦) فمن فضله لم يتركهم سدى، لا يفرقون بين الضلالة والهدى، ولا يعلمون الرشد من الردى، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص:٥٩) فأرسل إليهم رسله الكرام قطعًا للحجة، فرفعوا قواعد المحجة، ومهدوا سبيل التوحيد ونهجه، فاختار الأكثر طريق الشرك وفجَّه ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:١٠٦) .
وخصَّ ﷾ نوحًا ﵇ بأوَّل الرسالة، فدعا قومه إلى إخلاص العبادة لمن لا تصلح إلا له، فسبُّوه ونسبوه إلى الضلالة، وقابلوه بأقبح المقالة ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ (الشعراء:١١١) ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (النحل: من الآية ١١٣) ثم ختم النبوة والرسالة بصفوة النبيين والمرسلين، وخيرته من الخلق أجمعين ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (الأحزاب:٤٠) ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصف:٩) فقام بأعباء الرسالة عبده ورسوله محمد المصطفى، فأتى قومه ﷺ وهم من حفرة النار على شفا، فدعاهم إلى ما ينالون به في الدارين عزًّا وشرفًا، ملَّة أبيهم إبراهيم إمام الحنفاء ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة:١٣٢) بعثه الله تعالى إلى كافة الخلق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى التوحيد بإذنه وسراجًا منيرًا، فقال
1 / 19
تعالى ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان:١) وقال تعلى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:١٥٨) وأيده بمعجزات أعظمها القرآن، الذي أخرست أقصر سورة منه كل لسان، فرجع عن معارضتها خاسئًا وحسيرًا ﴿قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:٨٨) ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ (النساء:٨٢) ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ (النساء:٥٥) ﴿وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ﴾ (الزخرف:٤٤) .
فلما أعلن فيهم بالكلمة العظيمة الشأن، التي خلقت لها السماوات والأرض والإنس والجان، المتضمنة للتوحيد والإيمان، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان، أصروا على الكفر والضلال والطغيان ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيل لهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ (الصافات:٣٥-٣٦) ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (المؤمنون:٧٠) وتمالؤا على الشرك والغي والفساد، ولزموا منهج البغي والعناد، ﴿وَانطَلقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص:٦) ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ (يس:٧٤-٧٥) أعرضوا عن السميع المجيب، الإله القادر القريب، وطلبوا من العاجز الشفاعة والتقريب ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ (يونس: من الآية ١٨) ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
1 / 20
لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الزمر: من الآية ٣) .
فلم يبرح ﷺ يدعوهم إلى الكلمة الجامعة، ويهديهم للتي هي أقوم، وهي الملة الحنيفية الساطعة، ويجاهدهم بالآيات والبراهين القاطعة، وأكثرهم بها يكذبون ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: من الآية ٧١) وهدى الله تعالى عباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم، فآمنوا به وعزروه، ونصروا دينه القويم، فنالوا بذلك الفوز العظيم ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ (التوبة:٢١) ﴿لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التوبة:٨٨) .
فجد ﷺ في الإعلان بالدعوة، واستمرّ، وجاهد هو وصحبه من أعرض عن التوحيد ونفر، لا يبالون بما ينالون من الأذى والمحنة والضرر، ممَّن أبى عن الحقِّ وتولى وكفر ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وَلا تَسْتَعْجِلْ لهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ (الأحقاف: من الآية ٣٥) ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ (الصافات:١٧٤-١٧٥) فلم يزل هو وأتباعه يلقون من قومهم ما يلقون، ويفتنون في ذات الله ويؤذون، فيصبرون على ذلك ويرضون ﴿أَلم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:٢) إلى أن أذن الله تعالى أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويمد في سائر الأقطار تمكينه، ويعمم ظهوره وتبيينه، فأمر نبيه ﷺ بالمهاجرة إلى المدينة فهاجر ﷺ إليها، وتتابع على ذلك المهاجرون ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال:٣٣) .
