Ilimin Halayyar Zuciya
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Nau'ikan
فترى مما تقدم أن دوائر حدود الحرية هي علة وجود الحرية، وتعدد هذه الدوائر جعل مجال الحرية واسعا.
فالحرية المطلقة غير موجودة، والحرية الواسعة العليا هي الحرية المنتشرة في الدوائر الأدبية. (2-5) وجود الحرية شاهد على إنسانية الإنسان
قلنا: إن دائرة الحرية الأدبية هي التي يعرف فيها المرء الحق والصواب والخير ويقدر أن يفعله، ولكنه لأدبية في نفسه صالحة أو طالحة يريد أن يفعله أو لا يريد، فهي الحرية العليا، وبها يتميز الإنسان على الحيوان؛ لأنها صادرة عن ذاتية أدبية: فالأسد حر أن يجول هنا وهناك في البحث عن فريسته، ولكنه ليس حرا أن يأكل الفريسة أو لا يأكلها.
ففي هذه الدائرة تتسع حرية الاختيار ، ولكن تضيق دائرة المختار. هنا يمكنك أن تقول: أريد هذا الخير أو لا أريده، ولكن هذا الخير نفسه الذي أردته أصبح أضيق دائرة، فلا يسوغ لك ما يسوغ للحيوان الأعجم. (3) هل الإنسان مسير أم مخير؟ (3-1) وحدة الحياة الإنسانية
إلى هنا بحثنا في حرية الإنسان، في تصرفاته وسلوكه، من الوجهة الطبيعية من حيث تصرفه نحو نفسه، أو من الوجهة الأدبية من حيث تصرفه فيما يمس الآداب الاجتماعية، وقصرنا البحث في ذلك على أفعاله منفصلة بعضها عن بعض؛ فهو يخطئ هنا ويصيب هناك، ويأثم اليوم، ويحسن عملا غدا، بحسب الظروف التي تتغلب عليه، وبحسب التقلبات التي تطرأ على أخلاقه وعقليته، ولكننا لم نبحث في عمل حياته كوحدة قائمة بذاتها لنعلم هل هو مسير في هذا الإهمال أو هو مخير. هذه مسألة أخرى تختلف عن مسألة الحرية التي تبسطنا فيها كفاية.
قلنا: إن الحرية محدودة؛ لأن الاختيار محدود، فأنت حر أن تأكل هذا أو ذاك، ولكنك لست حرا أن لا تأكل إذا كنت متمسكا بالحياة، وأنت حر أن تنام في منزلك أو في الفندق، وعلى الفراش الوثير أو على الحصير، ولكنك لست حرا أن لا تنام بتاتا، وأنت حر أن تسعى إلى المال عن طريق العمل الشريف، أو بالوسيلة الدنيئة، أو بالتعب، ولكنك لست حرا أن تعف عن جمع المال إذا كانت شهوته شديدة فيك، وأنت حر أن تشم الكوكايين، ولكنك لست حرا أن تمتنع عنه بعد أن تسلطت عادته عليك، وأنت حر أن تحب فلانة دون فلانة، ولكنك لست حرا أن لا تحب. وهكذا تجد أن هناك أحوالا وجدت فيها لا اختيار لك في الوجود فيها أو في الخروج منها. (3-2) لا سيطرة للإنسان على مجرى حياته
إن من ولد زنجيا في وسط أفريقيا ليس ملوما إذا لم يكن متمدنا، وابن الفقر والحاجة غير ملوم إذا لم يتيسر له أن يكون عالما فيلسوفا، وولي العهد مخلوق ليكون ملكا، وشكسبير خلق ليكون شاعرا، والشيخ سلامة حجازي خلق موهوبا جمال الصوت، ومثله أم كلثوم وغيرها ، وتشارلي تشابلن جاء إلى الوجود موهوبا مزية الهزل، والشرير المجرم كان حظه أن يوجد في بيئة إجرام، ووارث الثروة حظه أنه غني.
فجميع هؤلاء وأمثالهم قلما كان لحريتهم تأثير في ظروف حياتهم التي وجدوا فيها، وإذا حللت حياة كل شخص تقريبا وجدت أنها، كوحدة عمومية، هي ألعوبة الأقدار، ولا شأن لحريته في الاختيار إلا في أفعاله منفصلة؛ أي في كل فعل منها وحده، وقلما تجد ارتباطا بين أفعاله بحيث تتسلسل الحرية والمسئولية فيها، وإلا لكان المرء صائب المسعى دائما. (3-3) الإنسان ألعوبة القضاء والقدر
ولأن الإنسان يخطئ مرة ويصيب أخرى، ويأثم الآن ويحسن عملا غدا، تبعا لتقلب أحواله ونفسياته، فلا يمكن أن يكون مسيطرا على مجرى حياته من أول بلوغه إلى مماته، فكأنه ملقى في نهر من حوادث الحياة عريض طويل متعرج، والتيار والأمواج وخوض الآخرين معه. كل هذه تتقاذفه إلى هنا وهناك بالرغم من أنه يجاهد إلى أن يصل إلى البر؛ فقد يصادفه الحظ أن يقذفه التيار نحو الشاطئ، ولكن قد يتفق وجود بالوعة هناك فتغوص به وترده إلى جهة أخرى، فكأن بلوغه إلى الشاطئ متوقف على القدر. مع ذلك هو يشعر أنه لا يستطيع الاتكال على القدر، بل يجاهد متجها إلى الشاطئ متحينا الفرص للاندفاع إليه، فإذا حدث ما قذفه عن الشاطئ كان ذلك من سوء حظه. (3-4) التعقل يتقي القدر
فالإنسان في إجمال حياته مسير غير مخير، بمعنى أنه لا يستطيع أن يجزم بالغاية التي يرمي إليها، وإنما إذا كان يتعرف دائما السنن والنواميس الطبيعية والاجتماعية والأدبية، ويختبرها، ويحسن اختيار الأفضل، فيكون أضمن بلوغا إلى الغاية الفضلى ممن يستسلم لحكم القدر الأعمى، ويتكل على البخت أو التوفيق وحده.
Shafi da ba'a sani ba