Ilimin Halayyar Zuciya
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Nau'ikan
ترى مما تقدم أنه لا الأخلاق ولا الشرائع ولا التقاليد والعادات تعصم الضمير من الخطأ في الحكم، بل لا بد من التعقل في القضاء وإصدار الحكم، التعقل يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، إذا كان يضع نصب عينيه قاعدة للحق، فما هذه القاعدة؟ هنا يستلزم الأمر أن نبحث عن منشأ الضمير والتعقل. (2) منشأ الضمير (2-1) الضمير وليد الاجتماعية
الإنسان اجتماعي، ولولا اجتماعيته لما كان للضمير لزوم؛ لأنه وهو فرد مستقل يسعى لأجل بقاء حياته منازعا الطبيعة بلا قيد ولا شرط، ولكنه لأنه اجتماعي مرتبط مع جماعته؛ ولذلك تضيق دائرة حريته وتتسع دائرة مسئوليته بقدر متانة الجماعة، فإذا فعل فعلا مخالفا لمصلحة الجماعة؛ كأن يضر الجماعة أو يضعفها، كان مستوجبا العقاب، وكان الضمير أول ما يحاكمه ويقضي عليه. ترى مثل هذا الضمير حتى عند الحيوانات الاجتماعية؛ فإن الفرد منها يخاف أن يفعل فعلا يخالف نسق حياة جماعته فلا يفعله، هو أطوع من الإنسان لنسق حياة الجماعة؛ لأن ضميره غريزي فيه.
للإنسان وهو اجتماعي ذاتيتان: ذاتية شخصية، وذاتية قومية. وهو يشعر أنه بسلوكه وحده لا يستطيع أن يحفظ حياته، يشعر أنه لا بد أن يكون سلوكه مطابقا لسلوك الجماعة لكي يحفظ حياته، يشعر أن بقاء حياة الجماعة تتضمن بقاء حياته أيضا، فإن تضررت الجماعة تضرر هو أيضا، وإن نجحت الجماعة نجح هو أيضا؛ فإذن لضمانة الحرص على بقاء ذاتيته يشعر أنه ملزم بالحرص على بقاء ذاتية جماعته. فالقاعدة الحقة التي يضعها نصب عينيه هي أن ما يفعله يجب أن يكون موافقا لحياة الجماعة، وإلا فهو مخطئ في فعله. (2-2) غريزية الضمير
قد يمكن للهمجي أن لا يفهم معنى ذاتية الجماعة كما نفهمها، ولكنه يشعر بهذه الذاتية التي لقبيلته؛ فإذا تعرضت لخطر من قبيلة أخرى هب مع رفاقه للدفاع، فقد يترك زوجته وأولاده لكي يقاتل لأجل سلامة قبيلته. فضميره هو الذي حكم عليه بالاندفاع في القتال، فإذا تردد أو راوغ عاقبه ضميره قبل أن يعاقبه قومه، فكأن الضمير غريزة فيه.
وبقوة هذه الغريزة تفوقت قبائل على قبائل، وبها بقيت قبائل وبدونها فنيت قبائل، فالفضل في الانتخاب الطبيعي الاجتماعي هو لهذه الغريزة؛ أي غريزة الضمير، وبفضل هذه الغريزة تضامنت القبائل، وتألفت الشعوب، وتكونت الأمم. ومع التمادي، تقوت هذه الغريزة فربطت الأفراد في جماعات، والجماعات في قبائل فشعوب فأمم. تقوت إلى أن صارت غريزة في الأمم، والأمم تحاسب بعضها بعضا بحكم هذه الغريزة - الضمير. ترقى الضمير حتى صار غريزة الإنسانية. فالإنسانية العليا تفتخر بالضمير.
بقوة هذا الضمير يشعر الفرد الاجتماعي المتمدن أنه ليس فردا مستقلا، بل هو جزء من نظام محكم ذي ذاتية قائمة بنفسها، وبموجب انتظامه في سلك الجماعة يشعر أنه ملزم بأن يوفق حياته مع حياة الجماعة، ويرتاح إلى هذا الالتزام لأنه يشعر أيضا أن سلامته قائمة بسلامة الجماعة. من هنا نشأت بزرة الحكم الأدبي في هل هذا الفعل أو ذاك حق وصواب، فهو حق وصواب إذا كان ينطبق على مصلحة الجماعة أو يخالفها. وميزان المطابقة هو التساوي بين الأفراد والاستحقاق. هذا هو الحق بعينه الذي يستند الضمير إليه في قضائه. (3) سلطة الضمير (3-1) منشأ القوة الأمرية في الضمير
قلنا: إن الضمير مشترع وقاض؛ مشترع لأنه يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، على قاعدة الحق العام الموزع على الجماعة. وقد نال هذا المنصب بالوراثة؛ فصار غريزيا على تمادي الزمان، وهو قاض؛ لأنه يحكم ويأمر بتنفيذ الحكم حتى من غير أن يشير إلى سبب، فمن أين جاءته سلطة الأمر هذه وقوة التنفيذ؟ فهل هي سلطة خارجية أم سلطة داخلية؟
إذا قلنا: إنها سلطة داخلية، فهل نعني أن الإنسان يحكم على نفسه؟ وإذا كان الإنسان يحكم على نفسه بمطلق اختياره فلا يتمادى بالحكم إلى أن يعاقب نفسه إذا عصى أمر نفسه، ولكن الضمير يعاقبه ويؤلمه وهو جزء منه، فكيف ذلك؟
هذا ما يبرهن على أن الضمير وإن كان شيئا من ذاتية الإنسان فقد أصبح بغريزته كشيء قائم بنفسه، مستقل بأمره ونهيه، ذي سلطان، كما أن الغريزة في الحيوان ذات سلطان عليه تدفعه إلى الفعل بلا إرادة؛ فهو إذن قوة مستقلة عن سائر القوى العقلية، ذات نفوذ خاص، مسيطرة على سائر الغرائز والأخلاق. وهو يتحكم فيها حتى إذا عصته وخزها وآلمها. هو مركز الذاتية الإنسانية الأدبية، وفيه إدارة حركة السلوك. بهذه القوة يمتاز الإنسان على الحيوان، وبها تتميز ذاتيته عن ذاتية هذا. وبهذه القوة أصبح الإنسان ذاتا أدبية، أما الحيوان فليس كذلك. (3-2) الشعور بالجزاء غريزي
على أن وظيفة الضمير، كما اتضح من هذا البيان، ليست مقتصرة على الحكم البديهي، بل هي مقرونة بشعور بنتيجة السلوك: شعور بالسرور والابتهاج إذا كان الفعل حقا أو حسنا، أو شعور بالكآبة والقلق إذا كان باطلا أو رديئا. وهذا الشعور نفسه غريزي أيضا؛ لأن المرء السليم العقل والنفس لا يستطيع قمع الشعور بالكآبة والقلق. ولولا غريزته هذه لكان الضمير آمرا وناهيا بلا سلطة نافذة، فما هذا الشعور إلا جزاء على الطاعة والعصيان. (3-3) غريزية القوة الأمرية في الضمير
Shafi da ba'a sani ba