فشرع الله تعالى لنبيه الجهاد، وفرض عليه قتال أهل الشرك
1 / 21
والضلال والإلحاد، ووعده النصر والتمكين، والله لا يخلف الميعاد ﴿إِنَّهُمْ لهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات:١٧٢-١٧٣) .
فنهد ﷺ وأصحابه الحماة الكماة (١) الأبطال، مسارعين لأداء الأمر في الامتثال، مشرعين أسنَّة زرقا كأنياب أغوال (٢)، راجين جزيل الثواب في القتال ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلمُونَ كَمَا تَأْلمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء:١٠٤) فأصبحت لوامع مرهفاتهم لغياهب الكفر جالية، لما بذلوا في سبيله النفوس الغالية، فمنحهم مولاهم الدرجات العالية ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران:١٦٩) فرفع الله قواعد المة السمحاء، وهدَّ دعائم العوجاء، وأبدلها صبحًا، وتوالت الفتوح على أهل الإسلام فتحًا، وحقَّق الله تعالى لهم من مأمولهم نجحًا ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لهُمْ وَليُبَدِّلنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:٥٥) .
فلما أكمل الله تعالى لأمته الدين، وأتمَّ نعمته على المسلمين، أتاه من ربه اليقين ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ (الأنبياء:٣٤) فلم تزل أعلام الإسلام في خلافة خلفائه مرفوعة مشهورة، وألوية التوحيد في الأمصار منصوبة منشورة، وعساكرهم على عداتههم منصورة، وعداتهم بالذلِّ مقهورة، وجنود الردى
_________
(١) أي الشجاع المقدام الجريء، كان عليه سلاح أو لم يكن. انظر: المعجم الوجيز ص٥٤٢.
(٢) أغوال مفردها غول بالضم من السعالى وتجمع غيلان. مختار الصحاح ص٤٢٧.
1 / 22
مهزومة مكسورة، وهم في سبيل الله لأعدائه يجاهدون، إلى أن مضى كل منهم إلى السبيل، وانقضى ذلك الجيل، فوقع التغيير في الدين والتبديل، بظهور القوم الذين أخبر الصادق أنهم من الذين يمرقون، وعمَّت الفتن، وكثرت أنصارها، وطمت المحن، وربت أصهارها، وتمت على ذلك الأعصار أعصارها ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَليْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (فاطر:٨) وعمرت البدع، وشيدت ربوعها، وأسست أصولها، فامتدت فروعها، وحلَّت بكل ناحية من الأمصار جموعها ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام:١٥٩) فما برحت شبه البدع في القلوب دابَّة، ونار الأهواء مضرمة شابَّة، وعواصف الضلال على من أراد الله تعالى خذلانه هابَّة ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ ليَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الزخرف:٣٦-٣٧) حتى مضى سادس القرون، فتفاقم الأمر والحال، وتعاظم التعصب للباطل والمحال، وتراكم سحاب المراء والجدال، ولكن طائفة الحق منصورة لا تزال، فليسوا على الضلالة يجتمعون ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: من الآية ١٠٨) فما زالت في ازدياد تلك الدعوى، وفي اتقاد تلك البدع والأهواء (١)، إلى منتصف القرن الثاني عشر الذي جلت فيه البلوى، وحلت البدع فيه والشرك عرى التوحيد والتقوى، والأكثر فيه متمسك من ملة آبائه بالسبب الأقوى ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
_________
(١) في المخطوط (الأهواء) والصواب ما أثبتناه.
1 / 23
مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: من الآية ٣٠) فشرح الله صدر من وفّقه للإسلام وهداه، وأبان له سنن رشده وهداه، وأوضح له سبيل الهدى، فقام ممتثلًا لأمر مولاه؛ شكرا لما منحه من العلم وأولاه، منكرا على من كانوا بربهم يشركون، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾ (البقرة:١٥٩) .
وهو شيخ المسلمين، وقدوة الموحدين، وغرَّة العلماء العاملين (الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، الذي أزال الله تعالى به ظلام الشرك والشكِّ والارتياب، وأزاح به من ركام الباطل كل سحاب، وكشف عن الدين الحقِّ كثيف الحجاب، بعدما انقطعت دونه الأسباب، وسد عن التوصل إليه كل باب، وواراه الافتراق والشِّقاق في التراب، ونودي على التوحيد بالغربة والاغتراب، جعله الله تعالى من عباده الذين يوم القيامة ينادون ﴿يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَليْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ (الزخرف:٦٨-٧٠) . ذلك أنه لما أشرقت له من الهداية أنوارها، ولمعت له من الآيات المحكمات أسرارها، وتجلى له من العناية صبحها وأسفارها، ورأى أكثر الناس وما يعتقدون، وما يتخذون من الأرباب دونه ويبغون، ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَليْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الأنعام:١٦٤) .
شمَّر عن ساعد الجد إذ لم يجد بدًّا، وأعلن بتكفير من جعل من دون ربه ندًاّ، وقام بإخلاص الدعوة وقال: ﴿لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ (مريم:٨٩) ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ (مريم:٩٣) والذين تدعون من دون الله لا يستجيبون، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
1 / 24
يَسْتَجِيبُ لهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ (الأحقاف:٥) ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الأنعام:٤٠) .
فلم يزل رحمه الله تعالى يدعو إلى منهاج الهدى، ويجادل بالتي هي أحسن أهل الردى ويتلو عليهم ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ (الجن:١٨) ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (الجاثية: من الآية ٦) (فأبى) (١) قومه عن ذلك وصدوا، وعارضوه بالباطل وردوا، واجتهدوا في عداوته والبطش به وجدوا، وقالوا ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: من الآية ٢٢) فحاق بهم ما كانوا به يمكرون ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ (الزخرف:٧٩) بل أخرجوه من الديار، وحكموا بأنه من الخوارج والكفار، ولم يكن لهم بالذكر الحكيم اعتبار ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يّس:٩) فخسر الخسران المبين من أعرض عن التوحيد والدين، وباء باعذاب المهين ﴿وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ (السجدة:٢٢) فأووه وعزَّروه وكانوا له أنصارًا، من سبقت لهم السعادة والشرف والفخار، وكتب لهم التمكين والظهور على الأعداء والانتصار، والاستخلاف والاستيلاء على ممالك الملوك الذين يحاربون ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَليْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلبُونَ﴾ (لأنفال: من الآية ٣٦) .
وذلك أنه لما أخرج من البلاد ليقضي الله أمره الذي لا دافع له ولا راد، وينيل من ساعده الإسعاد، ويبدلهم السعة والنعمة بعد الضيق
_________
(١) في المخطوط (فأبوا) ما أثبته.
1 / 25
والضنك والإنكاد، آواه (محمد (١) والد الإمام عبد العزيز) (٢) وإخوته وقرابته الأنجاد، وبذلوا في نصرته طريف المال والتلاد، وجردوا مرهفات المواضي للجلاد، ولم يبالوا بما سار إليهم من العساكر والأجناد، والملوك عليهم يحزبون ﴿لنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ (آل عمران:١١١) وقاموا معه على الناس في إخلاص الدعوة لله التي هي سبيل الهداية والنجاة من المهالك في الغواية، صابرين على ما ينالهم من الأذية، مستشعرين مضمون هذه الآية ﴿وَمَا لنَا أَلاَّ نَتَوَكَّل عَلى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلنَا وَلنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم:١٢) .
فما زالوا معه داعين وهم في علو ونصر وتمكين على جميع المعتدين وجبابرة الملوك المحزبين، حتى أتاه ﵀ اليقين، وقد جاوز بضعا وثمانين من السنين ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ (الزمر:٣٠-٣١) فلم يبرحوا بعد في ازدياد، واتساع ملك وامتداد، واستيلاء على كثير من البلاد، وعداتهم من بأسهم يهربون ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود:١١٧) .
هذا ولما كان الإمام عبد العزيز بن سعود (٣)، وابنه سعود (٤) آمين
_________
(١) هو الإمام محمد بن سعود بن محمد بم مقرن، ناصر الإمام محمد بن عبد الوهاب حتى مكِّن لهم في الأرض: توفي سنة ١١٧٩هـ. الدرر (١٦/٣٤٧) .
(٢) عبد العزيز بن محمد بن سعود ﵀، الإمام الراشد، والملك القائد، ولد سنة ١١٣٣هـ في الدرعية، وتوفي سنة ١٢١٨هـ طعنه رافضي في أثناء صلاة العصر، فقبَّح الله الرافضة، ما أفجرهم وأغدرهم! انظر الدرر (١٦/٣٥٦) .
(٣) عبد العزيز بن سعود هو نفسه عبد العزيز بن محمد فهو أحيانا ينسب إلى جده.
(٤) سعود بن عبد العزيز بن محمد ويعرف بسعود الكبير، ولد سنة ١١٦٣هـ، وتوفي سنة ١٢٢٩هـ. الأعلام (٣/٩٠) .
1 / 26
الجيوش والجنود، والإمام يعده بالبيعة المحكمة العقود، بلّغهم الله تعالى كل مأمول ومقصود، وكبت كل عدو لهم وحسود، على نشر العلم وتعليم الناس والدخول في الدين يحرصون ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:١٠٤) .
فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام والإيمان، ويضم ما يناسبها من آيات القرآن، وجاءت الإشارة إليَّ بشرحها، والكلام على ما تحتاج إليه من البيان مع الإيجاز الذي لا يخلُّ بالتبيان؛ لتسهيل الدين الذي لا يُقبل سواه من كلِّ إنسان، ولعلَّ الناس في دينهم يتفقَّهون ﴿فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: من الآية ١٢٢) فبادرت أمره بالامتثال والقبول، وجعلت الكلام عليها في رسالة حاوية لسبعة فصول، عدد كلمات لا إله إلا الله محمد رسول الله، لأن (لا) كلمة و(إله) كلمة و(إلا) كلمة و(الله) كلمة و(محمد) كلمة و(رسول) كلمة و(الله) كلمة، وأعضاء المكلفين سبعة، وأبواب جهنم سبعة، وأرجو أن يكون لي بكل فصلٍ منمها حجاب عنها يوم الكفار وأهل البدع إلى أبوابها يدعون، ويكبكبون فيها هم والغاوون ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء:١٠١)، وسميتها (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) . وأرجو بها القربة إلى الله، والوصول والفوز في الدارين بالمأمول، وأن تتلقى بالإقبال والقبول، فالعلم النافع أفضل ما يتقرب به المتقربون ﴿مَنْ عَمِل صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:٩٧)
1 / 27
والمأمول ممن تصفح هذه الأوراق، وسرَّح في روضها الأحداق، وكان له بآداب العلم اعتلاق، ومن صافي شراب العلماء كأس دهاق، وجنى من يانع أثمارها، واقتطف من شميم أزهارها، واقتبس من لامع أنوارها، أن يستر ما رأى من عوارها، فذلك من مكارم الأخلاق، وأهلها للمساوي يسترون ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ (الشورى:٣٧)، مع أنها وإن كانت في ذاتها جميلة، فقد برزت شعثاء من غير تحسين ولا تجميل، وصدرت وركاب حملتها مناخة للسفر بها والرحيل، ورسل الإمام تحثُّني في البكرة والأصيل، وتحضني على الإنجاز والتعجيل، وعدم الإطناب في الكلام والتطويل، والذهن بعد تغيُّر الحال وتكدر البال كليل، ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: من الآية ٣٢) ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الشورى:٣٦) .
وما ذكر من حال الشيخ ومبدأ عمره وأخباره، وسيرة الإمام وأولاده وأصهاره، وكافة عصابته وأنصاره، سوى شذرة، تكون للمسترشد عبرة؛ لأن هذه ليست مصنفة لذلك، ولا تدخل من التاريخ والمغازي في مسالك، فمن أراد تفصيل ما جرى، وما نالوا من الممالك، فعليه بمطالعة التاريخ المسمى (بروضة الأفكار والأفهام)؛ فإنه في الحقيقة حديقة الحقائق، ورقائق الحدايق والعيون.
1 / 28